تفسير سورة الأنبياء -12- من قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ...} الآية 87 إلى 90

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأنبياء  

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) 

مساء الإثنين 7 ربيع الثاني 1447هـ

نص الدرس:

الحمدلله رب العالمين، مُكرمِنا بالوحي والتّنزيل وبيانه على لسان خير هادٍ ودليل، عبده المصطفى محمّد الهادي إلى أقْوم سبيل، صلِّ يا ربِّ وسلّم على عبدك المختار سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه خير جِيل، وعلى مَن والاهم واتّبعهم بإحسان على مدى الأزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعت لهم القدر والشأن، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعد،،،

فإنّنا في نعمة تأمّل كلام ربّنا وإلهنا وتعليمه وإرشاده، مررنا في سورة الأنبياء على ذكر: 

  • سيدنا ذا النون، أي صاحب النون، والنون: الحوت. 
  • وهو الذي هيّأ الله له حوتًا كبيراً في البحر يبتلعه إلى بطنه. 
  • ولا يمسّ شيئا من لحمه ولا يهتك شيئاً من عظْمه. 

وليس برزقٍ له، وإنّما جُعل بطنه مأوى وسِجنا للنّبيّ يونس عليه السلام إلى حين أن يُخرجه بأمر الله تبارك وتعالى، فيقذف به على شاطئ البحر.

قال الله سبحانه وتعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا.. (87))، وهو قد أرسله الله إلى أهل قرية في العراق من قُرى المُوصل، يقال لها؛ نِينَوَى، كان منها.

 وفي الحديث أنه ﷺ لمّا رجع من الطائف وبعد أن رَمَوه بالحجارة، حتى وصل إلى قرن الثّعالب، فجلس بجانب بستان لبعض قريش، منهم: العُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وفيه عنب، فلمّا رأوه، والحال الذي هو فيه -وهم لا زالوا مشركين، هم مشركون كفّار- رقُّوا له، وأمروا خادم عندهم اسمه عَدَّاس -من أهل نِينَوَى- كان نصرانيّا، فقالوا خذ هذا العنب وأعطه لذلك الرجل وصاحبه، كان معه سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه، وزيد بن حارثة كان يتلقى الحجارة لئلا تصيبه ﷺ، فأصابت رجليه الكريمتين كثير من الحجارة حتى سال الدم من عقبيه -مؤخر الرِّجل- وكان قليل لحم العَقِب، وكانت تدقّ في عظم عقبه حجارة هؤلاء القوم، ﷺ.

رقّوا له وهم مشركون، فذهب إليه؛ فسلّم إليه العنب، فمدّ يده وقال: "بسم الله". فتعجّب، قال: تقول كلاما ما أسمع أحداً يقوله هنا. قال: "من أين أنت؟" قال: أنا عدّاس، من نِينَوَى. قال: "تلك بلدة الرّجل الصالح أخي يونس". قال: أنت تعرف يونس؟ قال له: "إنه نبي مثلي، وأنا نبي"، ﷺ، فرأى خُلقه ومعرفته، وخرّ يُقبّل رجليه ﷺ، ورأوه ممن كان هناك، ودعَوه؛ تعال مالك؟ قال: إن هذا نبي، قالوا له: لا! إبقَ على دينك ولا تتبع هذا الإنسان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهم في قلوبهم غيظ -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهم يعلمون أنه الصّادق وهو المُرسل. فلمّا قال له من نِينَوَى، قال: تلك قرية أخي الصالح يونس بن متَّى عليه سلام الله وصلواته.

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ) -من قريته وخرج- (مُغَاضِبًا)

  • إمّا لمَلِكِ القوم الذين كانوا هناك ولم يُؤمنوا. 
  • وإما لأهل القرية كلّهم؛ لكونهم أبَوْا أن يُطيعوه وأن يؤمنوا بما جاء به عن الله تبارك وتعالى. 

فخرج لذلك، حتّى ركِب في السّفينة، فنَازلهم الهول، فقالوا: فينا واحد هرب، خرج من غير إذن مالكه، وهو في السفينة، فكانت عادتهم، فعملوا القرعة فطلعت على يونس، فرموه في البحر، والحوت قد جاء منتظره، وأخذه الحوت إلى بطنهِ وغاص به في البحر.. لا إله إلا الله!

(إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ.. (87)): 

  • أي لن نُضيِّق عليه الطريق
  • (لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ): لن نعاقبه. 
  • (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) لن يناله منّا هذا الترتيب الغريب. 
  • (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) يعني: لن يُقَدّر عليه هذه الوقائع الخطيرة. 

فما درى بنفسه إلا وهو في وسط بطن الحوت، وفي ظلمة البحر وظلمة الليل، فإذا هي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، لا إله إلا الله! 

  • (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ)
    • لا معبود بحقّ، ولا مقصود، ولا مشهود ولا موجود إلا أنت. 
    • ما تُنقذ ولا تُخلّص من الشّدائد إلا أنت. 
  • (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ): أي أقُدّسك وأنزّهك عن كل ما لا يليق بجلالك. 

(إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)): ظلمت نفسي بِاسْتِعجالي في الخروج، والآن وقعت في هذه الشدة، ولا مُنجّي إلا أنت؛ فكانت هذه دعوة النبي يونس عليه السلام. 

قال ﷺ: "أفضل الدعاء دعاء أخي يونس: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"؛ وفيه توحيد وتقديس واعتراف، ليس فيه طلب، ليس في ظاهره طلب، ولكن الكريم إذا مجّدته وعظّمته وتذلّلت بين يديه هو الذي يُكرم ويُعطي سبحانه وتعالى.

  • (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87))، حتى أنه لا يقولها مؤمن صادق في كربٍ ولا غمٍّ إلا نجّاه الله؛ وعدٌ من الله. 
  • (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88))
    • كذلك من عادتنا إذا وقع المؤمنون في كربٍ نجّيناهم، (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
    • مَن دعانا من المؤمنين، كما دعانا عبدنا يونس؛ نجّيناه. 

ونحن في ظلمات الأهوال والحوادث التي حلّت بالمسلمين والشدائد، نُنادي الرّبّ الأعلى: لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فبسِرِّ قولك: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)، استجب لنا يا رب، وبسِرِّ قولك: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، نَجِّنا من كل غمّ، وأنجز لنا وعدك فيما قلت: 

  • (وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).
  • وفي قراءة: (نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ)

فينبغي الإلحاح على الله بمثل هذه الدعوة عند الشّدائد خاصّة، وفي مختلف الأوقات: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (88)).

فقال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ..(89))، وذلك أنّه كبُر ولم يكن له ولد، وكان الذي وقعت في يده للتّربية والكفالة سيدتنا مريم، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) وكان بَنَى لها مكاناً في بيت المقدس تعبد الله فيه، ويتفقّدها حيث يأتيها بالطعام من وقت إلى وقت ويخرجها لحاجتها، (لَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا)، هذا الأكل أمامه والمكان مقْفل ومفتاحه معه، (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) [ال عمران:37-38]: 

  • (هُنَالِكَ)، يعني في هذا المحراب، في هذا المكان الذي أظْهرنا فيه الكرامة لمريم، توجَّهْ بالدعاء إلينا. 
  • ففيه أنّ من الأماكن ما يُستجاب فيها الدعاء: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ). 

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا)، واحداً، ليس عندي أحد يرثني، ولا يقوم من بعدي بأمر هذه الأمانة،  (وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89))، ترِث الأرض ومَن عليها، والمرجع إليك.. 

  • وقال في الآية الأخرى: (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)، جاءه الجواب: 
    • (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). 
    • فقال: يا رب، كيف ترزقني هذا الولد؟ الطريق المعتاد أنّك ترزق الأولاد عبر الأمهات، وأنا كبِرت، والمرأة أيضاً كَبُرت وصارت عجوزًا، وأنا كبير السن، والعادة أن لا يجيء الولد منهما، فكيف تُعطيني هذا؟. 
    • كما قال (…رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [ال عمران:38-40].
  • وقال في الآية الأخرى: (قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): 
    • يعني: أتأمرني أن أتزوج غيرها أو تأمرها فتأتي لي بولد كرامة؟ كيف يكون هذا الولد؟ 
    • فقال سبحانه وتعالى: (قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) -أنا أخلق من أي شيء  كما شئت- (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا). 
    • إذا حملتْ زوجتك هذه بالولد، ما عاد تقدر تكلم الناس، فقط تذكرني، ولا تقدر أن تُخاطب الناس ثلاثة أيام، إلا بالإشارة تكلمهم.
    • فلما كانت الليلة التي حملت زوجته بيحيى، لم  يقدر أن يكلم الناس، (فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا)، ذكر، (بُكْرَةً وَعَشِيًّا)  [مريم:8-11]: 
      • يذكر الله ولا يكلم الناس (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) [ال عمران:41]، فخرج بعد الثلاثة أيام، وانطلق لسانه.
      • مع أنّه بالذكر والقراءة مستمر يقرأ ويذكر، لكن بالكلام مع واحد منهم ما يقدر. 
      • فعرف أنّ زوجته حملت بيحيى، ومضى الحمل حتى جاء يحيى.

قال: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)) ففيه:

  • رجوع الأنبياء في الشدائد والأهوال وفي جميع الأحوال إلى الله الكبير المتعال. 
  • وعلى هذا يجب أن يُرسِّخوا أنفسَهم أتباعُ الأنبياء: يلجأون إلى الله، ويرجعون إلى الله، ويعتمدون على الله، ويلوذون بالله، ويستغيثون الله، ويسألون الله، ويعتمِدون على الله -جلّ جلاله-. 

رزقنا الله ذلك. 

 ربّي عليك اعتمادي *** كما إليك استنادي  

صِدقًا وأقصى مُرادي *** رضاك الدّائم الحال 

يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ.. (90))، والحق تعالى يرجع إليه كُلّ شيء (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]، قال  (وأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، كل واحد يفوت ويموت وأنت الحي الذي لا تموت، وكلّ شيء يرجع إليك، لا إله إلا هو. 

قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ)، نادته الملائكة أن الله يبشرك بغلام: (بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) [مريم:7]، 

  1. لا أحد من بني آدم سمى ولده يحيى إلا هو، أول واحد هذا اسمه يحيى، ما جعلنا له سَمِيّ من قبل. 
  2. وفي معنى آخر: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)، يعني ما أحدٌ يسامِيه ويصل لمرْتبته من قبل. 

قال: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ..(90))، وهي عاقر ورجعت حامل، والله يقدر أن يجعل الولد يأتي من العاقر، جلّ جلاله.. (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ).

قال الله عن هؤلاء كلّهم الذين تقدّم ذِكرهم من ساداتنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ من سيدنا إبراهيم عليه السلام، وساداتنا لوط وإسماعيل وإسحاق، وسيدنا سليمان وداود وزكريا ويحيى وأيوب، كل هؤلاء ذكرهم سبحانه وتعالى، فقال: 

(إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. (90)) مهمتهم في الحياة يتقنّصون مرضاة الله بالطّاعات فيرغبون في كلّ ما يُقرّبهم إلى الله، فيُسارعون إلى فعل الخير من الصالحات التي شرَعها الله لهم: 

  • ذكراً وتلاوةً وصلاةً ودعاءً وصومًا وصدقةً وتعليمًا وهدايةً للخلق. 
  • وأنواع القُربات إلى الله تبارك وتعالى؛ من الخُلِقِ الكريم والإحسان والمواساة: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)

(إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)

  • فيجب على أتباع الأنبياء أن يُسارعوا في الخيرات وأن يُسابقوا لها. 
  • ولا يشغلهم عنها شيء مما يعرض لهم في الحياة، ويَكونون راغبين في الخيرات.

وهكذا لمّا أصاب قبل مدّة زلزال في تركيا، وجاءوا إلى بعض الأنقاض ليخرجوهم، إذْ بامرأة صالحة قالت لأمها هاتوا قميص (ثوب الصلاة) أريد أن أصلّي. والناس في أنقاض وتعب وخائفين من الموت، وهذه تريد أن تصلي، قالت أريد أن أصلي أولا، لن أخرج، إلا بعد أن أؤدي الصلاة، وهي تحت الركام، اخرجوها؛ فقلْبها مُعلّق بالصلاة. 

(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، يُلِحّون علينا ويسألوننا، ويجعلون حاجاتهم إلينا، وكلّما حَزَبَهم أمر أو نازلهم شيء، رجعوا إلى الله ودعوا الله تعالى، رَغَبا فيما عنده من الخير، ورَهَبا من عذابه وعِقابه وسَخطه جلّ جلاله.. 

  • (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)) أي: 
    • حاضرة قلوبهم معنا. 
    • يطالعون جلالنا وجمالنا. 
    • مُتذلّلين بين يدينا، راجين لنا، خائفين منّا. 
    • مستحيين من عظمتنا؛ هذا هو الخشوع.
  • (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) في صلواتهم، وفي أذكارهم، وفي أحوالهم كلّها، عليهم الخشوع، وهو العلم الشريف الذي كان يقول عنه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: "إنّ أوّل عِلم يُنزع من هذه الأمة الخشوع، حتّى لا تكاد تجِد خاشعا". لا إله إلا الله.

وقد كان الخشوع منتشر، كل مَن آمن بالحبيب ﷺ كُسِي كسوة الخشوع، تجدهم في الصلاة وخارج الصلاة، حتّى في الأسواق عليهم أثر الخشوع، خاشعون لله تبارك وتعالى.. لا إله إلا الله. 

(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90))؛ فقصُر ذلك: 

  • قال: "حتى لا تكاد تجد خاشعا"؛ وصدق ابن مسعود: صرْتَ تمرّ على أعداد من المسلمين وأعداد من بلادهم، لا ترى خاشعا ولا يُرى قلبك خاشعاً.. وكان الخشوع دأبهم. 
  • ولما وَفد بعض الوفد في عهد سيدنا أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تبارك وتعالى، فقُرئ عليهم بعض القرآن، فصاروا ينهجون بالبكاء، وقال سيدنا أبو بكر: "كنّا هكذا على عهد النبي ﷺ". الخشوع بادٍ فيهم وغالِب عليهم.

 (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)) فمَن يعرف قدر علم الخشوع يعرف مكانته ويطلبه، هنا بعلوم كثيرة، ولكن هذه العلوم التي هي أنفع وشأنها عظيم في القيامة وإلى الأبد، ما الذي أغْفلنا عنها؟ ما الذي باعدنا عنها؟ ما الذي جعلنا في إهمال لها ونسيان لها؟ سيدنا ابن مسعود سماه علم، "فأوّل عِلْم ينزع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا تكاد تجد خاشعاً". 

وهذا وصف الله لهؤلاء الأنبياء: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90))، ومَن حضَر قلبه، وتأمّل المعاني، وخاف أن لا يُقبَل، ورجا القبول، وكان معظِّما مجلَّا، وكان فيه حياء؛ فهو الخاشع. 

هذا الخشوع، ينتظم من الستة المعاني: 

  1. حضور القلب. 
  2. وتدبّر المعنى. 
  3. والتّعظيم والإجلال. 
  4. والخوف. 
  5. والرّجاء. 
  6. والحياء. 

فمن جَمع السّتة المعاني فهو الخاشع. 

وهذه كانت مجموعة في الصّالحين حيثما كانوا، وإن ازداد أثرُها في الصلاة، فهم في خارج الصلاة كذلك، ويحقّ لهم وصف الله: (الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:23]، دائم وهم في صلاة؛ إذا قاموا بها؛ ولكن قلوبهم في الصلاة حتى إذا خرجوا من الصلاة، فقلوبهم في صلاة، وخشوعهم دائم لحضرة الله. 

الله يُلحِقنا بالخَاشعين، ويجعلنا في الهداة المهتدين، ويجعل فينا صفات النبيّين، ويُصلح شؤوننا والمسلمين أجمعين، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.

وإلى حضرة النبي محمد ﷺ 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

09 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

01 أكتوبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام