تفسير سورة نوح، من قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ}، الآية: 1
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب العلامة عمر بن حفيظ للآيات الكريمة من قوله تعالى: {  إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ..} إلى قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} الآية: 4 من سورة نوح

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4))

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،

 الحمدلله مالك المُلك خالق كل شيء، بيده ملكوت كل شيء، نشهد أنه الله الذي لا إله إلاَّ هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده السّراج المنير، البشير النَّذير الدَّاعي إلى الله على بصيرة، مَن أحسن التبيين والتّبصير؛ فكان أكرم بشير وأعظم نذير. 

اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم في كل لمحة ونفس على عبدك المُجتبى المُصطفى سيدنا محمد، وعلى آله المطهرين وأصحابه المُكْرَمين ومَن تبعهم بالصدق واليقين إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعد،،،

فإننا في نعمة تأمُّلِ معاني كلام ربنا وخطابه، وما أنزله على سيد أحبابه في كتابه، متواليةً علينا النِّعم في هذه الغُدوات المباركة التي لم يبقَ منها من هذا الشهر الكريم إلاَّ القليل، بارك الله لنا فيها وأحسن ختمها لنا بأحسن ما يَختِم به رمضانات أهل القبول لديه..

انتهينا من تأمُّلات في سورة المعارج ووصلنا إلى سورة النبي نوح -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- ولقد أكثر الله في كتابه من ذكْر الأنبياء والمرسلين، ومن ذِكر قصَصِهم، وردَّد أخبارهم وأنباءَهُم وأوصافَهُم وثناءَهُ عليهم، فهم محَل التَّجَلة والتَّكرِمة عند كل مَن آمن بالله على قدر إيمانه بالله؛

  • فعلى قدر الإيمان بالله تُعظِّم مَن عظَّم الله، وتحب مَن أحبَّ الله، وتوالي مَن والى الله، وتَكره ما كره الله وتَبغض ما أبغض الله -جلَّ جلاله-. 
  • على قدر إيمانك به تكون عبدًا محضًا عن الشوائب التي تقطع العباد عن ربهم، والتي هي عبارة عن أصنامٍ تقطعهم في الطريق عن تحقيق التوحيد، وتحقيق العبودية للملك المجيد -جلَّ جلاله-. 

فأَنواع الشهوات وأنواع الأهواء: 

  • أصنامًا يسجد لها بعض الناس فيضعُف في سجوده لربّ الناس، وربما صار سجوده لربِّ الناس في ناحيةٍ وفي جانب، وفي جانب إنَّما يَسجُد لهذه الأصنام من دون الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 
  • إلَّا أنَّ مِن ذلك ما كان شِركًا خفيًا؛ وهو الكثير عند المؤمنين ولا يَهدِمُ أصل الإيمان.
  • ومنه ما كان شركًا جليًا؛ وهو اعتقاد الألوهية والرّبوبية في شيء غير الحق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه، أعاذنا الله من ذلك- وقد أعاذ الله بفضله المصلين من أمة عبده محمد ﷺ من ذلك الشَر.

 لكن بَقِيَ هذا الشرك الخفيّ، وهذه الصَّنَمية الباطنة التي تسجد لها قلوب كثير، وهم يُصلون لله ويسجدون لله! لكن قلوبهم ساجدة في نواحٍ من نواحي أفكارهم، أو تصوُّراتهم، أو إقبالاتهم، أو رغباتهم لغير الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

 وكلما قوي الإيمان وصفا؛ صار هذا الإنسان: 

  • يُحب ما يحب الرحمن، يَبغض ما يبغض الرحمن. 
  • يوالي مايوالي الرحمن، يُعادي ما يعادي الرحمن. 
  • يُعظِّم ما عَظَّم الرحمن؛ عبد موحِّد صادق. 

ما هو الله يحب شيء وهو يحب شيء ثاني؟! الله يمجد شيء وهو يمجد شيء ثاني؟! كيف هذا الإيمان؟ وكيف هذا العبد؟! الله يُعظم هذا وهو لا يعظمه! الله يحقِّر هذا وهو يُعظمه! كيف الإيمان؟ كيف العبدية هذه؟! كيف العبودية؟! هذا هو الضعف، وهذا هو النقص. 

ولكن كلّما كَمُل المؤمن تحوَّلت رغباته كلُها إلى مرضاة مولاه -جلَّ جلاله-؛ فصار عبدًا خالصًا لله.. 

  • "وتَعِس عبد الدينار وتعِس عبد الدرهم وتعِس عبد القطيفة وقد تعِس عبد الخميصة"، وتعِس عبد الشُّهرة وتعِس عبد السُّمعة، وكل مَن عبد غير الله تعِس. 
  • أولئك العباد: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]، أول وصف من أَوصافهم قال: ذِلَّتهم لله، (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) رضي الله تعالى عنهم.

