(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل من قوله تعالى:
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية في الساحة الشرقية بدار المصطفى بتريم
الحمد لله مكرمنا بآياته وبيانها على لسان خير برياته سيدنا محمد صلى الله وسلم مبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته والاقتداء به في شؤونه وحالاته وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،، فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا الواحد الأحد الفرد الصمد جل جلاله وتعالى في علاه وصلنا في سورة النحل إلى الآيات الكريمات ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ ۖ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62)) ويتكلم الحق جلّ جلاله وتعالى في علاه إلى خلقه وعبيده ببيان الحقيقة والإرشاد إلى قويم الطريقة، ووجوب الانتهاء عن الأهواء وعن الظنون الكاذبات وعن الخيالات الفاسدات؛ التي لا وقع لها، وعن الادعاءات لما لا بيّنة له، وعن الانحراف عن سواء السبيل وفعل ما لا ينبغي ويليق في معاملة مخلوق مع خالقه ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ) يكرهون البنات وينسبونها لله، يكرهون الشريك وينسبونه لله، يكرهون أن تُكذَّب رسلهم أو أن تُوذى، ويُكذِبون رسل الله ويؤذونهم، ويجعلون الأشياء التي يكرهونها له، ثم يدَّعون أن لهم منه ما يحبون، وفي أي ميزان تعامل أحد بأن تجعل له ما تكره ثم يجعل لك هو ما تحب؟ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ) فحتى المكذبين بالآخرة إذا ذكر لهم المومنون الجنة والنعيم وعلى ما يرام يقولون نحن سنكون في الجنة ، ونحن هناك لنا الملك ونعطيكم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) [مريم:77]، وقال : يقول إذا جئنا في القيامة تعال عندي بأعطيك حقك يقول له مستهزيء كافر يقول لواحد من المؤمنين تعال في القيامة بأعطيك فإن لدي هناك أموال وأولاد ، (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ! ) بأي حجة يتكلم بأي منطق! ما هذا الخيال ما هذا الضلال ؟
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا * كَلَّا ۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )[78 -79]، وهكذا ما أكثر المتقولين ،والمتطاولين، والمتخيلين للخيالات الفاسدة ( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) ويقولون في الكذب أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ، الجنة والنعيم والملك الكبير في الآخرة. يقول الله تبارك وتعالى : ما أغرب هذا المنطق الذي يخالف العقل ويخالف الفطرة! ويخالف الموازين؛ لا جرم؛ لا شك، ولا ريب، ولا ظن أن لهم النار ما لهم في الآخرة إلا النار، وأنهم مفرطون؛ معجلون سابقون إلى النار المُوقدة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ يدخلونها في أوائل من يدخل النار "مُفْرط " والفرط: السابق، وكذلك مفرطون مُتْرَكون فيها لا يخرجون منها فهم يدخلونها وهم يُخلّدون فيها والعياذ بالله. (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ) إذًا فالأمر كما قال الجبار الأعلى: ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) [النساء :123]، ميزان رباني وضعه الله لخلقه لا يملك أحد أن يغيره ، ولا أن يُبدله.
(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرً) [النساء:123- 124]، (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ..) [فصلت :46] . وبذلك تَعلم لعب الشيطان على كثير من العقول من الكفار ومن المسلمين، ويقول لصاحب الهوى: قل للذي ينصحك والذي يعلمك هذا، والذي يُريد منك تترك هواك، قل له: أنا أدخل الجنة قبلك، بأي عهد مع الله؟ بأي آية نزلت من عند لله؟ هي ملكك وإلّا أنت الحاكم فيها؟ وإلّا أنت خلقتها ، وإلاّ هي تحت أمرك يعني ما هذا الخيال؟ ما هذا الضلال؟ بينما الأتقياء الخاشعون في أدبهم مع الله يقول سيدنا عمر بن الخطاب : "لو نادى منادٍ يوم القيامة كل الناس يدخل النار إلا واحد لخشيتُ أن أكون أنا ذلك الواحد"، كل الناس يدخل الجنة إلا واحد لخشيتُ أن أكون أنا ذلك الواحد الذي لن يدخل الجنة ؛ يخاف على نفسه وهو مُبشَّر بالجنة، وليس يشك في بشارة رسول الله؛ لكنه يعلم من جلال الله تبارك وتعالى أنه ربما كان ذلك منوطٌ بأمرٍ وشرطٍ يقصِّر فيه، فيخاف من الله -الله الله الله-، وهذا يقول بأدخل الجنة قبلك! ماأدري اشتراها سنة كم؟ من باعها عليه ؟ هي لعبة ؟ وإذا تستهين هكذا نخشى أن لا تدخلها أصلاً -والعياذ بالله تعالى- بكلامك هذا؛ لأنك تلعب؛ تلعب على آيات الله، تلعب على ملك الله، تلعب على ما يخص الرحمن جلّ جلاله؛ يتصرف فيه هو ولا أحد غيره. يقول: (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ )، وهكذا كل من كذّب الرُّسُل ، وكل من خالف منهج الرب الذي أرسل به المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الله تعالى يُقسم الله تعالى بألوهيته وعظمته ( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ..(63)) كثير أمم قد مضت قبلك، وقام فيهم الأنبياء والمرسلون، ونفس الكلمات يقولونها هؤلاء، وهؤلاء يرددونها، ويقولون للرسل ساحر، كذّاب، مجنون، أعطنا كذا، آتنا بآية … يقول: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) إن كانت قبيحة وسيئة وخبيثة؛ ولكن مُزينة زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ، وقال: عظمه ، ممتازة ويسمونها نظام ، ويسمونها قانون، ويسمونها قرارات ويسمونها…(زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ). فأنواع القبائح تُزيَّن اهم : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) [فاطر :8] -اللهم اهدنا فيمن هديت-. (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) من شركهم، وكفرهم من معاصيهم، وخزيهم؛ من تطفيف هؤلاء للكيل والوزن؛ من إتيان هؤلاء لجريمة اللواط وإتيان الرجال الرجال، ومن اصرار هؤلاء على السحر والكذب، وإلى غير ذلك من أنواع المعاصي التي أرسل الرسل ليخلصوا الأمم منها.
(فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ ولكن الأغرب والأعجب إذا زَّين الشيطان للكفار أعمالهم، أنت تتزين لك! وأنت المؤمن المسلم! الشيطان زيّنها لهم تلك الأعمال الخبيثة، كيف تَتزيّن عندك أنت ياأيها المؤمن بالله؟ أعمال خبيثة قبيحة زيَّنها لهم الشيطان، فتولوها، وتجي أنت تستحسنها!؛ يعني مُسلَّط تمام عليك عدو الله هذا، كما لعب بالكفار يلعب بك تمام ويجعلك في الصف الثاني من ورائهم تابع لهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)، فهو وليهم اليوم؛ أما اليوم في الدنيا ما يتولون إلا الشيطان، ولا يحبون إلا ميزان الشيطان، وإلا كلام الشيطان، وإلا حكم الشيطان (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ..). وأما اليوم؛ يوم القيامة ما حد يتولاهم ما لهم من ولي ولا نصير؛ هذا الذي عوَّلوا عليه في كل شيء، ما عاد لهم إلا هو، وهو يقول: (...إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ…) [إبراهيم:22]، ومن ما له ولي إلا هذا، أين سيذهب؟ كيف يكون حاله ؟ ما حد له ولي الا هذا الذي خسران وما يقدر ينقذ نفسه! وهو في أسفل النار.
هو ذا وليُّك، ماذا سيعمل لك؟ ماذا يفيدك؟ ما حد لك ولي الا هو؟ لا واليتَ الرحمن، ولا أولياءه، ولا أنبياءه؛ هو ذا الولي حقك.
(فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ..) فما الذي يحصل؟ (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)؛ مؤلم مهما تصور ذهن الإنسان، وفكره، وخياله ألم في العذاب، فعذاب الآخرة آلم من ذلك وأشد ألم من كل ما تتخيله كل ما يمكن أن تتصوره وينتهي إليه تصورك في الدنيا، فألم عذاب الآخرة أكبر من ذلك وأشد، اللهم أجرنا من العذاب اللهم أجرنا من النار. (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ) من قبل أن نظهرك ونبرزك إلى عالم الدنيا، ونوجدك يتيمًا ونُؤويك، ونبعثك بالرسالة الخاتمة الشاملة إلى جميع العالمين؛ أرسلنا رُسل إلى أممهم كثير، ولك فيهم سلوى، ولك فيهم تخفيف، وما يقابلك به قومك هؤلاء (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) وقالوا: لنرجمنك لنخرجنك من قريتنا، ( لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) [ابراهيم:13]، ويقولون: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه :71].
( فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم ) فصدَّهم عن سواء سبيل لا ولي لهم إلا الشيطان والعياذ بالله تبارك وتعالى :( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) [محمد :11]؛ لأنه الذي تولوه هو في غاية الخسران، هو في غاية الشقاء؛ ما يقدر ينقذ نفسه، فماذا يصلح لك ؟ ولا له وجاهة عند الله، ولا له محبة من الله وبعدين. من الذي بينقذهم إذاً -لا إله إلا الله - (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة :٥٥] اللهم اجعلنا ممن تولىَ الله ورسوله والذين آمنوا .
يقول : أما هؤلاء (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ..) ، وإذا تقول وليك الخاسر الهالك؛ الذي لا يستطيع شيء. معك ولي! إيش معك من ولي؟! مامعك ولي (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فحقٌ على أهل الإيمان بالله من ورثة محمد ﷺ في كل زمان؛ أن يرثوا ما يتعرض له أهل الكفر والفجور في زمانهم؛ وأن يحاولوا إنقاذهم بإنذارهم من عذاب الله الأليم، والأمر لله من قبل ومن بعد، يهدي من يشاء ويضل من يشاء (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ما أشد ما يتعرض له فجّار زماننا كُفار زماننا؛ من كل من يموت على تلك الحالة، ما أشد ما يتعرضون له من العذاب فياليت ينقذون أنفسهم، ولكن (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور : 35]، (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [ الزمر :36]، واصناف من الناس قال عنهم :(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) [المائدة:41]. ما أراد الله يطهر قلوبهم ما عاد ينفعهم وعظ واعظ ولا تذكير مُذكر -لا إله إلا الله- وقال (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) [الملك:8-9]، تقول لهم (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ) [الملك:9] - لا إله إلا الله-، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير) [الملك:10].
يقول جل جلاله (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) -اللهم أجرنا من عذابك- (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))، أنزلنا عليك القرآن مهيمناً على الكتب؛ ببيان شافٍ شامل كامل لكل ما يختلفون فيه ؛ إذا أصغوا إليك بالإنصاف، والعقل انتهى الخلاف، والشقاق، والتباعد، والغي، والضلال واهتدوا، ولكن من أصرّ ومن استكبر ومن تولى؛ فهذا الذي لا يَصِل إلى الهدى؛ ويبقى على نكباته في الغي والزيغ والضلال، وأما من أنصتَ إلى مُرسل الرحمن، وما جاء به من بيان؛ فإنه ينزاح عنه الكدر والشك والران، ويدرك الأمر على ما هو عليه بخير بيان.
(إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)؛ كل من آمن بك واستلم منك هذا الوحي مصدقا به إنفتحت له أبواب الهدى ، وهُدِىَّ إلى حقائق الإيمان وهُدِىَّ إلى حُسن المسلك في السر والإعلان ، وهُدَى وراء هُدَى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) [محمد :17]، وهدى، فيكون الهُدى للمؤمنين بكلام ربهم وكلام رسوله؛ تتسع لهم معاني في الإجمال وفي التفصيل؛ فيما يتعلق بالأفعال أو في الأقاويل، فيما يتعلق بالنظرات والحركات وشؤون الأعضاء، فيما يتعلق بشؤون القلوب وصفاتها. يهتدون بهذا النور المبين الذي بٌعث به الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ويكونون على هدى من ربهم ( قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ ) [الانعام :57]، و (إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ) [الحج: 67] ﷺ.
وهكذا ينتشر نور الهدى في كل من آمن وأعطى الكتاب حقه والسنة الغراء؛ فإن الله تعالى يهديه بما أنزل الله على حبيبه ﷺ (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وتظهر الحق ووجه الحق في كل ما يُعتقد وكل ما يُفعل ويُترك، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون؛ تنفتح لهم به أبواب الرحمات تلو الرحمات فيما يتعلق بمختلف شؤونهم في الحياة؛ فيزدادون رحمة بكل تأمُّل في الآيات، وكل عمل بمُقتضاها؛ (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف :204]، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وتلك السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ، يقول ﷺ عن سيدنا أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ، إذا مثل الظُّلَّةِ تغشته وهو قائم في ليلة في الصلاة يقرأ القرآن، وإذا فيها مثل القنادل، وإذا بالفرس تتحرك وتضطرب فخفف صلاته ألا يُزعج الفرس أبنائه وأولاده، يقيمهم من النوم، فأخبر النبي في اليوم الثاني قال: "تلك السَّكِينَةُ تنَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ وأولئك المَلَائِكَةُ جاءوك، أما أنك لو مضيت في قراءتك لأَصْبَحَ الناس ينظرون إليها ".
فهكذا شان القرآن في التنوير وفي الرحمة التي تتواتر تلاوته وتدبره؛ لذا يقول المحققون من أهل العلم: أنه لا يجوز للعالم أن ينخدع بكون العلم من أفضل الأعمال فيترك حزبه من القرآن، فلا سبيل لترك النصيب من تأمل القرآن فإنه الأصل والأساس للعلم، وإذا وجدتهم علماء وعوام لهم أحزابهم حتى زين الوجود ﷺ؛ لما جاء في ليلة متأخرا لبعض الوفود الذين الذين كان يمر عليهم ﷺ بعد العشاء كل ليلة، فلما أبطأ جاء اليهم بعد ذلك وقال: "انما تأخرت عنكم قضيت حزبي من القرآن" ﷺ، انشغل في ذلك اليوم عن بعض ما رتبه أنس من قراءة القرآن، فجلس يقرأ حتى أنهى حزبه ثم ذهب إليهم ﷺ. وهكذا في حرصه على الاتصال بالقرآن وعلى العبادة وهو القدوة العظمى ، ودخل إلى بيت أم المؤمنين بعد العصر -وما عادته يصلي- فصلّى، ثم قال: "إنها سنة الظهر شغلني عنها الوفد " ـ الذين فقضاها ـ ﷺ بعد العصر. ثم لما كان عمله ديمه صار يصلي بعد العصر ركعتين ﷺ -مبارك عليه وعلى آله-؛ إذًا فلا غنى لأحدٍ عن الاتصال بالقرآن والحرص على العبادة.
قال: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))، (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))، وهكذا نجد نعمة الله علينا بنزول هذا القرآن الكريم، وتمكننا من تدبره ومن تلاوته، ونجد الحق سبحانه وتعالى يبين لنا هذه الحقائق يقول لأهل الكتاب: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة - الآية 15-16]، أخرجنا من الظلمات إلى النور وإهدنا الصراط المستقيم يا أكرم الأكرمين ويا رب العالمين.
ولم يزل هذا دأبُ الأنبياء من قبل المرسلين، حتى جاء خاتمهم بما هو أوضح وأفصح وأفسح وأبين وأزين وأتم وأقوم ﷺ يقول سبحانه وتعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [البقرة:213] حسدا، ما الذي يحصل من هذه الكتب المنزلة؟ والقرآن أعظمها (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213] جلّ جلاله وتعالى في علاه (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)؛ (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:16] جلّ جلال وتعالى في علاه، و(يَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). وهكذا كل من ابتغى الهدى من القرآن؛ هدي ولم يبخل الرحمن عليه بتنويره وتطهيره وتبيين الحق له، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) ابتعد عن سخط الله وما يوجب غضبه، وتتبع ما يرضي الله في الأقوال والأفعال يهدي بهم -سبحانه وتعالى- (سُبُلَ السَّلَامِ). فإن كان على ظهر الأرض من يسلك في سبيل السلام فهم الذين وعوا وحي الله وعملوا بمقتضاه. وبعد ذلك ما تتحقق حقائق القيام بحق السلام والدعوة إلى السلام مع هذا الانقطاع عن الله تبارك وتعالى ويهديهم إلى الطريق إلى السلام (وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وهكذا يقول الرحمن (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))؛ فنعم الهدى والرحمة لنا القرآن، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراده وبرسوله وما جاء عن رسوله على مراد رسوله ﷺ، فاجعلنا من أهل الهدى والرحمة، وزدنا هدى ورحمة، واجعلنا عندك من أهل هذا القرآن يا كريم يا منان، وأصلح لنا كل شان وللأمة في السر والإعلان، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ
10 جمادى الآخر 1444