تفسير سورة المعارج، من قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }، الآية: 1
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة المعارج، من قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }، الآية: 1

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5))

الحمدُلله مُكرِمِنا بتنزيل القرآن وابتداء إنزاله في شهر رمضان، ومُكرِمِنا ببلوغ رمضان، والحضور في ساحات الفضل والإحسان والجود والإمتنان في ليالي وأيام رمضان، اللهم لك الحمد شكرا ولك المَنُّ فضلا فصلِّ وسلِّم على عبدك المُجتبى خير الملأ، سيدنا محمدٍ مَنْ قدرُه لديكَ أجلُّ وأعلى، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن سار على الآثار مقتديًا بالمُصطفى المُختار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في السرّ والإجهار، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معادِن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين وعلى الملائكة المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعد،،،

فإنَّنا في تأمُّل آيات الله -تبارك وتعالى- في هذا الشهر؛ الذي هو شهر القرآن، سائلين الحق -تبارك وتعالى- أن يفتح لنا بابًا في فهم القرآن الكريم وتدبُّر معانيه، والاطِّلاع على أسراره والعمل بما فيه، نواصِل تأمُّل الآيات الكريمة كما ابتدأنا في مجالس رمضان هذا، مِن سورة الناس حتى انتهينا إلى سورة نوح وأكملناها في العام الماضي، ونواصل فنفتتح سورة المعارج، يقول الحق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-:

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))

يذكر الحق -تبارك وتعالى- مساءلةً حصلت في قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ..(1)) وذلك فيما كان مِن دعاء بعض الكفّار؛ كأمثال النضر بن الحارث يقول: (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32]: 

  • فهو بتكذيبه، وبكفره يُظهِرُ اعوجاج فكره، فإنَّه كان مِن مقتضى العقل والمنطق: إن كان هذا هو الحق مِن عندك فاهدنا إليه وثبتنا عليه. 
  • ولكن الرجل قال: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فهو يعلن الإصرار استكبارًا أن لا يُذعِن للحق أصلًا. فإن كان هذا هو الحق؛ أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذابٍ أليم.
  • وكان كسؤال أبي جهل في ليلة بدر: أقطعنا للرحم؟ والذي أتى بما لا نعلم أو بالجهل -في معنى ما قال- فأحنه الغداة، فكان ذلك سؤال لوقوع العذاب وكما جاء مِن جماعة مِن الكفار.

ومِن الكفار مَن سألوا واستفهموا عن العذاب استفهامَ وسؤالَ مُنكرٍ مُكذِّب، فأنزل الله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)).

وكان مِن شأن المؤمنين: 

  • أن يخافوا عذاب الله. 
  • وأن يستعظِموا لقاءه -جلَّ جلاله- والرجوع إليه. 
  • يخشون انتقامه وإعراضه وعذابه. 

ولا كذلك المُنافقون ولا الكافرون؛ فهذا مِن الفوارق في الحياة بين المؤمن، والمنافق، والكافر:

  •  وجود هذه الخشية. 
  • وهيبة الساعة والمرجِع إلى المولى -جلَّ جلاله-.

وعكس ذلك عند مَن سيُعرَّضُ للعذاب الشديد -والعياذ بالله- مِن الكفار والمنافقين: 

  • فلا مبالاة عندهم بذلك اليوم ولا حساب له. 
  • ولا اعتبار له في أفكارهم ووجهاتهم.

قال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ..(2)) والعذاب واقعٌ آتٍ بيقين، لا ريب فيه؛ يحصُل على كل مَن كفر، وكل مَن عصى الله فلم يعفُ عنه -جلَّ جلاله- فالعذاب حاصِل وواقِع لا ريب ولا شكّ فيه لهؤلاء.

