تفسير سورة طه -10- من قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)} إلى الآية 108
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
مساء الإثنين 16 شوال 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرِمُنا بآياته وبيانها على لسان خير برياته، عبده المُختار محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحاباته، وعلى أهل محبّته ومتابعته ومودّاته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمن من برياته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
فإننا في نعمة تأمّلنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله-، وقفنا في سورة طه عند قوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-: (كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103))، يقول الحق -سبحانه وتعالى- لنبيه المُصطفى المُختار: (كَذَٰلِكَ) في هذا الوحي والتنزيل نتولّى أن نقص عليك؛ (أَنبَاءِ) -أخبار- ما قد سبق ومضى أمامك على ظهر هذه الحياة الدنيا من أخبار الأنبياء والمرسلين، وما كان مآلهم ومصيرهم، وما أوذوا، وما قوتِلوا، وما تحمّلوا، وما حلَّ بمُعانِديهم من المُثلات والنكال وسوء المآل.
(كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)، وفي هذا تَوَلِّي الحق تبارك وتعالى لقَصِّ هذه القَصَص؛ لمكان القَصَص في انتفاع العِباد، في وعيهِم وفهمهم وقُربِهم، وتنوير بواطِنهم وتقوية إيمانهم، وقد نصَّ على ذلك في آيات؛
-
يقول: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].
-
ويقول: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13].
-
ويقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ) [يوسف:3].
بذلك قال بعض أهل المعرِفة أنّ أسرار القرآن في قَصَصه، يُشيرون إلى أنَّ كثيرًا مِمّا أُدرِكَ من حقائق المعاني وفُتِح فيه على القُلوب الصافية كان في خلال قَصِّ القَصص الموجودة في القرآن؛ لهذا:
-
كان من المُهم أن يتشبَّع فِكرْ المُسلم وعقله بمعاني هذه القصص الموجودة في القرآن.
-
وأن تكون حاضرة في ذهنه وباله.
-
وأن تكون مجال لحديثه وخطابه لأهله، وفي مجالس أصدقائه وصحابته.
هذه القَصَص فيها بيان مُعاملات الحق:
-
ما يُقابِل به الخلق - وهم نظراء وأشباه - ما يُقابِلون به تنزيل الله وإرساله الرسل وخطابه الأعلى -جلَّ جلاله-.
-
وما يستقبلونه به ما بين مُوفَّقٍ مُصدِّقٍ مستجيب، وما بين مُدْبر ومُعرض ومُعانِد، وما بين مُتنقّل من حال إلى حال.
وسبحان من لا يَتحوَّل وهو مُحوِّل الأحوال -جلَّ جلاله-.
(كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)، ثم ما جاء من القَصص في السنة الشريفة، هذه القَصص التي ينبغي أن تكون مَحطّ أنظار وتأمُّل أهل هذه المِلة وأهل هذا الدين، فإنها تُفيدهم وتنفعهم في تقوية إيمانهم ويقينهم، وفي بيان كيفية المعاملة والسير، والمُقابلة لمختلف أصناف الناس في مُختلف الحوادث والظروف التي تمرُّ بالعباد، وقتًا بعد وقتٍ وزمنًا بعد زمن.
(كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ) -أعطيناك ومنحناك- (مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)):
-
خصَّصناك بهذا الكتاب الذي معانيه وألفاظه بعنايتنا ورعايتنا ومِن عندنا.
-
وأبقيناه حُجّةً ومُعجزةً يُتحدّى بها أصناف النّاس وأجيالهم: عِلمًا وبلاغة ودلالاتٍ.
-
وحَملًا للمعاني، إلى غير ذلك من وجوه مُعجزة القرآن.
(وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا)، قرآناً يُتلى، يُسِّرَ بلسانك، وتتلوه على أمّتك، وتُبيِّن لهم ما فيه؛ لِتُبَيِّن لهم الذي نُزِّلَ إليهم.
قال جلَّ جلاله: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا) يترتّب عليه السعادة لِكُل سعيد من أمّتك والشقاوة لكل شقي، وحقائق السعادة والشقاء في الدارين قائمة على اتصال المُكلّف بهذا الكتاب؛ حاله مع هذا الذكر المُنزَل على سيد الأحباب -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
(وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100))، فالشؤم والشقاءُ في الإعراض عن كتاب الله، والتَّوَلِّي عن آيات الله، والمُخالفة لتنزيل الله -جلَّ جلاله-.
