تفسير سورة طه -13- من قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .. (123)} إلى الآية 128
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
مساء الإثنين 7 ذو القعدة 1446هـ
فوائد مكتوبة من الدرس:
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيانِه على لسان خير هادٍ ودليل، عبده المصطفى محمد المخصوص بأعلى التكريم والتمجيد والتفضيل من الملِك الجليل، صلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك المختار سيدنا محمد في كل لمحة ونفس، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار خير جيل، وعلى مَن والاهم فيك واتّبعهم بإحسان في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الكرامة والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد؛
عباد الله، فإننا في نعمة تأملِنا لوحي الله وإنصاتِنا لمعاني كلام الله وتعليمه وإرشاده، وما أنزل على قلب وفؤاد خير عباده، سيد أهل وداده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، انتهينا في أواخر سورة طه إلى ما ذكر الله تعالى من القصة التي كرّرها في كتابه، قصة أبينا آدم وأُمنا حواء، وذكر أنَّهما بالأكل من الشجرة التي نهاهم عن الأكل منها؛ (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ) اصطفاه وانتخبه واختاره، (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ) -مما عمل- (وَهَدَىٰ (122))، ثبَّته على الهدى في بقية ما كان من عمره، فلا يوقعه نسيان بعد ذلك في شيء من المعاصي والذنوب، كما نسي في هذا الوضع والحال، (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)).
قال جلّ جلاله: (قَالَ اهْبِطَا) -انزلا- (مِنْهَا جَمِيعًا (123)) آدم وحواء، ومَن في صلب آدم ومَن يتناسل منهما، من آدم وحواء، كما قال: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء:1]، جَمِيعًا، أنتم والذين قدّرتهم نسلًا لكم، (اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) [البقرة:38].
(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) -والخطاب للرأس؛ آدم وحواء- (بَعْضُكُمْ) -يعني ذُرّيتكم هذه ونَسلكم- (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (123)) أي أجعلُ تنافرات بينكم، ودواعي للتّباغُض وللتّباعد بينكم، من الأهواء ومن الشهوات ومن أنواع الإضلال التي تحصل؛ فيترتب عليها مهاجَرات وقطِيعات وإيذاء ومقاتلات وسفك دماء وما إلى ذلك.
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، كما أنهم أيضًا يخرجون ومعهم إبليس، كما جاء في ذكره في بعض الآيات أنّ (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)؛ فجنس إبليس وجنده من ذريته أعداءٌ لبني آدم (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:6].
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (123))، وهو الذي يتزعّم الإثارة للشحناء والبغضاء، بل جعلها أعظم مكاسبه في أمة محمد؛ المُصَلِّين منهم، الذين أيِسَ أن يُدخِل عليهم الشرك الأكبر، فلا يقدر بفضل الله تعالى، عُصِموا في الجملة عن ضلال، وعُصِموا بإقامتهم الصلاة عن أن يتخلّل قلوبهم شرك أكبر بالله، "إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ" فهذا من عجائب مِنّة الله على الأمة وحفظه لهم، فلا يستطيع أن يُوقع مُصَلِّياً من المصلين في اعتقاد أن مع الله شريكًا آخر، ومع الله إلهًا آخر، ولكن رأى أنّ في مختلف الذنوب والمعاصي -بعد الشرك- أقوى ما يُحقِّق له غرضَه بإيقاعهم فيما يوجب دخول النار والحرمان من الجنة؛ الشحناء والبغضاء والعداوة؛ فأخذ يعمل عليها، وهذا هو مشروعه "فَإِنْ يَطْمَع في شيء فَفِي التَّحريش بينهم"، ويستخدم لذلك كثيرًا من الإنس والجن.
فما أغرب وأشأم وأسقط للمؤمن أن يدخل في العناصر هذه التي يستخدمها الشيطان، فيكون سببًا لإثارة البغضاء وإثارة العداوة بين اثنين من المسلمين! وأنت لمَ تدخل في العناصر الموظّفة بإثارة البغضاء، وتُثير البغضاء؟ أصلِح، قرِّب، ألِّف، آخِي بين المؤمنين؛ هذا فعلُ النّبيّين، هذا فعلُ العباد الصالحين، أمّا إثارة البغضاء والشحناء بين الناس فهذه وظيفة إبليس، وهو وظّف فيها، لماذا ترضى لنفسك تتوظّف مع العدو؟ والعياذ بالله تبارك وتعالى.
-
لهذا جاء في الفتنة بين الناس الذنب العظيم والجرم الكبير، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:191]، كما يقول سبحانه وتعالى.
-
"ومَن فرَّق بين اثنين مُتحابين، فرَّق الله بينه وبين ما يحب يوم القيامة"، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذًا، فاحذر أن تكون من السائرين في المسار الإبليسي الشيطاني، بأن تُستخدَم لإثارة البغضاء والشحناء بين أحدٍ من خلق الله جلّ جلاله، وبغير حق وخصوصًا المسلمين فلا تفرِّق بينهم، بل أمر حتى في الحسِّ، حرّم أن يجلس -أحدهم- بين اثنين من غير فرح منهما ورضا ويُفرَّق بينهما، فتقول له: لا تجلس بينهم، ابحث لك عن مكان آخر؛ فكيف بتفرقة القلوب؟ ذلك أشدّ، والعياذ بالله تعالى، ولذلك
-
"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ"،
-
"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتّاتٌ".
النّمّام الذي ينمُّ ينقل كلامًا، هذا الذي يفسد بينهما، فهذا لا يدخل الجنة، والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ يعني لا يموت على الإيمان من شُغله النميمة حتى يتوب منها، لا يموت على الإيمان، يُزاغ قلبه قبل الموت، فيموت على غير المِلّة، والعياذ بالله، فلا يدخل الجنة -نعوذ بالله من غضبه-.
فليحذر المؤمن من أن يكون عنصرًا من عناصر إثارة البغضاء والشحناء والعداوة بين المسلمين، ألِّف، قارِب، انشُر المحبة، انشُر الأخوَّة، لا تنقل ما يوجب البغضاء، وإذا رأيت أو سمعت ما يوجب المحبة والتقرّب، فانقله وتحدّث به، وما عدا ذلك، لا! اسكتْ، ولا تقلْ: سمعتُه يسبُّك، أو سمعتُه يقول عليك، ولا تنقل شيئًا يُثير قلب هذا على هذا؛ فهكذا الواجبُ، فهذا عدوّ الله، شُغْله الإفساد والإذلال.
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (123)) يعني مِن أشد ما تجدون في المكان الذي أنقلكم إليه وأخرجكم من الجنة، أن يحصل بين ذريتكم هذا التعادي والتباغض على غير وجه الحق؛ للأهواء، للأنفس، للشهوات، للمرادات الفانِيات، يتباغضون ويتعادون ويتحاسدون حتى يتقاتلوا -والعياذ بالله تعالى-، وحكم القضية خطير.
-
في الحديث الصحيح: "إذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِما فَالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا القَاتِلُ فَما بَالُ المَقْتُولِ؟ قالَ: إنَّه كانَ حَرِيصًا علَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"، فلا وجه للقتال بين المسلمين.
-
(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) [الحجرات:9]، غير البُغاة، لا يجوز أن تقاتل أحد، غير البغاة أو الصائل الذي يريد أن يقتلك، لا يحق لك أن تقتل أحد، غير القصاص للقاتل لا يحق لك أن تقتل أحد.
-
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزّاني المحصن، وقاتل النفس، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة"، وعلى الوالي أو الحاكم أن يُبيِّن له الأمر ليرجع إلى الدين أو يقيم عليه الحد فقط، غير هذا لا توجد طريقة لاستحلال دم المسلم أصلًا.
فيقول: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ومع ذلك، فإنني أتكرَّم على ذُرّيتكم إلى يوم القيامة بإنزال الكتب وإرسال الرسل، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)) بداية من آدم، أنت نبيي ورسولي، وخُذ وحيي؛ هذا حلال وهذا حرام، وعلِّمه زوجتك ومَن أُنتجه من نسلكما، فأولادك الذين يولدون على ظهر الأرض - فحملت -حواء- بواحد وعشرين حملًا، في كل حمل اثنان ذكر وأنثى، إلا واحدًا وهو شيث بن آدم، حملت بذكرٍ واحدٍ ليس معه أنثى، وكان هو الذي خَلَفَ أباه آدم، وعند حمل حواء به، انتقل لون من النور كان يظهر على جبين آدم، فانتقل إلى حواء، فلما ولدت بشيث انتقل ذلك النور إلى شيث، وهذا النور كان يظهر على جباه آباء النبي وأمهاته، إلى عند عبد المطلب، ولما حملت منه فاطمةُ والدةُ عبدِ الله، انتقل النور من جبهته إلى جبهة فاطمة أم عبد الله -ابنه-، فلمّا وُلد عبد الله، كان بيِّنًا في جبهته هذا النور، إلى أن حملت آمنةُ بنت وهب، فانتقل النور إلى آمنة، حتى وضعت النور المبين الساطع ﷺ.
وأنت لمّا ولدت أشرقتِ الأرضُ ** وضاءَتْ بنوركَ الأفقُ
فنحنُ في ذلكَ الضياءِ وذلك النُورِ ** وسُبْلِ الرشادِ نخترقُ
-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى (123))، كتبًا أنزلها ورُسُلًا أُرسلهم إليكم، يحمل عنهم الكتبَ، وما أُرسِلوا به خواصّ من أتباعهم جيلًا بعد جيل، وهذا هدى الله، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى)، هذا هدى الله، يُنزل الوحي على الأنبياء والمرسلين فيبلّغونه ويبينون للناس، فيأخذه عنهم مَن حولهم، ويحمله عنهم الأصفياء الأتقياء من خواصّ أممهم يبلّغونه، وهذا هدى الله.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) -ما أنزلتُه من الوحي وبعثتُ به الرسل- (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123))، (لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ): لا ينحرف إلى الباطل، ولا إلى الخطأ، ولا إلى المعصية، ولا إلى الذنب، ولا إلى الشر، لا يضل، بنور هذا الهدى يُؤَيَّد ويُعانُ إذا اتَّبَعَ، ومعنى اتَّبَعَ: ترك هواه ومُشتهاه، تتبُّعاً لِما أوحى مولاه، ينظر أين موضع رِضاه، ينظر أين موضع الرب جلّ جلاله.
بهذه الصورة يُحاط بالتوفيق فلا يضل؛ فلا يضل في نظراته، ولا مسموعاته، ولا كلماته، ولا حركاته، ولا سكناته؛ وفي هذا إفاضة الحفظ من الله للصادقين من الأتباع، غير العصمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، لا يصيبه النّكد والسوء الذي يتّصل بنكد الآخرة وسوئها، بل له من عناية الله تبارك وتعالى إبعادٌ لأنواع من الشقاء؛ فأنواعٌ من الشقاء تكون للكفار في الدنيا، لا تصيب المؤمنين، وكذلك الشقاء من العذاب والجحيم في الآخرة لا يكون للمؤمنين (فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ).
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، إذن فسعادة الواحد من عباد الله المكلفين على ظهر الأرض أن يكون مُتّبعًا لهدى الله. ومعنى مُتّبِعًا لِهُدى الله: مستسلمًا لأمر الله تعالى، باذلًا وجهته في الاجتهاد في طلب ما يُرضي الله، والابتعاد عما يُسخطه وعما لا يرضاه؛ من النيات، من المقاصد، من الأفعال، من الأقوال، من المعاملات، من الأخذ، من العطاء، من المحبة، من البُغض، من الرضا، من السخط، من الحركة والسكون، يترك ما يبغضه الله، ويترك ما لا يحبه الله، ويجتهد في ذلك، ومن نوى الجمالة جمَّله الله، ومن فتح على نفسه بابَ نيةٍ حسنةٍ فتح الله له سبعين بابًا من أبواب التوفيق.
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، في الآخرة كذلك:
-
لَا يَضِلُّ؛ فلا يسقط في النار، ولا يتلعثم لسانه عند سؤال الجبّار -جلَّ جلاله-.
-
لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ؛ لا يُعرَّض لأخذ الكتاب بالشمال، ولا لِرُجحان السيئات وخِفّة الحسنات، ولا لظهور الفضيحة والعيب في القيامة.
-
(وَلَا يَشْقَىٰ) بمناقشة الحساب،
-
(وَلَا يَشْقَىٰ) بالسقوط في النار عند المرور على الصراط،
-
(لَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، وجاء أيضاً في تفسير بعضهم، من الصحابة ومن بعدهم: (لَا يَضِلُّ) في الدنيا عن سبيل الهدى، (وَلَا يَشْقَىٰ) في الآخرة بنزول العذاب؛ فضَمِنَ اللهُ تعالى لمن اتبع كتابه ورسولَه ألا يخذله إلى ضلالٍ في الدنيا، وألا يوقعه في تعبٍ وعذابٍ في الآخرة.
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، اللهم ارزقنا حسن اتباع هُداك، وقد جاءنا خاتم الأنبياء ﷺ بما جاء به جميع الأنبياء،
وقد جمع الأسرار والأمر كله ** محمد المبعوث للخلق رحمة
به ختم الله النبوة وابتدأ ** فلله من ختم به وبدايةِ ﷺ
وقد أتانا خاتِمُ الرِّسالة ** بِكُلِّ ما جاؤوا به من حالة
فَعَمَّ كلَّ الخلقِ بالدَّلالة ** وأشرقت مناهِج الكمالِ
فكلُّهُ فضلاً أتى ورحمة ** وكلُّه حكمُ هُدىً وحِكمة
وهو إمام كُلِّ ذي مُهِمّة ** وقُدوَة في سائر الخِصالِ
-
قال الله: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54].
-
ويقول: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ال عمران:31]، اللهم ارزقنا حُسن اتباعه، فَفي اتّباعه الهدى.
قال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، ما أعجب هذا النداء وما ألذّه! لكنَّكَ اصدُقْ وصدِّقْ، صدِّقْ واصدُقْ؛ هذا نداء الرحمن الذي قوله الحق، وهو أصدق القائلين -جلّ جلاله-.
وهؤلاء يعرضون عليك؛ سنُجنِّبك الضّلال، سنُجنِّبك التّعب، سنُجنِّبك الشقاوة، هذه مشاريعنا، هذه خططنا، من أنتم؟! ولا بيدكم إضلالٌ ولا هدايةٌ ولا إشقاءٌ ولا إسعادٌ، ليس بيدكم أصلًا! بل هم في أنفسهم ضالون وأشقياءُ بالمعيشة الضّنك في الحياة الدنيا، ويقولون: نحن سنوفِّر لك المعيشة الطيبة! أنتَ أصلًا معيشتُكَ ضنكٌ، وأنتَ حياتُكَ ساقطةٌ، أنت الذي ستصلح لي حياتي!
سيُصْلح لي حياتي الذي قال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، هذا هو القادر أن يُحيِيَني حياةً طيبةً ليس أنتَ، ولا حكومتكَ، ولا دولتُكَ، ولا حزبُكَ، ستحْيون لنا الحياةً الطيبة؟! الله الذي يحيينا الحياة الطيبة إذا أطعناه، ووَيْل لنا إن عصيناه وأطعناكم، ما نكسب إلا الشقاء.
وكل الذين رضوا بهذه الإغواءات، وعصوا الله تبارك وتعالى:
-
بترك الفرائض،
-
أو فعل المحرمات،
-
أو إيذاء الناس استجابة لدعوة هؤلاء بما آتَوْهم من وظائف أو من أموال،
والله ما عاشوا في الدنيا قبل الآخرة إلا عيشة الضّنك، وضلّوا وشقوا في الدنيا قبل الآخرة، وماذا يجدون في الآخرة إذا ماتوا على هذا الحال؟ -فنعوذ بالله من غضبه-، ويعجبهم شيء من الأموال هذه التي جُمعت لهم أو شيء من المُدّخر في البنوك والمصارف وغيرها، ولكن لن يهنأوا في الدنيا به، ولن تطيب لهم الحياة، وإنما هذا التخيُّل والتصوُّر للملذات الباطلة الوهمية، ثم العذاب في الآخرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
لكن (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) الّلهم ارزقنا اتّباع هداك، الّلهم ارزقنا اتّباع هداك، وأهلينا كُلُّهم وأولادنا كُلُّهم اجعلنا مُتّبعين هداك، ولنا بذلك الشَّرف؛ أفرادًا وأسرًا ومجتمعاتٍ وشعوبًا ودولًا ومؤسساتٍ وهيئاتٍ؛ إن نتَّبِع هداه فلا نضلَّ ولا نشقى، إذا خرجنا عن هدى الربّ فالضَّلال والشَّقاوة لازمة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، الله، الله، الله، لا إله إلا الله.
