(229)
(536)
(574)
(311)
ما يحصل من الوجد وما يُكتسب به الوجد من التواجد يأتي على وجهين :
وجه صحيح صالح، وهو ما يغلب على الإنسان بسبب تجلِّي الله تعالى ونزول الرحمة على أهل مجلس وخصوصا عند ذكرِ شئون العلاقة بالله والمحبة له ولقائه والرجوع إليه وعظمته وهيبته وخطر محاسبته ورجاء عفوه ومرافقة أنبيائه وأصفيائه وما إلى ذلك ، وكثيرا ما يحصل من ذلك في المجالس الخاصة حيث يكون الحاضرون فيها على توجُّهٍ بقلوبهم إلى المقصد الأسمى وحضورٍ واسعٍ مع الحق تبارك وتعالى، وبذلك يحصل ما يحصل كما نقرأ في سيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونجد أنه في مثل حادثة المحبة من حنين الجذع له أكبَّ الصحابة كلهم في المسجد –كما جاءنا في الأحاديث الصحيحة- فما منهم من أحد إلا وهو ملقٍ رأسه على رجليه يبكي من شدة الوجد لما رأوا ذلك الجذع وحنينه وتهدئة المصطفى له وإخباره لهم بما كان للجذع من الطلب، ثم طلبه المرافقة في الجنة ، فهذا مثال إلى جانب ما جاء عنهم من أثرِهم بالقرآن أنهم قد يميلون كما تميل الشجر في صلواتهم وقد قال الحق تبارك وتعالى عن وجل القلوب ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فالوجل يبلغ مبلغًا، فقد يؤثر على هذه القوى، فكل ما كان من ذلك غير مُراءى به ولا متكلَّفا به للتفاخر ولا للتظاهر أمام الناس، بل كان غالبا على الإنسان فهو محمود وكثيرا ما يحصل في المجالس الخاصة وقد يحصل أثناء خطبة عامة أو أثناء صلاة كما هو معلوم من واقع الأفراد .
والثاني الوجه المذموم: وهو أن يُتكلَّف ذلك مراءاة وأن يُجعل ذلك وسيلةً لنيل المنزلة في قلوب الناس أو للفخر بأن أهل هذا المسلك أهل خشوع أو أن الشيخ الفلاني أثر فيهم بكلامه إلى غير ذلك من المقاصد الدنيئة، فما اقترن بذلك فهو مذموم .
والواجب على الإنسان مهما كان بين الناس إذا حضره الوجد أن يكتم ذلك وإنما يظهر منه ما غلب عليه وخرج طوق قدرته عن رده وعن رفضه كما هو معلوم من سير الصالحين فكذلك ينبغي أن يكون .
على أن من أهل الخير من يرى اكتساب الوجد بسبب التواجد في مجالس الذكر الخاصة رجاء تحصيل نور الخشوع في القلب واغتنام ساعة يتم فيها الحضور مع الله تبارك وتعالى، ومنهم من يرى أنه لا ينبغي ذلك إلا في الخلوة فقط ولا ينبغي أن يُتطَلَّب ذلك ولكنه يهجم على من يهجم عليه فيغلب عليه فيكون معذورا بغلبة الحال عليه .
ومن المعلوم أيضا في سيَر المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين ما يحصل لأفراد الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في مواقف مختلفة من تواجد ومن بكاء ومن صياح قد يكون ، غير أن كل ذلك يجب أن يكون من المقتدين بهم خارجا عن التظاهر وعن المراءاة وعن التصنُّع وعن الإدعاء وعن التشويش على الغير، فما كان من الإنسان عن غلبة فهو فيه معذور وبه مأجور ، وما كان عن مراءاة وتصنُّع فهو به مأزور والعياذ بالله تبارك وتعالى .
قال الله سبحانه وتعالى ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ثم إن وجود مثل ذلك الذي يشبه الصرع دليل أيضا على ضعف ذلك الإنسان وعدم قدرته على تحمُّل الحضور والخشية والخشوع مع ثباته فيه وطمأنينته وسكينته، فما الأصل عند كل ذكر وتذكير إلا السكينة والثبات والطمأنينة وإنما تطرأ مظاهر لين الجلد والقلب إلى ذكر الله تبارك وتعالى وأيضا مظاهر زيادة الإيمان يكون ذلك في أحوال تطرأ على الإنسان فمهما كانت بغير مراءاة ولا تصنُّع فهي من جملة ذلك الخير الذي يسوقه الله تبارك وتعالى إلى عباده، وكل من كان أوسع وأثبت كان أقوى وأحسن تحمُّلا فلا يبدو عليه ما يبدو على القاصر وما يبدو على المبتدئ من قوة التأثر وظهور ذلك الأثر على أعضائه وجوارحه وبالله التوفيق .
ويشير إلى شيء من أحوالهم في ذلك الاجتهاد ووفرة الحضور مع الله قول سيدنا الحسن البصري : أدركنا أقواما لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء في الآخرة من خلاق ، ولو رأوا شراركم لقالوا لا يؤمن هؤلاء بيوم الحساب ، كنا نعد في جانبهم لصوصا .. رضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان والحمد لله رب العالمين .
07 شوّال 1425