-
(مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) فيا ويل المُعرضين عن كلام الربّ، وعن آيات الإله الحق -جلَّ جلاله-.
-
(مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) فمآلهُ شقاء مؤبَّد وعذابه مُخلّد.
(مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100))، آثامًا وذنوبًا وسيئات مِن مخالفة هذا الكتاب والإعراض عنه.
(يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ):
-
يَخلُدون في الوزر، أي في نتيجته من العذاب في النار -والعياذ بالله تعالى-.
-
يَخلُدون في الوِزر الذي حملوه؛ في عذابه وفي عواقبه وفي نتائجه وفي جزائه.
(خَالِدِينَ فِيهِ) فهم في النار ويتلقّون آثار ما أعرضوا عن هذا الكتاب؛ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ * وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ) [طه:124-127]، اللهم أجِرنا من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
قال: (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)) بِئسَ هذا الحِمل القبيح السيئ، فإن الحِمل يختلِف:
-
وقد يحمل الإنسان ما يُشكَر عليه، وما يُمدح عليه، وما يكون سببًا لرفعته،
-
لكن قد يحمل أمرًا قبيحًا، وقد يحمل أمرًا خبيثًا سيئا.
قال: (وَسَاءَ لَهُمْ) بئس الحمْل: حِمل الوزر، حِمْل الذنوب، حِمْل السيئات. وسيأتي معنا في هذه الآيات: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111]، يقول الله -جلَّ جلاله- عن هذا اليوم: (خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)، فكم يتمنّى الظَّلَمة في الآخرة أنهم كانوا مظلومين، أو أنهم قُطِّعوا قطعةً قطعة في الدنيا ولم يظلموا أحدًا من خلق الله (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
(وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ (102)) في قراءة، وفي قراءة أخرى: (يَوۡمَ نَنفُخُ فِي اِ۬لصُّورِ)، ونَسَبَ النفخ إلى نفسه؛ لأنه بأمره وبِقُدرته.
و(يُنفَخُ) أيضًا على بناء المجهول؛ لأنه يأمر بذلك إسرافيل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فينفخ الملك إسرافيل بأمر الله تعالى نفخة في الصور يصعق بها من في السماوات ومن في الأرض: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
(يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)) شِدّة الهول وما يُنازلهم في بواطنهم، أثَّر على مظهرهم ومنظرهم وقسمات وجوههم، وزَرَقت عيونهم فهم زُرْق مِن شدة الهول الذي يُنازِلهم:
-
(كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) [يونس:27].
-
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) [عبس:40-41].
-
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى:40].
قال سبحانه وتعالى في ذكر هذه الحقيقة التي تُنازِل الناس في ذلك اليوم؛
-
يقول سبحانه وتعالى:
-
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) [يونس:27].
-
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) [القيامة:24-25].
-
-
في المُقابِل الوجوه الأخرى:
-
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:24].
-
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) [عبس:38-39].
-
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:22-23].
-
فالفوارق كبيرة بين وجوه ووجوه (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [ال عمران:106] كما قال -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
يقول: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103))، ما مقدار الحياة الدنيا وما مرَّ عليهم في البرزخ؟ لا تكون في نظرهم في تلك الساعة إلاَّ مثل عشر ليال؛
-
(نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)).
-
و (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الروم:55].
-
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات:46].
فما أقبح المآل! بل وما أقبح حال من يغترّ بهذه الأيام المُنقضية، المُنصرِمة، المُنتهية عمّا قريب؛ فيظلم ويؤذي ويضرّ ويُعانِد الجبّار الأعلى، ويتَّبِع الشهوات ويُخالِف أمر الله!
إلى أين تنتظر؟ ماذا تعمل بنفسك؟ لماذا تُهيِّئ نفسك؟ أين تُنزِل بنفسك؟ أين تهوي بنفسك؟
ما أقصرها! كَأَن (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، والمآل عذاب مُخلّد مُؤبّد -نعوذ بالله تبارك وتعالى-، وعقاب لا غاية له ولا حد: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) -لكن- (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) [الفجر:25-28].