-
يقول: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) -وما شكرت ولا قامت بأمر الله- (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل:112]، ما هو لباس الجوع والخوف؟ هم أصلاً يُفكِّرون أنَّ الجوع والخوف بعيد عنهم، ولا يخافون إلّا أنْ يَنقُص المالُ أو يذهب الأمنُ، هو هذا الذي تخافون منه؛ نوقعكم فيه!
هل مِمن اتّبع كفّار أو فجّار أو حزب ضالّ؛ فقام بمعصية الله -اتّبع هذا الحزب- ثم لم تُنازِله أنواع المَخوفات والرَّوع والرُّعب في الدُّنيا؟! لا أحد، بل كل الذين اتّبعوا هؤلاء وهم في الدنيا؛
-
ترَوَّعوا بأنواع من المروِّعات حتى خافوا على أنفسهم،
-
وكلُّهم أيضًا أصابهم نصيبهم من الجوع، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-؛
ولكن (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا (124))
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي) ذِكْرِ الحقيقة، ذِكْرِ أنّي ربُّه، وأنّي خلقته وخلقت الوجود، وأرسلت الرُّسل وأنزلت الكتاب.
(أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي)؛ فتناسى خلقي له، وإيجادي له، وتكويني له، وصُنعي له، وإنعامي عليه، وإمدادي له بالسّمع وبالبصر وبالأجهزة وبالقوّة، وتسييري الأرض له وتسخيرها له، وتسييري له الأكسجين والهواء الذي يستنشقه وتسخيري له..! تناسى هذا كله!
(أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي) كأنَّه هو الخالق! وإلّا الذي يُطيعه هذا من المخالفين لأمر الله؛ كأنهم هم الذين خلقوا أنفسهم!
-
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف:19] ؟ لا إله إلا الله.
-
ويقول: (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) [الكهف:51].
-
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) كلامنا وكلام من أوحينا له (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)؛ ولكن ادّعاءات وكلمات وضلالات (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ) [الطور:35-40].
كأنهم يقولون: ربّنا نريد أن نتّبعك ونبذلُ لك، ولكنّك تطلب منا مبالغ باهظة! (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ:47] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا (124))، (مَعِيشَةً ضَنكًا):
-
ضيقةً مُكدَّرةً.
-
معيشةُ الضَّنكِ: كل ما أدّى إلى السُّوء وإلى الألم وإلى العذاب والتَّعب؛ فهو معيشةٌ ضنكٌ، كل شيء مآله الأتعاب والمقاساة للآلام والشَّدائد فهو معيشةٌ ضنكٌ.
(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) لهم ضنكُ المعيشة، فلا يَنْعمون بطمأنينة القلوب والنُّفوس طول حياتهم، وإن وضعوا الحراسات، وإن جمعوا الأسلحة، وإن هيَّأوا من حوالهم أجواءً، وعمِلوا من حوالهم اضطرابات، اعمل ما تعمله، معيشتك ضنك ضنك! تعيش الضَّنك، ساعةً تهرب الى هنا، وساعةً تدخل الملجأ كذا، وساعةً تجيء كذا.
(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) حُكم! حُكم مَن لا مُعَقِّب لحكمه، لا يقدر أحد يُعقِّب عليه، ولا يقدر أحد يُغَيّره..!
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) وتأتي التفاسير في المعيشة الضَّنك:
أمّا في الحياة الدنيا؛ ما بين الهموم والغموم والأكدار، وما بين المال الحرام، المال الحرام؛ مهما اتَّسع فهو ضنكٌ، لماذا؟ لأنه يورث المصائب في الدّنيا ويوصل للعذاب في الآخرة، فهذا ضنكٌ، وإن كان رصيدًا كبيرًا في البنك، وإنْ كان.. فهو ضنكٌ! يعيش تعبان في الدُّنيا وبعد ذلك يموت، وهذا الحساب كله على الصَّغيرة والكبيرة، وإن كان رِبا؛ فهو حربٌ -والعياذ بالله- حربُ الله -جلَّ جلاله- هذا معيشة ضنك، فلابُدَّ لهم من ذلك!، والمؤمن "إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له".
قال سيدنا: "أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعتُ سألت الله، وإذا شبعت شكرت الله" -صلَّى الله عليه وآله صحبه وسلَّم- فهذه المعيشة بهذه الصورة ليست إلّا للمؤمنين -لأهلِ ذِكر الله- فقد أدركوا:
-
أنَّ لهم إلهًا خلقهم ولم يخلقهم عبث،
-
وأنّه تكرَّم بإنزال الكتب وإرسال الرسل،
-
وأنَّ خيرهم في اتِّباع أمره، فتجد هؤلاء لهم المعيشةً الطيبة، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97].
وأمّا هؤلاء (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا):
-
ثمَّ في الآخرة، أوله؛ عذاب القبر وشدائده، معيشة ضنك؛ وجاء هذا في عدد من الرّوايات، بعضها موقوفة على بعض الصَّحابة، وبعضها مرفوعة إليه ﷺ، أنّ من المعيشة الضنك لهم ما يُلاقيهم في عذاب في القبور، حتى جاء في وصْفهِ ﷺ حال المؤمن في القبر، قال: "إنه يُفسح له في قبره، ويُوسَّع له فيه سبعين ذراعًا، ومَدَّ النَّظر في بعض الرِّوايات. ثمّ قال: "تدرون ما المعيشة الضَّنك؟ التي قال الله؟" قال: "إنَّه الكافر والفاجر في قبره، يُسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا -في رواية تسعة وتسعون حيَّة- تنهش لحمه إلى أن تقوم السَّاعة". معيشة ضنك، ضيّقة صعبة، تسعة وتسعين تِنِّينًا! لو تسعة وتسعين بعوضة ستتعب لن تدعك أن تنام، لو تسع بعوضات لن تدعك تنام! هذا -والعياذ بالله تعالى-: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)
-
ويُضيَّق عليه في قبره -إنّا لله وإنّا إليه راجعون-
-
ويُفتَح له كوَّة إلى منازل النّار! هذه معيشة ضنك.
-
و بعد ذلك في الآخرة العذاب شديد -اللهم أجرنا- (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) [الرعد:34]، -لا إله إلا الله-.
قال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي)؛ إذًا فالخير في الذِّكر لله، والذّكر بالمعنى الذي أذكره ليس مُجرَّد أن تشغل لسانك بشيء من التسبيحات والتحميدات.. هذا باب من أبواب الذّكر؛ يُدخلك إلى حقيقة الذِّكر.
الذِّكر:
-
أن تستشعر ويحضر في قلبك عظمة الإله الذي خلقك ويُحيط بك،
-
وأنَّه أنعم عليك بإنزال الكتب وإرسال الرُّسل،
-
وأنّ خيرَك وسعادَتك أن تُطيعه وتقوم بأمره،
-
وأنَّك بمرأى منه ومَشْهَد، لا يخفى عليه من أمْرك شيء، وأنَّ مرجعك إليه؛ هذا الذِّكر.
هذا الذّكر.. إذا استولى على قلبك هكذا؛ فأمامك رياض الجنَّة ادخلها، وأمامك المعرفة به، وأمامك القُرب من حضرته، وأمامك أنْ يَذكُرَك في الملأ الأعلى هو بنفسه -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-؛ هذا هو الذكر، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
نعم، مِنَ الأبواب المُوصلة إليه:
-
كُثرة تلاوتنا لكتابه مع التَّأمُّل،
-
وترديد الأذكار الواردة على السُنَّة، وخصوصاً ما ورد عنه ﷺ.
ومن أنفع الأذكار لعموم المؤمنين ولكلّ المُقبلين على -الله تعالى-: "لا إله إلا الله"، "أفضل ما قُلتُ أنا والنّبيون من قبلي: لا إله إلا الله" -الّلهم ثبِّتنا عليها واجعلنا من خواصّ أهلها-.
-
فاشغل نفسك بها،
-
وحَرِّك من قلبك دواعي الذّكر بهذا المعنى الواسع
-
أنت بين يديه، وهو يحيط بك، وهو خلقك من العدم، وهو يراك وينظر إليك، وأنزلَ إليك كتابًا وأرسل إليك سيّد الرسل ﷺ؛ استشعِر هذا.
-
ومرجعك إليه وحسابك عليه (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]،
-
فَأَطِعْهُ، وَطِّن نفسك على طاعته، ومن وطَّن نفسه على ترك المعاصي، جالت روحه في عالم الملكوت، ونازلهُ من الرّحموت ما يرقى به في مراقي شهود الجبروت واللاهوت؛ فيُصبحُ من خواصّ العباد الذين ليس للشَّيطان عليهم سلطان، ولهم وداد الرّحمن، وداد الرحمن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96]، كما مرَّ معنا في سورة مريم.
يقول: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124))، هذه المعيشة الضنك في الدنيا، مهما طالت ستنتهي..! وفي القبر وإلى يوم القيامة صعبة، ولكنّها أيضًا ستنتهي، فماذا وراءها؟
(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) مالَهُ فُكَاك من البلاء؛ لأنَّه نسيَ الربّ، نسيَ الإله، نسيَ الموجد الخالق المكوِّن، نسيَ المُنعم المُتفضِّل، نسيَ الرَّاحم الكبير، نسيَ ربَّ العرش، نسيَ الذي رعاه في بطن أمه وربَّاه.
(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)
-
وهذا في مواطن في القيامة عند الحشر، يكونون فيها عميانًا لا يرَون، و لا يسمعون إلّا النّداء.
-
وفي مواطن يكونون صُمٌّ بُكْمٌ صُمٌّ.
-
وفي مواطن يشتدّ نظرهم وبصرهم لِمَا يريد الله أن ينظر إليه؛ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم:38].
فإذًا مواطن القيامة يُذهب السمع، يُعمي البصر، ويُعطيك الله السمع والبصر؛ لأنّه (هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر:20]، ما أحد يُبصر إلَّا بأمره، ولا أحد يسمع إلا بأمره وإذنه -سبحانه وتعالى-.
وهكذا في بعض مواقف القيامة عند الحشر:
-
يكونون عميانًا؛ هذا واحد.
-
وعمى الباطن؛ أي انقطعت عنهم الحُجج، لا حُجَّة لهم، ليس لهم حجة. أعمى يقول: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ (125)) لا بصر عندي، ولا حُجّة معي، ما أقدر أُحاجي بشيء!
(قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)؛ أهملتها وتركتها وأعرضت عنها، (وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) لا حُجّة ولا بصر! ابقَ هكذا -والعياذ بالله-.
(وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) تُدخل إلى النّار، ولا أحد يرحمك، ولا أحد يُخرجك، ولا أحد يُنقذك؛ لأنّك عَملت بالآيات هكذا، عملت بآياتنا هكذا. (قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (125)).
وإنّما هذا لمن عاش أعمى القلب في الدُّنيا عن وحي الله، وعن الهدى الذي بعث الله به المصطفى كما قال: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72]؛ فليس له حُجّة في الدُّنيا، ولا هو على هدى في الدُّنيا، وفي الآخرة كذلك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ويُصابون أيضًا بعمى البصر في بعض مواقف القيامة، وفي بعض أوقاتهم وسط النار.
حاشاك أن تَطْمِسُ بِالعَمَى فِي ظُلَمِ مَهَاوِيهَا أَبْصَارًا بَكَتْ من خشيتك ومن الاستعداد للقائك، بكت؛ فحاشاك أن تطمسها بالعمى في ظُلَمِ مهاوي النار، لا إله إلا الله، نوِّر اللهم بصائرنا وأبصارنا، يا رحمن يا رحيم.
قال: (قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ (127))، فيا ويل المُسرفين! مَن أسرف على نفسه، كذَّب بالآيات وهي واضحة، ودلالات بيِّنة بُعث بها رسول الله ﷺ.
(وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) -اللهم أجرنا من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة- (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127)) أطول وأدوم، ومنهم مخلَّدٌ فيه، مَن مات على الكفر، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فتذكَّروا هذه الحقائق وتأمّلوا، أنتم جئتُم أُمَّة مُحمَّد، وقد كُذِّب من قبلكم أممٌ كثيرة، بل من عصره ﷺ إلى اليوم، ومضت أجيال بعد أجيال، ودُول بعد دُول تكفينا عبرة، وكيف بالأمم التي قبلنا؟!
-
(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38].
-
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [إبراهيم:9].
(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ..(128))، من تلك الأرض التي أنتم فيها كانوا فيها، تأكلون كما كانوا يأكلون، وتشربون كما كانوا يشربون، تبنون.. هم كانوا يبنون، تتزوجون؟ هم كانوا يتزوجون.. بعد ذلك إلى أين نهايتهم صارت! وعاقبتهم كيف رجعت!
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128)، لأصحاب العقول -الّلهم اجعلنا منهم، الّلهم اجعلنا منهم، الّلهم اجعلنا منهم-.
سيأتي شرح هذه الآيات، وكذلك في قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا (128)) أنزلنا عليهم العذاب فأهلكناهم؛ لكن قال لا..
-
[إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84]، إنَّما نؤخّرهم لأجلٍ معدود.
-
(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]،
قال الله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (128))؛ قد حدَّده الربّ.
-
اللحظة التي تقوم فيها الساعة،
-
ولحظات النفخة الأولى والنفخة الثانية.
هي مُحددةٌ من قِبَل الله، لا تكون إلا في وقتها؛ ولولا أنه سبق هكذا منّا القضاء والقدر (لَكَانَ لِزِامًا)؛ بسرعة أهلكناهم، ولما أبقينا منهم أحد،
(لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) هذا الطريق الصحيح؛ فاصبر.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا (130)) هذا ذِكرُ الله الذي جاءنا، وهُداه الذي أتانا، ثبِّتنا يا ربِّ عليه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واحشرنا في خواصّ أهل القرآن في يوم القيامة، يا رحمن يا الله، اجعلنا مِمن اتبع هُداك، اجعلنا ممن اتبع هداك، اجعلنا ممن اتبع هداك، فلا نضل ولا نشقى، يا ربِّ ولا نُفضحَ ولا نُخزى في الدنيا ولا في الآخرة، يا ربَّ الدنيا والآخرة، آمنَّا بك، وأنَّك الواحد الأحد الفرد الصَّمد، الحيّ القيّوم الذي لا تأخذك سنة ولا نوم، وأنَّ البداية منك والمرجع إليك، وأنَّ مرجع جميع الخلائق إليك وكلُّهم في قبضتك، وآمنَّا أنَّك أرسلت الرُّسل وختمتهم بمُحمَّد، وأنزلت الكتب وختمتها بالقرآن، آمنَّا بك وبرسولك وما جاء به عنك؛ فثبّتنا على دربه، واجعلنا ممن اتَّبع هداك، والقواطع التي تعترضنا في الزّيغ عن هذا السبيل، اقطعها عنا وأبعدها منَّا؛ حتى نستقيم على الهدى فيما خفي وفيما بدا، يا حيّ يا قيوم، فنسعد مع خواص السُّعداء سعادة أبديّة سرمديّة لا غاية لها ولا مُنتهى، تزداد أبدًا وسرمدًا، يا حيّ يا قيوم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بِسِرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبِي مُحَمَّد
اللَّهم صَلِّ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ،
الفَاتِحَة
10 ذو القِعدة 1446