(535)
(383)
(339)
(608)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 369- كتاب الحج والعمرة (16) فرع: في تحريم أكل صيد البر على المحرم-2-
صباح الثلاثاء 20 جمادى الأولى1447هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال :
"وقدم إليه مرة بيض نعام فرده وقال: إنا حرم، وكان طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- يقول: "خرجنا مع رسول الله ﷺ ونحن حرم فأهدي لنا طير فأكلناه مع رسول الله ﷺ"، وكان عمير بن سلمة الضمري -رضي الله عنه- يقول: "خرجنا مع رسول الله ﷺ نريد مكة فلما كنا في وادي الروحاء وجد الناس حماراً وحشياً عقيراً فقال لنا صاحبه الذي عقره: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار؟ فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر -رضي الله عنه- فقسمه في الرفاق وهم مُحرِمون، ثم قال رسول الله ﷺ: هل بقي معكم منه شيء؟ قالوا: نعم فناولناه عضداً فأكلها وهو مُحرِم، وكان ﷺ كثيراً ما يقول لمن سأل عن حكم الصيد: "هل أشار على ما اصطاده أحد منكم أو أمره بصيده؟ فإن قالوا لا، قال: فكلوه فإن صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم".
فحاصل الأحاديث والله أعلم: أن الصيد حرام على المُحرِم وأن أكل لحم صيد حلال لغير من اصطاد من المُحرِمين حرام على من اصطاد فقط، والله أعلم".
فرع: في تحريم قطع شجر حرم مكة والمدينة وتفضيلهما
"وكان ﷺ يقول: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف، فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لابد لهم منه للقيون والبيوت وغيرهما، فقال ﷺ: إلا الإذخر"، وكان ﷺ يفضل مكة على سائر البلاد ويقول: "والله إنك لخير أرض الله عز وجل وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، وكان ﷺ يقول: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يهرق فيها دم ولا يقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" .
وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها. قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: والذي حرمه رسول الله ﷺ اثنا عشر ميلاً حول المدينة وجعلها حمى وهو ما بين عير إلى ثور فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: 'المدينة حرم ما بين عير إلى ثور اللهم بارك لهم في مدّهم وصاعهم".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتك، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مكرمنا بالشريعة وبيانها على لسان صاحب الوجاهة الوسيعة، عبده المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين أعلى ذرى المراتب الرفيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- ذِكر ما يتعلق بأكل صيد البر على المُحرِم، فإن صيد البر يحرُم على المُحرِم أكله وكذلك حلبه وأكل بيضه وشجِّ بيضه كذلك، لعموم هذه الأدلة.
فإذا صاد الحلال صيداً، فهل يحل للمُحرِم أكله؟ هذا الذي أورد فيه الأحاديث وفيه المذاهب:
وإذا صاد المُحرِم صيداً أثِمَ، وحَرُم عليه الأكل منه؛ -صاده لنفسه حَرُم عليه الأكل منه- فهل على بقية المُحرِمين يحرم أن يأكلوا من هذا؟
قال: "وقدم إليه مرة بيض نعام فرده وقال: إنا حُرُم -كما تقدم معنا-، وكان طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- يقول: "خرجنا مع رسول الله ﷺ ونحن حرم فأهدي لنا طير فأكلناه مع رسول الله ﷺ"، فيُحمل هذا أنه لم يكن من أجلهم أُخذ ذلك الطير، ولم يُصطد من أجلهم ولم يُعينوا عليه، بخلاف الأول فكأن صاحب النعام أخذ البيض من أجلهم.
وقال: "وكان عمير بن سلمة الضمري -رضي الله عنه- يقول: "خرجنا مع رسول الله ﷺ نريد مكة فلما كنا في وادي الروحاء وجد الناس حماراً وحشياً عقيراً فقال لنا صاحبه الذي عقره: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار؟ فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر -رضي الله عنه- فقسمه في الرفاق وهم مُحرِمون ، ثم قال رسول الله ﷺ: هل بقي معكم منه شيء؟ قالوا: نعم فناولناه عضداً فأكلها وهو مُحرِم، وكان ﷺ كثيراً ما يقول لمن سأل عن حكم الصيد: "هل أشار على ما اصطاده أحد منكم أو أمره بصيده؟ فإن قالوا لا، قال: فكلوه فإن صيد البر حلال لكم وأنتم حُرُم ما لم تصيدوه أو يصد لكم.
-فهذا- "حاصل الأحاديث -كما قال الشيخ- والله أعلم أن الصيد حرام على المُحرِم وأن أكل لحم صيد حلال لغير من اصطاد من المُحرِمين حرام على من اصطاد فقط".
حرام على من صاده بنفسه أن يأكل منه، أو اصطيد لأجله؛ فأما إن كان لا اصطيد من أجله ولا صاده، وإن كان الذي صاده مُحرِم، فهو آثم وعليه حرام الأكل، لكن الآخرين من المُحرِمين لا حرج عليهم أن يأكلوا منه لأنهم لم يصيدوه بأنفسهم ولم يُصَطد من أجلهم ولم يعاونوا عليه.
وهكذا هو مذهب الجمهور، إلا أن:
وأما ما لم يُصطد:
يقول أبو قتادة في الحديث: إن أصحابه أحرموا ولم يحرم، فرأى حمار وحش، قال: فأسرجتُ فرسي وأخذتُ رمحي ثم ركبتُ، فسقط مني سوطي، فقلتُ لأصحابي -وكانوا مُحرِمين- ناولوني السوط، قالوا: والله لا نعينك عليه بشيء؛ -هذا فقه الصحابة وأدبهم- قال: فنزلتُ فتناولته ثم ركبتُ؛ قال: فنزلوا فأكلوا من لحمه، وقالوا: أنأكل لحم صيدٍ ونحن مُحرِمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا إليه ﷺ قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حُمُرَ وحشٍ فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيدٍ ونحن مُحرِمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها؛ قال: "أَمِنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار عليه؟" قالوا: لا؛ قال: "فكلوا ما بقي من لحمها"؛ هكذا جاء في الصحيحين. "فكلوا ما بقي من لحمها" فأحلَّ ﷺ للمُحرِمين أكل ما اصطاده الحلال إذا لم يصطده من أجلهم.
وكذلك حديث سيدنا جابر يقول ﷺ : "صيد البر يحل لكم حلالٌ ما لم تصيدوه أو يُصد لكم"؛ وهو عند أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي، وكذلك عند الحاكم وصححه "صيد البر يحل لكم حلالٌ ما لم تصيدوه أو يُصد لكم".
ذكر الشيخ بعد ذلك تحريم قطع شجر حرم مكة والمدينة:
وفي حرم مكة إذا قطع شيء من شجرها فعليه الكفارة:
"إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف -لا لمُتملُّك-، فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر -نوع من النبات- فإنه لابد لهم -يصلحونه للقبور وللبيوت وغيرهما- منه للقيون والبيوت وغيرهما، فقال ﷺ: إلا الإذخر".
وأما التفضيل ما بين مكة والمدينة، فقد اختلف فيه سادتنا الصحابة فمن بعدهم -رضي الله عنهم- فقال جماعة من الصحابة:
ولم يجرِ خلاف بين الصحابة والتابعين على فضل مكان آخر غير مكة والمدينة على ظهر الأرض، وهذه موطن ولادته ونشأته وبعثته، وهذه موطن مهاجرته ووفاته ومدفنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فتوزع الفضل بينهما، فهما أفضل البقاع على ظهر الأرض.
ثم أيضاً فصّل بعض أهل العلم وقالوا:
وأما قوله ﷺ في الحديث: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يهرق فيها دم ولا يقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره". هكذا جاء في مسند الإمام أحمد وعند النسائي في السنن الكبرى والدارقطني؛ فهذا فيه حكاية أن إبراهيم حرم مكة، ولكن الاحتمال أن يكون أنه أظهر هذا التحريم بعد أن جدد الله بناء البيت على يده وأمره ببناء البيت، وأنه مُحرِم من قبل إبراهيم، وأن البيت مُحرِم وحدود مكة وما حولها مُحرِمة من قبل، ودليل ذلك قول سيدنا إبراهيم في القرآن: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحرِم) [إبراهيم: 37]، ولم يكن قد بنى البيت سيدنا إبراهيم! ولم يحرمه، فقط وضع هاجر وابنها اسماعيل فقط، ومازال البيت مهدم ولا يوجد بيت ولكن قال: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحرِم)، فدل على أن حرمته من قبل، فإذا صح أن تحريمه كان من قِبل الحق مباشرة من دون واسطة أحد من أنبيائه، فيكون أفضل من المدينة المنورة.
"وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها -يعني: يحرم تنفير الصيد- . قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: والذي حرمه رسول الله ﷺ اثنا عشر ميلاً حول المدينة وجعلها حمى وهو ما بين عير إلى ثور".
وعير: جبل يسمى جبل عير والذي نزل عنده المشركون عند مجيئهم في أحد ثم توجهوا من هناك، وجبل ثور.
"فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: 'المدينة حرم ما بين عير إلى ثور اللهم بارك لهم في مدّهم وصاعهم".
وهذا ثابت وواضح من وجود البركة في مُد المدينة وصاعها، حتى أن من سكن في أي بلد ثم سكن في المدينة يجد البركة في طعامه وطعام أهله، وقلة نفقات الدراهم والدنانير فيما يتعلق بالطعام، في المدينة المنورة تكون أخف من غيرها من البلاد بدعوة النبي محمد ﷺ "بارك لهم في مدّهم وصاعهم"، وقال: "واجعل في المدينة ضعف ما بمكة من البركة، واجعل مع البركة بركتين"، حتى قال بعضهم من استنباطه من الحديث أن في المدينة ستة أضعاف البركة التي في مكة، وقالوا: إنه يجعل في المدينة مثل ما بمكة من البركة: واحد، وضعف: الضعف اثنين، واجعل مع البركة كل واحد من الضعف ضعفين، فهذا الضعف ومع الضعفين صارت ثلاثة، وهذا الضعف ومع الضعفين صارت ثلاثة؛ ثلاثة وثلاثة= ستة. فبالمدينة ستة أضعاف ما بمكة من البركة.
فمن حصره على الطعام في المد والصاع قال كذلك، ومن عمّمه قال: كل الأعمال يُضاعف ثوابها وبركتها في المدينة أعظم من مكة.
وأخذوا من قوله: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"؛ أنه ليس أفضل من ألف لكن أقل من الألف، أفضل بأقل من الألف، فإذا جعلوا الصلاة بحكم الحديث هذا فعمموا البركة حتى في الصلاة فيجعلون الصلاة أدًا في المسجد النبوي مثل ألف صلاة، فقالوا ألف صلاة في المسجد الأقصى تساوي خمسمائة ألف، لأن كل صلاة بخمسمائة، كل صلاة في بيت المقدس بخمسمائة، فألف صلاة في بيت المقدس كم؟ خمسمائة ألف.
"صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه" دخل المسجد الأقصى، فصار أفضل من خمسمائة ألف، إلا المسجد الحرام، لا تكون أفضل منه بألف مرة، لأن هذه خمسمائة ألف والصلاة في مسجد مكة بمائة ألف، ففاقته بخمس مرات، ما فاقته بألف مرة، لكنها فاقت بيت المقدس بألف صلاة.
والذين مالوا إلى تفضيل مكة قالوا أن المراد بالصلاة في المسجد النبوي ألف صلاة بغير المساجد الثلاثة، "فيما سواه": غير المسجد الأقصى وغير المسجد الحرام، وإنما الحديث ما استثنى إلا المسجد الحرام فقط.
ملأ الله قلوبنا إيمانًا ويقينًا ومحبة له ولرسله والصالحين، وجعلنا في الهداة المهتدين، ورقانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وأصلح شؤوننا والأمة أجمعين.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
21 جمادى الأول 1447