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ..) يقول الحق -جلَّ جلاله-: وإذ رتّبتُ وقوع العذاب على مَن كفر بي ونزول شديد العقاب بهم، فمن ذا يستطيع أن يدفع؟ ومَن ذا يستطيع أن يرد؟ ومَن ذا يستطيع أن يمنع؟ ومَن ذا يستطيع أن يُخَلِّصَهُم؟ ومَن ذا يستطيع أن يُغادِر في ذلك اليوم الذي نجمعهم فيه، فلم نُغادِر منهم أحدًا؟

(لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2))، ليس له دافع؛ لا يملكون بجميع قُواهم، ولا أفكارهم، ولا ما عندهم أن يدفعوا هذا العذاب ولا أن يمنعوه، وهكذا نقرأ في ردِّه سبحانه على فئة مِن أهل الكتاب ادَّعوا دعاوي؛ (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) قال لهم الله: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) معكم عهد مِن الله أنَّه لا يعذبكم إلاَّ أيام معدودة؟ -والله لا يخلف الميعاد-، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:80-81]، لا أيام معدودة، فالحكم هكذا كما حكم ربكم، ويلٌ لِمَنْ أَصرَّ على الكفر، ويلٌ لِمَنْ استرسل في الذنوب والمعاصي وتمرّ حياته على ذلك؛ فنتائج وعواقب العصيان والكفر شديدة شنيعة صعبة.

اللهم ثبّتنا على طاعتك، وجَنِّبنَا معاصيك، واغفر لنا ما كان مِنّا، واحفظنا فيما بقي حتى نلقاك وأنت راضٍ عنَّا.

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)) لا يقدِر أحد على دفعه، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26]، شديد العقاب، شديد العذاب، لا يَقدِر مَخلُوق أنْ يُعَذِّب كما يُعذِّب هذا الخالِق -جلَّ جلاله-، (لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ).

(لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) واقعٌ مِن الله، بتقدير الله -تبارك وتعالى- وإرادتِه وترتيبه الأمر؛ أنَّ كل مَن وصلته الدعوة إليهً، على أيدي رسله وأنبيائه وخلفائهم ليؤمن به، فمالَ وركنَ إلى شهواته ودنياه وآثر هواه،  ورفض الإيمان بالله أن يُعذِّبَه -والعياذ بالله تعالى-، فرض ذلك ورتَّبه وقدَّره، مِن الله، واقعٌ عليهم.

(مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)) صاحِب المعارج -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-؛ الذي جعل معاريج يعرج عليها الملائكة، وتعرُج عليها الأرواح إلى السماوات، وهذه آية مِن آيات قُدرتِه.

(ذِي الْمَعَارِجِ):

  • ما يصعد به الحفظة في كلّ يوم وليلة، "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ".
  • وما تصعد فيه أرواح الموتى؛ فهي مصاعد، معارج يعرجون عليها، رتَّبها الله -تبارك وتعالى- وقدَّرها.

فهو ذو المعارج؛ صاحِب المعارج التي خلقها ونصبها وجعلها مرقى للملائكة وللأرواح..

  • (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) ويأتي أيضًا في معنى المعارج، الفواضِل والنِّعم والعطايا: 
    • فهي منه -جلَّ جلاله- (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]. 
    • "اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نِعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنكَ وحدَك، لا شريكَ لَك، فلَك الحمدُ، ولَك الشُّكرُ على ذلك".
  • (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) ومعنى المعارج أيضًا: المراتِب والدرجات؛ كما قال: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) [غافر:15] فهو ذو العُّلوّ والسّمو والرِفعة بكل المعاني العظيمة اللائقة بجلاله -سبحانه وتعالى- (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ).

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(3)) كلّ الخوض في استِبعاد يوم القيامة، أو ما يكون فيه مِن عذاب وأهوال، حدَّث الحق عنها على ألسن أنبيائه الذين ختمهم بنبينا المُصطفى محمد .. 

  • كلّ ذلك مِن جُملة الظُنون والأوهام الغالبة على العقول، تحجُبها عن إدراك الحقيقة، وتتناول الخوض في هذه الشؤون التي ليست مِن شأنها.
  • ليس مِن شأن العقل أن يطَّلع على ما وراء هذا الجِدار، من ماذا يحدث، أو مِن مرور أحد فيه في الطريق أمام هذا الجدار، ليس مِن شأن العقل هذا؛ لأنه أمر غيب ولا طريق له.
  •  لو عقل يعرف ما وراء الجدار إلاَّ أن يُفتح فتحة فينظر بما رتّب الله له مِن نظر فينظر ما وراءه، يخبره صادق وموثوق به فيقول: موجود الآن وراء الجدار كذا، ومرّ فلان والسيارة الفلانية:
    • على قدر صدق ذلك والثقة به يكون معرفته بما وراء الجدار، هذه الطريق. 
    • وهل هناك طريقة ثالثة أو رابعة عنده؟! يقول: أنا سأنظر مِن دون أي فتحة، ولا أحد يُكلمني، أنا سأقول بعقلي أن وراء الجدار كذا كذا. 
    • هل هذا منطق؟! وهم يفعلون هكذا، يقول: القيامة كذا، ليس كذا.

