(608)
(379)
(535)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } الآية: 5
﷽
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14))
الحمدلله رب الأرباب، مُسَبِب الأسباب، مُنزل الوحي والكتاب، وصلى الله وسلّم وبارك وكرّم على سيد الأحباب، سيدنا محمد الراقي إلى قوس قاب، صَاحِب مَقام (أَوْ أَدْنَىٰ) [النجم:9] والكأس الأهنى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على سيدنا محمدٍ وعلى آله والأصحاب، خير آلٍ وخير أصحاب، وعلى من سار في منهجه على التقوى والصدق والاستقامة إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات الأطياب، وعلى آلهم وصحبهم والمَلائكة المُقَربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك، ياأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فقد ابتدأنا في تأمّل كلام الحق -جلّ جلاله- في سورة المعارج، حيث يقول: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)) ولقد قَضى في الأزلِ بِهذا الأمر المُقبل على الآخر والأول؛ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة:49ـ57].
فالشأن، شأنُ المُستقبل الأعظم الأكبر، له الأنبياء والمرسلون يُحَذِّرون الناس من الوقوع في ذلك الخَطر ويُهَيّؤونهم للنّجاةِ في يومٍ يقول الإنسان فيه: (أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة:10-12]:
والناس كلّهم بعد ذلك: مُلحِدهم وشُيوعيهم ونصرانيهم ويهوديهم وهندوسيهم وبوذيهم وغيرهم من أصناف أهل الأديان الباطِلة، كلّهم مؤمنون في الآخرة، كلهم مُصدّقون بمحمد وبما جاء به، وبالأنبياء والمرسلين، ولكن لا ينفع الإيمان من بعد الموت؛ فكل شيء بَان لكل أحد.
قال الله تعالى عن فرعون: (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) وهذه الحضارة المزعومة التي عندك والكبرياء والغطرسة وقتل الخلق سنوات طويلة، ذهب كله، كله كذب هذا، (آمَنتُ) قال؛ كلّه هذا كذب، والمُلك والحضارة والدنيا والقرارات الصادِرة، هذه كلها ذهبت؟! (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قال له الله: (آلْآنَ)، ما ينفعك الإيمان الآن؛ لو كنت صدّقت موسى من أول لنجوت وخرجت، أما الآن لا ينفع (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:90-91].
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)) هذا العذاب الواقِع للكفار، ومنه أجزاء من العذاب -هذا الذي لا يُطاق-؛ واقِعٌ بالمؤمنين العُصاة، المُخالفين لأمر الله، من كلّ من مات وعليه عصيانٌ لم يتعرّض لِغفرانه:
فمات وهو مثبتٌ عليه تلك الذنوب؛ فلم يَعفُ الله له عنها؛ فَيُعَذَبُ بمِقدار ذلك.
ومن هُنا فإن أول طبقات النار المُسمّاة بجهنم، وإن كان كل اسم، كل طبقة يُطلق على النار كلّها ويسمّى به طبقة مخصوصة، فَطبقة جهنم الأولى التي هي أخفّ عذاب من التي تحتها، لكن أي خفّة في هذه الطبقة؟ التي هي أخف طبقات عذاب، أخف عذاب في أخف الطبقات عذاب، أخف عذاب: أن يُنعَل بنعلين من نار يفور لهما دماغه، ما هذا؟ هذا أخف -هذا أخف- في أخف طبقة، أخف عذاب في أخف طبقة -هذا أخف عذاب- لا إله إلا الله! لا يُطاق، يغلي الدماغ من حرارة النار من النّعلين -نعوذ بالله من غضب الله- هذا أخف شيء.
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وأهلينا وأولادنا وذرياتنا وأهل مجمعنا ومن يسمعنا والمؤمنين والمؤمنات، يا خير مُجير.
هذه الطبقة مُخَصّصة بِعُصاة المُوَحِّدين:
هذا آخر من يَخرُج من النّار جُهَينة، الذي يقول عنه أهل الجنة: عند جُهَينة الخبر اليقين. ما عاد أحد من الناس يأتِ من النار، ولا عاد أحد من أهل الإيمان أي من المعذبين بِقدر معاصيهم وذنوبهم التي لم يعفُ الله عنها ولم يُشَفِّع فيها أحدا من أنبيائه ولا العلماء ولا الشهداء وأوليائه -سبحانه وتعالى-؛ فعلى قَدرِ ذلك يُعذبون، هذا شأن المحكمة الكبرى. ثم يَعودونَ إلى الجنة ولو كان مثل هذا -جُهَينة- الذي عنده مثقال ذرة من إيمان فقط يموت عليه، يموت و في قلبه مثقال ذرّة من إيمان ويخرج من النار، لكن بعد ذلك يُخَلّد في الجنة، بعد ماذا؟! لكن بعد شِدة، ثم يُخَلّد في الجنّة بعد ذلك، ويرى: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت"، ولكن بعد تَعَبٍ شديد -اللهم أجرنا من النار-.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء:101-102]؛ هذا شأن العذاب ويُقابله ذَاك النعيم العظيم في المُلك العظيم الخالد المُقيم، غاية جميع المُكَلَّفين، آمنوا أو لم يؤمنوا، صدّقوا أو كذّبوا، هي الغاية! هي الغاية، هي النهاية! هي النهاية.. لِلكل، وعندها يُقال للذين طغوا في هذه الدنيا وصَدّقوا أوهامهم وخيالاتهم ووساوس شياطينهم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115].
ويحصل هذا التساؤل وكيف؟ وكيف؟ وهذه التشكُكّات ولمن يحصل؟ ولماذا؟ ولماذا هذا العذاب كلّه؟ وكيف يكون؟ لا إله إلا الله! والحق -جلّ جلاله- في شدة هذا العذاب كله وعظمته، قادِر أن يُعذّبهم أشد منه، فما كان إلا من رحمته أن يكون هذا العذاب الشديد، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
وقد استحقّوه بتلك المُعاندة وتلك المُضادّة، وذلك الإيثار البائس المُنحرف، الإيثار القائم على خَبال وضلال، إيثار الهَوى، إيثار النّفس، إيثار الدنيا، إيثار الشهوات على الله والدار الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8] أعاذنا الله من ذلك.
(لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)) من يقوى على دفع هذا؟ من يقدر على ردّ هذا؟ هو لم يقوَ على أن يتحكّم في ولادته ولا وجوده ولا هيئته ولا شكله ولا صورته ولا لونه ولا أبوه ولا أمه، لا يختار أباه ولا أمه، ولا اختار بلاده، هل سيردّ شيء من أخبار الآخرة؟!
بهذه المساحة التي أعطاهم الله، يرون لهم فيها قُدرة، وكلّها اسمها مُستعارة -عارِيَّة-، لا يوجد منها، ليست من أصلهم، لا يفكرون في أنفسهم، وهذا لسانك الذي كان يتكلم كيف تَكَوّن؟ ما كان موجود أصلا، ومن نُطفَه تَكَوّن، عَدِّل كلامك قليل واعقَل! وهذا اللسان -هذا اللسان- الذي يتكلّم به كان نُطفة، نُطفة، ما به؟! ما به يَتَجَرأ؟ ما به يتكلم بهذا الكلام البذيء؟! كان نطفة.. علقة.. مُضغة، والآن يتجرأ على الخالق وعلى الرسل و... ، سبحان الله!
إذا أراد أمراً سلب أهل العقول عقولهم، لا يوجد عقل، أكثر الناس لا يعقلون، ما فيهم عقول هؤلاء، كل المُتجرئين على الله ورسله لا عقل لهم، فالله يجعلنا ممن يعقل، وممن يُدرك الحقيقة و يستمسك بالعروة الوثيقة.
(لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)) -لِماذا لم يقدر؟ لأنه من الله- (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)) -لا إله إلا هو- (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4))، الله لا إله إلا هو! وعَلِِمنا أن ذلك اليوم يُخَفّفُ على هذا، ويُطَوّل على هذا و(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) [الروم:4].
