(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}
الإثنين: 22 ذوالحجة 1444هـ
الحمد لله مُكرمنا بالوحي، والتنزيل، وبيانه على لسان خير هادٍ، ومعلِّم، ودليل سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه بالبكرة والأصيل، وعلى آله الأطهار وصحبه خير جيل، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يدي الملك الجليل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الكرامة والتفضيل، والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تدبرنا، وتأملنا لكلام ربنا جل جلاله وما أوحاه إلى نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ابتدأنا في سورة الإسراء، ومررنا على آياتها الأولى ويقول جل جلاله:
(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ..(4))، وهم ذرية سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهو الملقب بإسرائيل أي عبد الله. (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ)، أوحينا إليهم بقضاءٍ سابق في الأزل اقتضاه علمُنا، فقد أحاط الله بكل شيٍء علما، وعلم بما يكون، وكيف يكون؟ ومتى يكون؟ وعلى أي حالٍ يكون؛ فهو خالق الزمان والمكان، وخالق الروح والجسد، وخالق الأقوال والأفعال، وخالق البصر وما يُبصر وما ينتهي إليه، وخالق السمع وما يسمع، وخالق كل شيء و(بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [يس:83]. وعلم ما يُعطي من الاختيار للمكلَّفين من الإنس والجن، وأين يصرفون اختيارهم هذا؟ وكل واحد كيف يتصرف به؟ فكان مما قضاه بعلمه الأزلي في أم الكتاب ما أوحاه في الكتاب -التوراة- المُنزل على سيدنا موسى إلى بني إسرائيل وأخبرهم وأوحى إليهم: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ) في الكتاب الأول بسابق العلم الأزلي، وفي اللوح المحفوظ، وفي أم الكتاب، وفي الكتاب المُنزل على موسى وهو التوراة أوحى إليهم: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)، ألا يحصلنَّ منكم من جملة ما علمتُ من سعْيكم ومساركم في الحياة؟ سيحصل منكم إفسادٌ في الأرض، الأرض المقدسة، فهي الأرض التي تشرّفتْ بما شرَّفها الله به، والإفساد فيها أشد من الإفساد في بقية أجزاء الأرض؛ فكلما شرُفتْ الأرض والمكان كان الإفساد فيه والطغيان فيه أشد نكالاً، وأعظم وبالاً، وأخطر عاقبة من أن يكون ذلك في مكان آخر، كما قال الله عن حرم مكة المصون يقول: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]، حتى قال ابن عباس: " ما رأيت ربي يؤاخذ على الإرادة إلا في هذا الموطن"، ومن يُرِد ما قال ومن يُلحد (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
فهكذا قال: أوحى ( إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) ،وفي هذا غاية التحذير لهم، وكمال الإنذار ولكن القوم غلب عليهم -كما سبق في علم الله- من إيثارهم لدواعي أنفسهم وشهواتها، وأنخراطهم في الفساد أولاً وثانيًا؛ فكان من جملة ما علم الله عنهم؛ ما كان من هاتين المرتين من الإفساد، ولهم إفسادات كثيرة، ولكن هناك إثنتان عظيمتان قتلوا فيها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه فعاقبهم الله أولاً، وعاقبهم ثانيًا. ثم أخبرنا في مسار هذه الآيات أن هذه سنته كل من أفسد عاقبه، ومن أصلح أمدَّهُ ونَصرهُ، ومن عاد إلى الفساد عادت إليه العقوبة والإذلال، ومن عاد إلى الرشد والتقوى عاد إليه التأييد، والتسديد والنصرة؛ سُنة الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود. فكان من جملة ما قضى على بني إسرائيل وقضى إليهم؛ أوحى إليهم وأخبرهم بذلك ليأخذ من سبقت له السعادة حذرهُ ويتجنب الدخول في الفساد، والمشي في طريق الفساد، ولا يكون مع المفسدين.
