(608)
(379)
(535)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ }، الآية: 24
﷽
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43))
الحمد لله مُكرِمنا بالتوفيق للإصغاء إلى آياته واستماع تعليماته وبياناته ودلالاته، فيما أرسل به إلينا خير بريّاته، عبده المُصطفى محمد من ختم الله بهِ نُبوّته ورِسالاته و (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]، فَصَلِّ اللهم وبارك وكرّم على عبدك المُجتبى المُصطفى سيدنا محمد، الذي وَهبْتَهُ مِنك الكمال الإنساني في ذاته وأفعالِه وأخلاقِه وصِفاته، وعلى آله الأطهار وصحبِهِ الأخيار ومن سار في سبيله مُقتديًا به ومُتّّبعًا له في مقاصِدِه ونيّاتِه، وأقوالِه وأفعالِه وخِلالِه ونُعوته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصّالِحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا نَتبيّنُ ونَستهْدي أحوال هذا الإنسان، لننظر في شُؤوننا فكلّ مِنّا إنسان، فردٌ من هذا الإنسان، ونحن نَتبيّنُ ونَستهْدي أحوال وشؤون وصِفات هذا الإنسان، مِن بَيَانات ودلالات ربّ الإنسان، وخالِق الإنسان، ومُنشئ الإنسان، ومُكوّن الإنسان؛ وهو الله الرحمن، فلا يُمكن أن يُحَدِّثنا عن الإنسان؛ أعلم ولا أحكم ولا أعظم من خالِق الإنسان.
ومِن العجب أن يَتطاول الإنسان ويريد أن يكون هو الأعرف بشيء من شؤونه ممّن خلقه وبدأه -جلّ جلاله- وذلك عَين الغيّ وعين الضلال وعين الخَبال والبُعد عن العقل: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
مَن الذي يدّعي أنّ الأجهزة أعرف بنفسِها من صُنّاعِها؟
نقول له: أنت مجنون! كيف جهاز يعرف نفسه؟ قال: أجهزة ذكية، جاءت عاقلة، ذكية أو فكيّة أو عكيّة، كما كانت الذي كَوّنها أعلم بها وبشؤونها وأحوالها وأحْجامها ومبادئها وأصُولها وأسَاسها؛ وكذلك الإنسان الله أعلم به، الله أعلم بأحوالِه وشؤونه وبدايته ونهايته وما يُصلِحُه وما لا يُصلِحُه، فنحن نَسْتقري خبر هذا الإنسان ونَتبيّن ونَسْتهدي بِبَيان الحق -تبارك وتعالى- الذي خلق الإنسان.
(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)) صاحِب الجزع وصاحِب الطّمع وصاحِب البُخل وصاحِب الضّجر وصاحب التّعالي والتّطاول على ما ليس له
(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا) -هؤلاء الذين اسْتثنوا- (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22))، حقّقنا الله وإيّاكم بحقائق الصلاة وحقّق بها أهلينا وأولادِنا وذرّيّاتِنا وقَراباتِنا يا أكرم الأكرمين، واجعلنا وإياكم وإياهم من (الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)).
(الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) وأخذنا معاني الدّيموميّة لهذه الصّلاة في إقامتها وفي المحافظة عليها، والتي سَيخْتم الله بالأوصاف بها، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)) -سيقول آخر الأوصاف- ابتدأ بالصلاة وختم بالصلاة؛ إشارةً إلى ارتِباط كلّ تلك الأوصاف بهذا المعنى:
فالأمر دائرٌ على الصلاة، أوّلها الصلاة وآخرها الصلاة، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ)، وآخر شيء: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)).
يقول جلّ جلاله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)) -جعلنا الله من المُصدّقين الموقِنين بذلك اليوم-، فإنّ مَن أُكرِم باليقين بذلك اليوم، تهاوت أمامه جميع شؤون الإغْواءات بأصنافِها وأشكالِها المُختلِفة من إبليس وجنْده أجمعين، ومن نفسِه الأمّارة. إذا كان يوم الدّين أمام عينه مُنتصِبًا؛ فَعُدَّه مُصيبًا طيّبًا، يتلقّى غَيثا هَنيئا مَريْعا صَيّبا، والحقُّ يقول للخاسِرين في ذلك اليوم ويَذكُر خسارتهم:
قال الله فالخُلاصة من أصفياءٍ من الأنبياء: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) [ص:46-47].
(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)) يوم الجزاء، يوم الحساب -الدّين- (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)) وهذه ضرورة من ضرورات المعرِفة بالله، نتيجة من نتائج المعرِفة بالله، فإنه من عَرَفَ الله أَيْقن أنَّه جدير أنْ لا يغترّ بهِ الصِّدِّيقون ولا يَيأس منه المُجرمون، لماذا؟ لأنه الله، لأنه الله: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16]؛ يُسعد ولا يُبالي ويُشقى ولا يُبالي، ومن كان هذا وصْفُه؛ ما الذي معك منه؟ ما الذي تقدر؟ الهيبة له والجلال له والعظم له والرّجاء فيه -سبحانه وتعالى- الله ولا إله إلا الله! وهو القائل:
هذا إله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- يَغفر ولا يُبالي، يُعذِّب ولا يبالي، يُقرِّب ولا يبالي، يُبعِد ولا يبالي، سبحانه عز وجلّ: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)؛ ولذا قال: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)؛ يُشير أنّ أوصافه هكذا: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:12-16]، من كان وصْفُه هكذا:
هكذا يكون، لابد أن يكون كذلك؛ لأنه الله -تعالى في علاه-.
(إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)):
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)) لا يَغلِبهم هوى ولا تَغلِبُهم شهوة، يُسَيطرون على الشّهوات، التّي هي أسْلِحة إبليس وجُنْدِه:
وبواسِطة الشهوات يلعبون على العقول والقلوب لعِباً:
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)) وأخبر أنه لا طريق لإباحةِ هذه الشّهوة أو حِلِّها إلا عن طريق النِّكاح أو مِلْك اليمين -وانتهت المسألة-.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ):
(فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)):
قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)) عندَهم اهتِمام واعتناء ورعاية بالعُهود والأمانات:
لكن المؤمنون، لا؛ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)) وكانوا يقولون في هذه الأمانة: إذا حدّثك إنسان بحديث وهو يَلتفِت فهو سِرّ، أمانة بينك وبينه لا تتكلّم به:
فأين هذا عند أهل البلبلة وأهل اللّقلقة؟
-أعوذ بالله من غضب الله- افتراء، هذا ما تهذّب! هذا ما تأدّب! هذا ما تحقّق بالإيمان! فليُنقِذ نفسُه قبل الوفاة وإلّا فالأمور خطيرة عليه
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)) شديدي الرّعاية، يؤدّون الأمانات، ولا يخونون العهود، قال سيدنا عمر للحبيب ﷺ بَعد أَنْ خاضَ بعضُ الأشقياء مِن يهود ومِنَ المُنافقين، بعد غزوة أُحُد وتكلّموا على النّبيّ وقالوا وقالوا؛ لهذا وقعت بهم الهزيمة، ولو كان النّبيّ صِدق، ولو كان رسول من الله.. و كلام منهم كثير، وحُفِظ عَن عدد من بعض اليهود والمنافقين، قال: يا رسول الله ائذن لي فلان وفلان من هؤلاء اليهود، ائذن لي أقتُله، "لإنّ بيني وبينهم عهد" -بيني وبينهم عهد، بيني وبينهم عهد- عَاهدتهم، بيني وبينهم عهد، الله!، ومن أوفى بعهده من الله ومن رسوله؟! قال: ففلان وفلان من المنافقين تكلّموا -قالوا عليك كذا- قال: إنهم يقولون: "لا إله إلا الله"، قال: لا شهادة لهم؛ لا يَقولونها من قلوبهم، قال: "إنّ الله لم يَأمُرني أَنْ أُفتِّش على قلوب الناس"؛ ام يرضَ ﷺ.
والحق يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) -تقع المشقّة عليكم ومشاكل- (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات:7-8]، حتى خَانُوهُم العُهُود -هؤلاء اليهود- وجاء وقتُ خيانتِهم وقابَلَهُم بما يستحِقّون -صلى الله عليه وعلى آله و صحبه و سلّم- و إلّا ما جاء من قِبَلِه إخلافٌ ولا إِضَاعةٌ لِلأَمَانَةِ وَلَا نَقضٌ لِلعَهدِ الذي عَاهد عليه ﷺ.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32))، ثُمَّ ذَكَرَ خَصْلةً فيما يَدور في واقِع الناس وحياة الناس أنه بِحِكمَتِهِ يُظهرعلى بعض الخلْق بعض الوقائِع والحوادث، ولا يَعلمها ولا يَراها ولا يطّلع عليها كثير من الناس، فالذين اطّلعوا عليها في كل ما يترتّب عليه حقوق للآخرين وقضاء وحُكم:
(وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)) وفي قراءة: (وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَتِهِمْ قَائِمُونَ):
ولذا إذا وقف أمام قاضٍ أو حاكم يَشهد، زاد في الشهادة كلمة أو نقص ممّا يُغيِّر المُراد، لم يَنزِع من مكانه ولم يرفع رجله إلا وقد حلّ عليه سخط الله -غضِب الله قبل أن يرفع رجله من المكان- إذا زيّد في الشهادة كلمة أو نقّص، الله! .. الله!، "على مثلِها فاشهدْ" أمر واضِح، بَيِّن:
والشّهادة بِعينِه يترتّب على كتمها؛ إضاعة حق مُسلِم أو قتِل مُسلِم أو مُسلِم أو حبِس مُسلِم بغير حق وهكذا.
(وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)) يُحسِنون القيامة على الشهادة ويَحكُون بالصدق والحقّ؛ أمّا ما لا يَترتّب عليه إضرار ولا يَترتّب عليه حُكم ولا يَترتّب عليه أخذ حقّ الغير ولا يَترتّب عليه حبِس ولا غير ذلك؛ فما عليهم من شيء، بل كلّ ما لا يَعنيهم كأنّهم لم يَسمعوه ولم يَروه خيرٌ لهم، فهو نِظام مُتكامِل في مَنْهج الله -تبارك وتعالى- تَصلُح به حياة النّاس على ظهر الأرض.
(وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)) بدأ بالصلاة وختم بالصلاة؛ لأن المُدّائمون على الصلاة والمُحافظون عليها ستكون فيهم جميع هذه الأوصاف؛ حافِظ عليها، حافِظ على الأدب فيها، حافِظ على الحُضور فيها، حافِظ على أثرها فيك؛ فإن لكل صلاة أثر؛ فحافِظ على أثرها فيك ونَمّي هذا الأثر:
الصلاة حافظ عليها.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ) أهل هذه الأوصاف -مهما كانت شاقّة أو ثقيلة على النّفس- فإذا أقامها الإنسان، ذاقَ حلاوتَها هنا وله فوق ذلك؛
هذه نتيجة الصِّفات الصّالِحة، هذه عاقِبة هذه الصّفات الحسنة الطّيبة، بماذا يُغوونكم ويُغرُونكم على شيء من قبيح الصّفات، يُعطونَكُم إيّاه؟ وإلى كم يبقى؟ لكن هذا جزاء أهل هذه الصّفات التي اتصفوا بها الصّفات الصّالحة.
(أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35))؛ يقول الله: هذا حُكْمي وهذا بَياني لخلق الإنسان؛ فهؤلاء العابِثون بأفكارِهم من أمثال جماعة من الكفّار يأتون حول النبي ﷺ بَعضُهُم عن يمينُه وبَعضُهُم عن شمالُه، كل أثنين أو ثلاثة مع بعضهم؛ يَتغامزون ويَستهزئون به لمّا يتكلّم عليه الصلاة والسلام. يقول الله: أمثال هؤلاء خَلقتُهُم من العدم، وأَسْبَغت عليهم نِعم، وأرسلت لهم رسولي وأنزلت إليهم كتبي، ويلعبون هذا اللعب وبعد ذلك يُريدون الجنّة مني، ما هذا التفكير؟! ما هذا المنطِق؟! ما هذا العقل؟!.
يقول الحق: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38))؟ قال: الذي يُكذّب بِنَبِيِّ ويستهزئ به ويريد أن نُدخله الجنّة! هذا إنسان فيه عقل هذا؟! فيه إدراك؟! يقول بعضهم لبعض: إن كان يدخلها هؤلاء الجنّة كما يقول لهم محمد فنحن ندخُلها قبلهم، كيف يعني؟! يعني كيف؟! هل أنت الذي خلقتها؟! أَو أنت الذي تحكم فيها؟! نِسي نفسه، نسي حالته، نسي تكوينه، نسي وجوده؛ وهذا منطِق الكفّارإلى وقتنا هذا، بلا عقل، لا يعقلون!.
يقول: (كَلَّا) -تلعب هذا اللّعب ثم تدخل جنّتي، أنت مجنون أنت؟! لك حُكم؟! لك أمر؟!- (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39)) فكّر في نفسك من أين جئت؟ تكوينك -هذا الجسد الذي أنت عليه وما تغمز وما تلمز وما تتحرك- من أين جاء؟ من نطفة! هيه! هيه يا مخلوق من نطفة! عِيب عليك؛ هل ستتحكّم في الجنّة أو دخولها -ستدخُلها قبل ذا أو بعد ذا-؟! أنت من أين جئت؟ وكيف خُلقت؟
يَحلِف الربّ -جلّ جلاله- بعظَمته بجَلاله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)) جئنا بهم من ذريّة قوم آخرين كانوا قبلهم، وسَهُل علينا نُبعِّدهم ونجيء بغيرهم، ما لهؤلاء لا يعقلون؟! ما لهؤلاء لا يُفكِّرون؟! ويَرون أنفَسهم يَعجزون عن أشياء كثيرة في حياتهم، ويموت ولد أحدهم وأبو أحدهم وأخو أحدهم، لا يَقدِر يدفع عنه الموت: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة:83-85].
تقدِر تُثبت لي خبر أنّ الإنسان في تقدُّمه وتطوُّره في عالم التّكنولوجيا ودعوى الوصول إلى القمر وغير ذلك في هذا الزمان أنه لا أحد يموت صغيرا؟! أو عند هؤلاء لا توجد أمراض خطيرة!
الواقع خِلاف ذلك كُلُّه: أطفالهم يموتون، شبابهم يموتون، أليس الإنسان تقدّم وتّطور؟! ما باله على هذا الحال الذي كان قديما قبل التّطور والتّقدم؟! منهم من يموت في عشر سنين، ومنهم في عشرين، ومنهم في خمسين، منهم في ثلاثين، والآن نفس الحال، أليس قد تطوّرنا! نعم تطوّرنا، وبعد ذلك ماذا حصل؟ لا قدرنا نتحكّم في بدايتنا ولا لنا حُكم في نهايتنا، جلّ الله! جلً الله! مُقدِّر الآجال والأرزاق!
"وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ" من يتحكّم؟ لا إله إلا الله! مادام بِيئَات مُتقدّمة لايوجد أطفال يموتون أبداً، ولا شباب يموتون، ولا أمراض خطيرة؛ أخطر الأمراض هناك حيث التّقدُّم الكبير؛ البُلدان الفقيرة مسكينة لا يأتيها المرض إلا من عندهم، الأول هناك وبعد ذلك يأتي لهم، لا يعرفون أيدز ولا سرطان، أولا يجيء عند أولئك ثم يجيء عندمه، يعدونهم -سبحان الله- العَظمة للعَظيم، الإنسان في غرور كبير.
(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)) لا أحد يَسبِقُنا، لا أحد يُعجِزُنا، لا أحد يَمنعُنا، لا أحد يَأمرُنا، لا أحد يَفرِض شئ علينا، لا أحد يُطاوِلنا؛ (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)؛ فخُذ المسْلك الذي ارتَضَيتُه من أحبابي وسط هذا الاختِبار الذي اختبَرتُ به عِبادي وسَيّرتُهم فيما أشاء (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) ليس معهم إلّا خوض ولعِب (حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)) وهناك الجَمع بينك وبينهم:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ) -جمع الجَدث وهو القبر- (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ) قال: كما أخْرجتُكُم من أرحام الأمهات، أُخرّجكم من الأجداث وما عَودتُكم أصعب عليّ من بداياتِكم (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا) -مُطيعين إلى الدّاعي- (كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)).
هذه أواخر السورة يأتي تأمُّلها معنا إن شاء الله، ونفعنا الله بآياته، نفعنا بكلماته ورفعنا بها؛ فإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويَضَعُ آخرين؛ فاجعلنا ممّن ترفعهم بالقرآن؛ ومن رفعته فلا خافِض له، ومن خفضته فلا رافِع له؛ فالأمر أمرُك، والمُلك مُلكك، والحُكم حُكمك، والدُّنيا لك، والبرزخ لك، والآخرة لك، والجنّة مُلكُك، والنار مُلكُك، وأهل السّماء مُلكك، وأهل الأرض مُلكُك؛ وأنت مَلك السّماوات والأرض، وأنت قيّوم السّماوات والأرض ومن فيهن، وأنت الذي بيدك الأمر كلّه، لا إله إلا أنت! أسعِدنا يا مُسعد السّعداء، وارفعنا إلى أعلى مراتب الهُدى، واجعلنا مِمّن بنبيّك اقتَدَى، ونجِّنا من كلّ زَيْغٍ ورَدى، وتوّلنا بما تولّيت به الصّالحين، أهل اليقين والتّمكين، المُفلحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
و بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
صل عليه وعلى آله وصحبه و سلم
06 رَمضان 1440