(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
﷽
(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32))
الحمد لله مُكرِمنا بالخِطاب وآيات الكتاب، وصلّى الله وسلّم على عبده المُصطفى، سيّد الأحباب، وعلى آله خيرِ آل، وأصحابه خيرِ أصحاب، وعلى مَن سار في دربهم إلى يوم المَئاب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادة أهل الاقتراب، وعلى آلهم وصَحبهم والمَلائِكة المُقَرّبين، وجميع عباد الله الصّالحين وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
وبعد،،،
فإنّنا في بُكراتِ الأيّام المباركةِ وفي بُكرة الجُمعة الثّانية من شهر رمضان المُكَرّم المُبارَك، نتأمّلُ خِطابَ إلٰهَنا، وهو خَيرُ ما انصَرَفت عُقولنا وأفهامُنا لتَأمُّلِه وتَدبُّره، إذْ هو كلامُ الإلٰه الحقّ جلّ جلاله، وتأمّلنا معاني ممّا ورد من الآيات في سورة النّازعات، حتّى انتهينا إلى قولِ مولانا -جلّ جلاله وتعالى في علاه- بعد أن ذَكَرَ لنا أمرَ الحَشرِ وجَمْعِ النّاسِ والقُدرةِ الباهِرَة في ذلك، وما أرسلَ الله تعالى موسى إلى فرعون.
رَجَعَ يُخاطب -جلّ جلاله- من يَعقِل ويَتَعَجّبُ مِمّن يُنكرُ البَعثَ والحَشرَ والنّشرَ والعَودَ بعد المَوت والرِّجوع؛ بأيّ عَقلٍ يُفَكِرون؟! ولم يُنكِرون؟! وقُدرةُ القادِرِ أمام العُيون؟! يَرون قُدرةَ القادِرِ فيما يَسمعون ويُبصِرون؛ في لَيلهم إذْ يُمسونَ، وفي صَباحهم إذْ يُضحون، وفي الكواكِبِ والنُّجوم، وفي الحَيواناتِ والنّباتات، آياتٌ باهِرات يُوقِنُ كُلّ عاقل، أنّ صاحب هذه القُدرة يَسِيرٌ عليه أن يُحيى الأموات، خَلَقَ مِن لا شيء؛ فكيف يَصعُب عليه أن يُعيدَ الشّيء؟!، لا إلٰه إلا هو.
يقول سبحانه: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) كم طولَك؟ كم عُرضَك؟ كم حَجمَك؟ كم وَزنك؟ وكم طول السّماء؟ وكم عرض السّماء؟ وكم وَزنَها؟ وكم حَجمَها؟ أنت الذي تُقاس بالأذرع المَعدودَة، الصغيرة جدا وتقول من يَرُدّني؟! انظر الذي رَفَع السّماء فوقك، من هو؟ أنت أكبر أو السماء؟ كم عرضُك؟ كم طولك؟ أنت ما ترى السّماء أمامك! خالِقَها هذا، يَصعُب عليه أن يَرُدّ مثلك أنت؟! ليس فيك عقل يفكر؟!
(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا(27)) أيُّ بِناءٍ هذا؟ وكم هي باقية مِن يوم يُدرِك الواحِد مِنّا إلى أن يَموت وهي على هذا الحال، من أيّام آدم وعُمُر نوح ومَن بَعده والأُمَم والقُرون، إلى أن نجيء نحن ونُقَضّي السّنوات والسّماء فوقنا و نموت، مَن خالِق هذه السّماء؟ كيف بُنِيَت؟ الأبنية عِندنا في الأرض تَتَشَقّق و تَتَخَرّب و تَتَسَمكَر و تُصَوَّن ويُقام لها الصّيانة والتّرميم، وهذه مَن يُرَمِّمها؟ هل يمكن لأصحاب التّقَدّم والحَضارة أن يصنعوا صِيانة للسّماء، ولو صغيرة من أجل أن لا تَسقُط فَوقهم ! من يُمسِكها؟ (إِنَّ ٱللَّهَ يُمۡسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنۡ أَمۡسَكَهُمَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ ) [فاطر:41]؛ هل يأتون بما يمسك السّماء! أو ما الذي سيصنعون؟ ما في أيديهم شيء، ما أعجَزهم!.
(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ)، هذه المسافة التي بينكم وبينها، قلتم: "أنّكم تَقَدّمتم في كلّ ساعة، اكتشفتم طُول في المَسافات وأعداد غير مُتَناهية من الكواكب والنّجوم"، وما قَدَرتم أن تَخرُجوا من أقطار الأرض أو السماء؛ وأين السّماء؟
ومع ذلك كُلّه بِبِنائِها هذا العظيم (وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا) [النبأ:12]؛ هذه المسافة بيننا وبينها وبَعد المسافة، سُمكَها، (رَفَعَ سَمْكَهَا..(28))، حَجم مَرفوع مِن غير عَمد، ما في عُمُد نَراها تُمسِك، وارتفاع عَظيم والسَّمك نفسه مَسِير خمسمائة عام، وفَوقه سَماء أُخرى وسَمك خمسمائة عام، وفوقه سماء ثالثة وسَماء رابعة، الله أكبر! قال الإمام الغزالي: "واستَوْسِع مَملكة الله"؛
مَساكين يَتَنازَعون على هذا، والكُرةَ الأرضِية ليست من الكَواكِب الكَبيرة -الكُبرى-، جاء مِن حَجم الكواكب مَن يَقرُب منها ويَصغُر منها قليل، لكن أكثر حَجم الكَواكِب أكبر وأضعاف الأضعاف بالآلف تَفوقها وبالملايين، الله أكبر!
وهذه الكرة الأرضية، صغيرة من جُملة الكواكب، ثلاثة أرْباعها مَاء بَحر، ورُبعها هذا الذي قائِمة فَوقه الدّول هذه، ورُبعُها خالي أيضاً صَحاري، رُبع خالي ليس فيه سُكّان، فيه رِمال يَغوص النّاس فيها، الله! والباقي مكوّن من مائتين دولة فَوْقَه، كلّ واحد يَستَعرض عَضلاته على الثّاني، مُلك حقير.
قالوا لمّا دَخَلَ الإيمان في قُلوبِ السَّحرة بَعدَ ما آمنوا بالله، قالوا لِفِرعون: (فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ) [طه:72]؛ يعني ملكهُ صَغيرا، نحن آمنّا بِمَلِك يَملُك الكُلّ، ومُلكهُ كَبير عَظيم (إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ)، والحاصل أنّهم عملوا لنا ضَجّة طَويلة كَبيرة عليها، وكم سَفَكوا من الدّماء؟! وكم استَحَلُّوا من حُرمات؟! على هذه الأذرُع التي في هذا الكوكب الأرضي؛ اختبار وفِتنة مِن الله؛ فأكثر النّاس لا يَنجحون في الاختبار، أكثر النّاس يَهلَكون، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]، وأرسل الله إلينا الرُّسُل يقولون لنا: "أمامكم مُلك كَبير، أمامكم المُلك العَظيم، لا تَحفِلوا بالحَقير الفاني، واستَعِدّوا، يُمَلِّكُكُم صاحبُ العَظَمة مُلكاً كبيراً".
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ)، والعُيون هذه العَجيبة العَذبة الطيّبة، (يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا)، تَمشي بأمرِهِم حيثُ شاءوا، (يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا * وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا * فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمِ وَلَقَّىٰهُمۡ نَضۡرَةٗ)، نَضرة أبَدية وسروراً دائم، (نَضۡرَةٗ وَسُرُورٗا * وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيرٗا * مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ) -الأَسِّرة- (لَا يَرَوۡنَ فِيهَا شَمۡسٗا وَلَا زَمۡهَرِيرٗا * وَدَانِيَةً عَلَيۡهِمۡ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِيلٗا)، قُطوف الأشجار في الجَّنة مُذلَلة بِمُجَرّد ما تَنظر إليها تُحبّها، تَجيء تَقرُب، تَبعُد، تَتَناوَلها حيثُ شِئت، يذهب هذا، يجيء هذا، في خاطرك، (وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِيلٗا * وَيُطَافُ عَلَيۡهِم بِـَٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖ وَأَكۡوَابٖ كَانَتۡ قَوَارِيرَا۠ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا * وَيُسۡقَوۡنَ فِيهَا كَأۡسٗا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيۡنٗا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِيلٗا * ۞وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ) -الولِدان في الجنّة هم خُدّامُهم- (إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤٗا مَّنثُورٗا)، هذا مَنظَرُ الخُدّام، فكيف المَخدومين؟! الله!، (إِذَا رَأَيۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤٗا مَّنثُورٗا * وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا) [ الانسان:5-20]، الله أكبر! دائِم، مِن أوّل ما يُنادى بأهل الجنة أربع أشياء.
فَانظُر واحسُب شأن الدّول القائمة عِندنا اليوم والتي قبلنا والتي تجيء بَعدنا، تَجِد أَنّهم كُلّهم مَساكين، في قُصور ونَقص وخَيْبة، ضَيَّعوا الأمر العَظيم، إلّا مَن اتَّصل بالله ورُسُلِه وأقام حقّ الله ورُسِله مِن صَغير أو كَبير وما عدا ذلك؛
هذا المُلك الذي:
هذا مُعَرّض للمُلك الكَبير:
فإذا لاقوا زَوجاتهم الحور العين في الجنّة، غَنيّن لهم: "نَحنُ النّاعِماتُ فلا نَبأَس أبدا، نحنُ الرّاضياتُ فلا نَسخَط أبدا، نحن الخالِداتُ فلا نَموت أبداً، طُوبى لِمَن كان لَنا وكُنّا له"؛ مُقابل سَماع هذا الغِناء من الحور العين، هناك سهرات وسمرات أهل الدُّنيا كُلّها التي وَصَّلَتهم بعد ذلك إلى النّار، ماذا تساوي؟ والله إذا يَفُوت هذا، تفّ على سَهراتهم وسَمَراتِهم وأُغنِياتِهم كُلّها بجميع فَنّانيهم في العالم، إذا يَفُوت هذا، ما عاد شيء هناك، هناك لا يوجد غِناء في النّار مثل هذا، أما في النّار:
وهُناك يُناديهم الرَّب فوق غِناء الحور العين وفوق رؤية رب العالمين، "يَا أَهْلَ الجَنَّة لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْك، هَل رَضِيتُمْ؟ رَبَّنَا كَيْفَ لَا نَرْضَى! نَجَيّتَنا مِن النَّار أنْقَذتَنا مِنَ العَذاب وبَيَّضتَ وُجوهَنا وأحسَنت خَلقنا وأَدخَلتَنا الجَّنة وأَعطَيْتَنا وعدك، كَيف لَا نَرْضى"؛ انظر الخِطاب العَجيب:
"يا ربّنا كيف لا نَرضى؟! ألا أُعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟ يارَبّنا وما هو أفضل من ذلك؟! أُحِلُّ عَليكم رِضواني؛ فَلا أَسخَط عليكم بَعدهُ أبدا"، عسى معهم يا ربّ، عسى فيهم يا ربّ، نسمع هذا النداء ياربّ.
يقول تعالى في الآية الأخرى: (لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ) [غافر:57]؛ هؤلاء يُنازعون الأنبياء، كيف نرجع عِظام نَخِرَة؟ كيف نَعود؟ يا جَماعة! انظروا الى خلِق السّموات والأرض أمامكم، أمام أعيُنكم، شيء أمام عَينيك، كيف تُنكِرهُ! لا تَقدر أن تُنكِر، هذه القُدرة التي خَلَقتْ هذا الكَون العَظيم، هل تَعجَز عن خَلق مِثلَك؟! مَن أنت؟ كم مقدارك؟ وما حَجمَك؟ هذه قُدرة كَوَّنَت هذا العالَم الكَبير، كم تساوي أنت؟ تَصنَع مليون مِثلك، مليون مليون مِثلَك، مليار المليار من مِثلَك، كم تساوي أنت؟ وأنتم بِمِلياراتكم كُلّها ما تُساوون قِطعة من رُبع في السّماء، وبعد ذلك لم الإستِغراب؟ القُدرة أمام عينيك، تَستَغرب، لماذا؟
لهذا يتعجّب يقول: (عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ)، سيأتي معنا في السّورة التي بَعدها، (ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ * أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا)، قُوّتي أمامك، انظر لها بِعَينك، لِم تَستَغرِب البَعث؟! لِم تَستَغرِب الحَشر والنشور؟ كيف صَعُب عليّ؟! وهذا ما صَعُب عليّ وأنت تراه أمامك! (أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا * وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا * وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا * وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا * وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا * وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا * وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا * وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا * وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا * لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا * وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا)، ما الذي بعد هذا؟، (إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا) [النبأ:1-17]؛ وقت سيأتي ويقوم وانتهت، لا يوجد داعي للإستِغراب :(عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ) [النبأ:1]، لِم الإستِغراب؟!.
(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27)) سُبحانه مِن باني! سُبحانَهُ مِن خالِق! سُبحانَهُ! هل يَعجز عن أن يُعيد مِثلي؟! ومِثل بني آدم؟ كُلُهم؟ وأمثال أمثالهم ماذا يُساوون أمام هذه القُدرة؟! وهؤلاء الذين بَثَهُم الموجودين الآن من بني آدم، من أين ابتَثّوا؟ حَفنة طين كما هذه خَلَق منها آدم، الله! وكَوّنه (خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗ) [النساء:1]؛ أمام عينك تراه، وتقول وكيف ستردُّنا؟ وكيف جئت بك؟ كيف أوجَدتَك؟ الله! أنت ما تتعجّب في هذا الواقع الموجود الآن؟! هذا الواقع الذي نحن فيه يدلّ على قُدرة مُوجِدنا أن يُعيدَنا، أو ستنكر إنك ما أنت موجود، قل لي: لا، لا، ما أحد يقدر يوجدك؟ و أنت غير موجود، ممكن!.
سترجع، كما قال بعض المَلاحِدة في بعض الفُصول للطّلاب: ياطلاب لا تُصَدِّقوا إلا الذي تراه عُيونكم، لا تصدقوا الذي ما تراه عُيونكم، فالذي ما تراه عيونكم هو غير مَوجود؛ ويَضرِب لهم أمثله ويقول: عن شخص غير موجود، هل تَرون فلان؟ قالوا: فلان غير موجود. قال: هل تَرون هذه السّبورة؟ قالوا: نعم، قال: السّبّورة موجودة، ترون هذا الطّبشور؟ قالوا: نعم، قال: الطّبشور موجود، قال:هل ترون الله؟ قالوا: لا، قال: إذن الله غير موجود، قام أحد الطّلاب يسأل: هل ترون عَقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: عقل الأستاذ غير موجود، صحيح عقل الأستاذ غير موجود، لو كان عَقله موجودا لن يأتِ بهذا الكلام لأنّه لا يُرى بالعقل، إنسان مُلحد مسكين لا يُرى إلا بالبصر، وكم عندك في جِسمك ما لا يُرى بالبصر؟، و فوق ذلك نحن لا نرى معدتك، يمكن غير موجودة! ما هذا الكلام! لا إله إلا الله!
(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ (27)) لماذا الضّجة هذه؟! تُعانِدون الأنبياء وتُكابِرونَهم لأجل إعادتكم، ما أهون ذلك، ما أيسر ذلك.
تقدّم معنا قوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجۡرَةٞ وَٰحِدَةٞ (13) فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ (14)) تُعجزون مَن؟
فكلّ عاقل تأمّل بالإنصاف، لن يَستَغرِب في البَعث أو في الحَشر أو في النّشر، أمثال أمام عَينه مِن عَظَمة هذه القوّة، كيف يَكون البَعث والحَشر والنّشر؟ يَسِير على مَن خَلَقَ هذا العالم الكَبير جلّ جلاله وتعالى في علاه.
(بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)) تسويَةً تامّة، لا احتاجت صِيانة ولا تَرميم ولا تَشَققت أو تَناثَرَت أو تَكسّرت، الله! الله! إلى أن يَأتي الوقت ويَنتَهي كُلّ شَيء.
(أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)) وهكذا أكثرُ الكُرةُ الأرضيّة، يَستَقيمُ فيها ليل ونَهار في خلال اليوم واللّيلة، إلّا بعض مواضع مُعَينة جَعَلَها الله تَعالى عِبرة وعِظَةً يُبطئ عليها طُلوع الشمس، أو يُكمل إلى أيّام، إلى أشهر، إلى أكثر شيء ممّا اكتُشِفَ على بِقاع الأرض؛ ستة أشهر يَبدو لهم ضَوء الشمس، وسِتّة أشهُر يَغيبُ عَنهم، وهؤلاء حُكمُهُم في الصّلاة والصّيام؛ وإذ دَخَلَ الإسلام بِحَمد لله إلى مِثل تِلكَ الأراضي، ولن يبقى بيت في الأرض إلا ودخله الإسلام، مهما خطط المُخَطِّطون وعادى المُعادون، لِلدّين ربٌ يَحميه جلّ جلاله وتعالى في علاه، ولن يبقى بيت إلّا دخله الإسلام.
والآن في مِثل تِلكَ الأراضي أُناس مسلمون، فكيف يُصلّون ويصومون؟ يُنظَر إلى أَقرَب بُقعة مِن الكُرة الأرضيّة فيها ليل ونهار؛ فيمشون على برنامجها؛ فَيكون صَلاتهم وصومهم على أقرب بُقعة لهم من الكُرة الأرضية فيها اللّيل والنّهار ويمضون عليها.
"فَاقْدُرُوا لَهُ" قال ﷺ، لمّا ذَكَرَﷺ أيّام الدّجّال على الأرض أربعين يوما، لكن:
قالوا: يا رسول الله! أرأيت اليوم الذي كسَنة، تُجزئ فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَه" يعني ارْجِعوا إلى التّقدير الذي كان عندكم في المواطن والمواقع؛ فَامْشُوا عليه، "فَاقْدُرُوا لَهُ قَدْرَه" ﷺ.
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلك.. (30))، حتّى الأرض التي تمشون عليها هذه، صُنع مَن؟ تَكوين مَن؟ أليس فيها آيات لكم؟! الله!
يُريدوننا نمشي بُلهان، هذه الآيات كلّها أمامنا، يقولون: لا تَتَفَكرّوا في صانِعها و لا خالقها، فقط اتركوها هكذا كأنّه لا يوجد، كيف كأنه لا يوجد؟ هذه آيات تُنبِئنا:
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (30)) كيف بعد ذلك؟ أوّلا خلق الأرض؟ أو خَلَق السّماء؟ جاءتنا آيات تقول: أنّه خلق الأرض ثمّ استوى إلى السّماء، وخلق الأرض في كم؟ أربعة أيّام، والسّماء في يومين، الله! الصغيرة هذه، جعل لها وقت طويل، والكبيرة العظيمة المحيطة فوق لها وَقت قَصير؛ لأنّه في قُدرَته كُلّ شَيء يَسير.
ولِمَ جعلها في ستّة أيّام -السّموات والأرض-؟ قال حِكمة من حِكَمهِ ليُعَلِّم عِباده التّأنّي في الأمور لأنّ قدرتهم محدودة، وإلّا هو في لحظة، لا يوجد فرق بين ستّة أيام، ولحظة يَخلُق فيها السّموات والأرض كلّها سواء؛ في لحظة، في ستة أيام، في سنة في أقل، في أكثر، عند الله سواء، لكن جعلها في ستّة أيام ليُعَلِّم عِبادهُ، أنا القادر، صاحب القُدرة المُطلَقة ومع ذلك رَتّبت وتَدَرّجت في بناء الكون، وأنتم أموركم أُبنوها على التّرتيب والنّظام، ما هو بدفعة واحدة، ما تَقدرون.
قال: (بَعْدَ ذَٰلِكَ (30))، يأتي في لُغَة العَرب، أي البَعديّة للذِّكر لا للحَدَث، يقول أنت اليوم كَلّمتَنا كذا كذا، وبعد ذلك قد سافرت العام الماضي إلى مكان كذا، وبعد ذلك قبل أربع سِنين وقفت مَوقِف كذا كذا؛ ليس "بعد" تعني في الحدث، هو قبل، لكنّه يَذكُره بِلَفظ بعد ذلك، ويقول أنت ما فَهِمت كلامي، وبعد ذلك كَلّمتك أربع مرات، وبعد ذلك تُخالف أمّك؛ هذا ليس تَرتيب؛ أنّه أوّل عَملت هذا، ولكن يعني هذه كلّها مجموعة فيك، ويأتي بمعنى؛ مع ذلك، ومع ذلك، ومع ذلك فهكذا..
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31))، مِن جُملة الكُنوز التي جَعَلها في الأرض الماء والمرعى، تَتَفَرّع عنه بَقيّة المَصالح كلّها؛ الماء والمرعى، حتّى من خلال هذا الماء والمرعى، يكون تَكَوّن المَعادن في الأرض
(وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)):
أرسى الجِبالَ بأوتادٍ لها فَرَسَت *** وفي الرّجال جبال بل وأوتادُ
أرسى البلاد بأطوادٍ لها فَرَسَت *** وفي الرِّجال جبال بل وأطوادُ
(وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)، في السورة التي بعدها يقول: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:7] و الوَتَدُ، تَدُقّه في الأرض، فيكون أكثره مَدقوق في الأرض، أي أن الجزء الأكبر منها غائص في الأرض مثل المُرتفع فوق الأرض مرتين، موجود تحت الأرض، مثل الوتد تماما (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:7]، فَ(أَرْسَاهَا) فكان سبباً بِتَدبيره لضبط حركة الأرض وعدم حدوث الاهتزازات فيها والاضطراب بوجود هذه الجبال (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا).
كلّ هذا جَعله: (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33))، في الأخير الفائدة من هذا والمَصلحة: (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)، أنتم وحيواناتكم التي تحتاجون إليها وتعيشون مِن مَنافعها في الدّنيا، خلقنا لكم الأرض، ومهَّدْناها تَمهيدا،
وَدَعْهم يُفَكِّرون؛ هل يُمكِن للإنسان أن يَسكُن في شيء من الكواكب الأخرى؟ سواء أن قلّ طوله أو عرضه، هذا مِهَادًا لَنَا وسَكَنًا، (۞مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ) [طه:55]، جلّ الله! جلّ الله تعالى في علاه.
هكذا يُذَكِّرُنا الحقّ بهذه العظمة ويُعيد لنا الذِّكرى، ما سَيكون في ذلك المُستَقبل الكَبير الذي سَيأتي؛ جعلنا الله مِن الفائزين فيه، مِن النّاجين فيه، مِن الرّابحين فيه من أهل جَنّاته، يا ربّ! أسمعنا نِداءك في الجنة إذا ناديتهم؛ هل رضيتم، شَرِّف مَسامِعنا هذه، إنّنا قُربةً إليك استرحاماً واستعطافاً نَسمَع آياتك ونتأمّل معانيها عسى أن نَسمع مِنك ذاك النِّداء العذب.
يا ربّنا في موقف الكرامة مع أهل جنّتك إذا ناديتَهُم فقالوا: لّبيك ربّنا وسعديك، فقلت هل رضيتم؟ وشَرِّفنا بِسماع قولك: أُحِلّ عليكم رضواني، اللهم شَرِّفنا بذلك، اللّهمّ أكرمنا بذلك وأهلنا كلّهم، يا ربّ! ومَن حضر ومَن يَسمع وأهالينا وأهاليهم وأهل ديارنا وأهل ديارهم وقَراباتنا وقَرباتهم، وطُلّابنا وأحبابنا وأصحابنا وذوي الحقوق علينا، أسمعنا لذيذ ذلك النّداء.
يا عالم بما خَفِي وما بَدَى بحقّك عليك، لا تحرم هذه الأسماع سَماع ذلك النّداء في ذلك اليوم مع نبيّ الهُدى؛ فَنَنْعم بقولك: أُحِلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا؛ بوجهك نسألك أن تُكرمنا بذلك وأن تجعلنا من أهل النّيل لِمَا هُنالك والسّالكين أشرف المسالك، السّالمين من جميع المهالك، يا الله!
وعِندَ طُلوعِ الشّمس في يوم الجمعة واليوم الأزهر، نَتَوجّه إليك، ياكَريم، يا بَرُّ يا رَحيم مُنَّ عَلينا وَقِنا عذاب السّموم واجْمعنا في أشرف مُستقرّ وأسمِعنا طيّبَ ذلك النّداء الأغَرّ، يا الله!
وإذا شَرَّفتهم ودَعوتهم إلى ساحة النّظر إلى وجهك الكريم؛ فاجعلنا في ذلك الرّكب المبارك العَظيم، النّاجي، المَسعود برحمتك، يا برّ ياودود! نسألك الأمن يوم الوعيد والجنّة يوم الخلود، مع المُقَرّبين الشّهود والرّكع السّجود، الموفين لك بالعهود، إنّك رَحيم وَدود وأنت تفعل ما تريد.
نسألك الصّبر عند القَضاء والفَوز عند اللّقاء ومَنازل الشّهداء وعيش السّعداء والنّصر على الأعداء ومُرافقة الأنبياء ومُرافقة الأنبياء ومُرافقة الأنبياء، يا ربِّ مُرافقة الأنبياء! يا الله مُرافقة الأنبياء! يا رحمٰن مُرافقة الأنبياء! يا رَحيم مُرافقة الأنبياء! يا مَلِك مُرافقة الأنبياء! يا قُدوس مُرافقة الأنبياء! يا سَلام مُرافقة الأنبياء! يا مُؤمن مُرافقة الأنبياء! يا مُهيمن مُرافقة الأنبياء! يا الله! يا الله!
نَسألُك ونَطلُبُك ونَدعوك ونُلُحُّ عليك، نَسألك مُرافَقة الأنبياء مِن غَير سابِقة عَذاب ولا عِتاب ولا فِتنةٍ ولا حِساب ولا تَوبيخٍ ولا عِقاب.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
16 رَمضان 1438