تفسير سورة الأنبياء -16- من قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} إلى آخر السورة

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء 

{ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) }


مساء الإثنين 3  جمادى الآخرة 1447هـ

نص الدرس:

الحمدلله مُكرِمنا بالقرآن والتنزيل، وبيانه على لسان أكرم هادٍ ومعلمٍ ودليل، سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، اللهم أدِم صلواتك على عبدك الجامع لكل جميل سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أهل التفضيل، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسانٍ في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الكرامة والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أمَّا بعد،

فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله- وتعليمه وتوجيهه وإرشاده، وتنزُّله لنا بالتوجيه والإنباء، وصلنا في أواخر سورة الأنبياء لقوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-: (إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)) فيا فوز العابدين! قد جاءهم ما يُبلِّغُهم.

  • ما يُبلِّغهم إدراك الحقيقة.
  • وما يُبلغهم الاستمساك بالعروة الوثقى.
  • وما يُبلغهم إلى دخول الجنة.
  • وما يُبلغهم الوصول إلى الرحمن -جلَّ جلاله-.

(إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا) كفايةً ومُبلِِّغا مُوصِّلًا (لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)، آمنوا بي وعملوا بِمُقتضى الإيمان، إن في هذا القرآن الذي أوحينا إليك والآيات التي أنزلنا عليك (لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) اللهم اجعلنا من العابدين، وبلِّغنا في الدارين أسنى وأجل وأعلى ما بلَّغت به العابدين.

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) يَا عَبْدَنَا وَصَفِيَّنَا يَا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ (إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد جاء في صحيح مسلم أنَّه قال : "إنما بُعِثتُ رحمةً ولم أُبعث عذاباً"، ولما قيل له: اُدعُ على المشركين، قال: "إنِّي لم أُبعَث إلَّا رحمة"، وقيل له كما جاء في الرواية الأخرى: ألا تلعن المشركين؟ قال: "لم أُبعث لعانًا ولا طعانًا، وإنما بُعثت بالحنيفية السمحة، وبُعثت رحمة"، فقال ﷺ كما جاء في رواية البيهقي وغيره: "إنَّما أنا رحمة مهداة"، وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كما روى أبو نعيم في الدلائل: "إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدىً للمتقين" يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه.

فكان رحمة الله للعالمين، فلا يجد العالمون خيرًا لهم مِن بيانه ومن إنبائه، ومن هدايته وإرشاده وتوضيحه، وما فتح الله على يده من أبواب الرحمة؛

  • فجاءنا عن الله -تبارك وتعالى- بالكتاب المنَزَّل والبيان له بما وضَّح  وفصّل، وبما أمر ونهى، وتركنا على المحجَّة البيضاء،
  • فكان الرحمة لجميع الأمة، وجُعلت خير أمة.
  • ثم كان للكفار والفجار أن لا يُعجَّل لهم ما عُجِّل للأُمم السابقة من الاستئصال السريع بالعذاب، فكان رحمة.
  • ثم إنه باقٍ خيره وهُداه، وما بُعث به يستطيع كل منهم أن يتبيَّنه وأن يتصل به، وأن يهتدي به في كل وقت.
  • ثم إنه بالنسبة للذين آمنوا، ما أعظم رحمة الله به! كانوا هم الأخيار وخير أمة، وكانوا به المُتقدّمين على جميع الأمم في مواقف القيامة؛

ولهم عجائب من الإفضال والنوال، والمغفرة الكبيرة للذنوب الثقال، ولهم تيسُّر الكفارات للذّنُوب ومحو السيئات، ولهم مضاعفة الأعمال الصالحات، ولهم ليالٍ فاضلات، ولهم صلوات، ولهم عبادات، ولهم قُربات، ولهم فتوحات، ولهم تأييدات، ولهم مغفرة ورحمة من ربِّ الأرض والسماء، وعطايا كبيرة إذ تنتهي إلى الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ كل هذا مِن رحمة الله لنا بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)) فصلِّ يا ربِّ على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، عبدك المختار سيدنا محمد، وارحمنا به برحمتك الواسعة، واختصنا برحمتك يا من يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.

(قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ (108)) جِئتكم بحقيقة التوحيد وخالص التوحيد، وجئتكم بركائز الإيمان، وأنّ الإله الذي أوجَد الوجود وكوَّن الأكوان واحد، فرد صمد، حي قيوم.

(قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ) في هذا الختِم للنبوة والرسالة من وحي الله (أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108)) تتركون عبادة الأوثان واتِّباع الهوى، وتُعظّموا أمر الإله الواحد وتقوموا بأمره في الحياة.

(فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا (109)) وأبوا أن يصدِّقوا ويُذعِنوا ويُسْلموا (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ (109)).

  • (آذَنتُكُمْ) أعْلمتكم -من الإيذان- يعني: أحسنتُ البيان لكم في أمر ما بُعِثت به وما كتمتُ شيئًا عنكم.
  • (آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) على منهج سويّ، وأعْلمتكم بشأن حقيقة ما بعثني الله به، وبشأن ما يترتّب على الإيمان وعلى الكفر، والمصير لكلٍ من المؤمنين والكافرين (آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ).
  • و(آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) أنَّ من صدَّ منكم عن سبيل الله وقاتل فإنَّي أقاتله بأمر الله -تبارك وتعالى- على بيّنة، لا أغدر ولا أغش ولا آتي فجأة، ولكن إنذار على سواء، كما قالوا: (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) [الأنفال:58]، أمر بَيّن.
  • (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) أعلمتكم على مسلك سَويّ، واستوينا في العلم بهذا الذي بُعِثتُ به، وبمصير مَن آمن ومَن كفر، وبأننا نحارب مَن حارب وصدَّ عن سبيل الله تبارك وتعالى.

يقول: (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي) ما أدري (أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109)).

(ما تُوعَدُونَ) من الأمر الأكبر وهو القيامة، والعذاب والنعيم هناك.

و (ما تُوعَدُونَ) في الدنيا؛ من نصر المؤمنين عليكم إن أبيتم إلَّا الكفر، وظهورهم عليكم، أو إذنُ الحق لهم بقتالكم؛ أمر كائن لا بدَّ منه. 

لا بدَّ أن يظهر المؤمنون على الكافرين، ولا بد أن ينتشر هذا الدين حتى يعم الأرض، ولا بد أن يُعذّب الكافرون في القيامة وفي النار، أمر لا شك فيه ولا ريب؛ ولكن متى؟ هذا الأمر الذي غيّبه الله عن العباد (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ)، كلُّ مِن هذا الأمر الذي وُعِدتم به ما أدري يكون قريب أم بعيد، يُفْسَح لكم في الأجل الواسع، أو يكون قريبًا.

(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ) ولكنه آتٍ ولا ريب فيه.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ (110)) إنّ الإله الواحد الحقّ الذّي بعثني يعلم الجهر (مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110))، ومن كان وصفه هذا:

  • فأولى أن يُهاب. 
  • وأولى أن يُتَّقى. 
  • وأولى أن يُخضع لجلاله. 

فإنّ مصير من كابَرَهُ، ومن عانده، ومن جحد به؛ شنيع وشديد، لا يفوته شيء، ولا يمكن أن يُخفي عليه أحدٌ شيئًا. 

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) استوى عنده السرّ والعلانية، (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:76] ومَن كان هذا وصفه: 

  • كيف لا يُهاب؟! 
  • وكيف لا يُتَّقى؟! 

يقول: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) وتُخفون، وتُسِرّون في أحوالكم، وفي نفوسكم.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي (111)) أي وما أدري (لَعَلَّهُ (111)) ما بُعِثت به إليكم، وما وُعِدتم به، أو تأخيره، تأخير العذاب عنكم إلى مدّة حدّدها الله -تبارك وتعالى-، وعدم استعجال مجيء العذاب إليكم، (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ) اختبار، اختبار لكم، (وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)) أجلٍ معيّن:

  • لا يتأخّر فيه العذاب عمّن كتب الله تعذيبه.
  • ولا يتأخّر الأجل عمّن كتب الله أجله.
  • ولا يتأخّر موعد القيامة عن الوقت الذّي رتّبه الله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17] حد محدود فسيأتي.

(لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)) ومن هنا يأتي افتتان النّاس: 

  • بتأخير كثير من الوعد.
  • تأخير كثير أيضًا ممّا يوعدون به ويُنذرون.

وهكذا يُنازِل الأمم استبطاءً لكثير ممّا يعدهم به الأنبياء؛ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ)؟ فأين ما تعِدنا به يا نبيّ الله؟ أين ما ذكرت لنا يا رسول الله؟ يقولون لأنبيائهم هكذا، (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، أنتم تستبطئون والأمر مربوط من قِبَل الخلاّق بزمن، لا يتقدّم ولا يتأخّر، ويأتي كلّ شيء في وقته. 

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)) ولهذا لا يثبت ويصمد على التّقوى والصّدق مع الله أحدٌ إلا كانت العاقبة له، من قريب أو بعيد، وإن طال زمن الابتلاء والاختبار والامتحان، أو تسليط الأعداء في شيء من الشؤون؛ فالعاقبة والنهاية والنتيجة لهذا المُتّقي الصّادق الصّابر الثّابت! فلا تستعجل الأمر.

كما قال ﷺ لمّا جاء يشكو إليه سيّدنا خبّاب بن الأرت، وجاء إليه سيّدنا عمَّار بن ياسر: ألا تدعو الله لنا؟ وجلس، كان عند الكعبة، فقال: "إن فيمن كان قبلكم من يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقِه ويُشق نصفين، ما يرده ذلك عن دينه، وإنّ فيهم من يُمشَط بأمشاط الحديد حتى يُخلَع لحمه ما بين عظمه ولحمه، فلا يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون".

وهكذا، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)) يتمادى المجرم والظّالم ويظن أنّه ظفر وانتصر (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس:24] -لا إله إلا الله-.

وهكذا قالوا لأنبيائهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف:22]، سيّدنا نوح يقول لهم: (إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) لا تستطيعون أن تهربوا ولا تؤخّرون العذاب، فيوم يجيء ما تقدرون أن تؤخّرون شيئًا، اخرجوا من وهمكم وخيالكم وضَلالكم هذا! (إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود:33-34]. 

وبعد ذلك أوحى الله إليه: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) تُكذّبون بآيات الله وبرهانه الواضح وما أرسلني به؟! (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ) [هود:37-43].

لا جبال، ولا تكنولوجيا، ولا أسلحة دمار شاملة، لا شيء سينجّيه من عذاب الله؛ يا بُلداء، يا غافلين، يا جهّال! لا شيء ينجّي من عذاب الله، لا يقدر أحد أن يرد سخط الله، ومقته إذا جاء الغضب! 

(قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:43]، وهكذا: 

  • (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). 
  • يقول سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) -لا إله إلا الله-. 
  • (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا). 
    • وكلّهم قالوا: متى هذا؟ ماذا معكم؟ ما خبركم؟
    • وكلهم قالوا كذا وكلهم رحلوا. 

فلا تغْتر من بعد، ولا تفتتِن بشيء، الأمور لها مواقيت، محمد صادق، ولا أصدق منه في الخلائق، لا في الأرض ولا في السماء، وما قاله كائنٌ. 

بل قال:

أَرانا الهُدى بَعدَ العَمى فَقُلوبُنا *** بِهِ موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقِعُ

وَفينا رَسولُ اللَهِ يَتلو كِتابَهُ *** إِذا انشَقَّ مَعروفٌ مِنَ الصُّبحِ ساطِعُ

يَبيتُ يُجافي جَنبَهُ عَن فِراشِهِ *** إِذا استُثقِلَت بِالمشركين المَضاجِعُ

أَرانا الهُدى بَعدَ العَمى فَقُلوبُنا *** بِهِ موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقِعُ

صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. 

وجعل لنا الشعار في أعيادنا: "صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" لا إله إلا هو، جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.

قال: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)، فبشِّر الصابِرين وبشِّر الصادِقين في كل وقت، في كل زمن، و في أي مكان، من ثبت وصدق مخلصًا لوجه ربه فبشِّره بالنّصر وأن العاقبة له كائنًا ما كان.

لما شكى قوم سيدنا موسى إلى سيدنا موسى قالوا: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129]، بعد ذلك قال الله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]؛ ذهبوا هم والذين معهم، أين الذي قال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ) [الزخرف:51] أين ذهبت؟ -لا إله إلا الله- وأين ما كان من خِبرهم وشأنهم ذلك كله؟

يقول -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) وهذا الذي حصل لِمن قبلهم، وهذا الذي حصل لمن بعدهم، وهذا الذي سيحصُل لمن شابههم في زماننا، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:23]، لا أحد يقدر يؤخّرِها أو يحذِفها أو يُبعِدها، ولكن لها وقتها ولها أمدها، فيا خيبة الظالمين ويا خيبة المُجرمين، ويا خيبة المُعانِدين لإلههم الخالِق، ويا فوز الصادِقين، ويا فوز الصابِرين، ويا فوز الثابِتين. 

فيا ربَّ ثبِّتنا على الحقِّ والهُدى *** ويا ربَّ اقبِضْنا على خيرِ مِلَّةِ

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111) قُلْ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ (112))، وفي قراءة: (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ)، وكان ﷺ إذا جاء إلى الجهاد والقتال قال: (رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ)، ومعنى (رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ) يعني: افْصِل بيننا وبين القوم بإظهار الحق وإهلاك الباطِل وأهله (قُلْ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ) -لا إله إلا هو-.

كما كان يقول الأنبياء.. 

  • قال الله عن سيدنا شعيب: (بَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف:89].
  • فقال الله لنبيه: (قُلْ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ)
    • وأذلَّهم الله في يوم بدر. 
    • وردّهُم الله في يوم الخندق. 
    • وأذلّهم الله -سبحانه وتعالى- ونصره عليهم يوم الفتح. 

وهكذا.. (قُلْ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ) -جلً جلاله- الواسِع الفضل للمُقبِلين عليه والمُتوجّهين إليه.

(وَوَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)) أنا مُتوكلٌ عليه، أنا مُنزّهٌ له، وأنا مُتوكل ومُعتمِد عليه. 

(الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) من أقاويلكم بالباطل وتهديداتكم وتجرُّؤكم، وقولكم بالكفر والشرك بحق الحق -تبارك وتعالى-، وتهديدكم للرسول والمؤمنين. 

الله (وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)) -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) يقول الذي آمن من قوم فرعون، وهكذا (فَفَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر:44-45] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام:135]، (وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) -جلّ جلاله-.

 ارزقنا كمال الإيمان واليقين، وألحِقنا بالنبيين وأتباعِهم من الصدّيقين والمُقرّبين والشُّهداء والصالحين، ولا تُخلِّفنا عن ركبِهم يا أكرم الأكرمين. 

وأرِنا في أمّة نبيك الأمين ما تُقرُّ به عينه ويُسرُّ به قلبه وفؤاده، وما تُسرُّ به قلوب الصالحين من عبادك أهل ودادك يا الله، في أنفسنا وأهلنا وزمننا وفي هذا الزمن وبلداننا وأوطاننا وفي المسلمين في المشارق والمغارب، أرِنا فيهم ما تقرُّ به العين وما تُسرُّ به قلوب الصالحين، وردّ عنّا كيد الماكرين والفاجرين والمُفسدين والظالمين والمُعتدين، يا قوي يا متين، أنت المُستعان وعليك التُّكلان وعليك الاعتماد وإليك المصير لا إله إلا أنت.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147]، (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس:85-86]، (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة:4-5]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].

اللهم انظر إلى أهل مجمعنا ومن يسمعُنا واجعلنا من جندك وأهل محبتك وودِّك، الموفين بعهدك يا الله، ثبّتنا على ما تُحبّه منّا وترضى به عنّا في الحسّ والمعنى، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وتولّنا بما أنت أهله حيثما كنّا وأينما كنّا.

 بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد ﷺ

تاريخ النشر الهجري

10 جمادى الآخر 1447

تاريخ النشر الميلادي

01 ديسمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام