(390)
(535)
(610)
(339)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن حفيظ للآيات الكريمة من قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} إلى قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} الآية: 11 من سورة نوح
﷽
( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الحمدلله الذي منّ علينا بالتبيين، وأقام لنا الهدى والدّين، وبين لنا الحق على لسان عبده الأمين، حبيبه خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله وسلم وبارك وكرم في كل لمحة ونفس وحين عليه، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، وعلى من والاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإننا في توالي نعم المولى علينا في تبَيُّنِ أحكام كتابه العزيز ومعاني آياته التي أنزلها إلى نبيه المصطفى محمد ﷺ، ابتدأنا نتأمّل الآيات من سورة نوح؛ السورة التي سماها الله باسم ذاك النبي من أولي العزم من الرسل؛ الصابر الصادق الصادع بالحق المُتحمّل في سبيل ذلك الشدائد الكثيرة والأهوال الكثيرة -عليه صلوات الله وتسليماته على نبينا وجميع الأنبياء والمرسلين- قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35] أهل العزيمة القوية والهمّة العالية.
كل المرسلين أهل عزيمة وهمّة؛ ولكن تميَّز من بينهم في قوة العزم والصبر والتحمل للمشاق خمسة:
فهؤلاء أولي العزم من الرسل، الرسل كلهم أولي العزم، ولكن هؤلاء تميزوا بقوة الصّبر والتّحمل للمشاق عليهم صلوات الله.
وتأمّلنا إخباره سبحانه عن نفسه بإرسال سيدنا نوح وعلِمنا بذلك عظمة الأنبياء وأن مصدر ابتِعاثهم الحق العلي الإله الخالق الوارث، وأن كل نبي يُبعث إلى قومه حتى جاءت خصوصية نبينا محمد؛ بِبَعث الله له إلى جميع المكلفين من الإنس والجن أجمعين؛ مَن في زمانه ومَن يأتي إلى يوم الدين:
وأن سيدنا نوح عليه السلام حمل الرسالة، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2))؛ مُحذِّر من خطر مقبل، من خطر في مستقبلكم، ولم يتنبأ لإصلاح الشأن في المستقبل، والتحذير من أخطار المستقبل أحد من الخلق، كما أرسل الله الرّسل وكما تنبَّه سادَاتنا الأنبياء.
فالذين يتحدثون الآن عن المستقبل يعنون به بعمرك القصير هذا، وهذا أمر قريب وقليل حاضر، لكن المستقبل بعد هذا أطول وأكبر، هؤلاء الأنبياء بعثوا؛ من شأن تصلح مستقبلك، من شأن ترتب نفسك في المستقبل الكبير، فجاءوا يُغرون الناس بضمان المستقبل وإعداد المستقبل ويعنون به العمر القصير، لا يدرون به كم هو، في كونه كله قصير، قد يطول أويقصر وهو في الحقيقة قصير من قصير، وجعلوا الهمّة كلها ذاك؛ (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)، قال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [النجم:29-30]؛ و الحق يُعلمنا بهذا؛
انظر إلى موازين العلم في اعتقاد المؤمن، وفي ميزان الله الحق الدائم جلّ جلاله: أنَّ من انحصر علمه في علم الدنيا، فهو لا يعلم، مادام غافلا عن الآخرة فهو لا يعلم؛ لأنه لو علم لن يرضَ لنفسه النار ولا يرضى لنفسه خيبة المستقبل الخطير الكبير، ما يعلمون! (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:20]، كما قال الله:
المقصود أن نعلم: (أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، فنتزوّد للِقاء هذا العلي الكبير الذي نقبل عليه؛ هذا مقصود الخلق، وهذا العلم المقصود من هذا الوجود، لا مجرد علم هذه الأشياء.
وبعد ذلك، من كان يبالغ في أي وسيلة من وسائل؛ السيارة مثلا، ويجعل العلم بها كل شيء، ماذا عنده؟ يقول: قطع الغيار إذا أنت لا تعلمها ما تعلم شيء! أو البترول؛ يتوسع في علم البترول، وذاك يتوسع في عِلم قطع الغيار، أين السيارة؟ المقصود أنها تمشي وتوصلك للمحل الذي تريده، قاعد محله يصفصف قطع الغيار، وذاك يعبىء بِترول في مخازن، يا أخي! قال: أنا أكلمك علم، عندي علم كبير. طيب علم كبير! جئت لي كم من خزّان البترول؟! أعطني السيارة التي سنمشي عليها؛ الناس يريدون أن يسافروا، وهؤلاء محلّهم هناك، لا يعرفون إلا هذا المكان؛ أبوك سَافر وجدك سافر وانت ستسافر، ماذا بك؟ ما عندك استعداد لهذا السفر، قاعد محلّه هنا في هذا المكان؛ فهؤلاء ما يفضون إلى حقيقة نجاة، ولا إلى حقيقة سعادة، من دون هذا العلم الذي تكرم الخالق على عباده بإنزاله؛ لا نجاة للخلق ولا سعادة لهم.
يقول: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)) وقلنا هذه الأسس التي قامت عليها دعوات الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وفيها الفوز والنجاح:
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3))؛ ولأجل إقامة هذه المرجعية، قال ربنا في كتابه:
هذا منهج يمشون عليه في الحياة، فوق المرجعية؛ (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، هذه المرجعية الحقيقية، المرجعية أن (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ) إذا أحد قال كذا أو كذا، المرجع هنا، لا يقبلون إلا ما وافق الله، ما قال الله ورسوله، يرفضون كل ما خالف ذلك ويجدون أنفسهم بعد ذلك:
ولهذا قام المنهج الرّبّاني؛ افعل ولا تفعل، وصارت أحكام الشريعة على هذه الأحكام: واجب، مندوب، مباح، مكروه، حرام، لا أحد بفكره سيأتي بمنهج أحسن من هذا! (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]، فالله يعظم شريعته في قلوبنا ويرزقنا العمل بها.
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى(4)) ومن معاني ذلك: أنكم بالطاعة والتقوى لا تُفاجؤون بعذاب يُهلككم، وأنكم تؤخرون إلى حين، كما قال تعالى: فيمن يركبون البحر وتأتي عليهم الشدة، ثم ينجون، يقول سبحانه وتعالى في سورة يس، يقول في هذا المعنى -جل جلاله وتعالى في علاه-: (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) السفينة تَملأونها بالأنفس والأرواح والبضائع الكبيرة، تَشحنونها، كيف تُحمل من بحر إلى بحر؟ من بلاد إلى بلاد؟ (وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس:41-43] ، سيأتون من أين؟!.
في زماننا استحدثوا سفينة كبيرة وتفاخروا بها وتبخترُوا، وأنها لا يُمكن أن تغرق أصلا هذه، ولو كان ما كان، ما تحملّت، في أول رحلة لها غَرقت ومن فيها، أمام أعيننا نشاهدها! دعوا الغرور! دعوا التطاول! دعوا تجاوز الحدود! أنتم بشر مخلوقون؛ (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس:43]، يتّصلون بمن؟ ماذا بعد ذلك؟ (إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا) -نحن نُوخّركم وننجّيكم من الغرق من إلى وقت- (إِلَّارَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [يس:44] إلى أجل معدود، ليس دائما، لا أحد يدوم منكم، سلمتَ من الغرق هذا، وسلمتَ من الحادث هذا، وأين ستذهب؟ فقط أجل، فقط؛ لا يوجد دوام (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) بقاء؟! لا يوجد بقاء؛ الكل يموت، الكل يفنى، فقط (إِلَىٰ حِينٍ)، إِلَىٰ أجل، قليل بعض الشئ.
كنا نسمع الأوائل عندنا يقولون: من ساعة إلى ساعة، يعني لا أحد منّا يدوم ويبقى؛ لأنهم متأثرين بثقافة القرآن، فأَمثالهم تأتيك على هذا المنوال، يقول: عسى المتعة والعافية من ساعة إلى ساعة، يعني لا دوام وبقاء، فقط قليل ساعات معدودة؛ الموت لا بدّ منه، قمت من هذا المرض ثم ماذا؟! ذهب لوحده أو ماذا؟!.
يضحكون على واحد، سمع أنّ المُعترك المائي ما بين الستين والسبعين، قال: لما وصلت الستين، قال: فزعت -خفت-، لمّا جاوزت السبعين، فرحت اطمأننت، ضحكوا عليه، قالوا: إلى أين تطمئنّ؟! إلى أين؟! الذي تخاف منه أمامك، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]، فأنت لما تجاوزت السبعين قربت أكثر إلى الساعة المحدودة لك، المعينة لك، قربت أكثر إليه. ستذهب إلى أين؟!. (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [يس:44]، و لهذا قال سيدنا نوح (إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) إن ضيّعتم الفرصة وبعدتم عن طاعة الله تعالى فـ(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ..(4))، إذا فاجَأكم العذاب لا أحد يردّه، يقول سبحانه وتعالى: (يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ) [النور:43]، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11].
ويقول سيدنا إبراهيم لما حاور الملائكة، يقول: كيف أنتم تهلكون القرى؟ -هذه القرى "سدوم" التي فيها قوم سيدنا لوط-، فيها لوط! قالوا: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود:76] لم يعد فيه نقاش سينزل عليهم العذاب. النبي لوط وأهله المؤمنين سنُنجيهم، وقالت له الملائكة: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [العنكبوت:32]، التي شابهت أولئك القوم تدخل معهم، مع أن الأمر قائم على طاعة و تقوى استقامة و ميزان، وإن كانت امرأة النبي نوح؛ ولكنها خالفت أمر الله وأمر رسوله وخانته خيانة الدين.
أما في الأعراض لا يوجد نبي عنده امرأة خائنة في العرض -أبدًا-؛ ولكن في الدين كانت مساعدة للكفار قومها ومكذّبة به وبما جاء به. وإذا جاءوا إليه ضيوف، ترسل لهم علامة وترسل لهم نار -تعالوا شاهدوا الضيوف جاءوا عند لوط- من أجل سوءهم وبَلاءهم؛ بهذا كانت خاينة: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم:10].
يقول: (إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى)؛ وأَلمحنا إلى أن هذه الآجال وعجائبها، "ومن خير الناس من طال عمره وحسن عمله"، وقد يصل صاحب العمر القصير بدرجات كبيرة لا يصلها من هو أطول منه عمرا، وقد تكون الذنوب المعاصي سبب لقصر العمر، وقد يمد في عمر الفاجر والكافر إلى حد طويل؛ ولكن النتيجة بعد ذلك (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49]، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111]. قصر أو طال عمره فكله سواء، يالله بالتّوفيق والاستقامة على ما يحب.
(لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4)) هذه الحقيقة أجبتم وأطعتم وخرجتم من غيّكم وعِنادكم هذا، فقلنا إن العلم ما جاء به الأنبياء؛ هو العلم الحق.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) -أرسلتني إليهم- (دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)) أني استغرقت أوقاتي في صرفها في الدعوة إليك. (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) وفي هذا أنَّ مراتب أتباع الأنبياء بحسب ما يَبذلون من الوقت في خدمة ما جاء وبُعث به الأنبياء؛ فمن كان يبذل الوقت الأكثر في خدمة ما بُعث به من العلم والتزكية والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- فهو أقرب إلى الأنبياء؛ ولذا في الحديث: "أن أقرب الناس من الرسل يوم القيامة الشهداء والعلماء"- لماذا؟ -"قال فأمّا العلماء فدلّوا الناس على ما بُعث به الرسل لهذا كان قريب منهم، وأمّا الشهداء فماتوا على ما بُعث به، قدّموا أرواحهم لأجل ما بُعث به الرسل"؛ فهؤلاء أقرب الناس إلى الرسل في القيامة:
وهكذا وجدت السابقين الأولين من المهاجرين الأنصار ليلا ونهارا وهم خلف هذا النبي لنصر دينه، وتبليغ دعوته، وتعليم شريعته؛ في أنفسهم، في أولادهم، في أهلهم، حيثما جلسوا وأينما ذهبوا وأينما سافروا وأينما حلوا -رضي الله عنهم- فهم قريبون من نبينا محمد.
(دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)) فكل من بذلَ وقتًا أكثر، كان أقرب وأنور في خدمة ما بُعث به الرسل؛ فينبغي للمؤمن أن يُرتب حياته على هذا، ويجعل أعماله وسائل، وأكله وسيلة، وشربه وسيلة للقيام بما بُعث به الرسل، وسكَنه وسيلة، وكل ما عنده جعله وسيلة؛ لأجل أن يخدم ما بُعث به الرسل وخاتمهم سيدنا الأكمل ﷺ، الله يجعلنا في اتّباعه كذلك. وقد أمره الله أن يقول لنا: (عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)؛
يقول: (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)) وكم جلس يدعوهم؟ (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14]، أين يوجد هذا؟ عند عقلية واحد يقول: لا توجد فائدة! كلمناهم كذا كذا مرة، لا توجد فائدة! جلست كم عندهم؟! تسعمائة وخمسين سنة بك، كم لك؟! وكم عمرك؟ انظر هذا نبيّ جالس تسعمائة وخمسين سنة، لا تيأس ولا تسأم وابذل الوسع و كرّر واجتهد، فكيف عمل في دعوة هذا؟ ليل و نهار.
(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6))، أنا أدعوهم وهم يفرّون، يعاندون أكثر ويؤذون، ظهر بعض مظاهر فرارِهم وكيفيته، الله ذكرهم في الآيات.
يقول: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)؛ فيه أنّ السوابق من الخلق هي التي تَحكُم الخلائق، يهدي هذا ويُضل هذا، بدعوة واحدة! هذا يؤمن ويقرب ويسعد ويدخل الجنة، وبنفس الدعوة؛ هذا يُكذِّب ويُكابر ويُعاند ويدخل النار! -أعوذ بالله من غضب الله- كما قال في القرآن:
ليعلم الخلق أن الحُكم للخالق، فيا فوز من هداه ويا ويل من أضلّ -اللهم اهدنا فيمن هديت- هذا علمنا الله في كل صلاة نَقرأ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:6-7]، الله يهدينا إلى هذا الصراط، ويثبتنا عليه، ويهدي أُسرنا وأهلينا وكلهم وأَصحابنا وأصدقائنا كلهم، ويجعل كل واحد من الحاضرين والسامعين هو وأهله وأولاده أسره في الصراط المستقيم، مهديًا بهداية العلي العظيم، يا هادي بيدك الهداية، اهدنا في من هديت
رَبِّ إِنَّ الهُدى هُداك وَآياتُكَ *** نورٌ تَهْدِي بها من تشاءُ
(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) [الأنعام:125]، وفّّر حَظّنا من شرح الصدر للإسلام -يا ذا الجلال والإكرام- وتكون هذه من هدايا رمضان ومزاياه يا كريم .
يقول: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)) وهنا نتبين أنّه:
ولكن كثير من الناس يهدي الله على أيديهم أُناس وهم ضالين في أنفسهم -أعوذ بالله- فينتفع بهم الغير بكلامهم وهو ينكبّ على رأسه بعد ذلك، حتى أن من علماء الأمّة من -يصيح أهل النار منه، أو يتعجبون من شدة عذابِه، ويتأذّون من صياحه ومن ريحِه ومن شدة عذابِه في النار: "يمرّ بالعالم إلى النّار فتندلق أقتاب بطنه -أمعاءه- يَدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحى، حتى يقول جماعة من أهل النار: ما بال الأبعد آذانا على ما بنا من الأذى؟ -نحن في نكد وعذاب، وهذا أزعجنا، ما بَال الأَبعد؟! فيُقال لهم: إن هذا الأبعد كان يأمر بالخير ولا يأتيه وينهى عن الشر ويأتيه".
وبعضهم يخاطبهم ناس من الذين انتفعوا بهم فيقولون: ما بالكم في العذاب والنار؟ إنما دخلنا الجنة بفضل علمكم! -نحن دخلنا الجنة بفضل علمكم!- ما بالكم؟ ما كانت نيّاتهم خالصة، ما كانوا صادقين مع الله -العياذ بالله تعالى- إذًا عَلِمنا هذا، ولكن:
وهكذا نرى مثل هذا النبي الصابر الصادق تسعمائة وخمسين سنة وما آمن به إلا قليل -نحو ثمانين-!
لكن سيدنا يونس -صاحب الحوت، ذو النون- يونس أرسله الله إلى مائة ألف بل يزيدون قليل آمنوا كلهم، أول مرة قد آذوه وهرب من عندهم، وقع في البحر وبطن الحوت، ثم رجع، بعد الاختبار هذا كله، هدى الله قومه! (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [الصافات:148]، حتى ضرب القرآن بهم المثل: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) -يعني كان سبب لدفع البلاء والعذاب عنهم- (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [يونس:98].
إذًا فالإيمان في القرى والأماكن سبب لطول الأعمار واستقرار بعض الأحوال؛ لكن إلى حين، لا يوجد دوام في الدنيا، ما أحد يدوم: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:34-35].
فهذه الأمة مُتوفرة فيها الهداية، بل قال بعض أهل العلم: أنه من العجيب أنه، مِن صِدْق الداعي وإخلاصه لوجه لله، إذا نصح بصدق، قد يردّ عليه وما يُقبل منه، يتأثر الذي في صلب المنصوح هذا، الذي في صلبه؛ فيخرج ولد الطيب أي خيِّر متأثر من دعوة ذاك الذي دعا أباه، وأباه لم يستجب، دعا أباه وأباه لم يستجب! لا إله إلا الله!
ويشير إلى هذا الحديث: "أنه لما دعا أهل مكة ولم يجيبوا؛ فعند رجوعه من الطائف قال له ملك الجبال: إن الله أمرني أكون طوع أمرك فإن أحببتَ حملتُ هذا الجبال وهذا الجبال فأطبَقتها عليهم، ولا يبقى أحد، فقال له: إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم -يعني دعوتي أثرت فيمن في أصلابهم- إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يتولى هذا الأمر"؛ وخرج من أصلابهم كثير من المؤمنين.
يقول: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ(7)) في هذا بيان، مقصد دعوة الأنبياء وأتباعهم: أن يُحَصِّل النّاس المغفرة -أن يغفر الله للعباد- هذا المقصود؛ فإذا رأيتَ من يدعُ للإسلام وما في باله أن يَغْفِر الله أو لا يَغْفِر، وهذه ليست في حسابه، ليست داخلة، المهم أن المدعوّ الذي يدعوه يقوم في صفّه أو يدخل في حزبه أو ينصره؛ هل هذه مقاصد الدعوة هذه؟! يدعون الأنبياء وأتباعهم؛ من أجل الله يغفر للعباد، من أجل أن يُخرِّجهم من النار.
(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ)؛ من أجل أن يحصِّلوا المغفرة! فيكون هذا مَنْحة اهتمام الدعاة الصادقين المخلصين، إذا رأوا المنصوح والمَدعوّ تهيأ للمغفرة بالتوبة؛ فرحوا، حاله مع الله يصلح، لا ينتظرون أن يجئ منه شيء؛ يجئ منه، لا يجيء شيء، -يقوم معهم، لا يقوم معهم- (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) [هود:51]، هكذا، الله أكبر!.
يقول: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ (7))، في بداية الدعوة؛ لما دعا قومه قال لهم بهذا المقصد والغرض: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم) تحصّلون هذا.
قال الذين بايعوا الحبيب ﷺ في العقبة: ما لنا نحن إذا وفِّقنا بذلك؟ قال: الجنة.. الجنة؛ هذا المكسب الذي تُحصّلونه من وراء دعوتنا هذه؛ فرحوا بالجنة، -قالوا: تمام،- قال: لكم الجنة؛ مع أنه يعلم ﷺ أنهم سيُنصرون، وسينتشر دينهم في الأرض، وأنه ستُسخّر لهم الأسباب، وأنه سيُقاد لهم ملك كسرى وقيصر، لكن ما قال لهم هذا؛ ما هذا من شأن مقاصد دعوتي، أنتم اليوم تعملون؛، توفون الجنة أمامك؛ لكم الجنة.
فما وضع في أذهانهم إلَّا طلب الجزاء الأبدي العظيم، وإلّا قد قال لهذا كافر قبل أن يسلم: "كيف بِك وأنت تلبس سواري كسرى وقيصر"، ما لنا نحن وفينا، ما قال: ستأتيكم ملوك وكنوز كسرى وقيصر! قال لهم: الجنة، إذا تتبعون وتُطيعون؛ الجزاء الجنة، ضعوه في أذهانكم، هذا الذي عندنا، الله أكبر!.
يقول: (كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ..(7)) رأيتم العناد والاستقبال الذي عندهم! تكلم ناس وأنت تقول لهم اذهب بعيد، وأنا أردت لك الخير، لكن أنت تنفر منهم، ويُستثقل عَليك، وليس هذا فقط، بل (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) يضعون ثيابهم، لا يريد ان يسمعك ولا ينظر إليك حتى! يغطي وجهه ويضع أصابعه في أذنه!.
(كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) لم يرضوا أن يخضعوا ولا يخشعوا لما ينفعهم ولما يرفعهم وليسبب المغفرة لهم! (أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) استكبروا عن الخضوع إلى إلههم الذي خلقهم، وعن طلب القرب منه والغفران؛ لا حول و لا قوة إلا بالله!.
يقول: (كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)) انت لو مرة كلمت واحد وعمل لك هكذا، طول عمرك بتسبّه وبتتكلم عليه، ولا عاد بتكلمه ولا عاد بتجي عنده، لأنك ما أنت صادق! لو أنت صادق بتقعد مكانك.
قالوا: سيدنا نوح -عليه السلام- أحياناً بعد ذلك يقومون يضربونه حتى يُغشى عليك، فإذا أفاق قام رجع لِعندهم مرة ثانية، يفوق من الغشية بسبب ضربهم ويرجع لهم مرة ثانية، يقوم: استغفروا ربكم، تُوبوا معكم إله خلقكم، إرجعوا إليه والحياة تنقضي لا تعبدوا غيره، ما نقول لك اسكت؟!
ثم قال: يا رب -فمع هذا الحال- نوّعت نوّعت أساليب الدعوة وأخذت الأساليب كلها (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ) -جَهرت بالدعوة- (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ)، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)) دعوة فردية، أكلم كل واحد لوحدهِ بيني وبينه، إذا وجدت واحد لوَحده، وتكلمت مع الاثنين، والثلاثة، والدعوة في السر والجهر، يعني استنفذت الوسائل والأساليب كلها للدعوة -الله أكبر!-.
(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) -لكي تحصِّلوا المغفرة- (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)) لأن بعضهم بعد ذلك بمحجته لهم وجدالهم، يقولون له: إن كان الدين الذي نحن عليه هذا حق، لماذا تخرجنا منه؟! إن كان هو باطل، هذا ربك لن يَقبَلنا ونحن على هذا الدين الباطل! قال: لا، استغفروه يغفر لكم، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)).
وذَكر بعض الكلام الدائر بينه وبينهم في -سورة هود- ويقول لهم: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود:29]، يقولون له: اُطرد هؤلاء الضعفاء مِن عندك الذين اتبعوك.
الضعفاء هؤلاء الآن بني آدم كلهم منهم جاءوا، هُم العلاه. وهؤلاء الذين يحسبون أنفسهم أقوياء وأشراف؛ هلكوا ولايوجد لهم ذِكر ولا ذريّة، قالوا: ابعد هؤلاء الضعفاء، قال: لا ما نرضى، (إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ) [هود:29-30]، قوم أقبلوا على ربهم -جل جلاله- وأرادوا قربه والدخول للجنة، تريدوني أن أطردهم؟ من شأن أسرّ قلوبكم أنتم وخواطركم؟! (مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ)؟ من سيخلصني من عذاب ربي؟ (إِن طَرَدتُّهُمْ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)؟ (مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) كثّرت! استغشينا منك، ووضعنا أصابعنا في آذانا، وسبِّيناك وضَربناك. وإنت ما سئمتَ ولا مليت؟! ورانا ورانا! (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هات العذاب الذي تخوفنا منه هذ،ا (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) لا أنتم تُعجِزون الله، ولا تَقدِرون تَتَحدّونه، ولا تقدرون أن تتطاولوا عليه، (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود:30-34].
ماهذا الكلام؟! هذه دعوات الأنبياء -صلوات الله عليهم-، عباد خُلَّص لله -جل جلاله- ما دعوا الناس لغرض ولا مراد ولا قَصد أصلا، هو الله ربكم أمامكم، أنا ماذا أعمل بكم؟ وأنا أريدكم أن تُصلحوا حالكم معه؛ لأنكم ملاقوه، لا أريد لكم غضبه ولا عذابه، فقط هذا الذي عندي!
وبعد ذلك: (وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ) [هود:36]، انظر، بعد هذا الجهد كله، فقط المؤمنين هؤلاء وحدهم هم ذهب بهم -في السفينة- مازال في الصبر، لما رأى لا شئ، قال لقد قلت لي يؤمن أحد يا رب! (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح:26-27]، ووقع بعد ذلك: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر:11-14].
يقول: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)) كثير المغفرة، مهما كنتم مشركين ومذنبين، مُعاصين تعالوا! غَفَّار ليس غافر فقط! غفّار -كثيرالغفران- تعالوا إلى هذا الرب، الله أكبر!
(إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ)؛ لأنه في فترة من الفترات لما أصروا على العناد، مسك الحق عنهم الغيث، لم تمطر، وتأثرت أشجارهم وبساتينهم قال: تعالوا توبوا، آمنوا:
النفوس البشرية تحب هذه الأشياء، يدعونهم الأنبياء ويقولون: تعالوا وهذا سيحصل لكم فوق ثواب الآخرة! كما قال تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النساء:134]؛ تكسب الاثنين معًا، الله!.
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ..)؛ وفي هذا، مرة جاء بعض الصحابة إلى عند النبي ﷺ، وهناك حبر من أحبار يهود، كان قريب منهم يسمعهم، جاء للنبي، قال: يا رسول الله، قومي هناك، أدركهم. قال: ماذا؟ قال: دعوتهم إلى الإسلام و رجَوتهم، أنكم إذا أسلمتم ييسر الله لكم رزقكم وخيركم، قال: فأسلموا والآن -أسلموا على طمع- والآن انقطع عنهم المطر وضعف عندهم النسل وأنا أخاف أن يرتدوا -لأن عندهم في بداية الإسلام لم يتمكن الإيمان منهم- فهات لهم شئ من الطعام أذهب به، قال: التفت إلى الذين عنده -سيدنا بلال وسيدنا علي- يقول له: هل عندنا شيء؟ قال له: ما بقي شيء. إن خزينة الدولة لا يوجد فيها، لكن ما هذه دولة؟!! دولة الحق والبقاء، دولة العظمة الأبدية.
تقدَّم هذا الحبر اليهودي يقول للنبي محمد: عندي من البُرّ والشعير كذا وكذا، تريد أن أقرضك إياه؟ قال: نعم، فأخذه منه قرض، إلى أيّ أجل؟ قال له: إلى وقت كذا كذا، قال: في الوقت كذا نسدد لك ثمن طعامك هذا، احمل الطعام -قال للرجل- و خذه واذهب به إلى قومك -إلى قريتك-.
هذا -زيد بن سَعنة- الحبر هذا، هو من اليهود ولكن بقي في نفسه شيء يُنازعه أنه هذه الأوصاف عندنا في التوراة لماذا نكابر؟! ونتبع جماعتنا هؤلاء الذين يكذبون به وهم يعرفونه! وقرأ أوصافه وعرف أنه هو. وخبر الأوصاف كلها، عنده كان في فكره، يقول في أوصافه عندنا في التوراة أنه: حليم وأنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلّا حلمًا، قال: اختبره الآن فيها، هو عنده دين لي، أنا أجعل له طريقة.
قبل أن يحلّ موعد الدين بثلاثة أيام، دخل إلى المسجد والنبي في المسجد والصحابة عنده، وهو مُغضَب ويرفع يديه وصوته: يا محمد! أخرت ديني الذي عندك، ما عُرفتم يا بني هاشم إلا مُطُلا، تماطلون الناس حقوقهم، يَسبّ النبيّ، يَسبّ قبيلته ويدّعي أنه أخّر.
وعندما دخل بالصورة هذه، عيون الصحابة امتلأت لكن لا يقدرون أن يتصرفوا، سيدنا عمر قام قال: رسول الله! من هذا الذي، بهذه الصورة يدخل لك إلى بيت الله إلى مسجدك وإلى عندك وأصحابك؟ دعني أضرب عنقه.
ضحك ﷺ قال له: "كنت أنا وهو أحوج إلى غير هذا منّك"، في شيء ثاني غير هذا، "مُره بحسن الطلب ومُرني بحسن الأداء، واعلم أنه بقي من موعد الدّين ثلاثة أيام" - لم يسبّه- هو سبّه وبعدما وصل عند النبي وكان رداؤه الشريف عليه ﷺ، جرّهُ بقوة حتى احمرّ عنق الحبيب ﷺ، هذا منظر شديد على الصحابة، لا يطيقونه، قال: "واعلم أنه بقي من موعد الدَّين ثلاثة أيام" -ما حلّ دينه و سوف أعطيه حقّه- "ولكن الآن اذهب فاقضِ دينه، الآن أنت يا عمر نفسه، وزدهُ عشرين مكان ما روّعت" -فزّعته قُلت أضرب عنقه- مكان هذا الفزعة، زِدهُ عشرين من عندنا ﷺ.
وقام سيدنا عمر، ويمشي اليهودي هذا، يهودي معه، وكالَ ما اه من طعام، قال: خذها من رسول الله محمد فوق الذي عملته! وزيادة على ذلك، وعطاك هذا! خذ. قال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: زيد بن سعنة، قال: الحبر؟! -مشهور من علمائهم هذا- قال: نعم، ما حملك على أن تفعل هذا؟ قال: يا عمر، قرأتُ أوصاف رسول الله في التوراة، فخَبَرتها كُلها فيه، إلا وصفين خَبَرتهم اليوم، الحلم أنّه حليم، وأنه لا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما، أنا جهلت عليه، وأنا تقدّمت فباقي ثلاثة أيام -كما أخبر- قال: لكن أنا تقدّمت متعمّدا وخَبَرته، فوالله رأيت فِيه الحلم وما زاده شدة جهلي عليه إلّا حلمًا؛ ياعمر، هذا الطعام كله والعشرين التي أعطاني رسول الله، صدقة للمسلمين، وأنا ذاهب الآن أؤمن.
دخل إلى المسجد؛ أُمدُد يدك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، -الله أكبر!- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159ٍ] ﷺ.
تعجّب سيدنا عمر واستفاد فوق الدروس التي يأخذها من الحبيب ﷺ: كيف أيام خلافته؟ كيف كانت مع عَظمَة ما فيه؟ وعَظُمَة إيمانه ويقينه؟ وعَظُمَت عِزّته بالشريعة والدين والإسلام؟! يقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
هذا الذي يخدم الفقراء والمساكين يجيء إلى عند المسافرين، أهلهم و آباؤهم في الغزو، يقول عندكم كتاب نقرأه لكم أو نكتب لكم كتاب لهم؟ ويمر على بعض البيوت يقول: لكم حاجة، اشتري لكم شيء من السوق؟ يقول: لكم حاجة؟ ماهذا الأخلاق هذا؟! لكنه تربّى، تربّى على يد محمد، وإلا كان طبيعة عمر ما هي هكذا؛ ولكنه تربّى وتزكّى على يد الحبيب ﷺ.
وهذه كانت واحدة من جملة المواقف التي ربّاه بها ﷺ، قال: أنت بنفسك اذهب وضع له الطعام وزِده عشرين مكان ما روّعته، فإذا النتيجة يُسلم هذا وإذا هو حبر عالم كبير من علماء اليهود و يدخل في دين الله ويقول لِسيدنا عمر أوصافه قرأتها في التوراة، هو هذا محمد الذي بشّر به موسى بن عمران ﷺ.
وهكذا يقول: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)) قد أنقذوا الجماعة وأرسل لهم الطعام دين منه ﷺ، اشترى دين خوفًا على إيمان أولئك حتى لا يتزلزل، وأعطاهم الطعام حتى يطمئنوا، ولكن فوق ذلك وقع سبب لهداية هذا اليهود -سبحان الله!-.
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)) مالكم؟! (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)) وقَّرتم بطونكم وأنفسكم ودنياكم ومالكم، ما وهبتم الخلاق الذي خلقكم ؟!
(مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)) إلى ما يأتي معنا في هذه الدعوة النبوية العظيمة وصبر سادتنا الأنبياء علينا؛ بني آدم، عُشر البشر وعلى طَبائعنا وعلى أخلاقنا وعلى طريقة تفكيرنا، وحتى جاء سيدهم وبيّن لنا ووضح لنا وتركنا على المحجّة البيضاء، جزاه الله عنا خيرا ما جزى نبيا عن أمته.
والله يجعلنا من المستجيبين الملبين للنداء بحقّ وحقيقة، مستمسكين بالعروة الوثيقة، داخلين في دائرة خير الخليقة، يجعلنا يا رب و أهل مجمعنا ومن يسمعنا من أولئك، سالكين أشرف المسالك حتى تجمعنا بِأنبيائك هنالك، يا الله! .. يا الله! في مقعد صدق، في جنات العُلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، رافقنا بهم يا ذا الفضل، ذلك الفضل من الله.
اللهم اجعل من بركات رمضان هذا أن تكتب لكل من الحاضرين والسامعين هذا العطاء وهذا الفضل يا متفضل، يامتفضل، يا متفضل، ما أحد غيرك يقدر يُنيلنا هذا ولا يوصلنا إلى هذا، أنت وحدك بيدك الأمر فلا تخيِّبنا يا ربّ، فإننا رجوناك فاجعلنا من الذين تجمعهم بأولئك، في مقعد الصدق وفي جناتك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وعزتك ما أحسنهم من رفيق، لا تعرِّضنا لمرافقة الفُجار ولا الكفار ولا الأشرار ولا أهل النار، فاجعلنا رفقاء الأنبياء ورفقاء الصديقين والمقربين يا سامع الدعاء، يا من لا يُخَيِّب الرجاء.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
الحمد لله رب العالمين
اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد
29 رَمضان 1439