(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ) أي: تستكبرون، وتتعالون علوًا كبيرًا، فكان ذلك كما هو في طبيعة عموم الناس، كثير من بني إسرائيل تغلب عليهم هذه الصفة، وهي إرادة العلو في الأرض، ويغلب عليهم التعالي والتكبر؛ ولذلك يُسمع عن طائفة منهم أنهم يقولون: نحن شعب الله المختار، وأن يقولون: الأرض لنا ولنا من مكان كذا إلى مكان كذا، ونحن ونحن إلى غير ذلك من هذا التعالي والتَجبُر. ثم يدَّعون لأنفسهم بأننا قوة غالبة وأننا لا نُغلَب، وأننا وأننا؛ وكله (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123].
وعلى قدر ما يكون من غفلة المؤمنين عن ربهم العظيم الذي آمنوا به وعن اتباعهم للنبي محمد، يُصدقون كثيرا من الأوهام والخيالات، وينتشر بينهم خوف وذعر، أو غير ذلك مما يُدّعى ويُقال القوة الفلانية، والقوة الفلانية، وكل ذلك إلى حدٍّ محدود وأجلٍ معدود لا يتجاوزه. فكل من مرَّ على ظهر الأرض يتكبر ويتجبر يعلوا علواً كبيراً من يقول: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة :258] مثل النمرود، ومن يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ثم يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، ومن يقول: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15] كمثل قوم عاد؛ كلهم من قبلهم ومن بعدهم لم يتجاوزوا الحد الذي حُدد لهم، وما هي إلا أوقات معينة ينقضي فيها مُدة الإمهال ولا إهمال، وينتهي هذا، وينتهي هذا، وينتهي هذا.
تأملَ القرآن وتَدبَّر وفقِه عن العلي الأكبر سنته في الحياة؛ فاستقام على ما يحبه ويرضاه، اللهم ارزقنا الاستقامة على ما تحب، واجعلنا في من تحب. وفسدوا في الأرض أول مرة (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)) تميلون إلى التَّجبر وإلى الظلم، وإلى البغي، والعدوان (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)).
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا) يعني قمتم بالفساد كما أشرنا وذكرنا؛ وفسدتم، وانتهت المدة فجاء الوقت للانتقام منكم، وإنهاء فسادكم هذا في المرة الأولى؛ (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ): أي وعد التأديب، والعقوبة على المرة الأولى مرتين، (أُولَاهُمَا) الأولى من المرتين. (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ)؛ أرسلنا إليكم، (عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ..(4))، (عِبَادًا لَّنَا) من خلقنا (أُولِي بَأْسٍ) قوة، قوة شديدة وبطش شديد؛ (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) تجولوا فيها، وتتبعوا من يريدون قتله منكم؛ ليقتلوكم ولو بالدخول وسط الديار (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ). وقد يصل أفعال المفسدين إلى مثل ذلك، ويقتحمون على الناس بيوتهم، أو يصيبونها بواسطة هذه القنابل أو الطائرات، التي كثُر بها الإفساد وضُرّ الأبرياء والناس على ظهر الأرض، في الوقت الذي يزعمون فيه التقدم ورعاية حقوق الإنسان وما إلى ذلك من الشعارات الكذابة البراقة التي لا شيء تحتها؛ وإنما مُغالطات ولعب على عقول خلق الله تبارك وتعالى. والغافل الجاهل من صدَّق الكذوب، ومن صدق اللعين، ومن صدق المجرم، ومن صدق الفاسد والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ فهم أبعد الناس عن الصدق، يقولون ما يقولون، وأين تستعمل طائراتهم هذه؟ وأين تستعمل قنابلهم هذه؟ وأين تستعمل مدمراتهم هذه؟ وكم ينال بها أبرياء؟ وكم ينال بها أطفال ونساء؟ دفع الله شرّهم عنَّا، وعن جميع المسلمين، وعن العالمين يا قوي يا متين.
يقول:(فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) تقصوا وداروا وجاء في رواية حاسوا (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ). يقول الحق تبارك وتعالى : وما سبق في علمنا هو الذي لا بُدَّ أن يكون، وأن لا يكون إلا ما سبق في قضاء الله، وعلمه وأراده سبحانه وتعالى؛ يقول: (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5))، لا بُد من مجيئه ولا بُد من حصوله. فكل ما ذكر الله وتحدَّث به رُسله فهو الحق الذي لا مِرية فيه، ولا ريب، ولا شك؛ ولذا قال سيدنا عبد الله بن رواحة في نبينا المصطفى محمد ﷺ:
أَرانا الهُدى بَعدَ العَمى فَقُلوبُنا *** بِهِ موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقِعُ
ﷺ، ولا يحدث اليوم في العالم حوادث إلا ونجد في كلامه ﷺ، وما حفظ لنا من سنته إشارة إليها؛ فيكون حدوثها علامة على قوة صدقه، ودليل على أحقيته فيما بعث الله به. فجميع الحوادث اليوم في العالم شواهد على صدق خير أهل العالم رسول رب العالم سيدنا محمد ﷺ.
يقول: (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5))، وحصل ذلك؛ وقتلوا النبي زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وبعث الله تبارك وتعالى لهم من يدمرهم، ومن يقتلهم، ومن يخرب عليهم بيت المقدس؛ فكان ذلك أمّا على يد جالوت، أوعلى بخت نَصّر، وعلى يد غيرهم ممن يُذكرون في التاريخ، والقصد العبرة بأن هذه سنة الله فيمن خان الأمانة وضيعها، وانحرف عن سواء السبيل، وأفسد في الأرض؛ أنه مهما طالت أيامه فهي معدودة، ومحدودة؛ ولابد أن يذيقه الله العذاب وينهي فساده على ظهر الأرض (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5)).
ولما كان الأمر في قدرته سبحانه وتعالى، وتحت أمره كله يقول تعالى: ( ثم رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ .. (6)) يعني: من كان قويًا وعزيزًا بشيء به من هو أشد منه قوة، ونهينه ونذله. والهين الذليل إذا أردنا أن نرفعه وننصره؛ فذلك هين علينا ولكن نصره للمؤمنين يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) [محمد:7-8]، ويقول: (واإِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، ويقول:(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم :47].
يقول: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) نصرناكم وأيدناكم ورددنا لكم دولة ونفوذا وقوة، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ) بعدما قد نُهبت أموالكم، ومررتم بحالات فقر في سنوات معدودة، وأنتم ضِعاف؛ (أَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ) كثيرة تكون عوناً لكم على قتالكم وعلى جهادكم، وترتيب بعض شؤونكم وأحوالكم. (وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) يعني: جيش معكم، وينفرون معكم، ويقومون معكم يكونون عدة لكم، ومساعدين لكم وبنين. (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)) كثرنا فيكم الذين يتدربون في الجيوش، ويتدربون للقتال وجعلناهم كثير؛ فينفر معكم منهم كثير(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)).
يقول الحق: لا تنسوا سنتي في هذا الوجود، إذا أنعمت عليكم بعد شدة فلا تظنوا أن هذه النعمة ملكٌ لكم؛ بل ارعوا حقها، وإن شكرتم أزيدكم، وإن خالفتم فما حصل من قبل بمن خالف أمري يحصل بكم: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ..(7)).
(أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ ..(7)) أبيتم إلا اتباع الشهوات، ومخالفة أمر الجبار للأرض والسماوات، وأخذتم آراء فلان وفلتان، وتركتم إرشاد الأنبياء والأولياء والصالحين، واتبعتم هؤلاء؛ (أَسَأْتُمْ) أسأتم بشركٍ، أسأتم بكفرٍ، أسأتم بمعصية، أسأتم بظلم الآخرين؛ (فَلَهَا) لأنفسكم، أي: أنتم بهذا تُعرضون أنفسكم للذل، والخزي، والهوان، وللسوء والشر في الدنيا، وللموت على أسوأ الأحوال، وللانتقال إلى العرض على النار في البرزخ، ثم إلى مشاهدة النار والدخول فيها في القيامة أهوال شديدة، ثم دخول إلى النار -والعياذ بالله تعالى- وخلودٌ فيها.
(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ..(7))، فهذه حقيقة ما يُدار في الحياة، فلا تُخدعنَّ ولا تستقرب الأمر في المتاع الحقير الفاني، وتظن أنه شيء عظيم أو شيء مُراد، هي مجرد اختبارات وابتلاءات بفقر وغنى وصحة ومرض وظهور في الأرض وتمكين، أو تسليط واختبار؛ كلها مجرد اختبار يمر على الناس، وما حقيقة الكرامة إلا بالإيمان والتقوى، ولا حقيقة الشقاء والذل إلا بالكفر والمعصية؛ حقيقة ثابتة راسخة، هي التي إليها المرجع شاء الناس أم أبوا، وإليها المنتهى أيضًا، وعليها مضت أحوال الناس في ماضي القرون والأزمان، وعليها الأمر قائم في زماننا وعليها يقوم الأمر بعد ذلك؛ وتنكشف حقيقتها لكل فرد بداية من عند الغرغرة ووصول الروح إلى الحلقوم، ثم في البرزخ في القيامة، وتنكشف للجميع انكشافًا أجلى، يوم يحكم الحاكم الذي لا معقب لحكمه -جل جلاله وتعالى في علاه-.
( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ..(7)) أفسدتم مرة أخرى، وقتلتم يحيى بن زكريا. (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ..(7)) وليدخلوا المسجد؛ عزمتم على قتل عيسى بن مريم، ورفعناه؛ ولم نمكنكم من ذلك. قال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ..(7)) يعني المرة الآخرة، أي وعد انتقامنا منكم لإفسادكم المرة الثانية -المرة الآخرة مرتين (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ..(4))-. فإذا جاء وقت انتقامنا منكم بسبب إفسادكم في المرة الثانية:
(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) في المَرة الأولى، (وَلِيُتَبِّرُوا) يُهلِكوا ويُدَّمِروا، (مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)) مُدة عُلُوهم، أو ما عَلوا ما اعتَلَوا عَليه وتَسلَطوا عليه وتَمَكَنوا منه، (تَتْبِيرًا)، كما قال الله في آثار قَوم فِرعون يقول -جل جلاله وتعالى في عُلاه- في شأن فِرعونَ وما كان: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، ودَمرنا -لا إله إلا الله-، (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) [الطلاق:8-10] -لا إله إلا الله-. اجعَلنا مِن أُولي الألباب، ومِن أقوى خَلقِكَ إيمانًا، يا رَب الأَرباب ويا مُسَبِبَ الأسباب.
(وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)) (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]. وهكذا قالَ عَن قَومِ عاد الذين قالوا (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15]، قال: في الريح (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8]، (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:8]، فيا خَيبة المُعرِضين والغَافِلين والجاهِلين، وإن ادعوا العلم وإن ادعوا التَقَدم وإن ادعوا القُوة فـ(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165]، هي كَذلك في يَقين الموقِنين -جَعلنا الله مِنهم-، وهي عِند الناس مُعاينة في بَعد انكِشاف الغِطاء والوُصول إلى الآخرة، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165]، عِندَ الوُصول إلى ذاك العذاب في يوم القيامة؛ فلا يوجد التَطور الفلاني، ولا القائمة الفلانية، ولا المُخابرات الفلانية، ولا الأُمم الفلانية، ولا الدَولةُ الفلانية، ولا الجَماعةُ الفلانية، ولا القبيلة الفلانية، ولا آل عاد، ولا آل ثمو، ولا آل فرعون، ولا آل نوح، ولا آل القرن العشرين، ولا آل القرن الحادي والعشرين، ولا ولا ولا؛ (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) [البقرة:165]؛ ذَهبوا وراحوا واضمَحَلوا وتَلاشوا، وهم اليوم كُبرائُهم كأمثال الذَر؛ مُهانينَ على ظَهرِ الأرض يُداسون بالأقدام.
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165]، فلماذا نَبقى في هذا الغُرور والزور وفي هذا الوَهم والضَلال والخَيال؟! نَظُن أن القُوة لِغَير الله؛ لا، القَوي هو الله. (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15]، فقال سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف:33]. قال: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7))
يقول-جَل جَلاله-: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ..(8)) مَع هذه الإنذارات والتَحذيرات والغَرائب والحَوادث؛ يَقول الله: ولا يَزال باب رَحمتي مَفتوح لِمَن يُقبل عليه، لمن يتوب، لمن يتوجه، لمن يخرج من زَيغه ويَخرُج من هواه ويَخرُج من اتباع شَهواتهِ ويَخرج من إيثار الفانيات بأصنافها، أموال يُغرونك بها، إمدادات فانية يُمِدونك بها، وَعد لك بأن يعملون لك أو لأولادك وكذا وكذا…؛ من هم هؤلاء؟! وما هؤلاء؟! وما هذا الذي يَعِدونك به في مقابل أن تُضَيع الأمانة بَينك وبَين الجَّبار الأعلى العَلام بالأسرار الذي إليه المَرجع وبِيَدِه مَلكوت كل شيء؟ وتَخسر لِقاءَه وهو راضٍ عنك مقابل ماذا؟! ولو أعطوك مُلك الدُنيا بما فيها، يقول: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ) إذا رَجعتُم إليه وتُبتُم إليه وقُمتُم مَعه.
(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ..(8)) وإن عُدتُّم إلى الإفساد عُدْنَا إلى العُقوبَة، وإن عُدتُّم إلى الصَلاح والتَقوى عُدْنَا إلى النُصرة والتأييد (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) [الحج:41-40]، يَعني لا يَتصَور أَحد أن أَحداً يَقوم على المَصلحة الحَقيقية للعِباد وينصُر الله بِشيء غير هذا، أقاموا الصَلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف لا شيء ثاني، لا أحد يَضحك عَليكم، لا شيء فِكر ثاني ولا عمل ثاني و هوهذا عَمل الصالحين مِن عَهد ٱدم إلى آخر مُؤمن على ظَهر الأرض(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، (إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].
(عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ..(8)) وقد عادوا إلى أنواع من الإفساد ومنها تَكذِيبهم بالنبي مُحمد، وكَتمهم لأوصافه عِندَهم في التَوراة واضِحة، صورَتُه مَذكورة، وخِلقَتُه مَذكورة، وأخلاقُه مذكورة؛ عِندهم في التَوراة، بِلادُه مَذكورة، قَبيلته مَذكورة، مَكان هِجرته مَذكور؛ عِندهم وَسط التَوراة، خبؤها وكَتَموها وكَذَّبوا بِها وهكذا، حتى تَقول أُم المُؤمنين صَفية عَليها رِضوان الله، تَقول لرسول الله ﷺ: جاءك ليلة أبي حُيَيّ بن أخطب وعَمي كَعب بن الأشرف وأخو أبوها الثاني، قالت: و رَجعوا من عِندَك وكنت أنا التي يُحبني أبي ولِصِغَري ما خَرجوني ما حد عندهم -ما خَرَجُوني من عندهم- فَأخذوا يَتَحَدَثون، وقال له: كَيفَ رأيت الرَجُل؟ قال: هو الذي بَشَر بِه موسى. قال: فما قَرَرت؟ -معاداته إلى الموت !!!-، هو الذي بَشرَ بِه موسى وأخذ الله عليكم العُهود أن تؤمنوا به، وتُقَرر عَداوته ومُعاداته وحَربه إلى المَوت؛ استجابة لخَباثة نَفسك وهواها وشَهواتها، تَظن أن لَك نُفوذ تَلعب به؛ تَضرب الأوس بالخَزرج والخَزرج بالأوس، وتُجَمِع أموال، وإنك إذا اتبعت محمد سَتفوت عَليك هذه الشُئون الخَسيسة الخَبيثة!!!. لو اتبعته لصرت ذا مال طَيبٍ حَلال، ولصرت ذا مقامٍ شَريفٍ عال. ولكن هكذا تَعمل بهم النُفوس والشَيطان، كَيف نَتبعه! لا نَكفُر به ونُعاديه -والعِياذُ بالله تَبارك وتَعالى-، فَكان هذا حالُهم،(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا)؛ وَسُلِطَ عَليهم ﷺ وأُخرِج بنو قَينُقاع او وأُخرِج بَنو النَظير وأُخرِج بَنو قُرَيضة ثم أخرجوا كذلك من خَيبر، كُله فيه؛ بَعد إفساد وإفساد وإفساد منهم، وعِناد وتَكذيب وبَغي وخِيانة للعُهود والمَواثِق وما إلى ذلك.
(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا) أي هذة سُنَّة لنا راسِخة فلا تَغتَرون بِشَيء، مهما خَالفتم أمري فَجاء الوقت فقط، الوقت المُحدد الذي حَددته، وستبصرون لا شَيء، وسَينتهي كُل شَيء بِأصنافِكُم إلى كَبيركم الدَجال. إذا جاء الدَجال ويُعيث في الأرض ويَقول: أنا الرَب، ويُنَزل المَطر ويُطَلع الشَجر ويَمنع الذين لم يؤمنوا به ويَتركُهم في الجُوع، إلى أن يأتي الوَقت يَنزل عيسى ابن مريم ويَتَضاءل مثل ما يذوب المِلح في الماء ويَقتُله ويَنتهي، وحتى أنه لو تَركه من دون ما يَقتُله سَيموت من نَفسه؛ من شِدة الذِلة. فما أحد يَغتر بِشيء النهاية هنا، مَوت ورُجوع إلى المُحيّ المُميت (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2].(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا).
إسمعوا (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرً) قل مهما حَصل في الدُّنيا للكُفار المُعاندين المُحاربين المؤذين الظالمين بأصنافهم على ظَهر الأرض، من أننا نكشف فسادهم ونُسَلِط عَليهم من يَقهَرهم ويُصبِحون عِبرة؛ فَكُل هذا قَليل بالنسبة لِما أعددنا لَهُم في المَصير الكَبير؛ (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرً)؛ حَبساً لا يَستَطيعون الخُروج مِنه ولا الفَلَت منه ولا يَموتون ولا يَحيون أبدا -لاإلٰه إلا الله-؛ لأنه مَهما نازلهُم من عَذاب أو شِدَّة في الدُّنيا أو حُبِسوا فيها فَيَتخَلصون إما بالموت وإما بالفِرار، لكن عند دُخول جَهَنم بعد ذلك لا مَوت ولا فِرار:
(حَصِيرً)، (حَصِيرً) حَبس، حَبس دائم مُستَمِر، (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرً)، (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة:20] والعياذ بالله تبارك وتعالى، يَقول سُبحانه وتعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56]؛ يقول سُبحانه وتعالى: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167].
(وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) فهذا مُستَقبلهم، هل يعجبك هذا المستقبل؟ فلماذا يعجبك زِيَّهم ؟! فلماذا يُعجبك تَجرؤهم على الله ورسوله؟! فَلماذا يُعجبك تَبَرج نِساؤهم الكاسيات العاريات؟! فلماذا تُعجبك بَرامجهم؟! هذا مُستقَبلهم، فلماذا تُعجبك دولاراتهم؟! لماذا؟! هذا مستقبلهم، إن كان هذا يعجبك؛ هذا الحَصير؛ الحَبس في نار جهنم هذا مُستقبلهم، (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [ٱل عمران:196-197].
هذا كلام الله وهذا صوت حبيبه ومصطفاه محمد؛ وهذه الحقيقة التي لا مَفر للخليقة عنها ومهما انكروا او جحدوا لن يقدم ولن يؤخر فيها شيء هي كما قال الله: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. (9))، تريدون برامج، تريدون دساتير، تريدون أنظمة، تريدون قوانين؛ تستطيعون أن تأتوا بـ) أحسن من هذا. انظروا! انا اعطيتكم ما هو أحسن وأجمل وأكمل:
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ .. (9))، اللهم اجعلنا منهم، (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)؛ مَغفرة للذنوب، وستر للعُيوب، وقُرب من الرب، وحسن خاتمة عند المَوت، ونجاة من عَذاب القبر، وظَفر برؤية الجنان وهم في البرازخ، وحَشر مع الأنبياء وظل العَرش يوم لا ظِل إلا ظل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، ونجاة من النار، وخلود في الجنة.
(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9))، (وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13]، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) [يونس:2]، الله أكبر، لا إلٰه إلا الله، (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر:17-18]، اللهم اجعلنا منهم.
(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ .. (10))، لا يؤمنون بالآخرة، كائنين من كانوا؛ إن كان فَيلَسوف، إن كان طيّار، وإن كان رائد فضاء، وإن كان صاحب جيولوجيا، وإن كان صاحب علم بحر، وإن كان وإن كان …؛ كل من لا يؤمن بالآخرة يقولُ: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)).
فالذين لا يؤمنون بالآخرة مهما أقاموا من حضارات ومن أنظمة ومن قوانين؛ فهم -والله تعالى- تحت حقيقة قال عنها الخلاق: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4]، هل تعرف؟ يَعْمَهُونَ، يَعْمَهُونَ، لاشيءغير يَعْمَهُونَ. هم (يَعْمَهُونَ)؛ هم في العَمه، (فَهُمْ يَعْمَهُونَ)، كما ترى الأدلة عندك الٱن؟! كم من السنين لهذه الدول -التي تدعي أنها دول كبرى ولأنظمتها ولقوانينها- كم لها سنين؟ فما كان إلى الآن مازالت فاشلة، ومازالت تفعل حروب، ومازالت تأخذ من أموال الناس. واذا مادامت تأخذ من أموال الناس لماذا ما نجحت؟ أين النظام الذي نجّحهم؟! أين التطور الذي قالوا عنه؟! أم هي لعبة على العقول؛ كذلك يا أجهزة، يا طائرات، يا اسفلت في الطريق! والإنحدار حاصل في ذات الإنسان، وفي خُلق الإنسان، وفي قِيَّم الإنسان، وحتى في اقتصادهم مهما ادعوا؛ ولا يزال الإفك والكذب والظلم في منهجهم وعليه يعتمدون في سياساتهم، ونعوذ بالله من غضب الله.
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا .. (10))؛ لكن الناس عادتهم يستعجلون بسرعة؛ يريدون الشيء المباشر والحسي الذي يرونه أمامهم، قال الله: إعقلوا واعلموا أن الأمور ظواهر وبواطن، ودنيا وآخرة، وأمد قصير، ونظر طويل، فابقوا بعقولكم، وإلا فالإنسان هذا من عجلته ومن شره؛ (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ):
يقول له الله تعالى: اصبر اصبر اصبر، العاقبة للمتقين، اصبر قليلًا سنة، سنتين، ثلاثة، أربع، خمس، عشر؛ اصبر نتائج محسومة، من اتقى الله هو الرابح، من اتقى الله هو الفالح الفائز، ومن عصى الله هو الخاسر، الله الله الله الله الله.
(وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11) مستعجل؛ يريد بسرعة، ويقولون للأنبياء أين ما وعدتمونا به؟ ويقولون: (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32]، ماهذا الدعاء؟! شيء يُزعِله كذا ويغضبه -ويقول خلاص أريد أن أموت ولك كذا وعلى ابوك كذا-، لو استجاب لك ماذا سيحصل؟ ولهذا حذّر النبي ﷺ قال: "لا يدعو أحدكم على نفسه ولا على ماله ولا على ولده لا يصادف ساعة إجابة"، و قال بعض الأخيار قال: ٱذاني ولد صَدرت علي منه دعوة، وصار فيه شيء من الاختلال، قال :فرجعت فوجدت إنني أنا الذي تعبت، ياليتني ما دعوت. فما يستعجل الإنسان.
(وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ)؛ بل يصبر يصبر، ويقول سبحانه وتعالى: (وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [ٱل عمران:146-148] جل جلاله.
اللهم اكرمنا بالاستقامة واتحفنا بالكرامة، واثبتنا في ديوان أهل الصدق معك أهل اليقين وأهل الإيمان، واجعلنا من المؤمنين الذين يعملون الصالحات المُبَشرين بالقرآن على لسان من أنزلت عليه القرآن، الذين لهم البشارة منك على لسان رسولك في الدنيا وفي الآخرة يا رب الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين ﷺ
22 ذو الحِجّة 1444