(608)
(379)
(535)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }، الآية: 1
﷽
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5))
الحمدُلله مُكرِمِنا بتنزيل القرآن وابتداء إنزاله في شهر رمضان، ومُكرِمِنا ببلوغ رمضان، والحضور في ساحات الفضل والإحسان والجود والإمتنان في ليالي وأيام رمضان، اللهم لك الحمد شكرا ولك المَنُّ فضلا فصلِّ وسلِّم على عبدك المُجتبى خير الملأ، سيدنا محمدٍ مَنْ قدرُه لديكَ أجلُّ وأعلى، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن سار على الآثار مقتديًا بالمُصطفى المُختار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في السرّ والإجهار، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معادِن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين وعلى الملائكة المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنَّنا في تأمُّل آيات الله -تبارك وتعالى- في هذا الشهر؛ الذي هو شهر القرآن، سائلين الحق -تبارك وتعالى- أن يفتح لنا بابًا في فهم القرآن الكريم وتدبُّر معانيه، والاطِّلاع على أسراره والعمل بما فيه، نواصِل تأمُّل الآيات الكريمة كما ابتدأنا في مجالس رمضان هذا، مِن سورة الناس حتى انتهينا إلى سورة نوح وأكملناها في العام الماضي، ونواصل فنفتتح سورة المعارج، يقول الحق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-:
بسم الله الرحمن الرحيم
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))
يذكر الحق -تبارك وتعالى- مساءلةً حصلت في قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ..(1)) وذلك فيما كان مِن دعاء بعض الكفّار؛ كأمثال النضر بن الحارث يقول: (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32]:
ومِن الكفار مَن سألوا واستفهموا عن العذاب استفهامَ وسؤالَ مُنكرٍ مُكذِّب، فأنزل الله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)).
وكان مِن شأن المؤمنين:
ولا كذلك المُنافقون ولا الكافرون؛ فهذا مِن الفوارق في الحياة بين المؤمن، والمنافق، والكافر:
وعكس ذلك عند مَن سيُعرَّضُ للعذاب الشديد -والعياذ بالله- مِن الكفار والمنافقين:
قال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ..(2)) والعذاب واقعٌ آتٍ بيقين، لا ريب فيه؛ يحصُل على كل مَن كفر، وكل مَن عصى الله فلم يعفُ عنه -جلَّ جلاله- فالعذاب حاصِل وواقِع لا ريب ولا شكّ فيه لهؤلاء.
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ..) يقول الحق -جلَّ جلاله-: وإذ رتّبتُ وقوع العذاب على مَن كفر بي ونزول شديد العقاب بهم، فمن ذا يستطيع أن يدفع؟ ومَن ذا يستطيع أن يرد؟ ومَن ذا يستطيع أن يمنع؟ ومَن ذا يستطيع أن يُخَلِّصَهُم؟ ومَن ذا يستطيع أن يُغادِر في ذلك اليوم الذي نجمعهم فيه، فلم نُغادِر منهم أحدًا؟
(لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2))، ليس له دافع؛ لا يملكون بجميع قُواهم، ولا أفكارهم، ولا ما عندهم أن يدفعوا هذا العذاب ولا أن يمنعوه، وهكذا نقرأ في ردِّه سبحانه على فئة مِن أهل الكتاب ادَّعوا دعاوي؛ (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) قال لهم الله: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) معكم عهد مِن الله أنَّه لا يعذبكم إلاَّ أيام معدودة؟ -والله لا يخلف الميعاد-، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:80-81]، لا أيام معدودة، فالحكم هكذا كما حكم ربكم، ويلٌ لِمَنْ أَصرَّ على الكفر، ويلٌ لِمَنْ استرسل في الذنوب والمعاصي وتمرّ حياته على ذلك؛ فنتائج وعواقب العصيان والكفر شديدة شنيعة صعبة.
اللهم ثبّتنا على طاعتك، وجَنِّبنَا معاصيك، واغفر لنا ما كان مِنّا، واحفظنا فيما بقي حتى نلقاك وأنت راضٍ عنَّا.
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)) لا يقدِر أحد على دفعه، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26]، شديد العقاب، شديد العذاب، لا يَقدِر مَخلُوق أنْ يُعَذِّب كما يُعذِّب هذا الخالِق -جلَّ جلاله-، (لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ).
(لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) واقعٌ مِن الله، بتقدير الله -تبارك وتعالى- وإرادتِه وترتيبه الأمر؛ أنَّ كل مَن وصلته الدعوة إليهً، على أيدي رسله وأنبيائه وخلفائهم ليؤمن به، فمالَ وركنَ إلى شهواته ودنياه وآثر هواه، ورفض الإيمان بالله أن يُعذِّبَه -والعياذ بالله تعالى-، فرض ذلك ورتَّبه وقدَّره، مِن الله، واقعٌ عليهم.
(مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)) صاحِب المعارج -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-؛ الذي جعل معاريج يعرج عليها الملائكة، وتعرُج عليها الأرواح إلى السماوات، وهذه آية مِن آيات قُدرتِه.
(ذِي الْمَعَارِجِ):
فهو ذو المعارج؛ صاحِب المعارج التي خلقها ونصبها وجعلها مرقى للملائكة وللأرواح..
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(3)) كلّ الخوض في استِبعاد يوم القيامة، أو ما يكون فيه مِن عذاب وأهوال، حدَّث الحق عنها على ألسن أنبيائه الذين ختمهم بنبينا المُصطفى محمد ﷺ..
في القيامة أمر غيب وراء عقلك، لا طريق لك لأن تعرِفه إلا أن تصل إليه، وستصل؛ ولكنك لم تصل، فلا معنى للإنكار!، أو يُخبرك ثقة ولا أوثق مِن الله ورسله:
ما هذا المنطق؟!
ليصدِّقوا مَن؟ ليكذبوا الله ورسله ويصدقوا مَن؟! أوهامهم و خيالاتهم؟! أو أقوام لا نسبة لثقتهم، عند ثقة الأنبياء والصدّيقين الأولياء، فمن يصدٍّق هؤلاء؟! فما لهم؟!
قال: (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ(2)) -واقعٌ- (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(3)) صاحِب الدرجات، صاحِب الفواضِل والإنعام، مَن رتَّب هذه المصاعد التي تعرج عليها أرواح الأنبياء والملائكة وأرواح الموتى فتصعد:
عذاب (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ) -واقِع مِن الله- (ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)).
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) إمَّا جبريل عليه السلام، أو الروح؛ قومٌ خلقهم الله تعالى، ليسوا بأناسٍ، ولهم عروج مع الملائكة الكرام، الروح، أو عروج روح كلِّ مؤمن.
والعذاب واقِع (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وقد تعددت الروايات:
بالنسبة لهؤلاء. عندنا في عالم الدنيا نجد:
وذاك يرى الساعات الطويلة كأنها ربع ساعة، نصف ساعة، كأنه مرَّ بسرعة؛ لأنه مرتاح بالأمر؛ هذا فيما يتعلق بالإحساس ونحن في الدنيا، والأمر في الآخرة أكبر.
ثم إنَّ طول أي ساعة وقِصَرها بيد خالق الساعات، وخالق الأوقات -جلَّ جلاله- لا معنى لأن تستشكل العقول كيف تكون لهذا ساعة؟ ولهذا نصف ساعة؟ ولهذا دقيقة لا معنى لهذا:
وهكذا، ونجد استشعار زمان طويل عند راءٍ يرى في نومه مرور يوم ويومين وسنة وسنتين في لحظات لا تتجاوز دقائق في رؤيا يراها، والمُستيقظ بجانبه ما هي إلاَّ دقائق عنده معدودة، فيستيقظ هذا فيقول له: أنا رأيت أني سافرت إلى مكان كذا وبت ونمت، ثم في اليوم الثاني. مِن أين جئت بالأيام؟ أنا قاعد هنا بجانبك ولا في يوم ولا في نصف يوم، نومك كله نصف ساعة، ورؤيتك لا تتجاوز أربع دقائق، خمس دقائق صارت أيام؟! وقعت أيام؟! قال له: وقعت أيام وولادة وحمل وسفر مِن بلاد إلى بلاد، وأحكام، ودخل وخرج، ربما بنى بيتا وكمّل وطلّع، في الدقائق هذه! ويستشعر روحه، هذا الطول وهذه الأيام كلّها -سبحان الله-، ياعاقل أعقل المُتصرِّف قوي قادر حكيم، ولا تُحكِّم ما ألفت ولا ما تصوّرت ليحكُم على البارئ المُنشئ الفاطِر المُوجد، أعقل! أعقل، سيِّر عقلك في مسار صحيح.
يقول: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(4)) لعِموم الكافرين، أو لكبار الكفار:
لكن الذين تحت الشمس، اليوم طويل بالنسبة لهم، لا إله إلاَّ الله. وقد جاء في الأحاديث: "أنَّ الذي يمنع صدقة إبله، يُبطح فتمرُّ عليه ترفسه بأرجلها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وكذلك الذي يمنع زكاة الغنم" إلى غير ذلك مما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عليهم رضوان الله تعالى، فوصف النبي ذاك اليوم وقال: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"، فهو على أهل العذاب الشديد والكفر طويلٌ جد طويل، يُقصَّر على أهل الإيمان حتى يكون خفيفًا يسيرًا.
(فَاصْبِرْ) -يقول الحق لحبيبه- (صَبْرًا جَمِيلًا (5))، اصبر صبرًا جميلًا، والصبر الجميل الذي لا يُخالِطه جزع ولا تبرّم ولا شكوى، إن كان يُثمر فائدةً وخيرًا ونتيجة حسنة؛ فهو الصبر الجميل.
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا):
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وهكذا، حتى مرّ معنا فيما أمره أن يهجر مَن يستحق الهجر، قال: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًاجَمِيلا) [المزمل:10]، فإنَّك صاحِب الجمال كل شيء يصدر منك جميل:
فكيف بالوصل، إذا الصبر جميل، وإذا الهجر جميل.؟! فكيف الوصل؟! فكيف الشكر؟! فالشكر أجمل، والوصل أجمل، الهجر جميل، والصبر جميل، فكيف يكون الوصل؟! وكيف يكون الشكر؟! صلى الله على مجلى الجمال ومعدن الكمال في العالم الخلقي مِن تلقَّى أعظم النوال محمد بن عبد الله.
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)، والأمر الفاصِل الذي نقف عنده أنَّنا نعيش في هذه الحياة، وهذه الأمور التي حدَّث الله عنها ورسوله هي:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))، وهل تكون رؤية المخلوق الصادق إلاَّ مِن رؤية خالقه، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) وكل آتٍ فهو قريب.
رزقنا الله كمال الإيمان، وكمال اليقين، وكمال الاستعداد لدار المعاد، وبارك لنا ولكم في رمضان و لياليه وأيامه، ورزقنا سبحانه تصفية المرايا القلبية لنا للصيام والقيام، اللهم وقد فاتت علينا ليلة مِن ليالي الشهر ومضت فاجعل اللهم عاقِبتها خيرًا، واجعل اللهم ما فيها ذريعةً للوصول إلى مراتب قربٍ مِن حضرتك، اللهم وبارك لنا في هذا اليوم الأول، واجعل بقية الليالي زيادة لنا في الفهم عنك، والمعرفة بك، وتصفية مرايا قلوبنا مِن أكدارها وأقذارها، حتى نرقى مراقي اليقين في شهرنا هذا علمًا وعينًا وحقًا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، وفرِّج كروب أمّة نبيك محمد، وادفع البلاء عنهم، واجمع شملهم على ما تحب.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
02 رَمضان 1440