   في القيامة أمر غيب وراء عقلك، لا طريق لك لأن تعرِفه إلا أن تصل إليه، وستصل؛ ولكنك لم تصل، فلا معنى للإنكار!، أو يُخبرك ثقة ولا أوثق مِن الله ورسله:

  •  وما سمِعَت الآذان أخبارًا مِن أي بشر على ظهر الأرض أوثق مِن أخبار الأنبياء، وأصدق منهم. 
  • مَن يوجد في كل زمان أصدق مِن نبي ذاك الزمان؟! لا يوجد أصدق منه، فعجبًا لك تُصدّق ذا وذا وذاك فيما غاب عنك، ويأتيك الأصدق الذي لم يُجرَّب عليه كذب منذ خُلق وتُكذِّبه!. 

ما هذا المنطق؟! 

  • إنهم لا يعقلون، والله إنهم لا يعقلون، ولا يمضون على مُقتضى العقل في تصوّر الأشياء والتعامل معها، مع تبجّحات طويلة عريضة وأننا وأننا، وكله خروج عن مقتضى العقل الموهوب لهم مِن الله -جلَّ جلاله-.
  • حدّثهم عن شأن هذا العذاب على ألسن أنبيائه وما يجريه هناك، فجاءوا يريدون أن يردِّوا ما جاء عن الأوثق عمّن خلق، وعمَن اختار مِن رسله وأنبيائه صلوات الله وسلام عليهم. 

ليصدِّقوا مَن؟ ليكذبوا الله ورسله ويصدقوا مَن؟! أوهامهم و خيالاتهم؟! أو أقوام لا نسبة لثقتهم، عند ثقة الأنبياء والصدّيقين الأولياء، فمن يصدٍّق هؤلاء؟! فما لهم؟!

قال: (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ(2)) -واقعٌ- (مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(3)) صاحِب الدرجات، صاحِب الفواضِل والإنعام، مَن رتَّب هذه المصاعد التي تعرج عليها أرواح الأنبياء والملائكة وأرواح الموتى فتصعد: 

  • فإن كانت روحًا طيبة عُرج بها مِن سماء إلى سماء، وصعدت مِن سماء إلى سماء في هذه المعارج، وقد جاء في الأخبار: 
    • أنَّ المعراج الذي رفع الله رسوله عليه في ليلة الإسراء والمعراج؛ وهو مما يدخل في دائرة ما يغيب عن الحواس.
    • وأنَّه تعرج عليه أرواح المؤمنين، تنظر حُسنه عند الغرغرة وخروجها مِن الجسد، فتُصعد، فتُفتح لها أبواب السماء. فتُعرج مِن سماء إلى سماء حتى تقف بين يدي الحق -جلَّ جلاله- فوق السماوات السبع و يبشرها. 
    • ثم تعود الروح قريبة مِن جسدها، حتى إنَّ الميت ليرى مَن يحمله، ومَن يضعه، ومَن يُقلِبه، ومَن يغسِّله، ومَن يكفِّنه. 
    • وعند احتماله على أعناق الرجال ينادي هذا الموفق: "قدِّنموني.. قدموني إلى جنَّةٍ ورضوان وربٍ غير غضبان".
  • والروح الخبيثة: 
    • يُصعد بها نحو السماء فتُغلق دونها أبواب السماء فلا تُفتح لها. 
    • وتلعنها الملائكة وترجع، فلا يكون لها إلاَّ السجين، وتبقى على صِلةٍ ومقرُبةٍ مِن الجسد. 
    • إذا أُحتِمل على أعناق الرجال نادى: "خلِّفوني.. خلِّفوني"، يا ويلها إلى أين تذهبون بها؟ إلى غضب الله وعذابه.

عذاب (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ) -واقِع مِن الله- (ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)).

