(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
مساء الإثنين: 29 ربيع الآخر 1445هـ
الحمدلله مكرمنا بالقرآن، وتنزيله على قلب سيد الأكوان، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه في كل حين وآن، وعلى آله وأهل بيته المطهرين مِن الأدران، وعلى أصحابه الغرِّ الأعيان، وعلى مَن وآلاهم واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين مَن رفع الله لهم القدر والشأن، ورقَّاهم إلى أعلى مكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم منا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد…
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- وتدبرنا لخطابهِ إيَّانا وتعليمهِ لنا وإرشادنا، انتهينا في سورة الإسراء إلى قوله جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)) جلَّ جلاله وتعالى في علاه:
يقول الله: هذا ربكم الذي رتَّب هذا، هل تدخَّل فيه شيء مما تشركون به؟ هل تدخَّل فيه شيء مما تسلِّمون إليه زمامكم وتتركون أمر ربكم؟ هو الذي خلق البحار ورتب هذا الترتيب في تزجية الفلك فيها، وأنتم تبتغون مِن فضله بواسطة ذلك (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)؛ مؤمنكم وكافركم وطائعكم وعاصيكم، (كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)) ميَّزكم عن بقية الكائنات وبسط لكم هذه الأرزاق الكثيرات وهيأ لكم هذه السُبل ويسَّر لكم هذه التيسيرات.
(إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66))، فرحمته بالكل مِن حيث:
هذا الرَّب الذي مِن واجبكم المحتَّم:
أي فإنما يهوي بنفسه إلى العبودية لإبليس وللهوى، مَن رضي لنفسه بالهوان، ومَن لم يخاطب نفسه خطاب العقل، خطاب نتيجة السمع والبصر والفؤاد الذي آتاه الله الإنسان (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3]؛ فنتيجة أنَّ عندنا الأسماع والأبصاروالعقول التي أتانا الله، تُحتِّم علينا أن لا نرضى بالخروج عن طاعته، وأن نرضى ونهْنى ونفرح بمخالفة النفوس، وتزْكيتها مِن أجله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- فإنه الذي خلقنا وهي لم تخلقنا، وهو الذي يقْدر على الإنعام علينا، وهي لا تستطيع أن تنعم علينا، غير أن تغوينا بلذائذ آنية وقتية زائلة حقيرة، فتقْطعنا عن المُلك الكبير.
(رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66))، يقول الله:
وتأمَّلوا أحوالكم يا معشر العقلاء مِن بني آدم، ومِن الجن معكم مِن المكلَّفين على ظهر هذه الأرض، تأملوا أحوالكم: كيف أنتم فيها وكيف تمُضون فيها؟ وتأملوا حقيقة الواقع ماذا يخرج عن قدراتكم وعن إمكانياتكم وماذا يجري خلاف ما تشتهون، والذي أعددتموه أو ارتحتم إليه أو ترتب عليه سببية في جلب منافع لكم، مَن الذي رتبه؟ مَن الذي أوجده؟ مَن الذي قدَّره بهذه الصورة؟ تأملوا.
هذا كله يوقفْكم على حقيقة أنكم مخلوقون وأنَّ المتصرف في الكون قوة عظمى،( قوة عظمى جليلة تقدم وتؤخر وتمرض وتشفي وترفع وتخفض وتسعد وتشقي وتعطي وتمنع.
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ..(67))، هذا من جملةِ ما يحصل لكم، الشدة التي في البحر أمثالها شدائد تحصل أيضًا في البر. (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ..(67))، لكن هذا أمر واضح جدًا بيِّن أمام الكل تحصل لهم شدائد وسط البحر وأهوال، والذين يعبدون الأصنام والذين يعبدون الشمس والذين يعبدون القمر والذين يعبدون الأبقار، ولا واحدٌ منهم عند الشدة بقوَّته ينادي صنمه ولا بقرته ولا شمسه ولا قمره ولا شيء من الكائنات الأخرى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ ..(67))، روَّح، ذهب، ضاع الذي تدعونه، الذي كنتم تعتمدون عليه وتعبدونه مِن دون الله، ضاع، ذهب، ليس له وجود في كيانكم، في شعوركم في مثل هذه الحالة، وكلكم تدعون الواحد الأحد (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ..(67))، -وحده سبحانه وتعالى- (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ..(67))، مساكين، يا ربَّ ياربّ يا الله!! فلما نجوا وهدأت الأمور ووصلوا إلى البر (مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ) [يونس:12]، ولا كأنَّ حصل له ضر ولا كأنه دعا العلي الأكبر ولا كأنَّ أحد نجَّاه مِن خطر كان فيه أبدا، ما هذا الكفران هذا الذي عند الإنسان، ما هذا الطغيان هذا الذي عند الإنسان؟! (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67)) كثير الجحود لما يؤتى ولما يُعطى ولما يرتب، ولما يُنعم به عليه (وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا).
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) الشدة والهول في البحر، (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ)، غاب ونسيتم مَن تدعونه (إِلَّا إِيَّاهُ..(67)) وحده -سبحانه وتعالى- مخلصين له الدين، وقت الشدة في البحر (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67)).
اللهم ألهم قلوب جميع إخواننا المسلمين في غزة وعسقلان،. وأكناف بيت المقدس صدق اللجأ إليك، وصياحهم بيا (الله) معتقدين أنَّ الأمر لك وردَّ كيد المعتدين الغاصبين الظالمين عليهم مِن الصهاينة، وكل مَن والاهم ردَّ كيد أولئك الكفرة المعتدين في نحورهم واجعل بأسهم بينهم، وخالف بين وجوههم وكلماتهم وادفع شرهم عن المسلمين في جميع الأقطار يا حي يا قيوم. ياالله.
(وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67))، يقول الله: أحسنوا النظر في واقعكم ووضعكم وحالكم، ولا يستفزَّكم إرادة الشهوات والأهواء وأطروحات الغافلين والفاسقين ومزخرفي القول عن حقيقة، إذا أنصفتم وتخلَّيتم عن الهوى في لحظات أدركتموها (أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ..(68))، هل قدرة الله في البحر وحدها؟ هل قدرة الله وقت شدة تقع فيها وحدها؟ ما يقدر يجيء لك بمثل هذه الشدة في وقت ثاني؟ أعقل! تبين! أنصف! دقق فكرك! شغل عقلك! مصيبة بني آدم ينحرفون ويسيئون استخدام العقل ويقولون أنهم عقلاء، العقل لو أحسنت استخدامه لهداك إلى مكوِّنه ومكونك، لهداك إلى موجده وموجدك، ولعرفْت أنه الحق؛ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت:53]؛ لكنهم يسيئون استخدام العقول ويدَّعون العقول وينحرفون في استخدام العقول.
(أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ..(68))، أما ترون أمام أعيونكم لحظات مِن الزلزال تأتي على مدينة كبيرة فَتُصَيِّرُها هباء وتكسِّر قصورها الكبيرة الثقيلة المبنية بالمسلَّح ذات القواعد العريضة في لحظات، في لحظات فسَوى كنتَ وسط البحر وعندك أمواج، وإلا قاعد وسط البر! وبعد ذلك!!! صاحب تلك القدرة هل عدِمْ؟!!! هل غاب؟ صاحب القدرة ذيك هل عَدِم؟ وأنت في البر مكانك، إذا أراد يزلزل بك في لحظة واحدة تتزلزل.
(أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ..(68))، طيب إذا ضعفتْ عقولكم عن هذا الفكر الصحيح القائم على المقدِّمات الصحيحة مما تشاهدون بأعينكم وتسمعه آذانكم وتدركه عقولكم، ضعفتم وعجزتم عن إدراك هذا الأمر؛ أنَّ أي واحد منكم في أي بقعة مِن بقاع الأرض في البر، نستطيع أن نهلكه أو نزلزل به أونخسف به الأرض أو نسقط عليه أي قاتل يقتله، أما تعلمون: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء:78].
(أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ..(68))، تماديتم في طغيانكم وما قدرتم أن تستحضرون هذه الفكرة، خذوا(أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ..(68))، شيء تُرمون به -حاصب- رميًا يتوالى عليكم فيحْصبكم كما أرسلنا على قوم لوط: (أَوْ نُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)) يتوكل عنكم في كشف الضر غير هذا الإله -جلَّ جلاله- كما كنتم في البحر، ضعف عقولكم عن إدراك المثال الأول والمثال الثاني، تابعوا الفكر حتى مع أدنى مُسْكة مِن العقل.
(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ ..(69)) في هذا البحر الذي قلتم "يا الله" فيه ورجعتم ونسيتم آلهاتكم، يردَّكم ثاني مرة إلى البحر بأي دواعي، وبأي أسباب نضطرَّكم أن تركبوا في البحر، وثاني مرة تأتي لكم الأمواج الشديدة، والرياح ثاني مرة -بسم الله الرحمن الرحيم- أين ستذهبون.
(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ) -مرة أخرى- (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ ..(69))، ريح شديد تقصف كل ما تمرّ عليه (قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ )، طيِّب يا جماعة فكروا تأملوا. لِم تنسون الواقع؟ لِم تنسون براهين ساطعة أمام أعينكم؟ ولها أمثلة في واقعكم وليس في حساباتكم ولا قدراتكم ما يصونكم مِن ذلك ولا يمنع عنكم ذلك أنتم لا تستطيعون أن تتوصلوا بتكنولوجيا ولا غيرها إلى منع الأرض أن تتزلزل، ما تستطيعون أن تتوصلوا إلى منع الريح أن تهب، ما تقدرون على ذلك، أنتم لا تستطيعون أن تغيروا طبيعة البحر.
مثل لما تشدَّق مَن تشدق في زمانكم واجتهدوا في صناعة سفينة كبيرة عظيمة وبأحدث الأشياء قال: هذه التي لا يمكن أن تغرق أبدا. في أول جري لها في البحر غرقت! وبعد؟ وبعد؟! ما تدركون! أين العقول؟ أين مشاهدة ومعاينة الواقع وقراءته القراءة الصحيحة بالعقل المتزن؟!
(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ) وإذا كان ذلك منا فهل عندكم قوات بتنتقم لكم وبترجع تتابعنا (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69))، في أحد بيثأر لكم!! وإلَّا بيطلب الثأر!! وإلَّا بيأتي بيقول هات حق هؤلاء؟ و إلّا هؤلاء اللي غرقتهم؟!! هل هناك أحد يقدر يطالب بشيء -لا إله إلا الله- بعضكم أحيانا يتطاول على البعض ويعتدي، ويقومون ينتصرون له الجماعة ويقولون، سلِّموا حق هذا، وليش عملته، لكن يقولون لكم إذا بنغرقكم ونعمل لكم شيء هل هناك أحد منكم بيطالب؟! هل هناك أحد منكم يقدر يتابعنا في شيء؟ هل هناك أحد منكم يطالبني في شيء؛ أُلوهية، ربوبية، ملك الملوك. اعقلوا!!! يصدون ويضيعون، ويجترؤون، ويجحدون، ويذكرون، وبعد ذلك كلهم يصيرون إلى قبضته، ويموتون ويبكون ويندمون ولا ينفع الندم (أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَنُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ۙ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69))، لا أحد سيتابع وراكم ويقول ليش غرق هذا وإلا هات لنا هذا. الملك ملكه والأمر أمره -سبحانه وتعالى-.
يقول: وانظروا ما منحناكم: خلقنا خلق كثير وميَّزناكم. ما لكم، ما لكم لا تشكرون؟! ما لكم لا تؤدون حق هذا؟! (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ..(70))، يا بني آدم أمامكم حيوانات تميزتم عنها، أمامكم نباتات تميزتم عنها، أمامكم جمادات تميزتم عنها.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) وأعطيناكم هذه المعطيات -وما أشرنا إليه مِن هذه النعم- وخلقناكم في أحسن تقويم، وبإجساد مستطيلة، وتتناولون الأشياء بأيديكم؛ هيئة أكلكم أحسن هيئة، هيئة تعاطيكم للأشياء أحسن تعاطي هيئة، مشْيكم أحسن مشية، لا مثل مشي الطير، ولا مثل مشي الجمل، ولا مثل مشي الخيل، تمشون على الرجلين استقامة، بأحسن تقويم.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..(70))، وحملناهم في البر على الحيوانات وعلى الدراجات وعلى السيارات وعلى الطائرات وفي البحر على هذه السفن، والطائرة تمرُّ فوق البحور (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يقول الله: حملناكم، بتقدير مَن يتم هذا الحمل؟ الحيوان ما سخرتموه بقوتكم، ولو نظرتم إلى الشكل والقوة والحجم، هذه الإبل مسخَّرة لكم على سبيل المثال، وعندكم حشرات كما هذه صغيرة غير مسخرة لكم، عندكم عقرب وعندكم حية، هيا اذهب أنت والحية بنشوف، ماذا ستعمل فيك؟ ويجيك الجمل الكبير هذا وتحت أمرك وحمِّل عليه فحتى الولد الصغير يمسك زمامه يجلِّسه ويقوِّمه، (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) [يس:72]، قال: نحن اللي حملناكم ما هو أنتم بقدرتكم، ولو أعطينا أدنى تسليط لهذا الجمل، ماذا تقدر تعمل أمامه؟!! الرمحة الواحدة بيده أو برجله ستوصلك بعيد، وانتهيت؛ لكن الله سخره (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) [يس:72].
وقال: نحن الذين حملناكم، ليس أنتم الذين رتبتم هذا الحمل، ولا فكرتم في كيفية الدراجات والمشي عليها؛ الهواء ووضعه والأدوات، هذه كلها نحن خلقناها، وألهمناكم؛ تضع هذا مِن شأن تسبب هذا في هذا وتمشي كذا والسيارات بعد ذلك بأصنافها، والطائرات ألهمناكم كيف تمشي في الفضاء، كما أمشينا أمامكم الطير، وقمتم تقلدون وتبحثون عن سُنتنا: كيف نوجد ذلك؟ وكيف نُكوِّن نحن ذلك؟ ليس أنتم بأنفسكم، وتأخذون من موادنا بما نُلْهم أفكاركم من عندنا وترتبونه ونحن الذين نحملكم، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ) [الملك:18]، (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل:89].
أُرْزُقْنَا كَمَالَ الْإِيمَانِ يَا رَبَّنَا قال: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..(70))، واسمعوا، كلكم حملناكم في سفينة فيها نوح، وإلَّا نسيتم؟ الذين كفروا بنا في ذلك الوقت، أهلكناهم ما حد باقي منهم ولا لهم ذرية، إلاَّ الذين وسط السفينة بقوا، وإلَّا با يبقى بني آدم واحد، وذي الملايين من بني آدم، كلهم كانوا وسط السفينة مع نوح، ذريتهم مَن حملنا مع نوح، (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3))، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:11-12]. قال: كرمناكم وحملناكم، انظر وقد جاء الطوفان سياخذكم كلكم، لكن أباءكم لما كانوا مؤمنين وآمنوا بنبينا نوح، حملناهم وأنتم في أصلابهم، وحملناهم معكم وأبقيناكم كرامة منا، وبعد ذاك تجون وتجحدون بنا، تجحدوننا وتكفرون بنا وتكذبون آياتنا!!! الله، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:11-12]، وجاء في الخبر أنهُ لمَّا قرأها ﷺ قال: "اللهم اجعلها أُذن علي"، فكانت مِن أوعى الآذان لأسرار هذه الحكمة الربانية.
قال: (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ..(70))، أنواع الأرزاق طعامًا وشرابًا وملبسًا ومسكنًا وهواًء وصحةً (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70))، فضلناهم على كثير ممن خلقنا مِن أصناف الكائنات والمخلوقات.
وتابعت الميزة ابن آدم حتى مع الملائكة، فجُعل فينا أنبياء أفضل مِن الملائكة، وجُعل فينا صدِّيقين أفضل مِن عوام الملائكة، الله أكبر، وكانت الكرامة حتى جاء في بعض الأحاديث قالت الملائكة: ربنا خلقت بني آدم هؤلاء وجعلت لهم مأكلًا ومشربًا ومنكحًا ولم تجعل لنا شيء مِن ذلك، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فأوحى الله إليهم لا، مَن آمن منهم بي وصدقني ما أجعل سلالة وذرية مَن خلقتُ بيدي، مَن آمن منهم بي وقام، كمن كونته بكن فيكون، أنتم كونتكم بكن فيكون؛ ولكن عنايتي كانت بخلق آدم، خلق بني آدم خاصة؛ فلذا كان:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)).
لك الحمد يا رب، فارزقنا شكر النعمة، إجعل كل مِن أهل المجلس ومَن يسمعنا فيمن تسير به مسار الشكر؛ فتبعثه مع الشاكرين، (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3]، لا تجعل فينا ولا في أهل ديارنا كفورا.
يقول: في الحديث، جاء مَن قال هذه اللفظة عندما يرى مُبتلى بأي بلية: "الحمدُ للهِ الذي عافَانِي مِمَّا ابتلى به كثير من خلقه، وفضلنا على كَثيرٍ مِمَّنْ خلق تَفضِيلًا، لم يُصب بتلك البلية" أبدا، لم يبتلي بتلك البلية، إذا قال عند رؤية البلية مبتلى بأي بلية: "الحمدُ للهِ الذي عافَانِي مِمَّا ابتلي به، و فضَّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلًا"، لم تصبه تلك البلية أبدا.
وذكر المآل بعد ذلك: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ..(70))، قال: أنتبهوا مِن أئمتكم لا تتبع واحد ملحد، واحد شرير، واحد فاجر، واحد كافر، بتقع الدعوة به في القيامة بعد ذلك، ستذهب معه، أنتبه لنفسك، ستذهب مع مَن؟ (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، انتبهوا!! تتبُّع الأنبياء وتتبُّع المقربين، الصديقين، بتدعى بهم وتقع معهم وإن لويت عقدك بساقط وهابط بتقع الدعوة به يوم القيامة والعياذ بالله.
كما يأتي معنا إن شاء الله شرح هذا الكلام العظيم مِن ربنا العظيم، ارزقنا كمال الإيمان والاستقامة على الصراط المستقيم، اللهم بالقرآن ومَن أنزلته عليه، فرج كروب أهل غزة والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ورد كيد المعتدين مِن الصهاينة ومَن والاّهم في نحورهم يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا هازم الأحزاب، يا مجرى السحاب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، يا قوي بيدك الأمر كله، فلا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ولا تجعلنا فتنة للكافرين، نجنا مِن القوم الكافرين، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا إنك أنت العزيز الحكيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك مِن القوم الكافرين، وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا أفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين برحمتك -يا أرحم الراحمين- واجعل في هذه النازلة التي نزلت بنا جمعًا لقلوب المسلمين في فلسطين، وفي العالم على الوجهة إليك، وعلى الإيمان بك، وعلى إرادة نصرك ونصر رسولك، ومزق اللهم ما كان بينهم مِن تشتيت، وما كان بينهم مِن تحريش، وما كان بينهم مِن تفرق وتمزق، وحرك في قلوبهم نصرتك ونصرة رسولك، واجعلنا بذلك مِن سعداء الدارين -يا رب الدارين- أصلح شؤوننا والمسلمين اجمعين، واختم لنا بالحسنى وأنت راض عنا برحمتك.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد،
اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
03 جمادى الأول 1445