(608)
(379)
(535)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً }، الآية: (6)
﷽
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ (18))
الحمدلله على غَدواتٍ تَغتَذي فيها الأرواح، بِدلالات وَحْيه، وتنْزيلِه، وصلى الله وسلم وبارك وكَرم في كل لَمحةٍ ونَفَسٍ على عبده المُجتبى المَخصوصِ من الحَق -تبارك وتعالى- بِتَمْجيده وتَكريّمهِ وتَقديّمه وتَفضيّله. اللهم أدم صَلَواتِك على خاتمِ رُسلِك سيدنا المُجتَبى محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن استقام على منْهَجه الأقوم الأرشَد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل العِزّ والمَجد والسؤدَد، وعلى آلهم وصحبهم ومَلائِكَتك المُقَرَّبين وجميع عِبادِك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا واحدُ يا أحد.
وبعد،،،
فإنّنا في تأمّل كلام رَبّنا الإلٰه الحَكيم العَزيز العَليم -جلّ جلالة-، مَرَرنا على أوائل آيات سورة المعارج وسَمِعنا خِطاب الحَق لِحَبيّبه: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5))، وعَلِمنا:
فلابُدّ في تَحصيله من صَبرٍ يُكابدُ به الذي ينوي تَحصيل ذلك أنواعا من المَشقّاتِ..
يجِب أن يَكون الطريق إليه صَبر، صَبرٌ جَميل من بابٍ أَولى؛ ومع ذلك فَقَد ذَكَرنا أن صبر أولئك لا يُشكَرون عليه من الذين أرادوا الشُّؤون القَصيرة الحَقيرة ولا يُثمِرُ لَهم حَقائِق سَعادة، مَهما تَخَيّلوا وتَوَهَّموا أنهم سَعِدوا بِشَيء أو التَذّوا بشيء؛ فذلك أمر آنيٌ حَقيرُ قَصيرٌ يَنتَهي بِسُرعة، ثم يَؤول أمرهم إلى مئآسي ومَخازي وفَضائح وشدائد وعِقاب وعذاب أليم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وأنّ صبر هؤلاء، مهما تجرّعوا من مَرارَةٍ ومَشَقّة:
فيا ما أحسنَ صبر الأنبياء والأتقياء والأولياء وأهلُ المُرادات الشريفة السامية العلياء -جعلنا الله وإياكم منهم-.
ورمضان شهرُ الصَّبر، والصَّبْرُ ثَوابهُ الجَّنة:
فصار الصوم رُبع الإيمان؛ لأن نِصف الصَّبْرُ والصَّبْرُ نِصفُ الإيمان وقال جلّ جلاله:
وقال الله -تَبارك وتَعالى- يُبَيّن الفَوارق بين المُؤمن والمُنافق، وبَينَ مَن أدرَك الحَقائِق وبَينَ من غَرِق في العَوائق، يقول جلّ جلاله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))؛ فهذا هو الفارِق القَوي بين من كان غَويًّا ومن كان على المَنهَج السَّوي، فأصحابُ المَنهَج السَّوي يَتجلى لهم ما وَعَدَ الله وَرَسوله وأوعَدك أنّه رَأي عَين يَرونه قريبًا جدًا، وأمرُ الساعة قريب:
فما حَصّل من فَوّت؟
اللهم اجعل مُرادنا أنت والدار الآخرة.
قال الله في تربية آل بيت النبي من أمهات المؤمنين -أزواجه أمهات المؤمنين-: (وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) -ما أعظم هذه المُرادات- (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:29].
وقال لَهُن؛ إن انحَطَّت بِكُنَّ المُرادات والمَقاصِد فلا تَصلُحن لِبَيت حبيبي ولا لأمومة المُؤمنين فَليُطلِّقُكن نبيّي واذهبن حيث تُردن واسكنن حيث تُرِدن لكن لا تَصلُحنَ لهذا المَقام الأشرف؛ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) فَتَسفُلن في المُرادِ إلى هذا الذي فيه الفَسَقة والفَجَرة والكُفار (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب:28]، خُذن مِنّي طَلاق جَميل وأخرُجن، لا تكنَّ عائِشات في بيت النبوّة من غير فُتُوّة، من غير مُروءة، من غير لَياقَةٍ بالمَقام السامي.
(وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * ۞ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) [الأحزاب:29-31]، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ)، هل رأيت التربية؟ نَظَرت الى التربية والتقويم على المسلك؟
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب:32]؛ فَلتَظهَر عَلَيكُن أوصاف الكرامة والقِيم والعَفاف والشِيم الرفيعة:
(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب:32-34] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) وكَتَبَ بعضهم إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز -عليه الرضوان- يقول له: كأنّك بآخر من كُتِبَ عليه الموتُ قد مات، والساعة قد أتت. فكتب إليه سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول: وكأنك بالدنيا لم تَكُنْ والآخرة لم تَزَل. الدنيا قد انتهت فكأنّها لم تَكُن والآخرة لم تَزَل، فهكذا كانت مشاعِرُهم وأحاسيسهم ووصاياهم.
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))؛
فهي أمور آتيةٌ لا رَيب فيها ولا شَك، وكُل آتٍ قَريب، هَيَّأنا الله لأحسَنِها وخَيرها وحُسنِ المَصير فيها، وعلى ما يُؤتي المَحفوفين بالعِناية والألطاف والمحبّة فيها.
يقول: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8))، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) -كما يُذاب من الفضة- (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)) الصّوف المَنفوش المَندوف..
وتَرى المَذهول أمام خَبَرٍ يَهُمّه وقتَ أن يُتلى، وولده عند حِجرِه ماعاد يعرف ولده، لا يدري بولده! وهو يدري أن هذا ولده، كان من عادَته يُلاطِفه ويقبّله، لكن وقت هذا أن يُؤخذ للأمر الذي يَهُمه، يقول: يا أباه، لا يدري معنى ياأباه، ولا عاد هو كما العادة مع الولد، مأخوذ الذهن لأمر أهمّه، الله، لا إله إلا الله.
فكيف بأهوال يوم القيامة؟! جعلنا الله في الآمنين ذلك اليوم، وعلى قدر خوفك اليوم، أنت في ذلك اليوم آمن، كُلّما اشتدّ بك الخوف هُنا امتدّ لك الأمن هناك: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)، لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْم التألي على الله ولا بِظُلم الأمن من مكر الله ولا بِظُلم التجري على وعد الله ووعيده، (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
يقول:(وَلَا يَسْأَلُ (10))، جاء في قراءة ابن كثير: (وَلَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)) أي لا يُسأل الحَميم عن حميمه، والصديق ما فعل صديقه أو ماقال، لأن شُغلك الذي اكْتَسبته أنت. والمعنى أنّه قد تُصادِف صديقًا أو غيره، من رفيق أو زميل في عمل أو غيره -سَيء أو صالح- فأنت لا تُسأل عن صلاحه وعن سوءه، ولكن ما فعلت أنت؟ وما نويت؟ وما كان حالك معاه؟ وكيف تصرفت أنت في قلبك وفي عملك؟ أنت .. أنت .. أنت .. أنت! ماذا قلت؟ أنت ماذا قلت؟ ماذا نَظَرت؟ ماذا نَوَيت؟ ماذا عَزَمت؟ ماذا فَعَلت؟ ماذا تصرفت؟ أنت أنت، ليس لك علاقة في صديقك -الله- فما كان حالك معه؟ على ميزان الله وعلى ما أحبه خُنتَ الأمانة؟!
حينئذٍ لا يَضُرَّك من كان جلس معك ومن كان زَامَلَك في مرحلة أو عمل، إذا أنت توالي من والى الله وتُعادي من عادى الله، وتقوم بأمره.. لا يضرك شيء؛ المسؤول أنت، ليس حميمك ولا صديقك، أنت كيف كان حالك مع ذا ومع ذا؟
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)) لا يكلفونك تجيء بواحد آخر يقولك: أنت ماذا عملت أنت؟ أنت .. أنت ماذا قلت؟ ماذا نويت؟ ماذا فعلت أنت؟
لا فراغ للآخرين، حتى يُكرِم الله من يُكرِم ممن يأذن لهم بالشفاعة، بأن يُؤَمّنهم ويُطَمئِنهُم:
حينئذٍ يُفسَح لَهُم المَجال فَيُفَكِرون: يا رب انظر ماذا فعل فلان؟ يا رب شفِّعنا في فلان، يا ربي، ماعدا ذلك؛ ليس لك علاقة بأحد، كيف أنت؟ الله، لا إله إلا الله.
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ) -الواقع والحال في ذلك اليوم- (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ ..(11)) من بِداية الإجرام -من صغير الإجرام إلى كبيرة-:
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ) -قبيلته- (الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)) كان يَعْتَز بِهم ويَأوي إليهم ويقول: عندي القبيلة الفلانية وتكون معي وأكون معهم. (وَفَصِيلَتِهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ..(14)) لو تَأتَى أنّه يَملِك جميع من في الأرض ويكون يد له؛ لَسَلّمهم تسْليم وقال: خذوهم، وأنجو أنا من هذا العذاب.
(وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا ..(11)) كذّبت بِنَا وبِرُسُلِنا!! فاليوم لو معك هذا كله تفْتدي به ما يُقبل منك ولا تنجو.
تطلب "حق فيتو" من مكان؟! أو ستفعل شيء؟! تعمل شي؟ وهؤلاء أصحابك الذين كنت تعتمد عليهم، هم يَوَدّون أن ينجُ بك وبملئ الأرض مثلك يرمونك ويَنجون، قال: كلا.
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) فياويل المجرمين، أوما تسمع في الآيات في سورة المرسلات؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) [ المرسلات:15]. يقول: (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ (11)) يقبل منه الفِدا من عذاب يومئذ:
يقول سبحانه وتعالى في ذكر هذه الحقيقة العظيمة، يقول سبحانه: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ) -اللهم اجعلنا منه- (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ)؛ لكن لايوجد (أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * ۞ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ) [الرعد:18-19]
وما أكثر العُميان على ظهر الأرض: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72] . يقول ربكم -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ)، لو مَلَك مِلىء الأرض ذهب وقَدّمه فِدْية لا يُقبَل، من قال لك أن للذهب مِقدار؟ الذي غرّك طول عمرك! من قال لك؟! لو معك ملء الأرض ذهب تفتدي به اليوم لا يُقبَل: (فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران:91]
من يَقِف مَعَهُم؟! ولا أحزاب ولا هَيئة أُمَم ولا مجلس أمن، من يقف معهم؟! من يُخَلِّصهُم؟! من يُنَجّيهم؟! (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة:166] واعلِموا أن الحُكم لواحد، والأرض والسماء لواحد، والدنيا والآخرة لواحد، والرب واحد، والإله واحد؛ ولا إله غيره، سقطت الآلهة المزعومة من الأهواء ومن العِقول ومن الظنون ومن الأوهام ومن الطواغيت بأصنافهم، سقطت؛ سقط تأليه من ألّه الذهب والفضة، سقط تأليه من ألّه الحُكم والسُلطة، سقط تأليه من ألّه الهوى والشهوة، وانتهى لا إله إلا واحد، ما هذه آلهة، عُبدت من دون الله، آلهة مزعومة ليست بآلهة تسقُط كُلّها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ويبقى الحُكم لواحد: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ -جلّ جلاله وتعالى في علاه- (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16].
يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ)، (لَوْ أَنَّ)، (لَوْ).. (لَوْ)؛ هم ليس شئ معهم، مساكين إلا في فترة العُمر الدنيوي مُلِّكوا تَمْليكًا صوريا وديعةً بعض شؤون العالم فظنّوا أنّه لهم (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) [المائدة:36-37] مسْتمر، مَن يُخلِّصهم؟ هذا كتاب الله ينطق علينا بالحق وعليهم، فياويل من أدبر، يا ويل من أعرض، يا ويل من تكبّرـ يا ويل مُغْتر بنفسه أو بغيره من بني الأرض؛ هذا كلام الذي خَلَقَنا وخَلَقَهُم وكَوْن الأشياء -جلّ جلاله-.
(لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)) -يود ويود- (كَلَّا ..(15))؛ هذا الباب مُقفل، مافي افتداء، لا يوجد افتداء بأحد، لا أحد يفدي أحد، والذين كانوا يُصفِّقون ويقولون: نفديك .. نفديك؛ اليوم يقولون: تبًّا لك .. بئساً لك.. أهلكك الله، لو تقع بين أيدينا أنت ومثل الأرض مثلك؛ سوف نُسلِّمهم للنار دعنا ننجو -لا يوجد أحد يفدي أحد في ذاك اليوم- الله الله الله، لا إله إلا الله.
إن كانت لك صِلة حسنة من أجله -تعالى- بأنبياء و أولياء ومقرّبين وصالحين رحِمك بهم، وماعدا ذلك لا ينفع، كل العلائق التي لا يُقصد بها وجه الخالِق؛ فهي من العوائق وهي من الزوالِق والمزالِق، ولا يبقى إلا علاقةٌ له ومن أجله:
لكن هؤلاء في ظِل عرْشه يوم لا ظِل إلا ظِلَه.
يقول: (إِنَّهَا لَظَىٰ (15)):
(كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15)) معدود لهم جزاء ومصير وعاقِبة لظى، ما وصف لظى؟ هذا قال:
وإن ضرس الكافر في النار كجبل أُحد، الله يُركِّبهم هكذا التركيب في أجسامهم لتشتوي بالنار -اللهم أجرنا من النار- وهم يُنكِرون أجسادهم التي عاشوا بها في الدنيا من نُطَف خلقها، ثم يُنكرِون أن يفعل بأجسادهم ما يشاء! يُكَبّرها كما يشاء ويُصَغِّرها كما يشاء -جلّ جلاله -.
ويجعل أجساد أهل الجنة مُتلائمة مع عظمة النعيم في الجنّة طول ستين ذِراع في عرض سبعة أذْرُع، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فيقفون عند هذا السن أبداً، إذا جئت بعد عشر مليون سنة كم سِنّه هذا؟ ثلاث وثلاثين، وهكذا مليارات السنين والسّن ابن ثلاث وثلاثين، "إنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا ".
يقول: (نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17)) تدعو من أدبر عن الإيمان وتولّى عن العمل الصالح، (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ) عن الإيمان وتولّى عن الحق إلى الباطل (تَدْعُو) أيها المُنافق أيها الكافر قال ابن عباس بأسمائهم تدعو: يا فلان .. يا فلان .. يا فلان؛ تدعوهم النار بأسمائهم.
فتستأذِن ربها؛ فلان وفلان يا رب -بعد ما تناديهم- كبار الكفرة المجرمين؛ أتأذن لي فيهم؟ فتُخرُج لها خيوطاً تخطفهِم من بين الناس وتأخُذهم -أعوذ بالله من غضب الله- كأنها أعناق أبل تمتد خيوط من النار وتأخذهم فلان وفلان وقد تناديهم بأسمائهم؛ يا فلان ابن فلان، كنت تقول على النّبي، كنت تقول على الملائكة، كنت تقول على الجبّار -ربي وربك- كذا وكذا، يا فلان .. يا فلان؛ هذا الصوت المزعج هذا،هذا الذي يُتخوّف مِنه، (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17)).
يقول: احتياطي كذا .. احتياطي كذا، أفراد وحكومات يجمّعون ولا ينفقونها في محلّها، يَنهَبونها من هُنا ويضعونها هُنا، يقول: المستقبل.. لقومي، لجماعتي، لدولتي، لكذا. (فَأَوْعَىٰ) وضعها في الوعاء، لم ينفقها، لم يعطها المُحتاج.
نسمع في أوقاتنا: أنّه من أجل أن يسْتقِر كسْب الرِّبِح من قوت بني آدم -قوت ابن آدم أهم شيء-:
ما هذا؟! ما هذا الحرص الشنيع؟!.
(وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ) تدعوهم النار وتُناديهم بأسمائهم: أيّها المُنافق، أيها الكافر، أيها الباعث الفتنة في الزمن الفلاني، يا فلان بن فلان إليّ .. إليّ .. إليّ، هُنا محلّك أنا معدودة لك -يا لطيف- (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ (18)).
ثم ذكر الله حالة الإنسان على العُموم ومن يتخلّص ومن يتزكّى بطُرق التزكية التي ذكرها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:9-10].
اللهم اجعلنا مِمّن تزكّى وذكر اسم ربه فصلّى، وارزقنا ايثارك على كلّ شيء، حتى نُؤثر من أجلك الطاعة على المعصية والآخر على الدنيا، ونُؤثر من آثرت من محبوبيك والمُقرّبين إليك فلا نستبدل بهم، ثبتنا على ذلك واجعلنا من الآمنين في ذلك اليوم، يوم المزالِق والمخاوف والمهالِك.
اللهم نجّنا فيمن تُنجّي من أهل تقواك وادخلنا في حِماهم يا أكرم الأكرمين، يا من لا تُخيّب من رجاك بوجاهة مُصطفاك وأهل القرب والدُنو والمجد والسّمو، برحمتك ياأرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي المصطفى محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
03 رَمضان 1440