كشف الغمة 372- كتاب الحج والعمرة (19) باب: ما يتعلق بدخول المحرم مكة إلى الدفع إلى عرفة للوقوف -2-
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 372- كتاب الحج والعمرة (19) باب: ما يتعلق بدخول المحرم مكة إلى الدفع إلى عرفة للوقوف -2-
صباح الأحد 25 جمادى الأولى1447هـ
نقاط مهمة يتضمنها الدرس:
- أحكام الرمل في الطواف
- الإسراع في السعي ببطن الوادي
- كيفية استلام الحجر الأسود وتقبيله
- النهي عن الطواف بزمام يقوده
- تنبيه عن مزاحمة الناس عند الكعبة وغيرها
- توضيح أحكام الاضطباع
- استلام الركن اليماني وتقبيله
- الحجر الأسود يشهد لمن استلمه
- الملتزم
- اتجاه الطواف والكعبة على اليسار
- الحِجر قطعة من الكعبة وقصة هدمه
- هل الحجر الأسود يضر وينفع؟
- ما يسن عند الحجر الأسود وبكاء النبي
نص الدرس المكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال:
"قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: كان ﷺ لا يرمل في طواف الإفاضة، وكذلك أبو بكرٍ وعمر -رضي الله عنهما-. وكان ﷺ يستلم الحجر الأسود أول طوافه بيده ثم يقبل يده في كل طوفةٍ، وتارةً يقبله، وتارةً كان يشير إلى الحجر بالمحجن الذي بيده ثم يقبل المحجن، وكثيرًا ما كان يفعل ذلك وهو على البعير ثم يكبر.
وكان ﷺ ينهى عن الطواف بزمام، ولقد رأى مرةً رجلاً يطوف بخزامةٍ في أنفه فقطعها، وقال لقائده: قده بيده. وكان عمر -رضي الله عنه- يمنع المجذوم أن يخالط الناس في الزحمة ويقول له: طف من وراء الناس.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمر: "إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، فإن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر". وكان النساء يطفن مع الرجال في عهد رسول الله ﷺ لا يمنعهن من الاختلاط. وكان ﷺ يقول: "يأتي الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق". وكان عمر -رضي الله عنه- يقبل الحجر ثم يقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك".
وكان ﷺ لا يقبل مع الحجر الأسود من الأركان سوى الركن اليماني، وكان يقبله ويضع خده عليه في كل طوفة. وكان ﷺ يقول: "إن الحجر والمقام من ياقوت الجنة، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شُفي".
وكان ﷺ يقول: "إن مسح الركن والحجر الأسود يحط الخطايا حطًّا". وكان معاوية وابن الزبير -رضي الله عنهما- يستلمان الأركان كلها ويقولان: "ليس شيء من البيت مهجورًا". وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "الملتزم هو ما بين الركن والباب". وكان ﷺ إذا طاف يجعل البيت عن يساره، ويخرج في طوافه عن الحِجْر ويقول: "إنه من البيت، ولكن قصرت بهم النفقة حين بنوا البيت فأخرجوه منه". وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كنت كثيرا ما أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه، فأخذ رسول الله ﷺ بيدي فأدخلني الحِجْر فقال لي: "صلي في الحِجْر إذا أردتِ دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قصرت بقومك النفقة"، قالت -رضي الله عنها- فقلت له: فما شأن باب البيت مرتفع؟ قال: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من يشاءون ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، لأدخلت الحِجْر في البيت ولألصقت بابه بالأرض".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتك، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته، عبده وصفوته سيدنا محمد صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وآبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله، الذين رقّاهم الله في الفضل والشرف أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،
يواصل الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- ما يتعلّق بالحاج من بعد دخوله مكة إلى ذهابه إلى عرفة أو منى. وذكر أن "ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان ﷺ لا يرمل في طواف الإفاضة"، وذلك أنه قد رَمَلَ في طواف القدوم وسعى بعد طواف القدوم، فكان طواف الإفاضة من عرفات ليس بعده سعي فلم يرمل فيه ﷺ. وهذا هو الذي قال به الحنفية والشافعية: أنه يُسن الرَّمَل في كل طواف بعده سعي.
والرَّمَل إنما يكون لمن ومتى؟
- للرجال أو الصبيان دون النساء.
- وهو في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى عند الحنفية والشافعية إذا كان الطواف بعده سعي. فإن كان طواف عمرة أو كان طواف قدوم يريد أن يسعى بعده. وكذلك يتحوّل الرَّمَل إلى طواف الإفاضة إذا أخّر السعي فأراد أن يسعى بعد طواف الإفاضة. فأما طواف الزيارة هذا الذي هو طواف الإفاضة، لا يرمل فيه إذا كان قد طاف طواف القدوم وسعى عقبه.
يقول سيدنا ابن عباس: قدم رسول الله ﷺ وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب. فقيل: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحِجْر، وأمرهم ﷺ أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين؛ ليُرِي المشركين جلَدَهم. قال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا! وكأنهم الظِّباء يقفزون، -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فظلّ سُنّة -كما تقدم معنا- في قول سيدنا عمر بن الخطاب: "لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله ﷺ".
- يقول المالكية: يسن الرَّمَل لمحرم بحج وعمرة في طواف القدوم وطواف العمرة. فإذا أحرم بحج أو عمرة أو بهما من الميقات، فيندب لمحرم بحج أو عمرة من الميقات، وكذلك إذا كان من دون الميقات مثل: التنعيم والجعرانة في طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف القدوم هذا عند المالكية أن الرَّمَل في الطواف لمحرم بحج أو عمرة في الطوافين: طواف القدوم وطواف العمرة -كما هو معلوم- يخرج طواف الإفاضة هذا -كما هو معلوم-، فإذا أحرم بحج أو عمرة أو بهما من الميقات إن كان آفاقي، أو كان بأهله. فكذلك يندب لمن أحرم بحج أو عمرة من التنعيم أو جِعْرانة. وكذلك في طواف الإفاضة لمن لم يسعَ سعي الحج، أو لم يطف طواف القدوم، عند المالكية إذا قد طاف طواف القدوم سعى أو لم يسعَ فلا رَمَل. الرَّمَل عندهم لطواف القدوم ولطواف العمرة، إن لم يطف طواف القدوم بأن ذهب إلى عرفة ورجع، فيطوف طواف الإفاضة، فيسن الرَّمَل في طواف الإفاضة من أجل بعده السعي.
- وهكذا يقول الحنابلة مثل المالكية :أنه لا يسن الرَّمل في غير طواف القدوم وطواف العمرة، ولكن الحنابلة استثنوا أهل مكة، قالوا: أهل مكة، أهل البلد ما يرملون، إنما الذين قدموا من خارج البلد. وبقية الأشواط يمشي فيها كما جاء أيضًا في السُنة.
كذلك في المسعى في بطن الوادي، يسن أن يقرُب من الجري:
- ويكون السرعة فيما بين المِيليْن الأخضرين: وهو بطن الوادي الذي كان فيه ﷺ يسعى أن يكون فوق الرَّمَل ودون العدو، يمشي فيما سوى ذلك. ولكن بين المِيليْن هذا في بطن الوادي يرمل كذلك، إن كان رجلاً أو صبيًا، ليس النساء.
- وهكذا يقول المالكية: يسن الخَبَب في الذهاب من الصفا إلى المروة، أما شوط الرجوع من المروة إلى الصفا ما فيه شيء مافيه الخَبَب، ويمشي على هيئته.
- قال غيرهم: سواء في الذهاب من الصفا إلى المروة، أو في الرجوع من المروة إلى الصفا، ففي بطن الوادي يسعى أيضًا، خاص بالرجال.
قال: "وكان ﷺ يستلم الحجر الأسود أول طوافه بيده ثم يقبل يده في كل طوفةٍ، وتارةً يقبله، وتارةً كان يشير إلى الحجر بالمحجن الذي بيده -لما يكون بعيد، أو كان على الناقة، أشار إليه بالمحجن- ثم يقبل المحجن، وكثيرًا ما كان يفعل ذلك وهو على البعير ثم يكبر"، ففيه استلام الحجر؛ فيسن استلام الحجر وتقبيله في ابتداء الطواف وفي كل شوط إذا تيسّر ذلك، وكذلك بعد ركعتي الطواف.
- يقول المالكية: إن السنة مقيّدة بأول الطواف، وفي باقي الطواف مستحب.
- وكذلك استحب الحنفية تقبيل الحجر.
والاستلام: أن يضع كفيه على الحجر،
والتقبيل: يضع فمه عليه وشفتيه. وإذا وضع يده على الحجر يرجع يقبّل يده اتباعًا.
فهذا الاستلام للحجر يسن في بداية الطواف، وفي كل طوفة اتباعًا له ﷺ إذا تيسّر، وإلا فلا يزاحم. ولهذا حتى قالوا كذلك في المرأة، يؤكد عليها ألا تزاحم الرجال، وتكتفي بالإشارة إلى الحجر، والإشارة إلى الركن اليماني كذلك، ولا تزاحم الرجال، بل الرجل يكره أن يزاحم فضلاً عن المرأة -كما سمعنا- إرشاده ﷺ لسيدنا عمر بن الخطاب -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
يقول: "وكان ﷺ ينهى عن الطواف بزمام،"، يصنع خيط أو الحبل في رقبته ويمشي قدامه، فإن هذا يسبب سقوطه، يسبب تعثره، يسبب إذا جاءت الزحمة أن يختنق الرجل أو أن يضره الزمام، فنهى عنه ﷺ لمّا رأى من يقود رجلاً بخزامة في أنفه قطعها، وقال: "قده بيده"، امسكه بيده وامشي، إذا يحتاج إلى قيادة بأن كان أعمى أو ضعيفًا، امسكه بيده، لا تجعل له زمام كأنه ناقة، وكأنه بهيمة تقودها، فهكذا تعليماته ﷺ وبارك عليه وعلى آله، ليكون الطواف بما هو أولى. "ولقد رأى مرةً رجلاً يطوف بخزامةٍ في أنفه فقطعها، وقال لقائده: قده بيده".
"وكان عمر -رضي الله عنه- يمنع المجذوم أن يخالط الناس في الزحمة ويقول له: طف من وراء الناس"، وكذلك كل صاحب مرض معدٍ.
"وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمر: "إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، فإن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر"، فهذا إرشاده -عليه الصلاة والسلام-.
فالذي يفعله الكثير من الحجاج من أجل أن يقبّل الحجر، يؤذي كذا كذا إنسان، غلط؛ غلط وخطأ، يريد ثوابًا فيقع في عقاب، لأنه يؤذي فيرتكب إثمًا، وإثم جنب الكعبة! أذية مسلم جنب الكعبة بمئة ألف أذية! مئة ألف أذية للمسلم! هذا خطر كبير، فأحسن له يشير من بعيد ولا يقع في هذه المشكلة، يدفع أحدًا. والنبي يقول لسيدنا عمر: "إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، فإن وجدت خلوة -فرصة وعدم زحمة ادخل- فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر". هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده أن ابن عمر سمع النبي يقول لوالده هذا الكلام ﷺ في إرشاد للأمة ألّا يتزاحموا. ومنه أيضًا ما يحصل من التزاحم على مصافحة أحد من العلماء أو من الصالحين، ما ينبغي أن يؤذي؛ يجي الشاب ويدفع الشايب ويدفع الطفل يريد يقبّل! لو قعدت من بعيد كان أفضل لك، وكان المدد وصلك، والخير جاء لك من دون ما تؤذي خلق الله. لا تؤذي الطفل ولا تؤذي الشايب من أجل تقبّل أنت شيخًا أو تقبّل شايب أو تقبّل عالمًا. أردت الفضل والخير وآذيت مسلمًا، حصّلت عقابًا وإثمًا، ويطالبك بدَفْعته هذه أو وقوع رجلك على رجله، أو دقته في كتفه أو بطنه ويطالبك بها في يوم القيامة، هات الحق في ذاك اليوم. فهكذا إرشاداته -عليه الصلاة والسلام- فينبغي أن يرعاها المؤمن. فطالب الخير لا يستفزه النفس والشيطان يوقعه في الشر من حيث لا يدري وهو يريد الخير. هذا كلامه لسيدنا عمر: "إنك رجل قوي -في رواية: جَلد- لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، فإن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر".
وهكذا -كما أيضًا تقدم معنا- ما يتعلق بالاضطباع، الاضطباع للرجل: يجعل الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفه على الكتف الأيسر، هذا سُنّة عند الجمهور أيضاً للرجال، لما رُوي "أن النبي ﷺ طاف مضطبعًا، وأنه ﷺ والصحابة اعتمروا من جعرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم قد قذفوها على عواتقهم اليسرى" كما جاء في رواية أبي داود، وصحّح إسناده النووي في المجموع.
- يقول الحنفية كالشافعية: الاضطباع في كل طواف بعده سعي، مثل الرمل، يختص بكل طواف بعده سعي، مثل طواف القدوم لمن أراد أن يسعى، وطواف العمرة أيضاً، وطواف الزيارة إذا أخّر السعي.
- ويقول الحنابلة: لا يضطبع في غير طواف القدوم. لا اضطباع عندهم إلا في طواف القدوم فقط لمن قدم مكة. وهو في جميع الأشواط؛ ما هو في الثلاثة الأولى مثل الرمل، الرمل في الثلاثة الأولى، الاضطباع في الأشواط السبعة.
- وقاس الشافعية السعي على الطواف، قالوا: أيضًا يضطبع للسعي. ثم في غير وقت الطواف وغير السعي يكره، يكره أن يصلي مضطبعًا -كما يفعل بعض الناس-، يطوف مضطبعًا ويصلي مضطبعًا. إذا بتصلي غطي الكتفين، وإلا تكره الصلاة بهذه الصورة وهو كاشف كتفه، فهو مكروه أن يصلي كذلك. فإنما يكون الاضطباع وقت الطواف، فإذا فرغ ابتعد عنه. ووقت السعي عند الشافعية كذلك.
- قالوا: وينبغي أن يحرص على الدّنو من البيت، لأنه أيسر في الاستلام والتقبيل.
وأورد عندكم هنا تقبيله للركن اليماني، وجاء في بعض الروايات، ولكن أكثر الروايات أنه كان يستلمه من دون أن يقبله، وكان يقبل الحجر الأسود ﷺ، ولكن وردت فيه، وحتى أوردها أيضاً صاحب الكتاب المشهور عند الحنابلة ابن قدامه في "المغني" أورد رواية تقبيله ﷺ للركن اليماني.
حتى كان الحبيب محمد الهدار يقبّله، فجاءه معترض من ورائه، قال له: أنت تجهل وأنت حنبلي وتعرف "المغني"، اذهب وانظر، اقرأ في "المغني" هذا ثابت في التقبيل، عندما أنكر عليه التقبيل. وأكثر الروايات فيها استلامه للركن اليماني وتقبيله له. قال له: عندما جاء بعضهم وأراد يقبل بقية الأركان قال له: لأن البركة في البيت كله، فقال له ابن عمر وغيره: والبركة في اتباع رسول الله ﷺ.
قال: "وكان النساء يطفن مع الرجال في عهد رسول الله ﷺ لا يمنعهن من الاختلاط. وكان ﷺ يقول: "يأتي الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق". هنا في التخريج ذَكَره عند ابن عَدي والبيهقي، أيضاً أورد الإمام أحمد في المسند شيئًا من هذه الرواية في شهادة الحجر الأسود لمن يستلمه يوم القيامة؛ فهو يشهد لمن استلمه بالموافاة. وفي الحديث أنه -سبحانه وتعالى- لما أخذ علينا العهد والمواثيق: ألست بربكم؟، وقلنا: بلى، كتب بذلك كتابًا ألقمه الحجر، فهو يشهد لمن استلمه بالموافاة.
"وكان عمر -رضي الله عنه- يقبل الحجر ثم يقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك"، وجاء في الرواية المفصَّلة أنه لما قال هكذا سيدنا عمر كان بجانبه سيدنا علي، قال: بلى، إنه يضر وينفع يا أمير المؤمنين، قال: تقولها يا أبا الحسن؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله لما أخذ العهد والميثاق على ابن آدم، كتب كتابًا فألقمه الحجر، فهو يشهد لمن يستلمه بالموافاة يوم القيامة. ما هذا نفع؟! أكبر نفع… من أعظم النفع! فقال: بئس المُقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.
والكلام كله صحيح، سيدنا عمر أراد اعتقاد الجاهلية أو اعتقاد الظن أن شيئًا يستقل بالنفع والضر دون الله تعالى. وسيدنا علي أراد أن يبين أن حكمة السُّنة جاءت بذلك لمنافع عاجلة وآجلة، وذكر منها الحديث. فالكلام كله صحيح من الاثنين يتكامل به المعنى.
ويقول: "وكان ﷺ لا يُقبل مع الحجر الأسود من الأركان سوى الركن اليماني، وكان يقبله ويضع خده عليه في كل طوفة" -فأورد هنا رواية تقبيله للركن- وكان ﷺ يقول: "إن الحجر والمقام من ياقوت الجنة، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شُفي"، يقول: أخرجه البيهقي في سننه وابن عساكر في تاريخ دمشق.
"وكان ﷺ يقول: "إن مسح الركن والحجر الأسود يحط الخطايا حطًّا" هذا رواه الإمام أحمد في المسند. "وكان معاوية وابن الزبير -رضي الله عنهما- يستلمان الأركان كلها ويقولان: "ليس شيء من البيت مهجورًا". وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "الملتزَم هو ما بين الركن والباب" أي: ركن الحجر الأسود والباب هو الملتزَم.
وَمُلْتَزَمٌ نُجْحُ المَطَالِبِ عِنْدَهُ *** وَحِجْرٌ لِبُعْدِي عَنْهُ فَاضَتْ مَحَاجِرِي
"وكان ﷺ إذا طاف يجعل البيت عن يساره"؛ وذلك هو المفروض، لا يصح أن يقلِب الطوفة ويجعل البيت عن يمينه؛ فيصير مشى عن يساره وجعل البيت عن يمينه، فليمشِ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره؛ فهذه الدورة الصحيحة التي بها تقوم دورة الأرض ودورة الكواكب ودورة النجوم، وكذلك الدورة بالبيت العتيق، ويعكسها أهل مِلَل الكفر، فيُصلِّحون دوراتهم بالعكس، حتى في الساعة صلّحوا لنا الساعة تمشي على اليسار، والأرقام حقها يجعلونها على اليسار -على يسار الساعة ويمين القائم -، بعكس الأصل فيه، فهذه الدورة حتى أن الجنين في بطن أمه له دورات على هذه الهيئة؛ هيئة الطواف، له سبع طوافات وسط بطن أمه؛ دورات يدورها بهذه الصورة على اليمين، وكذلك دورات الكواكب في الفضاء كلها على هذه الصورة وعلى هذه الهيئة؛ فهي الموافقة للفطرة وهو ما جاءت به السُّنة.
تنبَّه بعض المسلمين، وعمل أرقام بالعربي والدورة معكوسة حق الساعة لكي تكون مثل: الطواف، ومثل: دورة الكواكب والأرض؛ على الفطرة ما هو مخالفة ومعاكسة. وهؤلاء حتى في كتابتهم كذلك يمشون من اليسار، يكتبون الحروف حقهم من اليسار -إلى اليمين من الحرف- والكتابة العربية بالعكس، أنت تمشي على اليمين، مثل ما يُدِيرون الماء وغيره من الطعام، يدورون به على اليمين.
يقول: "ويخرج في طوافه عن الحِجْر" -فلا يجوز أن يمر وسط الحِجْر الطائف- "ويقول: "إنه من البيت" -أي: نحو ست أذرع منه من البيت؛ من الكعبة- "ولكن قصرت بهم النفقة" -يعني: قريش- "حين بنوا البيت فأخرجوه منه".
"وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كنت كثيرا ما أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه"، فلما أبدت رغبتها للنبي، والنبي ﷺ يرى الرجال بكثرة يدخلون البيت، فما أحب أن أم المؤمنين تزاحمهم، مسك بيدها وجاء بها إلى الحِجْر قال: صلي في هذا المكان. قالت -رضي الله عنها-: "فأخذ رسول الله ﷺ بيدي فأدخلني الحِجْر فقال لي: "صلي في الحِجْر إذا أردتِ دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قصرت بقومك النفقة"، قالت -رضي الله عنها- فقلت له: فما شأن باب البيت مرتفع؟" -ما يُوصَل إليه إلا بسُلَّم- "قال: "فعل ذلك قومك" -يعني: جماعة قريش أصحابنا هؤلاء…لماذا؟- "ليُدخِلوا من يشاءون ويمنعوا من شاءوا" -لكي يتحكَّمون في الذي يدخل والذي يخرج- "ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية" -عادهم خرجوا من الكفر قريب- "فأخاف أن تنكر قلوبهم، لأدخلتُ الحِجْر في البيت ولألصقت بابه بالأرض"، وفي رواية: "وجعلتُ له بابين.. وهو على قواعد إبراهيم، فبلَغتُ بِهِ أساسَ إبراهيمَ"؛ إبراهيم جعل للبيت بابين ملصقه بالأرض، ما يحتاج تطلع، باب من جهة المشرق وباب من جهة المغرب. ولكن راعى النبي ﷺ أحوال الناس وخواطرهم؛ رحمة منه بالعباد، قال: عادهم حديثوا عهد بالجاهلية؛ ما يقبلون تغيير البيت ويرون أنه شيء كبير، وما يعرفون مقام رسول الله ﷺ ولا أمره، فبقي ذلك.
فلما هدّم الحجّاج الكعبة، ردَّها عبد الله بن الزبير على ما رغب رسول الله ﷺ، وأدخل الستة الأذرع من الحِجْر، وجعل بابين وألصقهما بالأرض، وبعد ذلك لما أخرجوه، رجَّعوه ثاني مرة؛ حسدا.. ولا زالت هذه بدايات مُمَاحَكَة السياسة تلعب بالدين. يقول: لماذا هذا يفعل كذا؟.. أبدا، ردوه كما كان على عهد قريش. وهو أقامه على ما أحبه رسول الله! قاموا يهدمونه ويردونه على ما بنته قريش؛ ورَدُّوه على هذه الهيئة؛ عصبية سياسية خبيثة مقيتة، -والعياذ بالله تعالى-.
وهكذا كان كلامه ﷺ عن البيت العتيق. وجاء بالرواية هنا عن أبي سعيد الخدري يقول: حججنا مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبِّلك ما قبَّلتك، ثم قبَّله. فقال له علي بن أبي طالب: بلى يا أمير المؤمنين، إنه يضر وينفع. قال: وبمَ؟ قال: بكتاب الله عز وجل. قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال: قال الله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ)[الأعراف:172]، خلق الله آدم ومسح على ظهره، فقرّرهم بأنه الرّب وأنهم العبيد، وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رَقّ، وكان لهذا الحجر عينان ولسان، فقال له: افتح فاك، قال: ففتح فاه فألقمه ذلك الرَّقّ، فقال: اشهَدْ لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، وإني أشهدُ لسمعت رسول الله ﷺ يقول: "يُؤتى يومَ القيامةِ بالحجرِ الأسودِ ولهُ لسانٌ ذَلْقٌ يشهدُ لمنْ اسْتلمَهُ بالتوحيدِ". فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع، فقال سيدنا عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن، -رضي الله عنهم-.
وبعد ذلك يقول أبو هارون العبدي وغيره يقول: إن صحَّ فأمير المؤمنين كان في الجاهلية قد عَبَدَ الحجر، فحين هوى إلى الركن؛ فكأنه هابَ ما كان عليه في الجاهلية، فتبرأ من كل شيء سوى الله تعالى، وإنما يفعله متابعة للسنة. وقول سيدنا علي له يريد به: إذا خَلَقَ الله تعالى فيه حياة وأذِن له في الشهادة، وذلك أنه يعلم بخبر الرسول ﷺ، فأخبر به سيدنا عمر. ومن غير شك أن الاستقلال بضر أو نفع أو بأي شيء كان في الوجود لا يكون لغير الله قط؛ وإنما السببية في النفع وفي الضر، في الهداية وفي الضلال، وفي العطاء وفي المنع، نعم تكون من الخلائق، يجعلها الله تعالى سببية في قتل، سببية في... سبب. ولكن أنهم يقصرون عمر أحد أو يطولون عمر أحد ما يقدرون، ولا يستقلون أيضا بالقتل إلاخ
ولهذا لما جاء بعضهم يحرس سيدنا علي، قال: ممن تحرسني؟ من أهل الأرض أم من أهل السماء؟ قال: مالي طاقة لأهل السماء، أحرسك من أهل الأرض. قال: فاذهب، فإنه لا يحصل من أهل الأرض شيء حتى يتخلّى حرس السماء؛ ما يقدرون يعملون شيء إلا إذا تخلى حرس السماء، إذا جاء الوقت. سبحان الله!
وهكذا فما هناك استقلال لا لمَلَك ولا لإنسي ولا لجني ولا لنبات ولا لجماد ولا لحيوان بشيء دون الله قط؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وليس لهم إلا ما أقدرهم عليه، وما جعلهم أسبابًا فيه، وما أعطاهم فيه الاختيار وأقام عليهم التكليف فهم فيه مكلّفون، وما خرج عن اختيارهم فلا تكليف لهم فيه. والفعَّال للكل ربّ الكل، وموجد الكل، وخالق الكل سبحانه وتعالى. قال: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات:95].
قال وفي الحديث: إنه ﷺ لما استقبل الحجر وضع شفتيه عليه بكى طويلاً، ثم التفت فإذا هو بسيدنا عمر بن الخطاب فقال: "يا عمرُ هَهُنا تُسْكَبُ العبراتُ". لا إله الا الله.
والقُبلة للحجر وغيره، تكون بلا صوت؛ من دون صوت، إلا بوضع الشفتين عليه من دون صوت.
وعند المالكية قول بالإباحة وقول بالكراهة بالتصويت عند التقبيل.
وأيضًا عند الأئمة الثلاثة من السّنة أن يضع جبهته عليه، وهذا معنى قولهم: أن يسجد عليه، كما جاء عن ابن عمر وابن عباس.
والمالكية: أنكرالإمام مالك وضع الخدين على الحجر، ما ثبت عنده فيه شيء.
قال الحنفية والشافعية: يُسَنُّ أن يكون التقبيل وكذلك وضع الجبهة ثلاثًا؛ اتباعًا له ﷺ.
وكذلك جاء بكاؤه عند الملتزم بعدما أكمل الطواف وصلّى سنة الطواف، وجاء قبّل الحَجَر ثاني مرة بعد الطواف، ثم قام في الملتزم بين الحَجَر والباب، فالتزمه، يعني: ألصق صدره الشريف بالبيت، ورفع يديه وأخذ يدعو ويبكي ﷺ.
وقالوا: هذا من خواص المواطن التي يُعجَّل فيها بإجابة الدعاء؛ الملتزم بين الحجر الأسود والباب.
وَمُلْتَزَمٌ نُجْحُ المَطَالِبِ عِنْدَهُ *** وَحِجْرٌ لِبُعْدِي عَنْهُ فَاضَتْ مَحَاجِرِي
رزقنا الله وإياكم الاستقامة، وأتحفَنَا بالكرامة، ونظر إلينا بحبيبه المظلّل بالغمامة، ورفعنا به إلى مراتب القرب منه والفهم عنه والصدق معه والإخلاص لوجهه، في خير ولطف وعافية، وأعلى درجات حبيبنا علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الهدار، وجميع موتانا، وجمعنا بهم في أعلى درجات دار الكرامة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، وعجّل بتفريج كروب المسلمين ودفع البلاء عن المؤمنين.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
25 جمادى الأول 1447