(536)
(228)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (57) باب صفة الصلاة -11- فرع في تلاوة القرآن
صباح الأربعاء 28 ذو القعدة 1445هـ
فرع في تلاوة القرآن
"كان رسول الله ﷺ يقول : "اقرؤوا القرآن خمس آيات خمس آيات فإنه أحفظ لكم"، وكان عمر بن الخطاب وأبو العالية -رضي الله عنهما- يقولان: "نزل جبريل على رسول الله ﷺ بالقرآن خمس آیات خمس آيات".
وكان ﷺ يقول: "إذا قرأ القارئ فأخطأ أو لحن أو كان أعجمياً كتبه الملك كما أُنْزِل"، وكان ﷺ يقول: "أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل"، وكان ﷺ يقول: "اقرؤوا القرآن بالحَزَنِ فإنه نزل بالحَزَن"، وكان ﷺ يقول: "أكثر منافقي أمتي قراؤها". وكان ﷺ يقول: "أتاني جبريل وميكائيل فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل : يا محمد اقرأ القرآن على حرف؟ فقال ميكائيل : استزده، فقلت: زدني، فقال: اقرأ على ثلاثة أحرف، فقال ميكائيل : استزده . فقلت: زدني، كذلك حتى بلغ سبعة أحرف فقال: اقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف" ، وكان ﷺ يقول: "لم يتلُ القرآن من لم يعمل به ولم يبر والديه من أحدَّ النظر إليهما، أولئك برآء مني وأنا منهم بريء".
وكان ﷺ ينهى عن قراءة القرآن بحضرة من لا يصغي إليه ويقول: "أجِلُّوا القرآن عن ذلك".
وكان ﷺ يقول: "كأن الخلق لم يسمعوا القرآن حين يسمعونه من الرحمن يتلوه عليهم يوم القيامة"، وكان ﷺ يحث أصحابه على تلاوة القرآن ويقول: "اقرؤوه في سبع ليال" . قال شيخنا -رضي الله عنه-: وإنما حث أصحابه على ذلك؛ لأن الكلام صفة المتكلم فمن قرأ القرآن فهو حاضر مع الله تعالى، فكان أمره ﷺ لهم بقراءة اليسير منه دون ختمه كل ليلة مثلاً رحمة بهم لعدم طاقتهم على الحضور مع الله تعالى من أول القرآن إلى آخره في مجلس واحد أو مجالس، فإن القراءة مع الغيبة عنه تفرقة والقرآن جمع لمن فهم القرآن ما هو.
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وكان -رضي الله عنه- يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث وفي غير رمضان في سبع، وكان عثمان -رضي الله عنه- يقرؤه كله في ركعة وكان ﷺ يقول: "لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله تعالى بالنار"، وكان ﷺ يحث على تحسين القراءة والتغني بها ويقول: "زينوا القرآن بأصواتكم، وما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به".
وكان رسول الله ﷺ يقول : "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن"، وكان ﷺ يقول: "اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء النوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يسمعهم"، وكان ﷺ يقول: "من أخذ على القرآن أجراً فقد تعجل حسناته في الدنيا والقرآن يخاصمه يوم القيامة".
وكان أبو العالية -رضي الله عنه- يقول: سيأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن وتبلى كما تبلى ثيابهم لا يجدون له حلاوة ولا لذة، يبيعون تلاوته بعرض من الدنيا لا يخف عليهم تلاوته إلا بذلك العرض إن قصروا عن العمل بما أمروا به فيه قالوا: إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ﴾ [البقرة : ۱۷۳] ، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء : ٤٨] ، أمرهم كله طمع في الدنيا وعدم خوف في العقبي يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم المداهن نسأل الله العافية.
قال عكرمة -رضي الله عنه-: وجمع القرآن حفظاً على عهد رسول الله ﷺ خمسة من الأنصار معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الدرداء -رضي الله عنهم- أجمعين".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بالقرآن وتنزيله وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه، ومحبيه السائرين في سبيله وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيار خلق الله تبارك وتعالى المخصوصين بتمجيد الرحمن وتفضيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وبعد،،
فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الفرع بعض ما يتعلق بتلاوة القرآن والارتباط به والقيام بحقه في الصلاة وخارجها، يقول: "كان رسول الله ﷺ يقول : "اقرؤوا القرآن خمس آيات خمس آيات فإنه أحفظ لكم"". هذا الذي أخرجه أبو نعيم في "الحلية" عليه عمل بعض الذين يريدون حفظ القرآن الكريم فيأخذونه خمس آيات، يرددها حتى يحفظها، ثم خمس آيات وهكذا. ويقولون: أقرب لثبوت ذلك في الذهن وحضوره في القلب وعدم نسيانه،
"اقرؤوا القرآن خمس آيات خمس آيات فإنه أحفظ لكم". وكان أول ما نزل من القرآن في أول البعثة خمس آيات: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]. خمس آيات أول ما نزل، وكثيرا ما ينزل الوحي بخمس آيات.
"وكان عمر بن الخطاب وأبو العالية -رضي الله عنهما يقولان: "نزل جبريل على رسول الله ﷺ بالقرآن خمس آیات خمس آيات"، وليس الأمر على إطلاقه، بل قد يأتي أقل من الخمس وقد يأتي أكثر منه.
وكان ﷺ يقول : "إذا قرأ القارئ فأخطأ أو لحن أو كان أعجمياً كتبه الملك كما أُنْزل". مع أمره الأمة ﷺ بإحسان التلاوة وإخراج الحروف من مخارجها، وأن يزينوا أصواتهم بالقرآن الكريم.
فمع ذلك؛ يكون في أمته من تصعب عليه الإحسان والإتقان في القراءة؛ إما لِلَكْنَهْ في لسانه أو لِعُجْمة أو مرض أو أي شيء عنده، فهذا إذا لم يقصر ولم يَألُ جهدًا في تحسين تلاوته، فإن الله يتكرم عليه بأن يقرأها الملك من ورائه قراءة صحيحة ويثبتها له، يثبتها الملك عنده في صحيفة حسناته كما أنزل، ليس فيها لحن ولا تقصير، وهذا لمن لم يقصر في التعلم ومحاولة حسن الأداء، إذا لم يقصر في ذلك، فإنه يصحح له الملك الذي يكتب الأعمال.
وكان ﷺ يقول: "أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل"، أي: القائمون فيه والمتذللون للرحمن فيه والداعون للرحمن فيه والخاضعون له -جل جلاله- هؤلاء أصحاب الليل، فهم أشرف الأمة، "حملة القرآن" أي: حافظوه، من حفظه ويرقى بعد ذلك في الفضل بحسب ما يفهم من معناه ويحسن تلاوته ويعمل به، "من قرأ القرآنَ وتعلَّم وعمِل به أُلْبِس والداه يومَ القيامةِ تاجًا من نورٍ ضوءُه مثلُ الشَّمسِ.." في بيوت الدنيا، هذا لوالديه، فما الظن بالذي عَمِل؟! الله يرزقنا العمل بما في القرآن.
وكان ﷺ يقول: "اقرؤوا القرآن بالحَزَنِ فإنه نزل بالحَزَن"، وذلك أن من أهمه تعظيم الحق -تبارك وتعالى- أيقن أنه لا يستطيع أن يؤدي حق التعظيم له كما ينبغي -فينكسر- فيحزن على ما فاته، فيحزن أن يُرَدَّ عليه قراءته وتلاوته، فهو بذلك يقرأ بحزن لاستشعار التقصير؛ واستشعار عظمة المتكلم العلي الكبير -جل جلاله-. فلا يليقُ في حال تلاوة القرآن ضحك ولا غفلة، ولكن بالحَزَنِ لتأمل ما فيه من السر والدلالة والإرشاد، هكذا ينبغي أن تكون صلتنا بالقرآن الكريم.