ولما سمعوا الحديث عن القيامة وشدائدها وأهوالها، يقولون: أين تذهب الجبال؟ -يقول بعض المشركين والكفار- قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105))، مُكَوِّنها وخالِقها يُمِرُّها بمراحِل، تُحمَل مع الأرض فتُدَكُّ ثم تتطاير فتكون كالعهن المنفوش، ثم تُنسَف نسفًا فلا يبقى لها أثر.
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا) الأرض كلّها بجبالها وبحارها وأوديتها (قَاعًا) -واحداً- (صَفْصَفًا) مَستوية، كالصَّفْصَف المُستوي، (قَاعًا صَفْصَفًا)؛ (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق:3-4]. فتُمَدُّ وتتَّسِع لتحمِل هؤلاء الخلائق كُلّهم، فيُجمَع الأولون والآخرون على ظهر الأرض (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) فتتّسِع اتّساعاً، وتُسوَّى تسوية من طرفها إلى طرفها كلّها (قَاعًا صَفْصَفًا (106)) -مُستوية- (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا) انخفاضاً، (وَلَا أَمْتًا (107)) ارتِفاعاً، لا وادي ولا جبل ولا حفرة ولا رَبوة ولا بيت، (قَاعًا صَفْصَفًا) مستوية.
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)) ولا شجرة ولا بيت ولا جبل ولا حُفرة ولا شيء، -سبحان الخلّاق، سبحان القوي القادر-، فلذا شأن القيامة أكبر مما يتصوَّر الناس، ومِما يذكرون من الأسلحة النووية والقنابل الذرّية، ما الذي يشُقّ السماوات وينْثُر الكواكِب ويجعل الأرض مع الجبال قاعاً صفصفاً؟! لا قنابل ولا أسلحة تقدر تعمل هذا! قُدرة القادر! قوة القوي، إرادة الخلَّاق المُنشئ -جلّ جلاله-.
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ):
-
الذي يدعوهم إلى أرض المحشر، ثم يُنقَلون بشفاعة النبي الأطهر إلى أرض الحساب.
-
قال تعالى: (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) -إلى هنا- (لا عِوَجَ لَهُ) لا أحد يقدر يُخالِف، ولا يذهب يمنة ولا يسرة.
يُحشرون الأول فالأول فالأول إلى آخرهم، وكل واحد؛ تعال هنا، مكانك هنا، حتى الذين يُحشَرون في الظُلمة أمامه داعي إلى هنا، ولا يملك يذهب يمين ولا يسار.
(يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ) -لهيبته وجلاله- (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108))، وأخذ -جلَّ جلاله- يُحَدِّثنا عن شؤون في ذلك اليوم المُقبِل علينا حاصِلة، وأحوال نازِلة، جعلنا الله ممّن سبقت لهم مِنه الحُسنى، فهم في ذلك اليوم عن النّار مُبْعَدون، (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:102-104].
اللهم أسعِدنا في حياتنا وعِند وفاتنا، وفي يوم الميقات والقيامة، اجعلنا في زُمرة المُظلَّل بالغمامة، أعْطِنا كُتبنا بأيماننا، وأدخلنا جنّتك بغير حساب، ثبّتنا على الصِراط ورجِّح موازين حسناتِنا، وارحم عرضنا عليك ووقوفنا بين يديك، وافعل كذلك بوالدينا وأهالينا وموتانا وذرياتنا وطُلابنا وأحبابنا وأصحابنا، يا خير مُعطٍ يا خير جواد، يا أرحم رحيم، يا أعظم عظيم، يا جواد يا كريم.
يا أرحم الراحمين، ارحمنا فإنّا ندعوك، وسَلِّمنا من العذاب فإنّا نرجوك، ولا تُعرِّضنا يا مولانا للحسرة ولا للندامة في يوم القيامة، واجعلنا في زُمرة المُصطفى، وأرباب الصِدق والوفاء من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
يا من له الفضل، وذلك الفضل منك وكفى بك عليماً، فهب لنا الفضل العظيم يا عظيم، واجعلنا في أهل الثبات على الصراط المستقيم، وبالقرآن ارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ورُدّ عنّا كيد المُعتدين والظالمين والغاصبين والمُفترين والفاجرين والكاذبين بأصنافهم، ورُدّ عن المسلمين جميع شُرورِهم وبلاياهم وآفاتهم، وحوّل أحوالنا والمُسلمين إلى أحسن الأحوال، برحمتك وبآيات كتابِك ومن أنزلتها عليه.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
17 شوّال 1446