(611)
(535)
(390)
(339)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحج:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) }
مساء الإثنين 24 جمادى الآخرة 1447هـ
تضمّن الدرس تفسير آيات من سورة الحج، مبيِّنًا خطر الجدال في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وما يترتب عليه من الضلال والخزي في الدنيا والآخرة، كما وضح حال الدعاة إلى الباطل وأتباعهم، وصفات المتكبرين المعرضين عن الحق، وحقيقة اعتمادهم على غير الله، كما تحدث عن معنى العبادة على حرف، وخطر ربط الإيمان بالمصالح الدنيوية.
الحمدلله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير معلمٍ ومرشدٍ وهادٍ ودليل، حبيبه المختار محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من رسُل الله وأنبِيائه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، أنه أكرم وأرحم الراحمين.
أمَّا بعد،
فإنَّنا في نعمة تَلَقِّينا لمعاني كلام ربنا سبحانه وتوجيهاته وتعليماته، وآياته التي أنزلها على قلب خير برياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، مررنا على أوائل الآيات من سورة الحج، وذِكر الله تبارك وتعالى شأن المُجادلين في الله بغير علمٍ المتبعين للشياطين، من جميع المُقلدين لأهل الباطل على ظهر الأرض، كمِثل النّضر بن الحارث وغيره، من كل متبعٍ لأهل الضلال، ومع ذلك يجادلُ أهل الحق:
كذلك أيضًا ما تجد غالباً في خِيار الأمة مَن قام بالتنبيه والتوجيه والإرشاد وهدى الله على يديه الناس، إلا وهَمّت طائفة أن يقتلوه، أن يأخذوه، ومنهم من يدفع الله شرهم عنهم ويحميهم، ومنهم من يحبسونه أو يُؤذونه أو يقتلونه، فيُقتل في سبيل الله تبارك وتعالى.
ويُقابِلهُم من يجادلون بغير علم ويتَّبعون أهل الخروج عن سبيل الله تبارك وتعالى، والذين قد وجب على من اتبعهم أنهم يهدونهم إلى السعير والنار الموقدة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وذَكَرَ رسول الله ﷺ في هذه الأمة: "دُعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" -والعياذ بالله تبارك وتعالى، ووقانا الله شرّ دعوات السوء وأهل السوء-.
ونادانا الحق جلَّ جلاله: (إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ (5)) فالعلامات في خلقكم وإيجادكم وفي إحياء الأرض بعد موتها واضحة لكم، أنني قديرٌ على كل شيء، وأني الحق وأحيي الموتى، وأني على كل شيء قدير، وأن الساعة التي حَدَّثَكُم عنها أنبيائي من آدم إلى محمد ﷺ آتية لابُدَّ أن تَجيء (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]، (آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7)) كما أَولَدَهُم وأخرجهم من الأصلاب والأرحام وبطون الأمهات، فيخرجهم كذلك من القبور، والكل عنده شيء واحد ويسيرٌ عليه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (8)) من قادة أهل الضلال، غير المُقَلِّدين ولكنهم مُقلَّدين ومتبوعين، فذكر حال التابعين في الآية السابقة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3))، وفي هذه الآية قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8)) من قادة الدُّعاة إلى الضلال والباطل:
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) بل بتعسف وبعنجهية وبتطاول وبجراءة، وبِهَوىً وبِحَمَق وما إلى ذلك، (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى(8)) من غير علم بالحقيقة، ولا هدى يهتدي به مما مضى عليه الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم.
( وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8)) وحي من الله يوحى إليه، وإنَّما تكون الهداية وإدراك الحق:
وهذا لا علم ولا اتصال بأهل العلم ولا وحي نَزَل عليه من الله، فمن أين سيأتي بالهداية؟ هو وإبليس كل ليلة يحيكون أفكارًا ويُصبح يعرضها على خلق الله، ويقول لهم: هذا كذا وهذا كذا وأنا هكذا، وافعلوا كذا، واتركوا كذا، (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112] كما قال الله -تبارك وتعالى- ليس معهم إلا هوى.
من أين يأتون بحقائق العلم؟ ومن أين الهدى؟ لا وحي ولا علم ولا اتصال بأهل الهدى والعلم، فمن أين يأتِ الهُدى؟ مِن عِند مَن؟ من مكتب من مكاتبهم؟ من هيئة من هيئاتهم؟ من مؤسسة من مؤسساتهم؟ من أين يأتي الهدى هذا؟ (قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ) [آل عمران:73] وكل ما خالف هدى الله فهو الضلال (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة:140]، فهذا شأن كثيرٍ يعيشون على ظهر الأرض من مثل أبي جهل وغيره، ومَن قبله ومن بعده إلى زماننا.
(يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ (9)) يَلوي ويَميل إلى أحد جانبيه، وهي صفة المتكبر، أي متكبرًا يبطر الحق الصريح الذي يُلقى إليه.
مستكبرًا يبطر الحق الصريح إذا *** يُلقى إليه لفرط الجهل والشنن
-والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(ثَانِيَ عِطْفِهِ) أي لاوِيًا رقبته مستكبرًا مُعرضًا، لا يريد سماع الحق، وكما قال الله في المنافقين: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) [المنافقون:5]، فهم معرضون عن الحق ومستكبرون على الحق ولاوين أعناقهم؛ لأن للكِبر صُور قد تظهر على الجسد وعلى القَالب ومنه؛
(ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (9)) شُغله يُحِب الإضلال، إضلال، يضل الخلق، كما قال الله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27] فماذا تستفيدون من مَيلنا وخروجنا عن الاستقامة؟ فقط هذا شُغلهم، يريدون الناس أن يميلوا، يريدون الناس أن يُضِلُّوا -والعياذ بالله تعالى-.
(لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) يَصرِف عنه، يُبعِد عنه، يَصُد عنه، بمختلف الوسائل؛ يَصُدون عن سبيل الله ويُضِلون عن سبيل الله، ويُضِلون غيرهم، فَيُضِلون في أنفسهم ويُضِلون غيرهم ويُشَكِّكونهم في الحق والهُدى والأمر الواضح الذي جاء به الأنبياء صلوات الله عليهم.
يقول: (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ (9)) وجميع هؤلاء لابدّ أن يحصل لهم أنواع من الخزي وهم في الدنيا:
ولا يمشي مكرهم وكيدهم على مَن لهم قلوب صادقة مع مولاها، ويَحصل لهم أنواع من الخزي والذل في الدنيا، (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) وتأتي الأمور بغير ما يشتهي، ويُرتِّب ترتيب ينهدم عليه، لهم خزي في الدنيا وتأتي أمراض واسقام، وتأتي فضائح يفتضح بها بين قومه وجماعته؛ القصد أنه ينالهم في الدنيا خزي -والعياذ بالله تعالى- ولكن الدنيا تفنى.
قال: (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) الذي يحرق الجلد واللحم والعظم ويَصدَع الفؤاد ثم يعود مرة أخرى، حتى يُحَرَّق في مقدار اليوم والليلة سبعين ألف مرة وزيادة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلهم عذاب الحريق؛ الذي مِن أَظهر مؤلماته وشدائده الإحراق، بل الماء الذي يُقَدَّم لهم في النار يشوي الوجوه (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29] -اللهم أجرنا من النار واجعل مآلنا جناتك-.
قال: (له فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)) وكلمَّا تألم واشتد عليه الإحراق والعذاب قيل له: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) هذا الذي اكتسبته لنفسك؛ بتكذيبك للأنبياء، بكذبك على الله ربك الذي خلقك، بقصدك المعاصي التي حرّمها الله عليك، بإيذائك للمؤمنين.
(ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)) (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء:15] جاءكم الرسول وبلَّغك دعوة الرسول، وأصررت واستكبرت وتابعت الضر والشر والأذى، فخذ نصيبك من العذاب.
(ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) [فاطر:18]، ولا يُعذب أحدًا حتى يبعث إليهم الرسل ويُبيّن لهم ما يتقون، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة:115]، (وإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر:24].
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (10)) بل يعفو عمن شاء ويُعذب من يشاء، وعذابه عدل، وثوابه وإحسانه فضل يتفضّل به على من يشاء، اللهم وفِّقنا للخير وأعنا عليه وأثبتنا عليه، قال وهكذا أصناف الناس:
قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ (11)) على حرف، على طرف، على ضُعف، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ) يقول بعض أهل العلم: إننا نعبده بحرفين؛ القلب واللسان، فهذا عَبَدَ الله باللسان لا بالقلب.
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ (11)) مما يعدُّ عنده خير، وتتوق إليه نفسه وتحبه نفسه؛ من مال وصحة وتيسير مرادات دنيوية (اطْمَأَنَّ بِهِ) بهذه الأشياء، وكان يَجِب أن يطمئن بذكر الله ويطمئن بالله ووعده ووعيده، ولكنه اطمأنّ بما يتيسر له من الأسباب والوسائل؛ لأنه ناقص وقاصر، محبوس في المحسوسات، فيطمئن بها وإذا غابت عليه كذلك ينقبض من أجلها.
أمَّا الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله؛ "إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له" لا ينقطع عن الله؛ لا بسراء ولا بضراء، لا في شدة ولا في رخاء.
قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ) من المال والصحة ومواتاة الأسباب وحصول الأولاد ومثل ذلك، (اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ (11)) اختبار؛ فقر أو مرض أو جاءت زوجته بالبنات دون البنين أو لم تلد فرسه وما إلى ذلك، (انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ) ترك العبادة وما أظهره من الدين ورجع إلى كفره (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ (11)) -أعوذ بالله-.
وكان بعض مَن حوالي المدينة من الأعراب يقولون: نريد أن نذهب إلى محمد، دعونا نرى كيف هذا دينه، إن حَصَلنا فوائد ومنافع فإننا اتبعناه، وإلا سنرجع إلى قومنا، فيجيئون ويقولون: نحن معك وعلى دينك، فإن توفر لأحدهم مال وصحة في جسده، وجاءت زوجته بابن، وولدت له فرسه، قال هذا دين طيب، (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ (11))، وإذا تعب أو جاءه مرض يقول: ما الفائدة من هذا الدين، ويرجع - والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وقد أسلم مرة يهودي، بعد ذلك أصابه عمى، وجاء إلى محمد وقال: أقِلْني، هذا دين لا يوجد فيه خير، وقال: أنا عميت لما أسلمت وما استفدت من هذا الدين، قال له ﷺ: "يا يهودي، إن الإسلام يَسبِكُ الرجال كما تَسبِكُ النار خَبَث الحديد" -أو الحديد تُخَرِج صَداها- الإسلام هكذا يفعل لك، يُصَفّيك ويُنَقيك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا يتعرض الناس إلى هذا، حتى تكون من جملة فتنة الدجال أن من تَبِعَهُ، وكَفر بالله تعالى تَخصَب أرضهم وتنزل عليهم الأمطار ويُحَصِّلون طعام وأنعام وحالة، ويمر على قوم لا يؤمنون به ويثبتون الإيمان بالله تنقطع المطر عليهم ولا تَعُد تَنبُت أشجارهم؛ اختبار وابتلاء -فيا فوز الثابتين-.
ويُبَيِّن لَنا الحق هذا أن المسألة مسألة مُهِمَة خُلِقت مِن أَجلها، وحَقٌّ وهُدىً تَتَّبعهُ، ليست مسألة مال ولا صحة.. هذه عوارض تَعرِض في الحياة للمؤمن والكافر والصالح والطالح، وللخَيِّر وللشرير، وللتقي وللفاسق، أحوال تَعرِض للناس ليست هي المقصودة، ليس مقصود الإيمان والدين والإسلام؛ مجرد مظاهر ولا صور ولا مجرد صحة، وإن كان فيه الخيرات في الدنيا والآخرة، ولكن يجب أن تَفقه مُهِمتك في الحياة وتعرف ربك الذي خلقك وتثبت على ذلك، سواء كنت في رخاء أو في شدة، سواء كنت في سراء أو في ضراء.
يقول: فأهل هذا المسلك الذين يعبدون الله على حرف، حتى منهم مَن يُبايِعون، وبعض السلاطين والأمراء لا يُبايِعهُ إلا لِيَحصُل على مال، فإن حَصَّل المال وإلا انقلب عليه وذهب، ذمهم هؤلاء ﷺ، هؤلاء يبايعون للمال ولا يبايعون لله ولا لإقامة شرع الله، وعَدَّهُم في المعذبين في القيامة، يُبايع مِن أجل المال -لا إله إلا الله-.
وهكذا يجب أن نعرف عظمة هذا الدين، وأنَّه إذا ثبتت أقدامنا فيه، وقُبلنا فيه؛ فنحن الرابحون الفائزون على أي حال كنا، وأنَّه لا يعوِّضنا عنه الدنيا بما فيها، ومع ذلك فإن يُسْر الله كثيرٌ للمؤمنين، وعِنايته بالمؤمنين كثيرة، ويَحصُل ما يَحصُل من الاختبار والشدائد والابتلاء في أوقات (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأنفال:37].
يقول جلَّ جلاله: (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ (11)) ما معنى انقلب على وجهه؟ أي ما كان يُظهِرهُ من العبادة تركه، وما كان يُظهِرهُ من الإسلام والخير صار يسب ويشتم.
(انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ):
(خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا إِلَّا النَّارُ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)) قال الله إن كان هناك خسران فهذا الخُسران الواضح، وهذا الخُسران المُبين واقِع فيه كل من؛
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) أفراد وجماعات صغار وكبار؛ (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3]، هؤلاء لا خُسران عليهم، هؤلاء رابحون غير خاسرون، وأما من لم يتصف بالأوصاف الأربعة فهو خاسر؛ إن كان صاحب مشاريع، إن كان صاحب سُلطة، وإن كان صاحب تجارة، وإن كان صاحب صناعة، وإن كان صاحب اكتشافات، وإن كان صاحب فضاء، والذي ليس عنده هذه الأربعة الصفات فهو خاسر، هو خاسر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ومآله إلى الندامة الدائمة والعذاب المستمر، أجارنا الله من ذلك (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
ويَرجِع منهم هؤلاء أنواع أهل الشرك: (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ (12)) يَرجِع إلى الأصنام، يَرجِع إلى الأحزاب، يَرجِع إلى الحكومات، يَرجِع إلى أي شيء يظن أنه سَيُقَرِّبه، وسيحْصل منه على فوائد.
(مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ)
(ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)) البالغ في الضلالة، والبَعيد في السوء والشَّر (ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ).
(يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ (12)) وما جعل الله تعالى من سببية الضُّر والنفع للكائنات فاختبار وامتحان، وإلا هي وضرَّها ونَفعها تحت قدرته وأمره سبحانه وتعالى، "واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضروكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليكَ، رُفِعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ" صلى الله على سيدنا محمد وآله.
(يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) وانظر إلى حياتك -أفرادا فيها وجماعات- مالَوا إلى شيء من الاتجاهات وإلى شيء من الحركات، والتجأوا إلى شيء أيضًا من هذه المنصوبة أمامكم في الحياة، هذا يرتجي كذا وهذا يرتجي كذا وهذا يرتجي كذا.. وكلهم -ما تمر الأيام والليالي عليهم- ترجع إليهم تجدهم بعد ذلك عبرة للمعتبرين، كل من استند ظن أنهم سينفعونه وأنهم سيرفعونه؛ أفراد أو هيئات أو جماعات أو دول وراح وراءها، تأمل حياته، انظر كيف يمشي، ما يشعر إلا وتأتيه ضربة من هنا وهنا، وسقطة من هنا، وأنه لا كسَب دنيا ولا شيء -ولا حول ولاقوة إلا بالله- وضيَّع الكل، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41].
تُريد حقيقة عز وشرف في الدنيا والآخرة؟ واحد أحد فرد صمد؛ اتّصل به، اصدُق معه، اخضع لجلاله، امتثل أمره، ولَك العز الحقيقي المؤبد والشرف في الدنيا والآخرة.
أما أن تذهب إلى عند غيره، ماذا سيعطيك؟ ماذا سيجلب لك؟ إن اغتريت يوم، يومين وعمل لك منفعة؛ وظيفة كذا.. ثم انظر، اصبر قليل، انظر كيف ستكون النتائج، لا إله إلا الله، أما تراها أمام عينك؟! موجودة في شرق الأرض وغربها؛
وراءها الغي والضلال فقط، هذه وراءها، حتى يأتي الدجال ويسيرون وراءه وراءه، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]، و (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].
وكم من ضال هداه، وكم من كان صاحب هداية أضله وراح -والعياذ بالله-، وكم من صاحب هداية ثبَّته حتى توفاه.
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهدى *** ويا رب اقبضنا على خير مِلّةِ
قال: (يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ (13)) كيف ضَرُّه أقرب من نفعه؟ أي من باب السببية، أما من باب الاستقبال لا يَضُرُّهُ؛ ما لا يَضُرُّهُ وما لا ينفعه، من باب الاستقبال لا شيء، أمَّا من باب السببية، فإن الضر هذا أقرب من نفعه، وما تعبده من غير الله وتستند إليه من غير الله سبحانه وتعالى، بداية الشر والضُّر؛ اعتمادك عليه واستنادك، يَكِلك الله تعالى إليه، وتتعرض بذلك لطردك وبعدك ولعذابك في الآخرة -والعياذ بالله-.
(ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ) لا يتسبب في النفع، أي لا يكون سببًا للنفع ولكن يمكن أن يكون سببًا لِلضُّر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- أي حقيقة النفع لا شيء، ولكن التجاءك إليه واستنادك إليه وعبادتك له من دون الله؛ ضُر محقّق، ضُر محقق.
(يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)) بئس المعبود هذا، بئس الناصر هذا، بئس المُعتَمَد عليه هذا.
(لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الذي بِمُجالستك إياه وركونك إليه لا يُرقِّيك ولا يَحبوك ولا تستفيد منه إلا كُل مَضَرَّة، كالجليس السوء وكنافخ الكير، لا تستفيد مِن مجالسته إلا الضُّر.
(لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) فلا يَنصُرَك ولا يُخَلِّصَك، قال تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا) [الحشر:16-17].
وفي عالم الحِس، ظهر إبليس بصورة واحد من زعماء المشركين -مُدلجي- وقال لهم: أنا رئيس بني مدلج، أتى بصورة رئيس بني مدلج وقال: أنا رئيس، أنتم تخافون من القبيلة هذه، أنا والقبيلة نَصر لكم، واذهبوا عند محمد واقتلوه وأنا معكم؛ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ) [الأنفال:48]
ومشى وهو معهم الى بدر ويُحَرِّكهم، ولمَّا اصطفوا في يوم الجمعة سبعة عشر رمضان -يوم بدر- ونزل جبريل والملائكة، فهرب وتركهم، وهم ينادونه: يافلان، يا سراقة بن مالك، من سراقة بن مالك؟! إبليس عدو الله، كيف تفعل هكذا؟ قال: (إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ)، فَزِع حين رأى جبريل يُقَدِّم فَرَسه، يقول: اقدمَ حيزوم، وهذا شرد.
مالك يا سراقة؟! يناديه زعماء قريش، قال: (إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ)، قال: (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:48]، وماذا أفادهم؟! وذهب هو.
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، يقولون على الصادقين المُخلِصين، أنّ هؤلاء مُغتَرِين، مغترين بدينهم هذا، وأنت مُغتر بِدُنياك وأنت مُغتَر بوسوسة إبليس، أنا واثق بكلام ربي، أنا واثق بتنزيل إلهي، أنا واثق بصدق الأنبياء والمرسلين، يقولون: (غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) عند الموت تظهر الحقائق (الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [الأنفال:49-51].
يا رب ثبِّتنا على الحق والهدى والاستقامة، واجعل كل واحد من الحاضرين والسامعين والمشاهدين صادقًا معك، موفيًا بعهدك، ثابتًا على ما تُحب منه، مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، ناصرًا لك ولرسولك محمد اللهم آمين.
لا تُسَلِّط علينا أنفُس ولا أهواء ولا شياطين إنس ولا شياطين جن، ولا قاطع يقطعنا عنك، ولا صادًّا يصدنا عن سبيلك يا الله، تولّنا وخذ بأيدينا ونواصينا وقلوبنا إليك أخذ أهل الفضل والكرم عليك آمين يا الله.
قال: (يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)) فَاغنَم حقائق الربح والفوز، (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) -اللهم اجعلنا منهم- (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14))
وجْهتنا إليه، يتم النعمة علينا وعليكم، وعلى اليمن والشام والشرق والغرب، يحفظ الحرمين الشريفين، ويزيدها أمنًا وطمأنينة وسكينة، ويُخَلِّص المسجد الأقصى، ويُفَرِّج كروب المسلمين في المشارق والمغارب، ويدفع عنا سلطة الأعداء وعضال الداء، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
02 رَجب 1447