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)) يقول الله لحبيبه ﷺ؛ المُتسائلين المُستفهمين بِالاستهزاء والتّكذيب، المُكذبين المُتطاولين (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وفي هذا بيان لنا من الله: أنّه لا ينالُ الإنسان حقيقة النّجاة ولا مرتبة الفوز ولا العلوّ إلا بالصبر؛ وإلا فهو يُخاطِب أحبّ محبوب، أقرب قريب، أحبّ حبيب، أعلى الخلق قدرًا عنده، يقول له: أصبر، (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل:10]، (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وهكذا؛
ياصابرًا أبشر وبشر من صبر *** بالصبر والفرج القريب وبالظّفر
نال الصبور بصبره ما يرتجي *** وصفت له الأوقات من بعد الكدر
فاصبر على المحن القواصِد *** وانتظر فَرجا تدول به دول القدر
فإذا خاطب الله نبيّه (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)) أنت تتحاشى الصبر! ماذا بك؟! احمد الله إذا تبين لك الحق فاتبعته، فكلّ ما نالك في سبيله جَلل وحقير، اصبر! وسترى نتيجة هذا الصبر، وعاقبة هذا الصبر وستتنعّم ويُعَجّل لروحك نعيم وأنت في الدنيا ثم لك النعيم الأكبر هناك.
لأن الدنيا لا تسع عطايا الله لعباده الصالحين، لا تَسَع حتى ينتقلوا إلى تركيبة أخرى وإنشاء جديد، هناك تسع عطايا كبرى ما تسعها الدنيا بِتركيبهم هذه وتَكوينتهم هذه، في الدنيا لا يَقدِرون على ذاك العطاء، لكن يكوِّنهم ويُنشئهم نشأة أخرى -جلّ جلاله- يتهيؤون فيها لحيازة هذا العطاء والنعيم الكبير.
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5))؛ إذًا فلابُدّ من الصّبر، قال الله لحبيبه محمد: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35] أكابر المُرسَلين: نوح، إبراهيم، موسى، عيسى؛ هؤلاء أكابر المُرسَلين، هم أولو العزم- تَحمُّل للمَشاق والقوة- أولو العزم من الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-.
يقول: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)) وسنعيش في حياتنا، والناس يعيشون في مُختلف الأزمنة، والأفكار مُختلفة والتصورات والاعتقادات؛ كلها ترجع إلى فصل بين فريقين؛ أهل الجنّة وأهل النار-المؤمنون والكفار فقط- مع تنوّعها واختلاف مظاهِرها وصورها، ترجع إلى هذا: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))، إنهم في تصوّراتهم ومدارِكهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، يستبعدون أمر العذاب في الآخرة.
قال الحق تبارك وتعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا) لكنه واقِع وثابت ولازم، قضتْ به إرادة المُكوّن المُبدئ، المُعيد، المُنشئ، الفاطر، الخالِق -جلّ جلاله-، فهل فيهم من يَرُدُّ ما قضاه هذا الخالق؟! لقد قضى بخلق تلك السموات فوق، هل فيهم من يُغَيّرها؟
هناك تَقَدُّم وتَطَوُّر؛ ممكن تبدّل السماء؟! نريد سماء بشكل ثاني، أنت متطوّر ومتقدّم! عندك حضارة كبيرة! تكنولوجيا معك؟! السماء الأولى فقط، اترُك الثانية والثالثة، السماء الأولى نريد لها تعديل، ماذا سيفعل؟ ضعيف، مخلوق لا يملك قدرة، عنده كِبر فقط، كِبر وغرور عنده ولكن قدرة لا توجد!؛ المساحة التي أعطاه إياها، قام يتبختر فيها ويتكبّر، يتجاوزها! لا يقدر (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33]، لا إله إلا الله!.
يفتخر باكتِشاف، حسنا، اكتشفت شيء؟! أيّ شئ؟ الأمر الفلاني خاصيّته كذا، وهو كذا، فهذا الأمر الفلاني الذي اكتشفته مِن خَلق مَن؟ لمّا اكتشفت الخصوصية التي فيه؛ أنّ هذا تأتي كذا، هل تقدر أن تبدّلها؟! أعطها خصوصية أخرى، أبعدها، هل تقدر؟!!
عاجز أصلًا، يأتي إلى عظمة الصانع في صنعته ويكتشف أن الصّانع رتّب كذا وكذا، فيقول: أنا اكتشفت، إذن مادام أنت تكتشف؛ بَدِّل، اجعل هذا يتحول لشيء ثاني، هذه المادة لا تُحدِث هذا الأمر في الجسم، بَدِّلها! -بَدِّلها! نعم بَدِّلها!- لا يقدر يبدّل شيء، لا يقدر، هو فقط خاضِع ومُتكبِّر:
وإلا هو خاضع. الله رتّب أنّ هذا الخلق، هذه المادة رتّبها تُحدِث كذا وتُنتج كذا في جسم أو في مادة أخرى، الله رتّب ذلك.
غَيِّر أنت الترتيب! كيف أغير الترتيب؟ لا يقدر! إلا إن كان شاطر، يكتشف كيف الخالق صنع؟ كيف رتّب هذا لهذا، كيف بيّن؟ فقط، فكّ اكتشافك هذا، علامة جديدة من عظمة هذا الإله الذي تتكبّر عليه، ما بك؟
يقول سبحانه في بيان هذه الحقيقة عند هذه النّفوس الغريبة، عند هذه النفوس الشديدة، يقول -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) [الحجر:14]، الآن عرفت! وقالوا: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر:15]، وماذا بعد؟! لا ينفعك أي شيء، لايفيد فيك أي شيء؛ (وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [المائدة:41]، فالحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة الإسلام.
فيا ربِّ ثبتنا على الحق والهدى *** ويا ربّ اقبضنا على خير ملة
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))؛ لأنه واقِع وآتي؛ كل آتٍ قريب، حتى لما عبّر في سورة النحل: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ) [النحل:1]؛ لم يقل؛ سيأتي أو سوف يأتي أو يأتي، قال: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ)؛ لأنه مقطوع -يقين- يقع الذي يقع، واقع -قد وقع- لا إله إلا الله! (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) على قدر يقينك ترى قُرب ذلك، حتى كأنه بين يديك:
وهكذا جاء واحد من الصحابة لما سَمِع قارئ يقرأ على حروف غير التي سمعها من النبي ﷺ، سأله: ما لك تقرأ هكذا؟ قال: سمِعتُها من النبي، قال: تكذب، أنا سمعت النبي أقرأني إيّاها ليست هكذا، قال: أنا وإيّاك إلى عند النبيّ، ذهبوا، فقرأ قال: هكذا أنزلت، قال: دخلني شكّ -الثاني هذا- قرأت، قال له: هكذا أنزلت، قال: دخلني شك، ولا أيام ما كنت في الجاهلية، قال: فعرف ﷺ مافي نفسي، قال: فوضع يده على صدري، واخذ يقرأ فكأنّي أرى ربي.. فكأنّي أرى ربي، الله! انتهت الحُجُب كلّها، انتقل إلى حق اليقين- كأنّي أرى ربي- ،الله أكبر! نِعمَ المُزكي.
والله يُكرمنا في مجالس تأمّل الوحي الذي يوحى عليه بإمدادات هذه الأنوار النبويّة حتى تمتلئ قلوبنا باليقين، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) الله يراه قريب، النبي يراه قريب، والصحابة وآل البيت الطاهر والصديقون يرونه قريب، ونحن إن شاء الله معهم نراه قريبا ونعيش على ذاك ونحيا على ذلك، فالناس يعيشون في كل زمان على هذه الأنحاء، هذا يراه بعيدا وهذا يراه قريبا؛ وهذا الفارق بين المؤمن والكافر:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) فهذا أول ميزان تعرف به نفسك في أيّ الأصناف أنت من النّاس؟ في أي الفئات من الناس؟ رؤيتك لهذا الوعد والوعيد ما هي؟ واضحة جلية قريبة؟ كأنّك تعاينها أم لا؟ داوِ نفسك، أنت في فُرصة المّهلة لترتقي قبل أن تلقاه -جلّ جلاله- فتلقاه على حال جميل.
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)) هذه السبع الشِداد مُتقنة الصُنع، ملايين السنين مُنذ خُلِقت، ليس لها صيانة ولا لها ترميم ولا لها تَفَقُد -الله أكبر، جل الله!-، كل ما عملوا شيء؛ جهاز أو بناء؛ لابد من صيانة أو سينهار، هذا الذي يُجريه الله على أيدي الخلق، بسببيّة الخلق.
لكن هذه بناها بيده سبحانه وتعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) [الذاريات:47-48] نريد أن نعرف أي بقعة من الأرض قاموا بترميمها؟ بِصيانتها لأجل الكرة الأرضية لا تتزحلق ولا تتزحزح؟ صيانة ماذا؟! اذهب صُن حصنك هذا الذي بنيته، والصندوق الذي صنعته والجهاز هذا، اذهب اعمل له صيانة؛ أما هذا خلْق الربّ -جلّ جلاله- لا يحتاج منك إلى صيانة، وهذه بعظمتها، وملايين السنين ثابتة؛ (وجعلنا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12]؛ يأتي وقت يريد -سبحانه وتعالى- إنهائها؛ فما أسرع ما ينهيها، الله أكبر!.
أنت لو تريد أن تكسّر جبل واحد من الجبال تجيء بالأجهزة المُتطورة القوية القديمة، تزعج نفسك والناس حواليك من شدة الصوت، ثم ماذا؟! لكن لما يريد الحق -جلّ جلاله-، الله!:
هذه الجبال تتحوَّل كالعهن، صوف مندوف، صوف منفوش، كيف صلابة جبل تتحول إلى هذا؟! قُدرة طليقة، أليس هو حوَّل الماء إلى جبال، في لحظة مُرور موسى على البحر؟
جبل! كيف الجبل؟! الماء هذا الذّائب، هذا السائل الذي تلعب به بأصابعك يصير جبل؟! يصير جبل؟! تحوّل إلى صلابة الجبال -الله أكبر!- ويُحوِّل الجبال لاحقا إلى مُيوعة الماء.
(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)) ذهبت، إن أراد أن يُسيِّل الجامد وإن يُجمّد السائل؛ الأمر أمره، وهو الذي جمّد هذا، وهو الذي سيّل هذا، وهو الذي خلقه، أو هل يوجد حقوق عند الماء من قبل ما يُخلق، يَخلق نفسه يقول: أنا اتركني سائل وعندى شرط بيني وبينك، ماعنده شئ، ولا عند الجبال شيء، هل هناك اتفاقية بينه وبين الخلاق -تقول: اخلقني صعبة قوية- لا أحد معه شريك في الملك، هو المَلك وحده، ليس له شريك في الملك، لا إله إلا هو!.
رزقنا الله كمال الإيمان، يا ماأعظم هذا الإله! يمنّ عليكم ويجمعكم هذه المجامع في هذه الأشهر المُباركة والأوقات الفاضِلة والأماكن الفاضِلة، له الحمد، هو صاحب المُلك، وهيّأكم لتعوا عنه، لتعقِلوا منه، اللهم لك الحمد، أتمّ النّعم علينا يا رب، وارزقنا قربك ورضاك واجمعنا في مراتب قربك مع أصفيائك وتشاهد عيوننا نور أصفى أصفياءك، وأحب أحبابك، خاتم أنبياءك، شرِّفنا بقربه وبالجلوس معه في دار الكرامة، ومُرافقته في دار النّعيم المُقيم، فهو قريب -قريب- لمن كُتب له ذلك، يا ما أقربه!
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)) الصديق لا يسأل صديقه، مشغولٌ بنفسه؛
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا(10)) الصديق ما عاد يسأل صديقه ولا يتفرغ يقول ماذا عندك أو ماذا عندي
(لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ) والحال في ذاك اليوم، كلّ هؤلاء المُتكبِّرون على ظهر الأرض، المُغترّون بأي شيء، هم يفرّون، وذاك شيء هنا كلهم: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)) فهل ينجو هو؟ قال الله: (كَلَّا ..(15)) ارسلنا رسلا، ليس لعب! أنزلنا كتب، بيّنّا بيّنات، ما خلقناكم عبثا، الله! الله! فما أعظم ذاك اليوم! ما أعظم ذلك الهول!.
هيِّأنا الله لرحمته الكبيرة ومنّته الوفيرة، وسار بنا في خير سيرة، وجمعنا في أعلى حظيرة في حظائر القدس مع من قدّسهم ونوّرهم وصفّاهم وطهّرهم واختارهم لنفسه اللهم آمين، نعوذ بوجهك أن ترمي بنا إلى غضبك أو عذابك أو صختك أو إلى أعدائك؛ فاجعلنا مع أنبيائك وأوليائك وأهل رضاك، ياربنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك سبحانك لانحصي ثناءًا عليك انت كما اثنيت على نفسك.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
02 رَمضان 1440