(228)
(536)
(574)
(311)
يقول سيدنا عمرُ بن الخطاب: بينما نحنُ جلوسٌ عندَ رسولِ الله إذ دخلَ علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعر..، والرجلُ غيبٌ من الغيوبِ وهو جبريلُ بنفسِه حيث تصوَّرَ بصورة إنسان، ورُئِي وشُوهِدَ، فهل الملائكةَ من الغيبِ أو من الحس؟ وهل شاهده الصحابةُ أو لم يشاهدوه؟ فمن أين الإجماعُ هذا ومن الذي نقله!؟ كيف يُنقلُ مثل هذا الإجماع وعن من؟ يذكرُ صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد اللَّه تعالى على مدرجته ملَكاً. فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في اللَّه تعالى. قال: فإني رَسُول اللَّهِ إليك بأن اللَّه قد أحبك كما أحببته فيه) والقرآن يثبت لنا معاني من ذلك [إذ أرسلنا إليها روحنا] من هذه؟ مريمُ بنتُ عمران، امرأةٌ وليّةٌ صالحة، [إذ أرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّا] تصوَّر لها وجاء [قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا] .
ما المرادُ بالغيبِ هذا الذي لا يُشاهد؟ وما معناه؟ الرؤيةُ في اليقظةِ وفي المنامِ لأمثالِ هذه الغيبياتِ وورودُها في الكتابِ وفي السنةِ الشريفةِ، وفي المنامِ كذلك أوسع، ونبيُّ اللهِ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله يقول: (والذي نفسي بيده، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي) ويشير إلى حائطِ مسجدِهِ الشريف، وفي رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بينا نحن صفوفا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر إذ رأيناه يتناول شيئا بين يديه وهو في الصلاة ليأخذه ثم تناوله ليأخذه ثم حيل بينه وبينه ثم تأخر وتأخرنا ثم تأخر الثانية وتأخرنا فلما سلمنا قال أبي بن كعب رضي الله عنه: يا رسول الله رأيناك اليوم تصنع في صلاتك شيئا لم تكن تصنعه قال: إنه عرضت علي الجنة بما فيها من الزهرة فتناولت قطفا من عنبها لآتيكم به ولو أخذته لأكل منه من بين السماء والأرض ولا ينتقصونه فحيل بيني وبينه وعرضت علي النار فلما وجدت حر شعاعها تأخرت.
ثم إن الحق جل وعلا بيَّن هذه المسألةَ في كتابِهِ: يقول [عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول] قال الإمامُ الشوكاني عليه رحمةُ الله: وبالتبعيةِ يدخُلُ مع الرسولِ صادقُوا أتباعِه، وهذا أبوبكر الصديق عليه رضوانُ اللهِ يقولُ عند موته لعائشة رضي الله عنها: إنما هما أخواك وأختاك، قالت: هذان أخواي محمد وعبد الرحمن فمن أختاي وليس لي إلا أسماء! فقال ذو بطن ابنة خارجة قد ألقى في روعي أنها جارية، فولدت أم كلثوم. فهل يطلع أبو بكر على الغيب!؟ فالغيبُ ما غابَ عن حسِّك، في عالَمِ الدنيا كثيرٌ يغيبُ عن هذا ويظهر لذاك، في الأشياءِ المحسوسة نفسِها فهي بالنسبةِ لذا غيبٌ وليست لذا غيب، فما هو الحدُّ الجامِعُ للغيب؟ نقول: الإحاطَةُ بالغيبِ من جميعِ وجوهِهِ ممنوعةٌ عن كلِّ أحد، ولو الملائكة، ولو الرسلِ والأنبياء، ولو الصديقين والمقربين، ولو الأولياء، ولو أهلِ الأجهزةِ وأهل الإرصادِ وأهل التحليلات، الإحاطة بالغيبِ من كلِّ جانبٍ بجميعِ وجوهِهِ مخصوصٌ بواحد هو الواحد، جلَّ جلالُه، أما إطلاعُ اللهِ لعبادِهِ على كثيرٍ من الغيوبِ فذلك واقعٌ للملائكةِ وللأنبياءِ ولعمومِ المؤمنين، نحنُ لا يصحُّ منا الإيمانُ حتى نؤمنَ بالغيب، نحنُ نعلمُ أن الناسَ في القبورِ يجري لهم سؤالٌ وعذابٌ ونعيم؛ فهل هذا علمُ غيبٍ وإلا مشاهدة؟ من أين جاءنا علمُ الغيب هذا؟ علَّمنا اللهُ بواسطةِ الرسل، ونحنُ نعلمُ من الغيوبِ أنه سيخرجُ آخرَ الزمانِ سيدُنا عيسى بن مريم، كذلك نحن نعرف أن دجالا أعور سيخرج، وهذا أيضا من الغيب؟ لأنه لا توجد طريقٌ لحواسِنا لتعرفَ أن هناك دجال، لكن إخبارُ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فعلَّمنا غيوباً كثيرة، فعلمناها عنه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وكذلك أخبارَ الآخرة، أخبارَ القيامة.. فهذا أمرٌ.
الأمرُ الثاني يطلعُ اللهُ من شاءَ على ما شاءَ مما يتغيّب عن حواسِه بتعليمه إياه، إلا أنه لا يحيطُ بما أطلعَهُ عليه فضلاً عن ما لم يطْلِعْهُ عليه، فالإحاطةُ من جميعِ الوجوهِ لله، وهو الأمرُ المشارُ إليهِ بقولِ ربِّنا (قل لا يعلمُ من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) هذا واحد، الأمرُ الثاني بعدَ ذلك يقولُ لك النبيُّ صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا التعليمِ والهامِ شيءٍ من الغيب: (لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر) يقول سيدُنا عبدُاللهِ بن عمر: فما رأيتُ أبي يقول في شيءٍ: أظنُّ أن يكونَ كذا، إلا كان كما قال، ولما كان سيدُنا عمرُ بن الخطاب يخطب على المنبر ينادي: يا سارية الجبل! والجبل أين هو ؟ ذاك في نهاوند بأرض فارس وعمر في المدينةِ المنورةِ والصوتُ يُسمع من دون انترنت، ولا إذاعةٌ ولا غيرها، هذه في حياة الصحابة وحدها، فإذا لم نوسع إحسانُ الظنِّ بالصحابة ففي من غيرُهُم نحسنُ الظن؟
نقولُ: من المتفقِ المجمَعِ عليه أن الإحاطةَ بعلمِ الغيبِ مخصوصةٌ بواحدٍ هو الإلهُ الواحد، لا أحدَ غيرُهُ، وأنه يطلعُ الملائكةَ من الغيوبِ على ما شاء، ويطلعُ النبيين من الغيوبِ على ما شاء، ويطلعُ من شاءَ من الناسِ على كثيرٍ من الغيوب، قال سيدنا عيسى: [ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ]، ثم نجدُ سيدنا عثمانَ بن عفان جالساً وسطَ المسجد، ونظر رجل إلى امرأة ثم دخل على عثمان رضي الله تعالى عنه فقال يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنا ، تب وإلا عزرتك، ارتعدَ الرجلُ: ما هذا أوحيٌ بعدَ رسولِ الله، قال: لا، قال: ولكن فراسةٌ صادقة، سمعت النبيّ يقول: (اتقوا فراسةَ المؤمنِ فإنه ينظر بنورِ الله) إذن فلا يمكن ادِّعاءُ الغيبِ بالإحاطة به من أحد، ولو سادتنا الرسل، ولو سيدُنا محمدٌ الذي ما ترك من طائرٍ يحرك جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكرَ لنا منه علماً كما قال أصحابه، والذي ما ترك من والٍ يلي أمرَ ثلاثَ مائةٍ من الأمةِ إلا ذكره باسمه واسم أبيه وقبيلته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وخطبهم إلى المغربِ في بعضِ الأيامِ كما في حديث مسلم عن سيدنا عمر بن الخطاب أنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر. وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر. فنزل فصلى. ثم صعد المنبر. فخطبنا حتى حضرت العصر. ثم نزل فصلى. ثم صعد المنبر. فخطبنا حتى غربت الشمس. فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ) وفي رواية (ثم قام يحدثنا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ) يذكرُ لهم ما سيحصل إلى القيامة وما يكون بعد القيامة، قالوا: فأعلمنا أحفظنا، وإني لأرى الأمرَ كان النبيُّ قد ذكرَهُ وقد نسيت، فإذا رأيتُهُ تذكرتُهُ، كما ينظُرُ الرجلُ منكم إلى وجه الرجلِ كان يعرفه فيذكره، فيقول: هذا فلانُ بن فلان. صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه وأهلِ حضرةِ اقترابه من أحبابه، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
28 مُحرَّم 1426