يقول الحق تعالى وكرر لنا أخبار الأنبياء، ثم كرر القصة الواحدة في عدد من السور ويشير إليها إشارات، وما تحتويه من معاني ساميَات، 

  • ويقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف:3]. 
  • ويقول: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120].

ثم اختار عددًا من الرسل سمَّى سورًا من القرآن بأسمائهم: 

  • سمَّى سورة بسورة سيدهم؛ سورة محمد، وأَتىبَعها سورة المزمل، سورة المدثر، سورة يس، سورة طه؛ كُلها مسَمَّى بأسمائه ﷺ.
  • ثم سَمَّى باسم النبي نوح -عليه السلام- سورة نوح، وباسم النبي هود سورة هود، باسم النبي يونس، باسم النبي يوسف -عليهم السلام-، فسمَّى سور بأسماء هؤلاء الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ومنهم هذا الذي نحن بصدد سورته؛ سيدنا نوح؛ سورة نوح.

وسيدنا نوح عليه السلام في معنى أنه أول مَن أُرسِل من الأنبياء بالتّوحيد؛ فإن الناس في أول فطرتهم: ما كان أحد يشرك بالله شيء، ولا يَدْخل في العقول، ولا تقبل الفطرة أنَّ هناك إله آخر غير الله، ومضى على ذلك أولاد آدم والجيل الأول والثاني والثالث والرابع، حتى مضى رُسُل؛ وإنما كانوا يُحذِّرون الناس من الذنوب والمعاصي، حتى ابتدأ تلبيس إبليس وإغوائِهِ عبادة غير الله -تبارك وتعالى- والدُّعاء إلى الإلوهية والربوبية إلى غير الله، فأول مَن أُرسل لإبطال ذلك: سيدنا النبي نوح، وكان مَن قبلهِ من الأنبياء قد تُهلَك أُممهم بالذُّنوب، بِإصرارهم على الذنوب والمعاصي. 

ولمَّا جاء النبي نوح ومَن بعده من الأنبياء؛ أيضًا بقِي من أثر الفطرة أن يعلم كل عاقل من بني آدم أن له إله؛ ولهذا ما كانت دعوتهم قائمة على: اعلموا أن لكم إله، ولكن على: لا إله إلاَّ الله، يعني كل الآلهة غير الله، يعني: كون العبد أن له إله هذا أمر مقطوع به؛ ولذا لا تجد هؤلاء المُلحدين والمُنكرين للألوهية إلاَّ قوم متناقضين مع فِطرهم ومع عقولهم ومع أذواقهم الإنسانية من أصلها، وكل إنسان يشعر بأنه له إله -جلَّ جلاله-.

قالوا لبعض ضبَّاط مصر من قديم في مقابلة له: حدِّثنا عن أحرج ساعة مرَّت عليك في عمرك،  أشد موقف، فقال لهم: أنا تَرَبَّيت في بيت مُتأثِّر بالشّيوعية يُنكر وجود الإله، وهكذا كان أبي وأمي وتربينا عندهم نُكابر ونُنكر وجود الإله، وجاءت الحرب، يقول مع اليهود، وكنت يوم في الطائرة -هوضابط في الجيش-، وأحاطت بي أربع طائرات للعدو، وأَيقنت إنْ نزلتُ سأموت، وإنْ قابلتهم مَوت، ما شعرت بنفسي إلاَّ وأنا أصيح وأستغيث: يا الله! يا الله!، مع أننا عشنا في بيت يُنْكِر! لكن في تلك الساعة نطقت بكل قواي وبكل مشاعري.. ونجوت، لا أدري كيف؟! -بإعجوبة- ما أعرف كيف نجوت؟! من يومها عرفت ربي، وتُبت من الخربطة هذه التي وصلت إلى البيت من كلام فارغ، كيف مافي إله؟ والخلق لعب؟! وهكذا، ..لا إله إلاَّ الله..

لو أحد قال لك: أن طاولة واحدة تكوّنت من نفسها من دون صانِع صَنَعها؛ لن يدخل في عقلك! وبعد ذلك الكون كُلّه -من دون صانع- دخل في عقلك؟! والله عقل هذا ما أدري كيف هو؟! يناقشنا ويُعارضنا أن تكون هذه الطاولة لا أحد صنعها، من نفسها لماذا؟ وأنت تقول وجود الكون كله من نفسه؟ هذا العقل ما أدري كيف هو هذا! غير مضبوط هذا العقل، "مخ مافي"، يقول عندنا الأعجام إذا ما ينفعه عقل يقول: هذا "مخ مافي" وهذا مخ مافي، كيف الذي لا يصدّق  بعض الأشياء وهكذا…

لما جاء مرة بعض رؤساء الشيوعية إلى تريم في وقت بدأوا يأمِّمون أموال الناس ويأخذونها سموها -انتفاضة- ويأخذون أموال الناس، كان واحد شائب هنا من آل بارجيب -الله يرحمه- وكان عنده جاه، وهو باعتباره يستقبل بعض الأعيان، فلمّا جلسوا في الجلسة، كان عند الرئيس قلم، أخذ القلم من جيبه، وقاموا الرجال معه قال: يا حضرة الرئيس أنتوا لأجل القلم هَذا عملتم الحركة هذه، وقد أخذوا أراضي مساجد، وأملاك الناس وبيوت أخذوها كذا، كيف هذا؟ قال: انتبهوا منه هذا!، وحبسوه، ثم بقي سنوات في الحبس وخرج -عليه رحمة الله- وراحت الشيوعية ورجعنا بعده، بعد أيام الوحدة كان موجود هنا وتوفي عليه -رحمة الله-، لكن أمور تناقض العقل! أنت الآن ما استحملت أن آخذ عليك قلم واحد! وتأخذ أراضي طويلة عريضة؛ لمساجد وأوقاف الناس وبيوت، وتقول اشتراكية! وكيف عقلك يقبل هذا؟! كيف فطرتك تقبل هذا؟ أنت الآن لماذا زعِلت على قلم صغير كما هذا؟! قال؛ وتريدنا نحن نؤمم الأراضي الكبيرة الطويلة العريضة، ماذا تبقّى؟! ومزارع نأخذها، وديار نأخذها على خلق الله.

أهل الباطل متناقضين مع العقل، متناقضين مع الفطرة وهكذا -سبحان الله- الحمدلله على نعمة الإسلام، ثبتنا الله على حقائق الإسلام.

وكان الرسالة من بعد النبي نوح: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، يعني لا يناقشون الناس أنه لكم إله؛ لأن هذا أمر مُسَلَّم فيه، لكن احذروا أن تشركوا معه غيره، وأن تدَّعوا الأُلوهيه لغيره، الإله واحد وهو الله -تبارك وتعالى- لا إله إلا الله؛ فمضوا كلهم؛ الأنبياء حتى بعث نبينا محمد بـلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ..لا إله إلاَّ الله..

وكان بعد ذلك -نوح- مُرسلًا إلى الموجودين من بني آدم في وقته كلهم، وهذا أيضًا مما اختُص به نوح، إلاَّ أن يكون قبله آدم عليه السلام، ليس معه إلاَّ أولاده هو مُرسل إليهم كلهم، لكن بعد ذلك صار الأنبياء يُبعثون إلى قوم، إلى قوم، إلى قوم، ليس إلى بني آدم كلهم، لهذا أُرسل إلى الموجودين من بني آدم في ذاك الوقت كلهم سيدنا نوح -عليه السلام-. 

ثم بعد ما ذكر الحق من هذا الأمر العظيم الذي صبر فيه النبي نوح صبرًا، صبرًا، صبرًا، صبرًا، صبرًا، صبرًا، كبيرًا عظيمًا، بعد ذلك كل مَن كان على ظهر الأرض من بني آدم أغرقهم ولم يبقَ من بني آدم على ظهر الأرض إلاَّ مع مَن في نوح في السفينة، الذين في سفينة نوح إكرامًا لهذا الصابر، إكرامًا لصاحب هذا الجهد، وهذه التضحية، وهذا البذل، وهذه سُنة الله -تعالى- في مَن بذل يجازيه -جلَّ جلاله-. 

  • كما قال في الآية الأخرى -يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه- يقول سبحانه -الله أكبر- (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا):
    • (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) ونِعم العبد عبد من العُّباد الخُلَّص الكُمَّل عبدنا، (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر:9]. 
    • (فَدَعَا رَبَّهُ) -هذا مرجع الأنبياء- (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر:10]، فوقع شيء كبير في العالم، وهلك بنوا آدم كلهم إلاَّ الثمانين الذين مع نوح في السفينة!.
    • يقول سبحانه وتعالى: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:11-13].
    • يقول: ما هذا الأمر الكبير العظيم؟، والنجاة السفينة هذه مع الأمواج هذه الصعبة! قال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]. 
    • لماذا كل هذا يا رب؟ قال: (جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر:14]، واحد أوذي واستُهزيء به، و رُدَّ عليه قوله وصبر، ثم صبر، ثم صبر. 
    • هذا الجزاء.. على قدر التحمل والبذل يَكبُر الجزاء ويَعظُم: (جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ)، -الله أكبر- (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:15].
  • والله خاطبنا معشر بني آدم قال: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة:11]، نحن كنا محمولين في الجارية هذه -سفينة نوح- هل نسيت أنتَ أيام كنت في سفينة نوح، في صلب واحد من الذين مع نوح؟! أنت كنت عندهم هناك، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:11-12]. 

وعادَ بنو آدم إلى الخيانة مرة أخرى، وإلى نقض العهد مرة أخرى، وإلاَّ كل آباءهم كانوا مؤمنين، فالمَوجودون الآن في العالم من بني آدم أجدادهم مؤمنين، أجدادهم يشهدون: أن لا إله إلاَّ الله وأن الأنبياء رسله، كلهم أجدادهم مؤمنين.