(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) إمَّا جبريل عليه السلام، أو الروح؛ قومٌ خلقهم الله تعالى، ليسوا بأناسٍ، ولهم عروج مع الملائكة الكرام، الروح، أو عروج روح كلِّ مؤمن.

والعذاب واقِع (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وقد تعددت الروايات: 

  • أنَّ طول ذلك اليوم ما بين ألف، وخمسين ألف، يُخفف على المؤمن حتى يكون كما بين الظهر والعصر بالنسبة له.
  • وحتى يكون لكبار المؤمنين كصلاة فريضة صلَّاها أحدهم، ويكون كأخف صلاة صلاها أحدهم في أيام الدنيا، فينتهي هذا اليوم بطوله 

بالنسبة لهؤلاء. عندنا في عالم الدنيا نجد: 

  • أن أصحاب الفرح والسرور بأمره يرون الوقت الطويل الذي يمضي قصير جدًا وأنه مضى بسرعة.
  • وأن أصحاب الحزن والتعب والإشمئزاز مِن أمره يرون وقت هذا الأمر صعب عليهم وطويل، ولو كان مقدار نصف ساعة لقال: كأنه عشرين يوم متى تنتهي؟

وذاك يرى الساعات الطويلة كأنها ربع ساعة، نصف ساعة، كأنه مرَّ بسرعة؛ لأنه مرتاح بالأمر؛ هذا فيما يتعلق بالإحساس ونحن في الدنيا، والأمر في الآخرة أكبر.

ثم إنَّ طول أي ساعة وقِصَرها بيد خالق الساعات، وخالق الأوقات -جلَّ جلاله- لا معنى لأن تستشكل العقول كيف تكون لهذا ساعة؟ ولهذا نصف ساعة؟ ولهذا دقيقة لا معنى لهذا: 

  • لأنَّ خالق الوقت هو المُتصرِف فيه إن شاء أطاله، وإن شاء قصره، وإن شاء في الآن الواحد يجعله لهذا طويلًا، ولهذا قصيرًا كما شاء -جلَّ جلاله-.
  • وإنَّه في حُكْم تصرُّفه في الأوقات، يشعُر الناس بتقارب الزمان في آخر الزمان حتى تصير السنة كشهر، والشهر كأسبوع، والأسبوع كيوم، واليوم كساعة، حتى تمر الساعات عليهم كأنها احتراق سعفات، تحترِق في لحظات.
  • وكثير مِن الناس يشعر أوائل عمره كيف كانت تمرُّ عليه العشيّة، وكيف كان يمر عليه الصبح، وكيف كان يعمل في الظهر. ويرى أنَّه كان يعمل عملًا طويلًا وفعلًا كثيرًا، صار بعد ذلك لا يستوعبه في هذا الوقت بتقارب الزمان، فسبحان المُتصرّف في الزمان كما يشاء -جلَّ جلاله-.

وهكذا، ونجد استشعار زمان طويل عند راءٍ يرى في نومه مرور يوم ويومين وسنة وسنتين في لحظات لا تتجاوز دقائق في رؤيا يراها، والمُستيقظ بجانبه ما هي إلاَّ دقائق عنده معدودة، فيستيقظ هذا فيقول له: أنا رأيت أني سافرت إلى مكان كذا وبت ونمت، ثم في اليوم الثاني. مِن أين جئت بالأيام؟ أنا قاعد هنا بجانبك ولا في يوم ولا في نصف يوم، نومك كله نصف ساعة، ورؤيتك لا تتجاوز أربع دقائق، خمس دقائق صارت أيام؟! وقعت أيام؟! قال له: وقعت أيام وولادة وحمل وسفر مِن بلاد إلى بلاد، وأحكام، ودخل وخرج، ربما بنى بيتا وكمّل وطلّع، في الدقائق هذه! ويستشعر روحه، هذا الطول وهذه الأيام كلّها -سبحان الله-، ياعاقل أعقل المُتصرِّف قوي قادر حكيم، ولا تُحكِّم ما ألفت ولا ما تصوّرت ليحكُم على البارئ المُنشئ الفاطِر المُوجد، أعقل! أعقل، سيِّر عقلك في مسار صحيح.

يقول: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(4)) لعِموم الكافرين، أو لكبار الكفار:

  • ومِن الكفار مَن يصير يوم القيامة بالنسبة له كألف سنة، وهم أكثر الكفار.
  • ومنهم مَن يصير عليه كما بين الظهر والعصر وهم أكثر المؤمنين.
  • ومنهم مَن يكون عليه كأخف صلاة صلاّها في الدنيا؛ هؤلاء أهل ظل العرش يمر اليوم عليهم بسرعة؛

لكن الذين تحت الشمس، اليوم طويل بالنسبة لهم، لا إله إلاَّ الله. وقد جاء في الأحاديث: "أنَّ الذي يمنع صدقة إبله،  يُبطح فتمرُّ عليه ترفسه بأرجلها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وكذلك الذي يمنع زكاة الغنم" إلى غير ذلك مما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عليهم رضوان الله تعالى، فوصف النبي ذاك اليوم وقال: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"، فهو على أهل العذاب الشديد والكفر طويلٌ جد طويل، يُقصَّر على أهل الإيمان حتى يكون خفيفًا يسيرًا.

 (فَاصْبِرْ) -يقول الحق لحبيبه- (صَبْرًا جَمِيلًا (5))، اصبر صبرًا جميلًا، والصبر الجميل الذي لا يُخالِطه جزع ولا تبرّم ولا شكوى، إن كان يُثمر فائدةً وخيرًا ونتيجة حسنة؛ فهو الصبر الجميل.

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا): 

  • فجمال الصبر أن تصبر على ما تشكُر عاقِبة الصبر عليه. 
  • جمال الصبر أن يكون صبرك لهذا الذي عاقبة الصبر عليه حسنة: 
    • خالٍ عن الجزع. 
    • خال عن التبرُّم. 
    • خالٍ عن التقلقل. 
  • صبر جميل، فلكل شيء جمال، "إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ"، الله -جلَّ جلاله- يحب الجمال. 

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وهكذا، حتى مرّ معنا فيما أمره أن يهجر مَن يستحق الهجر، قال: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًاجَمِيلا) [المزمل:10]، فإنَّك صاحِب الجمال كل شيء يصدر منك جميل: 

  • صبر جميل.
  • وهجر جميل.

فكيف بالوصل، إذا الصبر جميل، وإذا الهجر جميل.؟! فكيف الوصل؟! فكيف الشكر؟! فالشكر أجمل، والوصل أجمل، الهجر جميل، والصبر جميل، فكيف يكون الوصل؟! وكيف يكون الشكر؟! صلى الله على مجلى الجمال ومعدن الكمال في العالم الخلقي مِن تلقَّى أعظم النوال محمد بن عبد الله.

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)، والأمر الفاصِل الذي نقف عنده أنَّنا نعيش في هذه الحياة، وهذه الأمور التي حدَّث الله عنها ورسوله هي:

  • في عقولنا ومشاعِرنا وأحاسيسنا قريبة مُحققة لا ريب فيها.
  • وهي عند مَن كفر وعند مَن نافق بعيدة.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7))، وهل تكون رؤية المخلوق الصادق إلاَّ مِن رؤية خالقه، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) وكل آتٍ فهو قريب.

رزقنا الله كمال الإيمان، وكمال اليقين، وكمال الاستعداد لدار المعاد، وبارك لنا ولكم في رمضان و لياليه وأيامه، ورزقنا سبحانه تصفية المرايا القلبية لنا للصيام والقيام، اللهم وقد فاتت علينا ليلة مِن ليالي الشهر ومضت فاجعل اللهم عاقِبتها خيرًا، واجعل اللهم ما فيها ذريعةً للوصول إلى مراتب قربٍ مِن حضرتك، اللهم وبارك لنا في هذا اليوم الأول، واجعل بقية الليالي زيادة لنا في الفهم عنك، والمعرفة بك، وتصفية مرايا قلوبنا مِن أكدارها وأقذارها، حتى نرقى مراقي اليقين في شهرنا هذا علمًا وعينًا وحقًا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، وفرِّج كروب أمّة نبيك محمد، وادفع البلاء عنهم، واجمع شملهم على ما تحب.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

02 رَمضان 1440

تاريخ النشر الميلادي

07 مايو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام