(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) }
مساء الإثنين: 19 صفر 1445هـ
الحمدُلله مُكرمنا بالقرآن وتنزيله، على خاتم رسله، سيدنا محمد الذي وكَّلهُ بتبيينه، فأحسن التبيين وكان خير المعلِّمين والمرشدين والهادين والدالِّين على الله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على من أرسلته رحمة، عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الائمَّة، وعلى من والاهم بإحسان واتبعهم في كل مهمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين ذُرى القمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في تأمُّل كلام ربنا جلَّ جلاله وتعالى في علاه وما أوحاه إلى نبيه ومصطفاه صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله مرَرنا على قوله جلَّ جلاله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا (28))، رتَّب الحقُّ جلّ جلاله لعباده العلائق والروابط في الأُسر والمجتمعات. وجعل أعظم ما يتوجَّه على المؤمنين من علاقة، علاقته بمن يدلُّه على الله ويُوصِلُ إليه من الأنبياء والمرسلين وما بعد النبيين والمرسلين والدّالين على الله إلا من كانوا سبب الوجود لك على ظهر الأرض وهم الآباء والأمهات فـ(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ..(23))، ثم بعد ذلك جعل لنا علائق وروابط من ذوي الأرحام والقرابات، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))؛ فأمر بإعطاء الحق لذي القربى ومن كان بينك وبينه قرابة توجَّه عليك حقٌّ نحوه، ومن كان قريبا إلى ربك كيف تغفل عن حقه، ومن كان ذا قرابة مع نبيك كيف تغفل عن حقه.
ومن كان ذا قرابة لك بنسب يجب أن تعرف حق هذه الرحم التي تأتي يوم القيامة وتشهد لمن وصلها بالصلة وتشهد بالقطيعة على من قطعها، واشتق لها الرحمن تعالى اسماً من اسمه الرحمن فهو الرحمن وهذه الرحم قال: "من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته"، والعياذ بالله تبارك وتعالى. قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [الأحزاب: 6]. وجاءنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأله بعض الصحابة: "من أحق الناس بصلة أو بِري؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. قال: ثم من؟ ثم قال: فأدناك وأدناك الأقربَ فالأقربَ"، من كان أدنى وأدنى إليك الأقرب فالأقرب. فينبغي أن لا تغفل عنه وجاء في الحديث أيضا :" فأختَكَ وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ فأدناكَ"، وهو أيضا مما يتعلق بر الوالدين:
وذلك من برِّهم الذي يبقى أيضا بعد وفاتهم إذا توفوا وغابوا عنك وفاتك أبٌ أو أم فبقي البر بعدهما؛
قال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ)، وهو ذو صاحب الحاجة الذي لا يجد ما يكفيه،
(وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو العابر الذي يريد السفر أو مارٌّ مجتازٌ بالبلد يريدُ بلده أو مقصدا له في غير معصية فيكون ابن السبيل أي ابن طريق يحب أن يسافر فتقصر به النفقة عن السفر. قال سبحانه وتعالى وفي كل ذلك كُن على حد الاعتدال:
(وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26))؛ بأن تنفق الشيء في غير محله ولغير أهله.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ ..(27))، الذين فقدوا الميزان في إنفاقاتهم وتجدهم ينفقون الكثير: إما في الزخرفة، وإما في المباهاة، وإما على الألعاب، وإما لشيء من مظاهر الدنيا لمغنِّيات أوممثلات ونحو ذلك. أموال هائلة طائلة ينفقونها في ذلك ثم يبخلون أن ينفقوا عُشرها لذي رحم أو لذي فقر أو مسكنة أو لنصر شريعة أو حق أو هدى؛ فهؤلاء أهل التبذير في مسلك إبليسي شيطاني: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ..(27))، ينفقون المال في غير محله ويعطونه:
ولكن أن أعطيته من يعص الله به، أو من يؤذي به المسلمين، أو من يخون فيه الأمانة؛ فأنت من إخوان الشياطين، السالك مسلك أهل الشيطان، الفجار الأشرار وكل من شابهَ أحدا في مسلكه ومساره سُمي أخوه؛ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))، لا يشكر النعمة ولا يضعها في موضعها؛
(وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))؛ جحودًا يجحد النعمة ويكفرها، ويعمل ما حرم الله عليه، وما أنهاه الله عنه؛ فهذا عمل الشيطان. ومن يشابه الشيطان أو يطيعه يدعوه إلى ذلك، أن يكفر نعمة من أنعم عليه بالعين؛ فيبذل العين في:
هذا كفور، كفر نعمة العين. والشيطان يدعو الإنسان لأن يكفر بنعم ربه، كذلك يدعو الإنسان أن يكفر نعمة السمع:
هذا كفر نعمة السمع و (الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)). وهكذا يدعو أن نكفر نعمة اللسان الذي به نرْقى المراقي الشريفة بالتسبيح .. والتحميد .. والتهليل .. والتكبير .. والنصح للناس .. والقول اللين .. والقول الطيب ونُدرك به المراتب الشريفة؛ فيُحرفه عن ذلك كله إلى الكذب .. إلى الغيبة .. إلى النميمة .. إلى السب .. إلى الشتم .. إلى الكلام الماجن -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ هذا كفران بنعمة اللسان، وبقية الأعضاء كذلك.
(وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا). وهو يعلمنا كذلك في المال، يُزين لنا إنفاقه للمفاخرة والمباهاة، يُزين لنا إنفاقه في قطيعة الرحم -والعياذ بالله تعالى-، يُزين لنا إنفاقه في معصية أو ما يقرِّب للمعصية، والإنفاق بهذه الصورة؛ هو التبذير المنهي عنه، والذي صاحبه يوافق الشياطين في مسلكهم.
قال تعالى: (وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ..(28))، والديك أو ذا القربى أو المسكين أو ابن السبيل، أي لا يكون عندك ما تعطيهم فتؤخر عنهم العطاء؛ (ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا ..(28))، تنتظر رزقًا يفيض عليك وخيرًا يصل اليك فتعطيهم، ففي هذه الحالة؛ لا تجعل الإعراض يحمل معنى من الجفاء أو باعثًا على تصور الاستخفاف أو الاستقلال لهم أو الاحتقار لهم ولكن (فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗ (28))، هات الكلمة الطيبة وهات الوعد الحسن بما يتبين لك أنك تستطيع الوفاء به وأدعو وقل القول اللين الطيب في حالة عدم وجودك للمال تعطيهم وللانفاق، تنفق عليهم وتبتغي رحمة من ربك (فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗ (28))، فـ"الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ".
قال: (فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا (28) وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ..(29))، استعارها للبخل فجعل البخيل الذي لا ينفق مثل مغلول اليد الى عنقه، ما يقدر يبسطها ولا يمدها، كذلك هذا مقطوع ومقبوض اليد عن أن يُنفق في سبيل الله، وعن أن يعطي في منفعة الخلق من أجل الحق جلَّ جلاله، (وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ) -مطلقة، أي سائبة، أي تجاوز الحد- (وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا)، إذا غُلَّت يدك، أي إذا بخلت؛ (مَّحۡسُورًا (29))، إذا أنفقت في الشئ كله بلا ميزان وذلك الميزان لعامة المؤمنين التوسط الذي أشار الحق إليه بقوله (إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
ولخواصهم بعد ذلك مراتب للإيثار بشرط أن يكون كامل الثقة بالله متوكلا عليه وأن يكون إن كان له من ينفق عليهم من أهل وولد أن يكونوا كذلك وإلا فيقدم حقهم دون أن يؤثر بغيرهم؛ فهذا مقام الإيثار لخواص المؤمنين والذين أثنى عليهم بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]، ولعموم المؤمنين: (إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]. وهكذا وجاء أيضا في بعض كتب السنن:
قال تعالى لحبيبه: إن شؤون الأرزاق وتقسيمها خاضع لحكمة الخلاق، وحكمة الخلاق يرعى بعض عباده:
ويطغى أقوام فتقوم عليهم الحجة فيوسِّع لهم ذلك، فليس التوسعة علامة الشرف والكرامة، ولا ضيق الرزق علامة المهانة ولا الذل ولا شيء من ذلك، ولكن (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ..(30))؛ من مؤمن وكافر، وخْيّر وشرير، وصالح وفاسد. يبسط لمن يشاء رزق منهم، (وَيَقْدِرُ) يُضيق لمن يشاء من مسلم وكافر، وصالح وفاسد، وخْيِّر وشرير، يكون هذا ضيق رزقه، وهذا موسع رزقه؛ بحكمة من الحكيم فارجِع إليه واطمئن. وإن أردت شيئا في الدنيا أو الآخرة فاطلبه منه؛ فإنه ربُ الدنيا والآخرة وبيده ملكهما يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
وبيّن الحق لنا ذلك، ونهانا أن نصدق الوهم والخيال، أن شيئا من الشرف والرفعة في وفرة المال، وأن شيئا من المهانة والذلة في قلة المال، فقال سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) -أي ضيَّق عليه رزقه- (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر:15-16]؛ (كَلَّا) -لا ذا ولا ذا-، (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، في القراءة الأخرى لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحُضُّون عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:17-20]، فالكرامة أن يهبك الإيمان والطاعة والخلق الحسن، هذا الذي يكرمه.
وقد كان بعض العارفين يقول؛ إن الخير مجموعًا في كلمتين: الصدق مع الحق، والخُلق مع الخْلق. الصدق مع الحق والخلق مع الناس وخلاص، جمعتْ الخير كله، إذا أنت صادق مع ربك وصاحب أخلاق مع الناس؛ الخير كله عندك، جمعْت المكارم والفضائل.
يقول: (إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُ ..(30))، وتكون ابتلاءات واختبارات وكثير من الناس يمر علي في حياته أيام فقر وأيام غنى وأيام رخاء وأيام شدة، وهم أكثر الناس. وبعضهم يعيش من بداية عمره إلى آخره في سعة، وبعضهم يعيش في ضيق معيشة، ولا اعتبار لشيء من هذا في حقيقة الأمر إلا؛
فثبتنا الله على الإيمان واليقين وقنَّعنا بما آتانا وبارك لنا فيه، وسخر لنا الأسباب ورزقنا صرف كل ما مكَّننا منه فيما هو أرضى له وأحب إليه، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ونسأله لكل منا صحة في تقوى وطول عمر في حسن عمل وأرزاقا واسعة بلا عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.
يقول: (إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ ..(30))، يوسع الرزق لمن شاء (وَيَقۡدِرُ) -يُضيق- (إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا (30))، أدرى وأعرف بما هو أفضل وأجمل وأكمل لهم؛ فيبسط ويُقدِّر بحكمة هو أدرى بها جلّ جلاله.
قال تعالى: (وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖ ..(31))، حيث تكلم عن الكبار من الآباء والأمهات وذوي القرابة والأرحام والمساكين وأبناء السبيل، قال: والصغار هؤلاء الذين تحت كفالتكم، ارحموهم واتقوني فيهم وأحسنوا إليهم. (وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖ)، وكانوا يخصون بالغالب البنات من الأولاد فيقتلونهن -والعياذ بالله- ويئدُوهن؛ فمنهم من يدفنها حية، ومنهم من يرميها في بئر، وكثيرا ما يكون منهم عندما تكبر البنت وتقرب من سن التمييز وتبدأ تتحرك. وقد يأمر بعضهم زوجته أن يُزيِّنها، ويقول: أنه سيذهب بها إلى عند أعمامها أو أخوالها فيأخذها ويحفر لها حفرة ويدفنها حية -والعياذ بالله تعالى-، أو يرمي بها في بئر. وكان ذلك منتشر عندهم في الجاهلية:
قال الله: (نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡ ..(31))، رزْقهم علينا كما رزقناكم، وأنت من أين تأكل؟ ومن أين تعيش؟ وعيَّشناك حتى كبُرتَ، ولا نزال ننفق عليك؛ فكذلك هذه البنت التي جاءتك رزقها على الذي خلقها؛ (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6].
(وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡ ..(31))، وذكر في الآية قبل ذلك فيما مر معنا في آخر سورة الأنعام، يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ) [الأنعام:151]؛ هذا (خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖ)، هذا ماعندكم فقر، لكن تفزعون من الفقر، أنتم في واقع الأمر في فقر وبسبب ذلك تقتلوا البنت.
قال: (وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡ ..(31))، لما كان الملاك واقع، قدَّم رزقهم هم يعني؛ لأنهم مهتمين بأنفسهم قبل أولادهم وقت الفقر.
(إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا (31))؛ ليس خطأ .. خِطۡـٔٗا، الخِطئ ما يكون إلاعن عمد، أي إثم، إثم كبير عظُم وجلّ وزره عند الله تبارك وتعالى. فإن قتل النفس أعظم الكبائر بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
قال: (إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا (31))، إثمًا كبيرًا وهكذا كما سيأتي معنا في الآية التي بعد هذه، تحريم القتل وشدته عند الله تبارك وتعالى. وقال تعالى في ضمن ذلك ما بين قتل الأولاد وما بين قتل النفوس ذكر الزنا الذي يُشبه قتل النفوس وقتل الأولاد؛ لأنه يضِّيع الأنساب، فكأنه قتْل هؤلاء الأولاد؛ ولأنه يؤدي إلى أنواع من الفساد، قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ..(32))، قال أعظم من أن يقول: ولا تزنوا.
فقال: (وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ ..(32))، والمتناهي في القبح يقال له فاحشة القبيح الشديد القبح فاحش، يعني شديد القبح. (إِنَّهُۥ كَانَ فَٰاحِشَةٗ) -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ أي قبيحا شديد القبح، إنه كان فاحشا فإن فيه جراءة على الله تبارك وتعالى واستخفافا بأمره، وحتى قالوا أنهم من أخجل الناس في الموقف وحتى من تعرض للتوبة من أرباب هذه الفاحشة وغُفر له وقُبِلت توبته عند دخوله الجنة يُعرض عليه بعض أفعال يده؛ فيشتد خجله.
فيكون أشد الناس خجل في الموقف أرباب الفواحش، من أهل الزنا واللواط، ما يرون قباحة أكثر وشناعة أشد مما هم فيه بعد الشرك بالله تبارك وتعالى. لا يستطيعون يواجهون الجبار الأعلى جل جلاله لقبح ما أتوا، فهم من أشد الناس خجلًا وحسرةً في القيامة. بل جاء في بعض الأخبار أيضا أنه حتى بعض الذين غفر لهم أنهم يُذكرون بشيء من هذا فيخجلون، وليس يخجل من أُمِر به إلى الجنة وغيرهم -من أنواع من غفر الله لهم- غير أهل هذه الفاحشة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، والتي يشتد إثمها إن كانت مع مَحْرم، ويشتد إثمها إن كانت مع حليلة الجار أو بنات الجار فإنه أشد من عشْرٍ من غيره إلى غير ذلك مما يزداد قبحها به.
(إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا (32))، أي سبيل قبيح سيء، انحراف عن الفطرة. فقد ركَّب الله في الإنسان هذه الشهوة يختبره بها ويمتحنه بها، ويمتحنه إيمانا ويمتحن صدْقهُ وجعل له مجالا واحدا؛ وهو الزواج ومُلك اليمين، وما عدا ذلك حرَّم عليه أن يستفرغ شهوته بأي وسيلة أخرى؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:5-7]، المعتدون المتجاوزون الحد.
فخلقنا الله تبارك وتعالى ليختبرنا ويمتحننا وليبلونا أينا أَحْسَنُ عَمَل. وركَّب فينا هذه الشهوة فعلى قدر الإيمان والعقل نغْلبها، وعلى قدر ضعف الإيمان وضعف العقل تغْلبُنا؛ وبذلك جاءت الأوامر من الحق تبارك وتعالى في الابتعاد عن المقرِّبات إلى هذا الأمر الشنيع قال تعالى: (وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا (32))، وهي من الكبائر التي وقْت فعلها ينزع الإيمان من قلب صاحبها، "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ"، "ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ"، وقد يعود إليه الإيمان أو لا يعود -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فهكذا، ومن أقبح ما فيه؛ أنه مما تعُجَّل عقوبته في الدنيا. فمن هتك أعراض الناس يسلِّط الله تعالى من يهتك عرضه في أهله أو في ولده كما هتك أعراض الناس في أهلهم وأولادهم حتى يروى عن الشافعي أبياته :
إِنَّ الزِنا دَينٌ فَإِن أَقرَضتَــــهُ *** كانَ الوَفا مِن أَهلِ بَيتِكَ فَاِعلَمِ
يا هاتِكاً حُرَمَ الرِجالِ وَقاطِعاً *** سُبُلَ المَوَدَّةِ عِشتَ غَيرَ مُكَرَّمِ
لَو كُنتَ حُرّاً مِن سُلالَةِ طاهرٍ *** ما كُنتَ هَتّاكــــاً لِحُرمَةِ مُسلِمِ
إِنَّ الزِنا دَينٌ فَإِن أَقرَضتَــــهُ *** كانَ الوَفا مِن أَهلِ بَيتِكَ فَاِعلَمِ
والعياذ بالله تبارك وتعالى، حتى جاء في الخبر: من يزني يُزنى به ولو بجدار؛ فيُعرض بناته في الطائرات ويُعرض أولاده لأن تهتك حرماتهم بهتكه لحرمات أبناء الغير أو بنات الغير -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وهذا مما يُعجل عقوبته في عالم الدنيا. كما أن من أنواع المعاصي التي تُعجل:
حتى أن صلة الأرحام يُكثر الله بها أموال قوم، ويكثر أعدادهم ،وهم غير محبين وغير صادقين وغير مؤمنين، حتى وهم من المبُغوضين، قال: "إن الله ليُكثر لأقوام عددهم ويوسع أموالهم"، وقالوا: وهو يبغضهم؟ قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بصلتهم الرَّحِم"، بصلتهم لأرحامهم؛ فيكثر مالهم ويكثر أعدادهم بسبب صلة الرَّحِم فهي سريعة التأثير ومعجل أجرها في الدنيا قبل الآخرة.
وهكذا، "ما مِن ذنبٍ أجدَرَ أنْ يُعجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ -في الدُّنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرةِ- مِن البغيِ وقطيعةِ الرَّحمِ"، وإنها اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تدع الديار بلاقع وتذهب عن الناس خيرهم والبركة لهم وتدع ديارهم بلاقع من أثر اليمين الفاجرة ومن أثر قطيعة الرحم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وقد قال في صلة الأرحم:
ومجرَّب كل من تفقد أرحامه وواساهم بما يستطيع؛ توسعت أرزاقه في الدنيا إلى ما يُدخر له من الأجر عند الله. مهما قصد وجه الله وأخلص لله -جل جلاله وتعالى في عُلاء-.
رزقنا الله وإياكم خُلق القرآن، وما دعانا إليه في القرآن، واتِّباع من أُنزل عليه القرآن،والاقتداء به والاهتداء بهديه والتشبه به ظاهرا وباطنا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
19 صفَر 1445