لكن هم خربطوا، هم خالفوا بعد ذلك، رجعت الآدمية إلى غيها وطغيانها، ورجعت إلى كفرها وشركها وعنادها وإلحَادها -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وكله إلى أجلٍ معلوم بتقدير الحي القيوم، والحُكم مقبل على الناس، فيُفصل الأمر في جميع ما فيه، وانتهت كل الفوضى وكل الكذب وكل الدَّجل وكل التلبيس وكل التدليس ينتهي؛ هذه رسالة الأنبياء من بعد نوح ..لا إله إلاَّ الله..

يقول تعالى في مطلع هذه السورة: بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا..(1))، هذا غاية التمجيد لمقام الرسل، الرحمن يقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَا) نحن الذي نرسل، من عند ربي جاءوا -الله-، يعني الذي يحمله هؤلاء؛ من نظر، وتصور، واعتقاد وفكر؛ مصدره من عند الإله جاء، فالأطرُوحات على ظهر الأرض، من أين مصدرها؟ من أين تأتي التي تخالف ما طرحه الأنبياء من أين تأتي؟ وأين مصدرها؟ بشر بَينكم البين تقومون تخططون أفكار و أَرَاء، وتجعلونها مبادئ ومناهج في الأرض! 

قال: هذا منهج من عندي، أنا خالق الأرض وخالقكم وخالق كل شيء.. أنا الذي أرسلت الرسل: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا) يعني ما مصدره؟ فِكر بشري؟! ما مصدره مجرد العقل الآدمي؟! ما مصدره مجرد التجربة على ظهر الأرض! المصدر أكبر من هذا كله، قال: من عندي -الله أكبر-

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا..(1))، وهذا يبين لنا: مكانة المرسلين، رتبة المرسلين، منزلة المرسلين، عظمة المرسلين؛ فواجب كل مؤمن أن يملأ قلبه بتبجيل المرسلين والأنبياء، ولا يجوز له أن يرى أحدا يُقاربهم ولا يشابههم في حقائق المجد والشرف، والعظمة والرفعة قَط قَط قَط، كائنًا من كان، هم الأشرف، وهم الأعظم في الخلائق كلهم -صلوات الله وسلامه عليهم-، أين مصدر الاختيار؟

  • (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75]، ما هذه اختبارات بشرية عليها  انتخابات من الخلق فوقها لجان ينتبهون من المغالطة؛ هذا اصطفاء واجتباء من عالم الغيب والشهادة من بارئ كل شيء. 
  • (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)، ولايزال هكذا هم المرفوعوّ القدر في الدنيا والآخرة، كُل مَن خالفهم في القيامة يأتون يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)، وتناديهم الملائكة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]. 

الفخر لهم هؤلاء هم أهل الصدق، لا صدق لأحزاب ولا هيئات ولا حكومات ولا دول ولا مؤسسات، (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) وعد من الرحمن وصِدق للأنبياء فقط،  الباقيين ما لهم ميزان أمام هؤلاء (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، ليس المفكرين الفُلانين، والمثقفين الفُلانين، (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، الرسل  عليهم الصلاة والسلام هذا الوعد هذا الذي كانوا يُخبرونكم به الرسل، هذا الذي كان يُحدثكم به الرسل: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)  [يس:52] -صلوات الله وسلامه عليهم-.

 (إِنَّا أَرْسَلْنَا) يَقُولُ الله -أنعم بك يا رب- (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا)، النبي نوح الذي قال فيه "بِنْ لَمَك" إلى غِيرهِ -عَلَى كُلْ حَال- بَيْنَهُ وَبَيْن سَيِّدْنَا آدَمْ قُرُونَ، وبينه وبين سيدنا آدم رسل: منهم سيدنا إدريس -عليه السلام- وعدد من النّبيين والمرسلين بين نوح إلى شيث ابن آدم إلى آدم -عليه السلام-.

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ..(1))، أي بأن:

  • (أَنذِرْ قَوْمَكَ)، أي احمل الرسالة بإنذار قومِك، تَنبيههم وتذكيرهم حتى لا يقعوا في العذاب. 
  • (أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ) خوِّفهم وحذرهم حتى لا يتعرضوا للسِّوء وللعذاب؛ رحمة من الله بعباده يُرسل الرسل حتى خَتمهم بسيد المرسلين رحمة للعالمين ﷺ. 
  • (أَنذِرْ قَوْمَكَ) حذّرهم البطش والنقمة وما لا يطيقون من العذاب، حذرهم إن عصوا الله و أشركوا به، وخالفوا أوامره أن ينالهم سوء عذاب في الدنيا وأشد، وأشق منه سوء عذاب في الآخرة أَنذر قَومَكَ. 

(أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(1))، شديد الإيلام، لا يطيقونه، (أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،

فحمل الرسالة سيدنا نوح: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(2)): 

  • أُحذّركم غضب الله وعقابه وعذابه في الدنيا والآخرة إن عصيتموه و خالفتم أمره -جلَّ جلاله-.
  • (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) أُبَيِّن لكم النّذارة بتبيينٍ حسن، أُبِيْن لكم النذارة  وأُوَضِّحُها تمامًا، 
  • (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)، أي لا يُبعث الأنبياء والمرسلون بأشياء غريبة ولا بعيدة عن المدارك والعقل والفطرة يُرسلون بأشياء واضحة بَيّنة، أن لا إله إلاَّ الله وحده، وأن المرجع إليه، وأنه أوَجب وحَرَّم -سبحانه وتعالى- فيُبعثون بأشياء واضحة بَيّنة.
  • (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) بَيَّن النّذارة أُوَضِّحُها لكم توضيحا حسنا، وكل رسول ائتمنه الله أدى الأمانة، وكل رسول اختاره الله بلَّغ القوم كما أمره الله أن يُبلِّغ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]، فاختار هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم-.

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)، أي جئتكم بإنذار ورسالة من الله مفادها؛ (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(3)) -ثلاث أشياء- (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ): 

  1. (اعْبُدُوا اللَّهَ): دخل فيه كَسْبُ الطاعات، والحسنات، والخيرات والقربات القلبيّة والعُضوية.
  2. (وَاتَّقُوهُ)
    • الحذر من الذنوب والمعاصي وما حرَّم، وما كرِه من أوصاف القلوب، وأفعال الجوارح، مفهوم الظاهر والباطن مع الله. 
    • وبعد ذلك، مِلاك ذلك لتجتمعوا وتقوموا بِه قدوتكم وطاعتكم للنبي فقط.
  3. (وَأَطِيعُونِ): يعني اجعلوني مرجعيّتكم في بيان أمر ربكم،

بذلك تنتظم شأن البشرية وتقوم الرسالة، فعل الطاعات، وترك المحرمات والمرجعية للأنبياء.

(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(3)) وتضمّنت (أَنِ اعْبُدُوا الله) نفي الشريك عنه، ولا تعبدوا معه غيره من الأصنام التي تَنحتونها.

 والذي سيأتي الحديث في السورة عنها  أنه قال: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح:23]، ما هذا معكم؟! ولكن.. هكذا ابن آدم إذا تولَّع قلبه بشيء ولو كان شر، وشر الشر، لا يرى شيء أمامه ولا يريد إلاَّ هو -سبحان الله!- (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:8]، كشأن أمم كثير، شعوب كثير، دول كثير، هكذا يُزين لهم سوء عملهم. 

أنا ما أظن مرَّت بالبشرية فترة تجتمع فيها الدول، أو أعضاء دول يقررون: هل يمكن يُشذ الإنسان حتى في شهواته وتبعاته ويتحول إلى  أخس من الحيوان أو لا؟ أظن البشرية ما مرَّت بمثل هذا! فصار في وقتنا يُقنّن!، أرأيتم كيف الانحطاط بالإنسان؟! هذا لا تعرفه الحيوانات، تعيش في مكان واحد وهي صغيرة، وتكبر وشبابها؛ ولا تفكر في هذا أبدا! لا تفكر في هذا الشذوذ، وهؤلاء يجعلون له قوانين في الدول ويفتخرون بذلك؛ خساسة سقاطة: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) -إلى أين يمشون هؤلاء؟- (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) [فاطر:8] -الحمد لله على نعمة الإسلام- وإلى أين يمشون، ما أدري تاريخ البشرية حوى مثل هذا؟!

 لما حصلت الحادثة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، وجيء لهم بهذا الرجل وتشاور مع الصحابة: ماذا نعمل بهذا؟ تكلموا، وسيدنا علي قال له: "هذا عمل لو لم يَرِد في القرآن، ما كدنا نُصدقه، ما كنا نصدقه لو لم يرد، وما ورد إلاَّ في قوم لوط، وعلمتم ما فعل الله بهم؛ قلبَ أراضيهم وجعل عاليها سافلها"؛ حتى أجمعوا الصحابة على: 

  • قتله -أن يُقتل-.
  • وبعضهم دعا إلى تحريقه بالنار. 
  • وبعضهم قال: ارموه من فوق الجبل كما رُميَ قوم لوط، على رأسه ردّوه كما جعل الله قُراهم عاليها سافلها.

وحتى رأى سيدنا عمر أنه يُقتل فقتله، استغرب الصحابة وجود هذا! وكيف يكون هذا؟! فما أدري انحطاط البشرية إلى أين يمشي؟ ويفتخرون أنهم يتقدمون، ماذا يصنعون بهذا التقدم والتطور؟! خساسة إلى أبعد الحدود، يا محول الأحوال حول حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.

يقولُ: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(3)) ونتيجة هذا المسلك، الذي جاء به كل الأنبياء: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)؛ 

  • ترك المحرمات.
  • وفعل الطاعات.
  • والمرجعية للنبوة والرسالة.

هذا المسلك الصحيح وجاء به جميع الأنبياء والمرسلين ونتيجته: (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ(4))، كيف؟!

  1. (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) ولكل من آمن تكرَّم الله بمغفرة ما مضى من ذنوبه، هذا معنى (مِّن ذُنُوبِكُمْ). 
    • فبقي ما يكتسبه بعد الإيمان، إما أن يعفُ عنه وإما…، لكن بالإيمان يُغفر مِنَ الماضي، والماضي بعض ذنوب الإنسان. 
  2. أو أنَّ (مِّن) هنا معنى: الصلة، يغفر لكم ذنوبكم و (مِّن) صلة.
  3.  بل معنى ثالث يذكره الفخر الرازي قال: لا، (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) أبلغ، لو قال: يغفر لكم ذنوبكم؛ يعني: 
    • يغفر لكم على المجموع؛ لكن ممكن يؤاخذكم على بعضها.. مجموع الذنوب لا يؤاخذكم عليها، لكن واحد اثنين ثلاثة يستثني منها،  يغفر ربكم عليها. 

قال: (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) يعني ما كان من ذنوبكم حتى لا يبقى شيء، يغفر لكم ما مضى كله: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38].

(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ(4)) ومن منن الله على هذه الأمة وفَّر لها، ونوَّع وعدَّد أسباب الغفران حتى في مثل الشهر الذي نحن فيه يقول : "فرض الله عليكم صيامه وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، يوم ولدتك أمك، كم كان ذنوب عندك؟! -الحمد لله- صحيفتك بيضاء، تبييض صحيفتك أيضا إذا قبلك الله في هذا الشهر، ترجَع الصحيفة بالنسبة للذنوب كما يوم ولدتك أمك -الله أكبر- بَقِيَت الحسنات، الذنوب مثلما يوم ولدتك أمك، ونعمة كبيرة.. الله يكرمنا بحقيقة المغفرة، تمام المغفرة. 

(يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ)، قال: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى(4))..

كيف؟! أشار إلى مسألة من المسائل أنه: قد يكون الإيمان والعمل الصالح سبب لزيادة عُمر الإنسان بالنسبة لما في صحف الملائكة، أو بالنسبة لما يَعلم به الملائكة؛ لكن في سابق علم الله لا شئ يزيد أو ينقص، فيكون بعض القدر المُعَلَّق الذي يُعطَى للملائكة؛ فلان إن آمن يكون عمره ألف ومئة، وإن لم يؤمن، يهلك وهو ابن ثمان مائة مثلًا، فهذا بالنسبة لعلم الملائكة، لكن الله عالم هو، أن هذا سيؤمن وسيكون عمره كذا، أو لن يؤمن ويكون عمره كذا مقطوع.. 

  • في علم الله لا شي يتغير هذا هو كما هو؛ لكن بالنسبة لِما في صحف الملائكة -المعلق عندهم- هو الذي عندهم يتغير (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ) [الرعد:39]. 
  • أما بالنسبة لعلمه لا شيء يتغير أصلًا ولا شيء يزيد ولا يَنقُص أصلًا، أنه قد علِم ماذا سيكون وماذا سيعمل، بالدّقّة -جلَّ جلاله- (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].

فقوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..(4)).. 

  •  قد يكون أحيانًا الطاعة والإيمان سبب لطول العمر بالنسبة لما في صحف الملائكة، ولِيزداد الإنسان أجر و يدخل في دائرة: "خيركم مَن طال عمره وحَسُن عمله". 
  • ويكون كثير من الذنوب والإساءات سبب لقِصر العمر بالنسبة أيضًا لما في صحف الملائكة، هذا قد يكون. 
  • وقد يكون بعد ذلك عمر طويل في أعمال سيئة وهذا من أخبث ما يكون وأشد ما يكون.

فما هناك شيء يَحكُم الرحمن في أفعاله؛ وإنما قد يجعل بعض السُنن وأغلبيات في بعض الأمور، أما الحُكم فلا شيء يَحكُم الرحمن يفعل ما يشاء، يمكن أنت تأخذ قانون ما عندك، تَحكُم به فعل الله!! مافي على ربك  مافي لازم، لازم على مثلك بينكم البين في حدود مستطاعاتكم، أمَّا أمام الربّ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16] -جلَّ جلالة-؛ أشار لهذا في مثل قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)؛ فالإيمان والعمل بمقتضى أقوى أسباب التثبيت، (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ)؛ الظلم من أقوى أسباب الإظلال؛ لكن فوق هذا وهذا.. (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]، أي:

  • واحد ظالم -في لحظة- يُحَوٍله تَقِيّ مؤمن ويسامحه ويعفو عنه -الله-
  • واحد ظاهره مؤمن وأعمال صالحة -انقلب قلبه- طلع عفريت، واحد من العفاريت وتغير-لا حول ولا قوة إلاَّ بالله!- (يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]، لا شئ  يَحكُم ربك، هو الذي يَحكم، -الله-؛ 

فلهذا يحق أن يُهاب، يحق أن يُعظم وأن يُرجا؛ لأنه يغفر ولا يبالي، يعذّب ولا يبالي، (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) [الفتح:14] -اغفر لنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر-.

قال: (يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..(4)) في سابق علمه وفيما عَلَّق عند الملائكة إن آمن فلان سيكون عمره كذا كذا

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ) -الذي في عِلمه سبق- (إِذَا جَاءَ). (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) أي ما سبق في علم الله من الآجال: 

  • آجَال أعماركم.
  • آجَال العذاب ونزوله بكم.
  • آجَال قيام الساعة. 

هذه الآجال، كل واحد في وقته لا يتأخّر؛ لا ساعة موتك، ولا ساعة نزول عذاب: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11]: 

  • لا وقت نزول العذاب.
  • ولا وقت الموت الطبيعي.
  • ولا وقت قيام السّاعة. 

لايَملِك أحد أن يُؤَخِّره أَصَلًا: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ)؛ لهذا يقول على القيامة لمَّا يَستبطئها بعض الناس: 

  • (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:104] معنيًا معلوم. 
  • (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [هود:110]. 
  • لكن سبقت كلمة الله حكمُه وإرادته أن تكون الساعة قيامها في الوقت الفلاني، فهذا هو: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ:17] معَيَّن محَدَّد. 
  • (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ) [طه:15].

(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4)) أي إذا أردتم العلم الصحيح؛ (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؛ إدِّعاء العلم عند كثير من الكفار وغيرهم يضحكون به على العقول يقولون: أن كنتم تعلمون! تعالوا انظروا الى العلم، أنا سأُريكم حقائق العلم والعلم على صحته، على وجهه، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع؛ هذا هو العلم.

في الفترة التي جاءت فيها حركة العلم والعلمانيين كان كم مفكِّر نفرَ؛ بعضهم في المعسكر الشرقي، وبعضهم في المعسكر الغربي، أن تأخذ كتبهم وأفكارهم؛ أنت علمي، أنت علمي!! وهم متخالفين هؤلاء قضيتهم اشتراكية، وهؤلاء رأس مالية ونظرتهم إلى العالم وإلى واقع الحياة متناقض؛ ولكن إنْ تَبِعتَ هذا أنت علمي! وإن تبعت هذا أنت علمي! المهم لا تتّبِع الأنبياء ولا تتبع الصالحين، أنت مغفل! هكذا يقولون إذا تتبع الصالحين فأنت مغفل.

العلم عبارة عن تصور الشيء وإدراكه على ما هو عليه في الواقع.. 

وكيف أنا ممكن أكون علمي؟! أَتّبع -فلان فلان فلان- من المعسكر الشرقي وبينهم خلاف في مسائل -وفلان فلان فلان- من المعسكر الغربي أتبَعهم؟! أنت رجل علمي محرر! أوه ضحكوا على الناس سنوات بهذه الصورة.. 

و ما معنى العلمية؟! تُقِيم أُسُس تنظر فيها الى الأمر بموازينُه العلمية الثابتة، أما إنك تدرك الأمر، وتتْبع الأفكار التي قالوها هؤلاء فقط، وتتْنكَّر لمسألة الدين هذا وتعظيم السند هذا والشريعة، وتَنَكَّر لها تكون علمي متطور!، وإلَّا إنت مُتَزمِّت مُتَحجِّر مُتعصّب!! يا جماعة مقاييس العصبيّة كيف؟ مقاييس التَّزمُّت كيف؟ مقاييس العلمية كيف؟ كيف؟! 

يقول: (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4)) الأنبياء يقولون لقومهم: تريدون علم صحيح تعالوا؛ هنا العقل، العلم، تعالوا..هذا العقل وهذا مقتضى العلم، أمّا دعوى؟! وكما الذين يسمون أنفسهم علمانيين اليوم، هذا هو نفس الطريقة! ها.. تنكّر لشيء من الثوابت الشريعة واتبعنا في الفكر الفلاني، فتكون - في رأيهم- أنت علمي -علماني!!- طيب يا جماعة هذا هو العلم أَنّي أَتْبعك في القضية الفلانية؟! هو هذا العلم؟!  بأي منطق! بأي حُجَّة..! 

دَخَّلوا في القضايا العلمية -فترة من الفترات الماضية- الإنسان أصله قرد ثم تَطوَّر..! أصله قرد سنة كم؟ لا أحد يعلم! بأي إثبات؟! بأي وثيقة؟! بأي أثارة من علم؟ لا نريد وثائق ولا نريد صور، الناس أجدادنا قرود، وبعد ذلك لا نريد صور، أي أثارة من العلم ما الدلالة على ذلك؟! ولا شيء 

داروين فَكّر في الليل وجاء في اليوم الثاني بالخبر هذا!. هل هذا علم هذا؟! هل هذا علم هذا؟!  تذهب تصنع لي خيال في الليل وتصبح ثاني يوم؟! لكن مادام يناقض القرآن هذا علم؟! -أعوذ بالله- ما العلم هذا؟ هات دليل واحد ياداروين -نصف دليل، -نصف دليل- انظر عندنا قرود كثيرة ما تطوّرت، فهيّا تعال طَوّرها اجعلها ترجع مثلنا، أمر كلام يتناقض ويسمونه علم.

(لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4))، هذا الجهل هذا.. هذا سفسطة.. هذا ضحك.. هذا الخربطة.. هذا تفاهة، ليس علم أصلًا! ليس فيه ذرة من علم، ليس فيه علم! مجرّد خيال.

وهكذا.. وصلت في تلك الأيام هذه النظرية ويدرسونها في المدارس، واحد تأثّر من جماعة الشيخ البيحاني -الله يرحمه- في عدن قال: ممكن كان الإنسان أصله قرد، يجادل أصحابه، قالوا للشيخ: انظر فلان هذا تأثر! قال: بس اسمعوا، عندنا موعد معه وسنخرج في رحلة، قال: لكن لما نصل عند بيته لا تنادونه، أنا سأناديه، وصل الشيخ البيحاني -الله يرحمه- وجاء عنده: يا ابن القرد يقول له - ينادي عليه- يا ابن القرد.. هذا  سمع، من هذا يقول كذا؟! نظر.. ها!! الشيخ بنفسك وأنت تقول كذا!

قال: ما أنا قلت، أنت الذي قلت عن نفسك كذا... أنا لست بن قرد، أنا ابن آدم، قال له: أنتَ  تقول.

قال: لن أقول بعد اليوم، قال له: ونحن لا نقول، تعال اخرج، هو لم يقبلها أصلًا، الفكرة علمية على قوله؛ لكن فطرته ما قبلتها! ذوقه ما قبلها! قالوا له: ابن قرد، زعل!! ولماذا أنت تقول هكذا! ليس نحن الذين قلنا، قال: أنا ابن آدم إلاَّ أنت ابن قرد، أما أنا ابن آدم وأمي حواء وأبوي آدم، ما كنت قرد، ولا كنت أي حيوان آخر.

وكيف سمّوها علمية؟! نظرية علمية ويُدرِّسونها في مدارس وجامعات! ماهي؟خيال هكذا في ليلة، واحد فكر، رجل مثلنا، فوقعت علمية!! مَن هو ذا؟ من أين جاء؟ ماهو مصدره؟ وما مرجعه؟ من أين يستقي الفكر هذا؟ من أين؟ قل لنا من أين؟! طيب هات دليل علمي، هات دليل نظري، هات دليل منطقي!! -طيب أخي- إثبات، حُجة واحدة، وثيقة واحدة، دلالة واحدة ولا شي.!! -وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ- الحمد لله على نعمة الإسلام.

 قال: (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4))، وشكى سيدنا نوح عَمل قومه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ(7)) وسيأتي معنا شرح بعض معاني هذه الآيات إلى حد؛ أن يأتي بَعضُهُم بابنه -وهو صغير-  يأتي به إلى عند النبي نوح، وقال: اسمع أنا أُحذّرك من هذا وأنتبه تطيعه ولا يفتنك، انظر أقول لك: أنا أبي لمّا كنت صغير  مثلك جاء بي عنده وقال لي كذا، فأنا الآن أقول لك.

جيل بعد جيل وهو صابر عليهم، حتى أوحى الله إليه: (أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ) [هود:36]؛ رجع أتى بالدعوة قال: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح:26]، وكان بعد ذلك نصر؛ ولكن بعد صبر كبير في سيدنا نوح، وسيأتي معنا إن شاء الله.

جزى الله عنا الأنبياء خير الجزاء، لولا رسالاتهم هذه من الله ورحمة الله لنا بالأنبياء؛ كنا نحن صدق قرود ليس داروين وحده، كثير سيقعون قرود في الأرض، وأخس من القرود: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44]؛ لكن الحمد لله نعمة الرسل والأنبياء والكتب على ظهر الأرض، قوم يُباها بهم الملائكة، قوم لهم كرامة عند الله، ولهم منزلة عند الله، الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان وبعثة خير الأنام.

اللهم ثبتنا وانصرنا، وبارك لنا في رمضان -الذي أشرف على الرحيل عنا- اجعله شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، اجعله حجة لنا لا حجة علينا، ولا تجعله آخر العهد منا، وعِدنا إلى أمثاله، فعليك سلام الله يا شهر القرآن والمغفرة والرحمة، والعتق من النيران، والعطايا الكبيرة والإحسان. 

اللهم بارك لنا في خاتمته بركة واسعة، بارك لكل حاضر معنا ولكل سامع في خواتيم هذا الشهر، واجعل من بركتها حُسن عمله، وحُسن وجهته في طول عمره وحُسن خاتمته، ياأرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

28 رَمضان 1439

تاريخ النشر الميلادي

12 يونيو 2018

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام