(608)
(379)
(535)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ }، من الآية: 36 حتى نهاية السورة
﷽
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38) كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44))
الحمد للهِ رَبِّنا الكريم العظيم الرحيم، مُنزل آياتِ الكتابِ الحكيم، على قلبِ نبيّه المُجتبى المُصطفى الرؤوف الرحيم، ذي الخُلق العظيم، الهادي إلى الصراط المُستقيم. اللهم صلّ وسلم أفضل الصلاة والتسليم، على عبدك الجامِع للكمالات الإنسانية، الواسِع في المشاهِد الروحية، سيّد الكونين وأشرفِ الثقلين، سيدنا محمد، وعلى آله المطهرين وأصحابه الغرِ الميامين، وعلى من اتّبعهم واقتدى بهُداهم إلى يومِ الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ساداتِ أهل حقّ اليقين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عِبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
و بعد،،
فقد انتهينا في تأمُّل آيات ربّنا -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وبياناته، إلى خاتِمة سورة المعارج، ومررنا على قوله جلّ جلاله في اسْتِنكار أو اسْتِبعاث اسْتِنكار كل عاقل على الفئات التي تعيش على ظهر الأرض، عُصَباً مُتفرِّقين يخوضون في الباطِل ويغُضّون الأبصارَ عنِ الأنوارِ وعن رؤية الحقِ ولا يزالون لاعبين في المُتعِ الفانياتِ، غافلين عن حقائقِ البداياتِ والنهايات.
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)) مُصْغين مُنْصتين:
فإنّ أهل الكُفرِ والزيغِ والضلالِ بأصنافِهم يُخالِفون المنهج القويمَ، ويتّفِقونَ على مُخالفة ويفترِقونَ فيما بينهمُ البين افتِراقاتٍ كثيرة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويسِبُّ بعضهم بعضاً، ويُخطّئ بعضهم بعضاً.
المراحل التي مرّت على الناس في القرن الماضي في الحياة الدنيا من دعوى العِلْم، والتنكُّر للأديانِ بدعوى العِلْم، ودعوة الناس أن يكونوا عِلْميين عِلْمانيين يُقِرّون بالعِلْم. وما العِلْم؟ كان عِبارة عن أفكار يدعو إليها ناس في الشرق وناس في الغرب، وهي مُتضادة، فهل يقبل العقل أن يكون عِلْم؟! واحد كذا وواحد كذا، هذا عِلْم و إلا جهل!؟ أتبع هذا و إلا هذا!؟ أنت عِلْمي.
القصد لا تتبع دين، لا تتبع إله، لا تتبع نبي. اتبع هذا إن أردت مركز أو أردت دين و إن أردت أن تذهب إلى الشرق أو الغرب، المُهم تنكّر للدين أنت عِلْمي؛ ليس هذا العِلْم، العِلْم: إدراك شيء على ما هو عليه في الواقِع.
فهل يمكن إدراك شيء على ما هو عليه نقيض -واحد كذا واحد كذا-؟! هذا مُتناقِض، من فلسفتهم إلى الكون ونظرتهم إلى الكون مُتناقِضة -واحد يقول كذا واحد يقول كذا يقول- فقط عِلْمي. اتْبع واحد من الفجرة الكفرة عِلْمي، لكن لا تِتْبع مُحمد، لا تِتْبع صالِحين، لا تِتْبع أنبياء، فقط هذا القصد -أعوذ بالله-، هذا العِلْم؟!
كيف يكون العِلم بهذه الصورة؟! فضحِكوا على الناس باسِم الِعلم، الِعلم الذي عِندهم مُتناقض كل التناقض، وما بين رأسمالي واشتراكي في شؤون تنظيم المال في الحياة. الرأسمالي ضِد الاشتراكي، والاشتراكي ضِد الرأسمالي؛ لكن الِعلم أوجب الاشتراكية والرأسمالية، عِلم؟! عِلم ماذا؟! ثم مرّ القرن ورأت العيون فشل الرأسمالية وفشل الاشتراكية؛ لكن منهج محمد مُنقذ للأمة منهج الله الذي خلقهم -جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وكان هؤلاء مُتشبثين برأسماليتهم بشكل قوي وهؤلاء باشتراكيتهم بشكل قوي، فإن ضَعُف هؤلاء نقّص قليل وهذا نقّص قليل وهذا نقّص قليل، والآن حتى المُناداة بالاشتراكية والرأسمالية ما عاد لها مجال في واقِع الناس؛ لأن هذا تخبّطت الحياة عليهم، وهؤلاء وقعت الأزمات عِندهم، وكلّها مُشكلة ما انْتهوا إلى ما كانوا في البِدايات.
تسمع قبل خمسين سنة، قبل ثمانين سنة: الأرض ستقوم بهذا جنّة وستُصبِح كذا، الأرض بهذا تُصبح جنّة للناس، وسنُنظم حياة الناس يكون بالرأسمالية، بالاشتراكية وماذا نظموه؟! أوصلونا للحروب، هذه النهاية، والثروات لا ندري أين ذهبت والأشياء تخربطت، هكذا وصَّلتنا الاشتراكية ووصَّلتنا الرأسمالية إلى هذه الأحوال الرديئة -إنا لله وإنا إليه راجعون-.
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)) فِرق .. فِرق .. فِرق مُتفرِّقة، عِصابات، عِصابات، عِصابات. وماذا بعد؟
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38) كَلَّا) لا نعيم الدنيا، ولا نعيم الآخرة بأيديهم، لأن للدنيا والآخرة ربّ وملِك وإله. لم يُسلِّمهم إيّاها، ولا تخلّى عنها لهم، هو يحكُم الدنيا وهو يحكُم الآخرة:
النهاية لهم والعاقِبة لهم وحدهم..
ليست العاقِبة لهم؛ العاقِبة لِمن اتّقى الجبّار، اتقى سخط الخالِق، مُكوّر النهار في الليل و الليل في النهار -جلّ جلاله-.
قال: (كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39))، قل لهم من ماذا خُلِقتُم؟ ما بداية تكْوينكم؟ ومن كوّنكم؟ وكيف جعل الخلق للأجسام من نُطف؟
والنبي تحدّث عن هذا فيما أوحى الله إليه في القرآن قبل الألف وألاربعمائة سنة؛ لا أجهزة، لا مُختبرات، لا أشعة، لا أحد يدري كيف يتكوّن الجنين في بطن أمّه، و حَدّد مراحِله، واحِدة بعد الثانية.
وهكذا الدِقّة في التّصوير والتركيب والتطوير، قبل ألف وأربعمائة سنة أين الأجهزة؛ ايُشاهدوا الناس فيها كيف يتكوّن الجنين في بطنه أمه؟! أين الأشعة؟!
هل أحد يتكوّن من غير هذا التحديد الذي قاله حبيب الحميد المجيد؟! هيّا اذهب واحضر لي واحد.
صَدَقْ محمد، كل مولود في العالم يشهد بِصدِق مُحمد، كلّ حمْلٍ لأم في العالم تشهد بصدق مُحمد؛ فما لهم يُكذِّبون؛ يريدون دليل مثل ماذا؟! ناطِقة الموجودات بصدِق مُرْسَل المُوجِد لها ﷺ.
يقولُ: (كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39)) ورد: ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغة، ثم يُرسِل إليه مَلك؛ الدِّقّة في الترتيب.؛ قبل سنوات معدودة كان بعض المُتابِعين للأجنّة من المُتخصّصين الأطباء والدكاتر الكبار عندهم. فقد توصّل إلى اكْتِشاف:
كان أول قطعة لحم، فاللحم كله يتحوّل لعظم، لايوجد شيء من اللحم، ثم يطرأ عليه اللحم، فرأى أن هذا اكتِشاف جديد في عالم عِلم الحديث، ودعا في مؤتمر إلى اجتماع يُشرح لهم كيف اكتشف هذا الأمر، الجنين في بطن أمه يتحوّل إلى عِظام خالِصة ثم ينشأ اللحم. وأخذ تجارب ووضعها، قام واحد من عندهم -كان عنده إسلام- قال له: هذا مذكور في القرآن الذي جاء به محمد، أين؟! .. أين؟! قال: وسط القرآن، وتكوين العِظام قبل اللحم.
فاهتز!! قبل 1400 تكلّم مُحمد بهذا الكلام؟ وأنا اليوم أعد نفسي أول مُكتشِف في العالم له؟!
صدق الله، صدق في هذا، صدق في هذا، صدق في هذا، كلّه كلام واحد من أصدق القائلين رب العالمين -جلّ جلاله-
(كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39)) ولا عَرف من ماذا خلقتك؟! جسدك هذا الذي تُريد تلعب به وتطاول، ما أصله؟! نطفة تستقذِرها، لو وقع مِثلها في ثوبك تروح تغسله، منها هذه تكوّن هذا الجلد واللحم هذا، والعظم، والعيون هذه، منها هذه النّطفة، الله .. الله.(كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) أما يكفيهم هذا؟ أين تذهب عقولهم؟!
(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)) فلا أُقْسِمُ؛ أي فأُقْسِمُ وهي في لُغة العربِ مُستعملة عندما يريد تأكيد الكلام أحياناً باللام المُجرّدة، لام التأكيد، وقد يُستعمل فيها (لا)؛ لإشباع اللام بالفتحة؛ (فَلَا أُقْسِمُ) أي فلا أُقْسِمُ مُؤكداً، (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) الذي خلق الشمس، خلق القمر، وجعل لكلّ منها طُلوعاً وغُروباً، ومشارِق ومغارب، لا إله إلا هو.
(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ):
وما يمُر في الغالِب على ظهر الأرض -مائة سنة- إلا وكل الذين يبقون من بني آدم وجوه غير الذين كانوا قبل المائة السنة، ولا يبقى وجه واحد إلا في أندر النادر -الله أكبر!- بل ترى تغيّر الوجوه في أقل من ذلك.
تغيب عن البلدة عشرين سنة تجيء تُحصِّل وجوه جديدة، وأكثر الوجوه التي كنت تعرِفها قد فُقِدت -غابت- كانوا يقولون: يكاد يصل الإنسان إلى أربعين سنة إلا والذين يعرِفهم من الأموات أكثر ممن يعرِفهم من الأحياء. والآن من قبل الأربعين السنة، كم تعرف؟ وكم تعرف؟ وكم تعرف؟ ذهبوا، غابت هذه الوجوه من على ظهر الأرض؛ ولا يعتبِرون ولا يدّكِرون، (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) -لا أحد مِنهم يرجِع إلى عنده- (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس:31-32] يتجمّعون، يتجمّعون و نبعثهم في يوم واحد.
(عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)) ما نحن بعاجزين، ولا يفوتنا ذلك، ولا يفوتنا شيء، (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)، يقول الله:
قمُ بالعبودية؛ فقام بالعبودية ﷺ، رحمة للعالمين، وعلّم أمّتِه أن يفعلوا كذلك (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في الباطِل ويلعبوا في الدنيا، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا..(42)) -الله أكبر-.
(أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الحديد:20]. هات لي واحد من أعمالِهم، في حضاراتِهم يخرج عن هذا: لعباً، لهو، زينة، تفاخُر بينكم، تكاثُر في الأموال والأولاد؛ ماذا غيره؟ كل ما يعملون من مشاريع، من أفكار، من ابتكارات، يدخُل:
لا يدرون ماذا يفعلون بالزينة؟ كل الزينة التي فيها نوع من الزينة المُتناسِبة مع الفِطرة أكملوه، جاءوا بما يخرُج عن الفِطرة، أكملوا الذي يتناسب مع الفطرة:
وإلى أن أظهروا حتى بين المسلمين؛ بعض قصّات أومُشْطات أو زينة يقول لك: فُرْعونية، بسم الله الرحمن الرحيم! مابقي معنا إلا فرعون؟! انتهى كل شيء؟! ورجعنا إلى الذي كان يُعادي البشرية يقول: أنا ربكم الأعلى، ويكذِب على خلق الله، والآن أصبحنا ننتمي إليه -بسم الله الرحمن الرحيم، حتى الاسم لا ندري كيف؟! ويُحِبّونه! موضة! موضة! يا حافظ احفظ علينا العقل والدين.
إذا أراد الله أمراً سلب أهل العُقول عُقولهم، بلا عقل يمشي ويرى نفسه عاقِل كبير، والحلّ كما يُذكر كان على سبيل التبْكيت والتنْكيت لبعضهم: أن قرية من قرى بني إسرائيل، قال لهم بعض علماء أهل الكتاب عندهم: إن المطر الذي يأتي، من شرِب منه جُنَّ. فقال الملك لوزيريه: احفظوا لنا المياه حتى لا نشرب من هذا المطر، فاحفظوا المياه. والرعية كلّهم شرِبوا من المطر؛ تجنّنوا بقي الملك والوزيرين. الرعية رأوا هؤلاء منْضبِطين بعقولهم، قالوا: ما لهؤلاء؟ ليسوا مِثلنا كذا! فيهم شيء؛ سنُغيّرهم، سيُعملون انْقِلاب ضدهم! عند بني إسرائيل ثورات -الله اعلم به-؟! على كل حال سيعملون انْقِلاب عليهم، قال الملِك: هل بقي من مائهم؟!دعونا نشرب؛ نُصْبِح مِثلهم، حتى لا يُبدِّلونا.
(كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) هم بين هذا؛ وتفاخُرٌ في الأموال والأولاد، ويدخُل في الأولاد، ما يفتخِرون به من الجُند، الجُنود والعساكر يفتخِرون به، هذا ليس عِندهم، والذي عندهم هذا كله (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) - يعني الزراع- (غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) المُزارِعين فرِحوا به، طلْع نبات زين، (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) [الحديد:20].
وبعد ذلك قال: الحياة الكبيرة التي أمامكم فيها دارين، فيها فريقين، فيها حالتين:
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)، كل واحد من هؤلاء يرجِع إلى الآخرة؛ فإمّا إلى عذاب شديد، وإمّا إلى مغْفِرة من الله ورِضوان. وأمّا الذي مرّ عليهم في الدنيا: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ* سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:20-21].
يقول:
(حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)) ما اليوم الذي يوعدون؟ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا ..(43))، مِن القبور؛ جمع: جدث (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ) عند النفخة الثانية في الصور، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) -الأولى- (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ) [الزمر:68]، ملائكة وإنس وجن وحيوانات كلها تصعق، في تلك الساعة موجودين ناس من بني آدم على ظهر الأرض شِرار ليس فيهم من يقول الله؛ كُفّار أبناء كُفّار:
بغْتة؛ (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف:187]، لا إله إلا الله. (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، مات من في الأرض، صَعِقَ من في السماوات؛ الذين في البرزخ أيضاً من الأرواح تُصعق مكانها، يُغشى عليها؛ لا يبقى أحد، حتى إسرافيل الذي نفخ في الصور يُصْعق مكانه.
مات الكلّ، ويُنادى الجبّار: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ولا يجيبه أحد، العُقلاء في صعِقتهم ومعهم الحيوانات كلها صعِقت، يقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16] الذي قهر عِباده بالموت.
قُم يا إسرافيل -بعد مُرور أربعين-؛ يقوم سيدنا إسرافيل: انْفخ مرة أُخرى في الصور، فيتناول القرن العظيم، هذا الصور، الذي فيه جميع أرواح بني آدم والجن والملائكة والحيوانات فينفخ؛ فتطير كل روح إلى جسدها. وقد كوّن الله الأجساد وأعادها على ظهر الأرض، بقْعة صغيرة مثل هذه ّ فيها مئة أو مئتين أوألفين أو ثلاثة ألف جسد -مكوّنة-؛ رجعت -سبحان الله!- فبمُجرّد إن يُنفخ في الصور، قال تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68].
(فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]؛ مثل: سيدنا موسى عليه السلام عند الصعقة يحفظ الله روحه من الصعقة؛ قد صعِق في الدنيا:
لم يُصعق، جوزي بالصعقة الأولى التي قد صعِقها في الدنيا؛ ناله تجلِّي عظيم: (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا) [الأعراف:143] فهذه الصعقة تكفيه.
ومنهم حملة العرش لا يُصعقون، هذا بقوله: (إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]؛ حتى قبل أن يُبيّن للنبي أن موسى جوزي بالصعقة الأولى قال: "فلا أدري أكان فيمن صُعِق، فأفاق قبلي أم جوزي بالصعقة الأولى"، ثم تبيّن أنه إنما جوزي بالصعقة الأولى وليس يفيق من الصعقة أحد قبل محمد، وإذا قام سيّد الوجود ووصل إلى لواء الحمد، سيدنا موسى يخرُج من عند العرش من أجل أن يستظِل بلواء الحمد، الله.
يقول: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا):
وقد كانوا إذا أقبلوا على نَصب من نُصبهم يتسابقون إليه، يتمسّحون به، قالوا عند خُروجِهم من القُبور مثل هكذا، كلّ احد يتوجّه إلى هُنا وإلى هُنا يسمعون الصوت والمُنادي: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) [القمر:6-7].
( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43))، يستبِقون ويبتدِرون ويجْرون؛ (خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ) -لِما أصابهم من الخِزي والذُّل- (تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۚ)، (تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۚ) كما قال سبحانه وتعالى:
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ، وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ وَأَهْلِينَا وَأَوْلَادَنَا وَالْحَاضِرِينَ وَمَنْ يَسْمَعُنَا وَمَنْ فِي دِيَارِنَا وَمَنْ وَالَانَا وَوَالَاهُمْ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)، (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:27].
قال: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) نُكّس عليها الخُضوع من الخِزي الذي غشاها (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44))، هذا الذي:
(ذَٰلِكَ الْيَوْمُ)، هذا هو اليوم الذي كان الأنبياء يُخبِرونهم عنه، (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)) حضر، أين كلامكم يا مُتفلسِفين يا مُلحِدين يا مُكذِّبين يا كافِرين؟ أين أنتم الآن؟ لا أحد هُنا، كلهم مؤمنين رجعوا، كلهم؛ ولكن إيمان لا ينفع لم يؤمِنوا في الدنيا، الله لا إله إلا الله.
(ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44))، وهكذا.. وإذا أروهم العذاب، يقول: (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا)، قال: هذا هو السحر الذي كنتم تقولون عليه؟! (أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) و النار أمامكم؛ (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:15-16] أيام كنتم في عالم الدنيا، كيف حالكم في أيام الدنيا؟! فهذه الأيام التي نحن فيها يترتّب عليها المُستقبل الأعظم كلّه.
فالله الله في أيامِك، فإنّك في فُرصة عظيمة؛ تستطيع تقرُب، تستطيع تصْفو، تستطيع يُغفر لك -تنال المغفرة-، تستطيع ترتفِع درجاتك في أيام الحياة الدنيا. أمّا بعد انقِضاء الحياة الدنيا ماعاد شئ فُرصة، انتهت ما معك إلا الذي عمِلت:
اللهم ارحمنا في ذلك اليوم، واجعلنا في سُعداء ذلك اليوم، وفي أهل الأنْس والسُرور في ذلك اليوم، وأطل بالقرآن العظيم في موقِف الساعة جذلنا وسُرورنا برحمتك يا أرحم الراحمين. ولا تُخزِنا يا مولانا في حاضِر القيامة بموبقات الآثام، واعف عنّا ما ارتكبنا من الحرام، وارحم بالقرآن العظيم في موقِف العرض عليك ذُلّ مقامنا، ثبِّت به عند اضطِراب جُسور جهنم يوم المجاز عليها زلّة أقدامنا، ونجِّنا به من كُرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة، وبيّض وجوهنا إذا أسودّت وجوه العُصاة في موقف الحسرة والندامة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
06 رَمضان 1440