(370)
(339)
(535)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
مساء الإثنين 7 ربيع الثاني 1447هـ
الحمدلله رب العالمين، مُكرمِنا بالوحي والتّنزيل وبيانه على لسان خير هادٍ ودليل، عبده المصطفى محمّد الهادي إلى أقْوم سبيل، صلِّ يا ربِّ وسلّم على عبدك المختار سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه خير جِيل، وعلى مَن والاهم واتّبعهم بإحسان على مدى الأزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعت لهم القدر والشأن، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنّنا في نعمة تأمّل كلام ربّنا وإلهنا وتعليمه وإرشاده، مررنا في سورة الأنبياء على ذكر:
وليس برزقٍ له، وإنّما جُعل بطنه مأوى وسِجنا للنّبيّ يونس عليه السلام إلى حين أن يُخرجه بأمر الله تبارك وتعالى، فيقذف به على شاطئ البحر.
قال الله سبحانه وتعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا.. (87))، وهو قد أرسله الله إلى أهل قرية في العراق من قُرى المُوصل، يقال لها؛ نِينَوَى، كان منها.
وفي الحديث أنه ﷺ لمّا رجع من الطائف وبعد أن رَمَوه بالحجارة، حتى وصل إلى قرن الثّعالب، فجلس بجانب بستان لبعض قريش، منهم: العُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وفيه عنب، فلمّا رأوه، والحال الذي هو فيه -وهم لا زالوا مشركين، هم مشركون كفّار- رقُّوا له، وأمروا خادم عندهم اسمه عَدَّاس -من أهل نِينَوَى- كان نصرانيّا، فقالوا خذ هذا العنب وأعطه لذلك الرجل وصاحبه، كان معه سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه، وزيد بن حارثة كان يتلقى الحجارة لئلا تصيبه ﷺ، فأصابت رجليه الكريمتين كثير من الحجارة حتى سال الدم من عقبيه -مؤخر الرِّجل- وكان قليل لحم العَقِب، وكانت تدقّ في عظم عقبه حجارة هؤلاء القوم، ﷺ.
رقّوا له وهم مشركون، فذهب إليه؛ فسلّم إليه العنب، فمدّ يده وقال: "بسم الله". فتعجّب، قال: تقول كلاما ما أسمع أحداً يقوله هنا. قال: "من أين أنت؟" قال: أنا عدّاس، من نِينَوَى. قال: "تلك بلدة الرّجل الصالح أخي يونس". قال: أنت تعرف يونس؟ قال له: "إنه نبي مثلي، وأنا نبي"، ﷺ، فرأى خُلقه ومعرفته، وخرّ يُقبّل رجليه ﷺ، ورأوه ممن كان هناك، ودعَوه؛ تعال مالك؟ قال: إن هذا نبي، قالوا له: لا! إبقَ على دينك ولا تتبع هذا الإنسان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهم في قلوبهم غيظ -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهم يعلمون أنه الصّادق وهو المُرسل. فلمّا قال له من نِينَوَى، قال: تلك قرية أخي الصالح يونس بن متَّى عليه سلام الله وصلواته.
(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ) -من قريته وخرج- (مُغَاضِبًا):
فخرج لذلك، حتّى ركِب في السّفينة، فنَازلهم الهول، فقالوا: فينا واحد هرب، خرج من غير إذن مالكه، وهو في السفينة، فكانت عادتهم، فعملوا القرعة فطلعت على يونس، فرموه في البحر، والحوت قد جاء منتظره، وأخذه الحوت إلى بطنهِ وغاص به في البحر.. لا إله إلا الله!
(إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ.. (87)):
فما درى بنفسه إلا وهو في وسط بطن الحوت، وفي ظلمة البحر وظلمة الليل، فإذا هي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، لا إله إلا الله!
(إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)): ظلمت نفسي بِاسْتِعجالي في الخروج، والآن وقعت في هذه الشدة، ولا مُنجّي إلا أنت؛ فكانت هذه دعوة النبي يونس عليه السلام.
قال ﷺ: "أفضل الدعاء دعاء أخي يونس: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"؛ وفيه توحيد وتقديس واعتراف، ليس فيه طلب، ليس في ظاهره طلب، ولكن الكريم إذا مجّدته وعظّمته وتذلّلت بين يديه هو الذي يُكرم ويُعطي سبحانه وتعالى.
ونحن في ظلمات الأهوال والحوادث التي حلّت بالمسلمين والشدائد، نُنادي الرّبّ الأعلى: لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فبسِرِّ قولك: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)، استجب لنا يا رب، وبسِرِّ قولك: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، نَجِّنا من كل غمّ، وأنجز لنا وعدك فيما قلت:
فينبغي الإلحاح على الله بمثل هذه الدعوة عند الشّدائد خاصّة، وفي مختلف الأوقات: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (88)).
فقال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ..(89))، وذلك أنّه كبُر ولم يكن له ولد، وكان الذي وقعت في يده للتّربية والكفالة سيدتنا مريم، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) وكان بَنَى لها مكاناً في بيت المقدس تعبد الله فيه، ويتفقّدها حيث يأتيها بالطعام من وقت إلى وقت ويخرجها لحاجتها، (لَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا)، هذا الأكل أمامه والمكان مقْفل ومفتاحه معه، (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) [ال عمران:37-38]:
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا)، واحداً، ليس عندي أحد يرثني، ولا يقوم من بعدي بأمر هذه الأمانة، (وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89))، ترِث الأرض ومَن عليها، والمرجع إليك..
قال: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)) ففيه:
رزقنا الله ذلك.
ربّي عليك اعتمادي *** كما إليك استنادي
صِدقًا وأقصى مُرادي *** رضاك الدّائم الحال
يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ.. (90))، والحق تعالى يرجع إليه كُلّ شيء (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]، قال (وأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، كل واحد يفوت ويموت وأنت الحي الذي لا تموت، وكلّ شيء يرجع إليك، لا إله إلا هو.
قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ)، نادته الملائكة أن الله يبشرك بغلام: (بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) [مريم:7]،
قال: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ..(90))، وهي عاقر ورجعت حامل، والله يقدر أن يجعل الولد يأتي من العاقر، جلّ جلاله.. (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ).
قال الله عن هؤلاء كلّهم الذين تقدّم ذِكرهم من ساداتنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ من سيدنا إبراهيم عليه السلام، وساداتنا لوط وإسماعيل وإسحاق، وسيدنا سليمان وداود وزكريا ويحيى وأيوب، كل هؤلاء ذكرهم سبحانه وتعالى، فقال:
(إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. (90)) مهمتهم في الحياة يتقنّصون مرضاة الله بالطّاعات فيرغبون في كلّ ما يُقرّبهم إلى الله، فيُسارعون إلى فعل الخير من الصالحات التي شرَعها الله لهم:
(إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ):
وهكذا لمّا أصاب قبل مدّة زلزال في تركيا، وجاءوا إلى بعض الأنقاض ليخرجوهم، إذْ بامرأة صالحة قالت لأمها هاتوا قميص (ثوب الصلاة) أريد أن أصلّي. والناس في أنقاض وتعب وخائفين من الموت، وهذه تريد أن تصلي، قالت أريد أن أصلي أولا، لن أخرج، إلا بعد أن أؤدي الصلاة، وهي تحت الركام، اخرجوها؛ فقلْبها مُعلّق بالصلاة.
(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، يُلِحّون علينا ويسألوننا، ويجعلون حاجاتهم إلينا، وكلّما حَزَبَهم أمر أو نازلهم شيء، رجعوا إلى الله ودعوا الله تعالى، رَغَبا فيما عنده من الخير، ورَهَبا من عذابه وعِقابه وسَخطه جلّ جلاله..
وقد كان الخشوع منتشر، كل مَن آمن بالحبيب ﷺ كُسِي كسوة الخشوع، تجدهم في الصلاة وخارج الصلاة، حتّى في الأسواق عليهم أثر الخشوع، خاشعون لله تبارك وتعالى.. لا إله إلا الله.
(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90))؛ فقصُر ذلك:
(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)) فمَن يعرف قدر علم الخشوع يعرف مكانته ويطلبه، هنا بعلوم كثيرة، ولكن هذه العلوم التي هي أنفع وشأنها عظيم في القيامة وإلى الأبد، ما الذي أغْفلنا عنها؟ ما الذي باعدنا عنها؟ ما الذي جعلنا في إهمال لها ونسيان لها؟ سيدنا ابن مسعود سماه علم، "فأوّل عِلْم ينزع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا تكاد تجد خاشعاً".
وهذا وصف الله لهؤلاء الأنبياء: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90))، ومَن حضَر قلبه، وتأمّل المعاني، وخاف أن لا يُقبَل، ورجا القبول، وكان معظِّما مجلَّا، وكان فيه حياء؛ فهو الخاشع.
هذا الخشوع، ينتظم من الستة المعاني:
فمن جَمع السّتة المعاني فهو الخاشع.
وهذه كانت مجموعة في الصّالحين حيثما كانوا، وإن ازداد أثرُها في الصلاة، فهم في خارج الصلاة كذلك، ويحقّ لهم وصف الله: (الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:23]، دائم وهم في صلاة؛ إذا قاموا بها؛ ولكن قلوبهم في الصلاة حتى إذا خرجوا من الصلاة، فقلوبهم في صلاة، وخشوعهم دائم لحضرة الله.
الله يُلحِقنا بالخَاشعين، ويجعلنا في الهداة المهتدين، ويجعل فينا صفات النبيّين، ويُصلح شؤوننا والمسلمين أجمعين، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة
09 ربيع الثاني 1447