(209)
(536)
(568)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
مساء الإثنين 15 صفر الخير 1446 هـ
الحمدلله رب العالمين، مُكرم المُتوجهين إليه والمقبلين عليه بعجائب عطاياه، وعظيم مواهبه سبحانه وتعالى ومزاياه، لا إله إلا هو، سعد من تذلّل لعظمته من أهل أرضه وأهل سماه، وخاب من أدبر وأعرض وتولّى في غروره وكِبرياه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه، ختم به أنبياه، وجعله سيد أصفياه، اللهم أدِم صلواتك على الحبيب المحبوب محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاهم واتبعهم إلى يوم لقاه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك أصفيائك الهُداة، سادة الهُداة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمن.
أما بعد،،،
فقد مررنا في تأملنا لمعاني كلام إلهنا الخلاق -جلّ جلاله- وما أوحاه إلى عبده المصطفى عظيم الأخلاق، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- على معاني سورة الكهف حتى وصلنا إلى أواخرها، ومرّت بنا قصة سيدنا ذي القرنين عليه السلام وما كان من ذهابه إلى مشرق الأرض ومغربها، وما كان من بنائه السد وبين الجبلين، ووراءه يأجوج ومأجوج الذين حدثنا عنهم صاحب الرسالة الصادق المصدوق ﷺ، وأنَّه سيأتي يوم خروج لهم من ذلك السد إلى بقية بقاع هذه الأرض، يسيحون فيها ويدخلون مختلف البلدان، ويغلبون من على ظهر الأرض، فينحاز سيدنا عيسى ومن معه من المؤمنين إلى أماكن عيَّنها الله لهم، وإلى الجبال بُعدًا عن شر هؤلاء، حتى يهلكهم الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وكان فيما صح في الحديث أنَّ سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام لما التقى به ﷺ مع جماعة من الأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج، وأثنوا على ربهم بما أَتاهم، وتذاكروا خبر الساعة، وكلهم أخبروا أنَّه لم يُعلِمْهُم الله تعالى بتحديد وقتها؛ الوقت الذي قال عنه: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف:187]، ورجع الكلام من واحد إلى آخر حتى جاء إلى عيسى ابن مريم، فقال عيسى ابن مريم: "لا أعلمها؛ وتحديد وقتها، ولكنّي عَهِدَ اللهِ إلي فيما عَهِدَ، أنني أنزل إلى الأرض، وأحكم بشريعته، وأنَّه "وذكر خروج يأجوج ومأجوج" وأنهم -أي يأجوج ومأجوج- يخرجون من السد، يسيحون في الأرض، ويشربون البحيرة، ويشربون النيل والفرات، وأنه يكون الناس عند ذلك أن الساعة كالحامل التي آن أوان مخاضها لا يدرون متى تلد، يترقبون في كل ساعة، متى تلد -عند قرب الساعة-، فهذه من أكبر العلامات، قال عنها سبحانه في القرآن: (حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) [الأنبياء:96-97].
يقول الحق تبارك وتعالى: عن السد الذي أَقامه ذو القرنين، (قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)).
قال ذو القرنين: (قَال هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي (98))، أجرى على يدي حبسُ هؤلاء القوم، المدة التي قضاها وقدَّرها الله تعالى لهم، إلى أن يأتي وقت الخروج.
(قَال هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي (98))، إذا آن الوقت الذي يأذن لهم بالخروج؛ قرب الساعة، (جَعَلَهُ دَكَّاءَ (98)) وفي قراءة: (دَكًّا)، هذا الذي بالأسباب التي أعطانا إياها أقمناها بهذه الصورة، لا يُستَطَاع نقبهُ، فإذا جاء الوقت الذي يريد أن يخرجوا فلا يساوي شيء عملنا ولا حديدنا، ولا ما صببنا عليه من الرصاص، ينتهي فيُدَكُّ؛ ويصبحون وهو مدكوك فيخرجون.
كما صحَّ في الأحاديث بالكناية عن قرب خروجهم، أنه ﷺ استيقظ ووجهه مُحَمَرٌّ وهو يقول: "لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه" يعني قرب وقت دكه لخروجهم، -لا إله إلا الله-، فجعل ﷺ من ذاك الوقت إلى الآن ألف وأربعمائة سنة، عُمر قصير بالنسبة لما مضى من الوقت، وقرُب وقت خروجهم وحتى تقوم الساعة، ثم إنه أيضًا يبقى سيدنا عيسى بعدهم، بعد أن يهلكوا ثم يموتُ، وجاء في الروايات أن موته بالمدينة المنورة.
ثم أنَّه بعد سيدنا عيسى يشتد تقارب العلامات الكبرى، وتخرج الدابة من الأرض تُكَلِّمُ الناس، ويُرفع القرآن، وتطلع الشمس من مغربها، فتَهِبُّ الريح التي تخطف روح كل مؤمن بالله، فلا يبقى على ظهر الأرض مؤمن؛ انتهى خير الأرض، فلا يبقى إلا شرار الخلق؛ ثم لا يبقى إلا كفار أبناء كفار، ثم لا يبقى على ظهر الأرض إلا كافر ابن كافر ابن كافر، ليس فيهم من يقول: الله، كما قال ﷺ؛ عند ذلك يكون النفخ في الصور، فتقوم الساعة على شرار الخلق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قال: (قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98))، وكان مما أوتي من أخبار الأنبياء من قبل، أخبار يأجوج ومأجوج وعلامات الساعة الكبرى.
(وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (99))، فقيل: إنَّ هذا في أيام يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة، هذا الموج، ويُحصل معنا من الموج، لكن الموج الكبير في الناس بعضهم في بعض في القيامة، لكن في أيام خروجهم يعيثون في الأراضي ويموج الناس بعضهم في بعض، تكون أزمة وشدة شديدة وهم يُغالبون الناس، ولا قِبَل لأحد بمقاومتهم، فما يُستطاع لهم مقاومة.
ولهذا يأمر الله سيدنا عيسى أن ينحاز بمن معه من المؤمنين حتى تنقضي أيامهم، ومن مبالغ غرورهم كما هو الحال أنهم من بني آدم، من البشر، وغرور الناس يصل إلى حدود غريبة، فيقولون: انتهى، قد غلبنا من في الأرض، بقي من في السماء! ولا قدرة لهم ولكن يرمون سهامًا نحو السماء، فيردها الله عليهم ملطخة بالدّم، يقولون: انظروا قتلناهم، يعيش الإنسان في خيالات، في وقت ما يعد نفسه في الحضارة الكبرى، في منتهى وغاية القوة في خيال، يقول: غلبنا من في الأرض وغلبنا من في السماء! يرسل الله عليهم النّغَفَ في رقابهم فيموتون واحد بعد الثاني، وانتهوا من أولهم إلى آخرهم.
وهكذا،، هم وحدهم؟! بل أُمم قد خلت من قبلهم، كم؟ كلهم كانت نهايتهم تشبه هذه، إلا المعتبرين وقلَّ المُدَّكِرون، فينتهون، فلما يُخرِج الله سيدنا عيسى يكون زَهمُهُم نِتن أجسادهم في الأرض قوي، فيدعو الله سيدنا عيسى فيُرسِل أمطار تحمل جثثهم إلى المحيطات والبحار البعيدة ترميهم فيها، وتغسِّل الأرض حتى يبقى لا أثر لزُهُومتهم وعفُونتهم على ظهر الأرض، ويبقى ما يبقى؛ سيدنا عيسى. -فسبحان الله-.
قال: (يَمُوجُ بعضهم فِي بَعْضٍ):
والقول الثاني: أنَّ هذا ليس بعد النفخ في الصور بل عند قيام القيامة، قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)).
القول الأول: أنَّ هذا قبل النفخ في الصور، يموج الناس بعضهم في بعض من شدة الزحمات، وصعوبة اللقاءات.
بعد ذلك يأتي موعد النفخ في الصور، وسيدنا إسرافيل عليه السلام قد استعد للنفخ في الصور من أيام النبي ﷺ، ومقدِّم رجل ومؤخر أخرى ومصغي ومنتظر الأمر بالنفخ؛ معناه هذه أعمارنا، هذه الألف والألفين سنة ما تساوي شيء بالنسبة لعمر الأرض، وبالنسبة لما مضى من الزمان، حقيرة جدًا وقليلة، فهو منتظر حتى ينفخ النفخة الأولى، قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]، فكان فيمن استثنى الله تبارك وتعالى، أمثال حَمَلَةِ العَرْشِ، وأمثال سيدنا موسى عليه السلام، لأنه قد صُعِقَ عند جبل الطور، ما يفعل الله له صعقة ثانية، يقول تَكْفِيَكَ الصعْقَة هذه
ويصعق الكل بما فيهم الملائكة والأنبياء وسيد الأنبياء، ما بين النفختين مقدار الأربعين، فيحيي الله إسرافيل فيقول: أنْفخ في الصور، فتُطَيَّرُ من الصور كل روح لمَلَك وإنسي وجنّي وحيوان بَرٍّ أو بحر، كلها أرواحهم مجموعة في الصور، فإذا نفخَ كل واحدة طارت، كل واحدة تعرف الجسد الذي كانت فيه، ارجع الآن بمقدارالمستوى الذي مات عليه ذلك الجسد، الناس الآن في عصرنا يعرفون طائرة مُسَيَّرَة، ومُسَيَّرَة من دون طيار، والشرائح بحيث يضربون هذا، ويضربون هذا، يَسَيِّرُونَ، والأمر أعظم عند الله تعالى، يُمَشِّي الروح فتعرف جسدها، البعوضة والنملة والحمار والبقرة والبعير، والإنسان والجن، كل واحد تذهب إليه لا تُخْطىء، لا يوجد خطأ، كل واحد روحه إلى مكانها -لا إله إلا الله-، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) [الزمر:70-68]، -لا إله إلا الله-
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [يس:51].قال تعالى: (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99))، كما قال في الآيات قبلها: (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47))، جمع، جمع، كل صغير، وكل كبير، كل أول، وكل آخر، كل مؤمن، كل كافر، كل ذكر، وكل أنثى؛ كلهم يجتمعون، ولا أحد يتأخر عنهم.
(فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)) ولم يَعُدْ الإنس وحدهم والجن معهم، ولا الإنس والجن وحدهم حتى الحيوانات، (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:38]، تُحْشَرُ كلها (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم:48] وتمتدّ (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) [الانشقاق:3] حتى تتسع فتتضاعف مسافاتها وتُدَكُّ جبالها وتُسوَّى بالأرض، (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:106-107]، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، -سبحانه عز وجل الله-.
(فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99))، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47))، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة:49-50].
(فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100))، يُعرَضُون عليها وتُعرَضُ عليهم؛ هذا موطنكم، هذا مستقرّكم، انتهت حضاراتكم وأفكاركم وغيّكم وفسادكم إلى المصير هذا، انظروا هذا مسكنكم، -لا إله إلا الله-.
كما قال في نفس السورة: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا (53)) يعني أيقنوا (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا (53)) لا طريق لهم ولا وسيلة تحول بينك وبين هذا، ستنادي مَنْ؟ ستنادي جيش؟! ستنادي قوم؟! ستنادي.. ماذا ستفعل؟ كل واحد منهم خاسئ، كل واحد منهم ذليل، كل واحد.. (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)).
ويقول -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)) واضحًا بينًا يرون لَهِيبها؛ فيسمعون صوتها من مسافة مئة عام (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان:12] وتزفر زفرة، كلٍّ يَجِثو، حتى ساداتنا الأنبياء يجِثون على ركبهم يقولون: ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ -لا إله إلا الله-.
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100))، واضحًا بينًا جليًا، نتائج كذبهم، نتائج خداعهم، نتائج ظُلمهم، نتائج بغيهم، نتائج أذاهم، كله أمامهم، ونتائج كفرهم بالله جلَّ جلاله؛ فيُعرَضُ عليهم جزاء ذلك في نار جهنم -أعاذنا الله منها-.
وحتى أنها تتفلت من أيدي الزّبانية كما جاءنا في الأحاديث، فيلوذ الناس مستشفعين بالنبي محمد ﷺ، وقد معهم تجرِبة سابقة قال: أنا لها، ووقت الشدة هذه يرجعون إليه، قال ﷺ: فأقول: جهنم ارجعي، فتقول الثانية: محمد، دعني على من عصَى ربي، قال: فَيأتيها نداء مِنَ الْجَبَّارِ: أَطِيعِي كَلَامَ عَبْدِي مُحَمَّدٍ، ترجع إلى أيدي الزبانية فتستأذن رَبّها، تستأذن رَبّها في أنَّها مشتاقة للكفار الكُبار الأَشرار، المؤذيين المعادين للأنبياء، تقول له: ائذن لي اختطفهم من بين الناس، هؤلاء مشتاقة لهم، فيأذن الله لها، فتمد خيوط من النار كأعناق الإبل تخطفهم من بين الناس، هؤلاء يدخلون النار بغير حساب -والعياذ بالله تعالى-، كما أن صنف من الناس يدخلون الجنة بغير حساب.
قال تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذكري (101)) خلقتهم وأوجدتهم، وأوجدت الأكوان من حولهم وسخّرتها لهم وجعلتُ فيها الدلالات عليّ، مُغَطِّين أعيُنهم لا يريدون أن ينظروا؛ ارجعوا إلى حقائقكم، ارجعوا إلى خلقكم، ارجعوا إلى ما بُثَّ بين أيديكم في الأرض وفي السماء، تعْرفوا عظمته، وأرسل لكم الرسل وأنزل الكتب.
مُغَطِّين أعينهم. (كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي (101)) لا يعرفون إلا ذكر شهواتهم وأهوائهم، وأطماعهم الدنيوية فقط، والحقائق أمامهم؟! يُغَطُّونَ أعينهم، وكثير من الوقائع المُذَكِّرَة لهم؟! يُغَطُّونَ أعينهم، وعواقب من قبلهم مطروحة! يُغَطُّونَ أعينهم، اذكرُوا الله، غير راضين!، لا يذكرون إلا شهواتهم وأهوائهم، ونفوسهم ومراداتهم الدنيئة.
(كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي (101)) إذًا فأعين المؤمنين على ذكر الله، والعيون المنفتحة على ذكر الله، كل شيء يُذَكِّرها به؛ فهي تذْكره في كل شيء، وتذكره بكل شيء، فهم حاضرون معه، ولا يُلهيهم شيء عنه، عيونهم منفتحة على ذكر الله، هذا وصف المؤمنين، أما الكفار هؤلاء، قال: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي (101))، نداءات تحصل لهم؛ الأنبياء وخُلَفَاء الأنبياء في كل زمان، قال: لا يقدرون على السمع، غير راضين أن يستمعوا أصْلًا، خذوا حُجّة، خذوا دليل، غير راضين (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)) -والعياذ بالله تعالى-.
يقول الله: أين تذهب عقول هؤلاء، يظنون أنَّا نجعلهم هكذا في الأرض يفعلون مايشاءون، ويكذبون برسلي، ثم لا مصير، ولا مرجع، ولا عقاب؟! (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)) أعاذنا الله من جهنم، وجعلنا من أهل الجنة في متابعة النبيين والمرسلين، يا أكرم الأكرمين.
في ذاك اليوم قال: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر:71]، زمرًا: هذه الطوائف، والأفكار والمبادئ، والاتجاهات والأحزاب، زمر، زمر، زمر يتجمعون كما كانوا في الدنيا زمر، كلًا مع زمرته، يذهب وراءهم (حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:71-72]، أعاذنا الله من هذا الكِبْر المُزْرِي المُرْدِي المُهلِك، يتكبرون عن آيات الله، يتكبرون على رسل الله، يتكبرون على الدعاة إلى الله، يرون أنفسهم فوق.
كان فرعون يقول: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف:52] على سيدنا موسى، ويقول كفار قريش: (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] الذَين من القريتين الرجلين الذين يشيرون إليهم، يساوون شيء عند عظمة هذا؟! أليس هو عظيم هذا؟! وما أرادوا إلا هذا؟ ما عندهم مقياس صحيح في العظمة، وهكذا، وقالوا: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) [المؤمنون:47] إلى غير ذلك، (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر:24-26] تكبّروا، تكبّروا على الله، وعلى آياته، على رسله، فكان جزاؤهم هذا المصير السيئ -والعياذ بالله-.
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر:73] أمة كل نبي، رأسهم نبيهم وثُمَّ هم زُمَر على حسب اتِّباعهم، وعلى حسب القرون التي مرت بهم، زُمَر زُمَر، وراء نبيهم، لكن كلهم يُحْبَسُونَ حتى يمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا أحد يمر على الصراط ولا يقرب من الجنة حتى يدخل النبي ﷺ وأمته، صلوات ربي وسلامه عليه، فما أسعدنا بهذا النبي.
لمّا دعا الله داعينا لطاعته ** بأكرم الرسل كنّا أكرم الأمم
الحمد لله الذي خصّنا بهذا المُصْطَفى، قال: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزمر:73-75].
لك الحمد؛ اجمعنا بهؤلاء، واجعلنا منهم وفيهم ومعهم نُساقُ في أوائل زمرهم إلى جنتك، مع أتقى خلقك يا أكرم الأكرمين، إلهنا إِذَا (سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر:73] فاجعلنا في زمرة أتقى عبادك، خير خلقك محمد ﷺ، يا رب لا تُخَلِّفنَا عنه ولا تُخَلِّف أحدًا من أهلينا ولا أولادنا ولا ذوينا، يامجيب الدعوات، يا من لا يُخَيِّبُ رجاء الراجين، رجوناك بالفضل منك فلا تخيب رجاءنا، ورُدَّ كيد أعداءكَ أعدَاء الدين في نحورهم، ولا تُبلِّغْهم مُرَادًا فينا ولا في أحد من أهل لا إله إلا الله، وأذنْ لنا يامولانا بتحقيق أوْسع النصر لعبادك المرسلين والمؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
21 صفَر 1446