ثم يحذّر ويقول: "أكثر منافقي أمتي قراؤها" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان، وجاء بسند صحيح "أكثر منافقي أمتي قراؤها"؛ من يتظاهرون بالعلم وبالقراءة للقرآن وفي قلوبهم النفاق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، يراؤون الناس بتلاوتهم ويفاخرون ويقولون: من أقرأ منّا؟ من أعلم منّا؟ فهؤلاء من شرار هذه الأمة قراءة مراؤون منافقون- والعياذ بالله تعالى- "أكثر منافقي أمتي قراؤها".
"وكان ﷺ يقول: "أتاني جبريل وميكائيل فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل : يا محمد اقرأ القرآن على حرف؟ فقال ميكائيل : استزده، فقلت: زدني، فقال: اقرأ على ثلاثة أحرف -وذلك أنها اللهجات التي أُنْزِل بلسانهم القرآن من العرب- فقال ميكائيل : استزده . فقلت: زدني، كذلك حتى بلغ سبعة أحرف فقال: اقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف". وقد ضُبِطَتْ كيفيات نطقه ﷺ بالكلمات والأحرف. وقال: "إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، (فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ ۚ )[المزمل:20].
وقال: "وكان ﷺ يقول: "لم يتلُ القرآن من لم يعمل به.."، وإن رأى نفسه قارئا كبيرا؛ ورأى نفسه مرتلا وملحن؛ ولكنه لا يعمل فليس بقارئ، "لم يتلُ القرآن من لم يعمل به" فالذين لا يعملون بما في القرآن ويخالفون ما في القرآن، أو يعق الأب أو الأم ولو بالنظر الشزر، ينظر إليه شزرًا معبس الوجه محدق العين؛ هذه النظرة وحدها عقوق الوالدين، ومن عقَّ والديه أو أهمل العمل بما في القرآن فقد تبرأ منه رسول الله ﷺ الذي أُنزل عليه القرآن.
قال ﷺ: "لم يتلُ القرآن من لم يعمل به ولم يبر والديه من أحدَّ النظر إليهما.." أن ينظر بعين الغضب وعين التعالي؛ هذه النظرة في وجه الأب عقوق ويكتب غير بار، "ولم يبر والديه من أحدَّ النظر إليهما.." فلا ينظر إلا بالرحمة والشفقة والمحبة واللطف. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الاسراء:24]. قال: "أولئك.." يعني: الذين يسيئون الأدب على آبائهم وأمهاتهم، والذين يخرجون على العمل بما في القرآن: "أولئك برآء مني وأنا منهم بريء" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. اللهم أجرنا من ذلك ومن كل سوء، واجعلنا ممن يتلو القرآن حق تلاوته، ومن يبرُّ الآباء والأمهات خير البر، يا أرحم الراحمين.
قال: "وكان ﷺ ينهى عن قراءة القرآن بحضرة من لا يصغي إليه"، فلا ينبغي أن يرفع صوته بالقرآن عند ناس يلهون ويلغون ويتكلمون؛ ولا يعظمون القرآن ولا يصغون إليه، فالقرآن عزيز، يجب أن يجلّ وأن يُكرم. ويقول: "أجِلُّوا القرآن عن ذلك" عظموه وارفعوه عن هذا المستوى الحطيط أو هذا المستوى المنحط، فلا يجهر بالقرآن إلا حيث يكون له مستمعون معظمون منصتون خاشعون.
قال: "وكان ﷺ يقول: "كأنّ الخلق لم يسمعوا القرآن حين يسمعونه من الرحمن يتلوه عليهم يوم القيامة" -له الحمد-، وهو من جملة ما يكلم به عباده يوم القيامة، والذين (ٱشْتَرَوْاْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) [التوبة:9] لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم. وعدد من الذنوب المعينة إذا مات أحدهم ولم تتحقق توبته من ذلك الذنب حُرِمَ شيئا من نعيم الجنة ومن سماع الحق -سبحانه وتعالى- في القيامة فمن يكلمهم الله ينعم بذلك. ويقول إذا تلا عليهم الرحمن من آيات القرآن كأنهم لم يسمعوها من عظمة ما ينازلهم؛ ووسع ما ينكشف لهم من معاني وهيبة الرحمن؛ فكأنه أول مرة سمعوا كلامه -جل جلاله- وتعالى في علاه.
قال: "وكان ﷺ يحث أصحابه على تلاوة القرآن ويقول: "اقرؤوه في سبع ليال" فهذا هو الاعتدال في التلاوة أن يختم في كل سبع ليال، وعلى ذلك رتب كثير من السلف -عليهم رضوان الله- قراءتهم القرآن على الأسباع، سُبُعْ؛ سُبُعْ؛ سُبُعْ.. فيختم في اليوم السابع، فيكون أكمل المصحف في أسبوع، فهذا هو العدل في أخذ القرآن لعموم المؤمنين.
يقول لهم: "اقرؤوه في سبع ليال"، والأقل من الوقت ثلاث ليال، هذا أيضا لعموم المؤمنين، ثم بعد ذلك من أوتيَ قوةً في الفهم والتدبر والحضور مع الله فيمكن أن يقرأه في ليلة، وقد كان سيدنا عثمان بن عفان يقرؤهُ في ركعة.
"قال شيخنا -رضي الله عنه- يعني: علي الخوّاص: وإنما حث أصحابه على ذلك؛ لأن الكلام صفة المتكلم فمن قرأ القرآن فهو حاضر مع الله تعالى، فكان أمره ﷺ لهم بقراءة اليسير منه دون ختمه كل ليلة مثلاً رحمة بهم لعدم طاقتهم على الحضور مع الله تعالى من أول القرآن إلى آخره في مجلس واحد أو مجالس، فإن القراءة مع الغيبة عنه تفرقة والقرآن جمع لمن فهم القرآن ما هو"، فيجمعه على المتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى، إذا علمت عظمة القرآن فالقرآن جامع لك، القرآن يجمعك على الله الذي أنزل القرآن.
فإذًا: قراءة القرآن مع الغفلة؛ مع الغيبة عنه؛ تفرقة ليست محمودة، وليس أصحابها ممن يحسن التلاوة.
يقول: "كان ابن مسعود -رضي الله عنه- لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث"، فيخص رمضان بزيادة في التلاوة فيختمه في كل ثلاثة أيام، "وفي غير رمضان في سبع" يختمه في كل سبع ليال.
"وكان عثمان -رضي الله عنه- يقرأه كله في ركعة" القرآن من أوله إلى آخره، وكان يقول: "لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله تعالى بالنار"، إشارة إلى لو أن القرآن جُمع فوضع في جلد إهاب -جلد الحيوان غير مدبوغ- فإنه مع اشتعال هذه المادة لا يُحرق ذلك الإهاب وفيه القرآن، تعظيما للقرآن تتحول النار له بردًا وسلاما.
قال: إذا كان هذا حال الجلد، فكيف بالمؤمن إذا حمل القرآن معظما خاضعا خاشعا متبعا مهتديا؟! فالله يُزيِّنا بالقرآن، ويجملنا بالقرآن، ويجعلنا عنده من أهل القرآن.
وما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به".
"وكان ﷺ يحث على تحسين القراءة والتغني بها ويقول: "زينوا القرآن بأصواتكم، وما أذِن الله لشيء.." وفي لفظ "وما أَذَن"، والمراد ما أذِن او أذَن: استمع.. سماع الرضا؛ يعني: لا يحب أن يسمع شيئا من خلقه كما يسمع من "لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به"، أي: بالكتاب الذي أُنْزِلَ عليه، بالنسبة للأنبياء السابقين، ونبينا محمد أُنْزِلَ عليه الكتاب المهيمن على جميع الكتب وهو القرآن، يعني فكان أحب ما يسمع الحق تبارك وتعالى من أصوات عباده أصوات الأنبياء وهم يتلون الكتب التي أنزلها عليهم، "وما أذن" يعني: ما استمع -سبحانه وتعالى- استماع رضا ومحبة كما يستمع لهؤلاء، فأسمَع شيء للرحمن وأرضاه وأحبه إليه أصوات الأنبياء حين يتلون ما أنزل عليهم من الكتب، وبذلك يتبين عظيم تلاوته ﷺ، وخصوص أصحابه بسماعه وهو يتلو القرآن كما أُنْزِلَ عليه.
وكان رسول الله ﷺ يقول : "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" أي: يحسن الصوت؛ بأن يكون له مع القرآن تعظيم ومحبة وفرح ورغبة فيتغنى به، ولا يكون حاله حال كمن يريد بسرعة أن يكمل القرآن ويبعد عنه، بل يطيب له القرآن ويحلو له ويزين صوته به ويردد الآية، ويردد الكلمة حتى يفقهها ويفقه معانيها "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن"، وهذا التَّغنّي المراد به: الإحسان و التلاوة مع التعظيم والإجلال.
أما الخروج إلى الألحان وشبه الغناء وما إلى ذلك فمنهيٌّ عنه، كما أشار إليه في رواية: "اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين -" -اليهود والنصارى-، وسيجيء بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء النوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يسمعهم" ويغتر بهم، فتجده يرجِّع القرآن ويرى نفسه أكبر القراء في بلاده، أو في زمانه، ويحقد على هذا ويحسد هذا ويتكبر على هذا ويغش هذا ويعق والده، أي بني آدم هذا؟! فهو والذين يحبون استماع صوته من البعيدين عن الله، البعيدين عن حقيقة القرآن، ليسوا بشيء..
يقول: وكان ﷺ يقول: "من أخذ على القرآن أجراً فقد تعجل حسناته في الدنيا والقرآن يخاصمه يوم القيامة"، أي: من كان قصده من التلاوة أخذ المال، وإن كان يجوز عند عامة فقهاء الشريعة أن يأخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن لا يكون الأجرة مقصودهم ولا مطمح نظرهم، بل أمر عارض لا يؤثر عليهم نقص أو زاد، يودُّ لو استغنى عن أخذه.
يقول: "وكان أبو العالية -رضي الله عنه- يقول: سيأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن وتبلى كما تبلى ثيابهم لا يجدون له حلاوة ولا لذة، يبيعون تلاوته بعرض من الدنيا لا يخف عليهم تلاوته إلا بذلك العرض"من الدنيا، ما وصفهم هؤلاء؟ قال: "إن قصروا عن العمل بما أمروا به فيه قالوا: إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ﴾ [البقرة : ۱۷۳] ، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء : ٤٨]" يمنون أنفسهم بالأماني، ولا يحاسبون أنفسهم، ولا يطالبونها بالاستقامة، فهؤلاء من شرار الخلق، ما تنفعهم صورة قراءة القرآن.
"أمرهم كله طمع في الدنيا" يعطي كذا ويجيب كذا، ويرفع المرتب إلى كذا، ويُسَبِّرْ كذا -يبدأ في تخصيص راتب-... "أمرهم كله طمع في الدنيا وعدم خوف في العقبي يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب "، ظواهرهم الخير والتواضع، وبواطنهم سباع شريرة، تحقد وتحسد وتتكبر وتتمنى السوء لعباد الله -والعياذ بالله تعالى- "أفضلهم المداهن نسأل الله العافية".
"قال عكرمة -رضي الله عنه-: وجمع القرآن حفظاً على عهد رسول الله ﷺ خمسة من الأنصار -الأنصار كلهم ممن حفظ القرآن في عهد النبي خمسة فقط- معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الدرداء -رضي الله عنهم- أجمعين"
ولكن كانوا على ذلك الحال، لا يقرؤون آيات إلا رددوا حفظها وعملوا بما فيها، ثم انتقلوا إلى ما بعدها، وهكذا.
فهؤلاء من أعلم الصحابة وأفقههم:
وأُبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري، الذي نزل النبي في بيته عندما قدم المدينة، اسمه خالد أبو أيوب الأنصاري، وأبو الدرداء -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
ورزقنا وإياكم العمل بما في القرآن، وربطنا بالقرآن، ورزقنا الأدب مع تلاوة القرآن وسماع آياته، وجعلنا من المعتبرين المتذكرين، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، جعلنا الله من أهل الإدكار وأهل اعتبار وأهل الاطلاع على أسرار القرآن، وفهم معانيه، والعمل بما فيه في لطف وعافية.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة.
29 ذو القِعدة 1445