تفسير سورة المطففين -6- من قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))
الحمدُ لله مولانا العَليم الحَكيم المَنّان الكَريم الرحمٰن الرحيم الوَهاب العَظيم، أنزلَ القرآن الكريم، على عبدِه المُصطفى ذي القَدْر العَظيم، والخُلق العَظيم، والدّين العَظيم، سيدنا محمد ،صاحِب الشأن الفَخيم الهادي إلى الصراط المُستقيم، فنسأله تعالى أن يُصلّيَ ويُسلّم مِنه عنّا على ذلك الحبيب المُجتبى المُصطفى في كلِّ نَفَسٍ وحين، وعلى آله الطاهِرين وأصحابِه الغرّ المَيامين، وعلى من سار في سبيلِهِم من أصحاب اليَمين والمُقَرَّبين، وعلى آبائه وإخوانِه مِن النبيين والمُرسَلين وعلى آلهم وأصحابِهم أجمعين، وعلى مَلائِكَته المُقَرَّبين وجميع عِبادهِ الصالِحين وعلينا مَعَهُم وفيهم.
أما بعدُ..
ففي مواصلةِ الطْلب والوِجهَةِ والرَّغَب، إلى الإلٰه الربّ، بِما أعطى ووَهَب وفَتَحَ من الأبواب -سبحانه وتعالى- فَنِعْمَ الربّ، على يد حبيبه الأقرب الأطيب، نُواصلُ استنْزالنا لرَحَماته، واستِضاءَتِنا بأنوار دَلالاته، وتَعَرُّضنا لنفحاتِه وطَلَبَنا لمرضاته، بِتَدبُّر آياتِه، وسَماعِ ما أوحِى إلى عبدِه الذي لا يَنطِقُ عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:4].
وقد تَدَبّرنا بَعضَ مَعاني كَلام الله -تبارك وتعالى- في سورة المطففين حتى مَرَرنا على قوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21))، الأبرار: جَمعُ بَر، هؤلاء الأبرار يُلَقّبُ أحدُهم بالبَّر، ومعناه كثير البِر؛ الأبرار لا يعرِفون العُقوق، الأبرار لا يؤذون مَخْلوق، حتى قال سيدنا الحسن البصري، لما سُئل عن الأبرار قال: هم الذين لا يؤذون شيئاً حتى الذَرّ. الذَرّ لا يتأذى منهم، لا يُؤذون شيء، بِر كلهم، أبرار، الواحد منهم بَر أي: كثير البِر، فما يَصدُرُ مِنهم إلا المَنافِع، ولا يَجري على أيديهم إلا المَصالِح والخيراتِ للعِباد؛ هؤلاء أبرار. أمّا من يسبّ هذا، ويتكلّم على هذا وهذا، هذا ليس بَر، هذا ضُر ليس بَر، هذا من الضِرّار ليس من الأبرار، الأبرار كلّهم نفع للعِباد (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)).
يقول جلّ جلاله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18))، فإذا كان هذا حالُ الأبرار، فكيف من ارتقى في البِر حتى صار من المُقَرَّبين؟ (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)) في علِّيّين، وقد تَقَدّم مَعنا بعضُ معانيه، والمَعنى الشامل أنه عُلوٌ بعد عُلو، مُستَمِرٌ أبداً سرمدا، شأنُهم في عِليين، عُلو بعد عُلو، جمعُ عِليُّ: عِلِّيّون عِليٌّ وعِلّيُّ وعِلّيٌّ، عِلِّيّيون، يعني اعْتِلاءات غير مُتناهية.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)) فكان مظهر هذا العُلو: المَلائكةُ الذين يَكتُبونَ أعمالهم الصالِحة ويُزِفّونَ بها، ويرفعونها من سماء إلى سماء؛ منها ما في السماء الرابعة، ومنها ما في السماء السابعة، ومنها ما يتعلّقُ بالعرش، وساقِ العَرش، وزَوايا العرش، كلُّ هذا داخِل في عِلِّيّين، ومع ذلك فتنْفتِحُ لهم باب الزيادة، حتى إذا دَخَلوا دارَ الكرامة فقد قال ربّي عنها: (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35] مَزِيدٌ .. مَزِيدٌ؛
وزِدنا وزِدنا فأنت الكريم *** وزِدنا وزِدنا وزِدنا دوام
- قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) [محمد:17]،
- قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [التوبة:124]،
- قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2]،
- قال تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) [التحريم:8] يعني زِدنا، وفي دعاء نبينا كان يدعوه كل يوم في الفجر وفي أوقات مختلفة يقول: "اللهم زدني نورا"؛ هو النور:
هو النور يهدي الحائرين ضياؤه *** وفي الحشر ظِلُ المُرسَلين لواؤه
تَلقى من الغيب المجرد حكمـــــة *** بها أمطرت في الخافقينِ سماؤه
ومشهود أهل الحق منه لطائف *** تُخبِّر أن المجــــد والشأو شأوه
هذا الأكرم على الله، كلّه نور، وهو مصْدر الأنوار في البرية، ومع ذلك يقول:
- "زدْني نوراً وأعطِني نوراً واجْعل لي نوراً"،
- وفي بعض الروايات "واجعلني نوراً"،
- "واجعل لي نوراً من فوقي ونوراً مِن تحتي ونوراً عن يميني وعن شمالي ونوراً من أمامي ونوراً من خلفي، وزدني نوراً واجعل لي نوراً في قلبي ونوراً في قَبري ونوراً في سَمعي ونوراً في بَصري ونوراً في شَعري ونوراً في بَشري ونوراً في لَحمي ونوراً في دَمي ونوراً في عِظامي ونوراً في عَصبي"؛
كلّه نور -صلى الله على نور النور- بل هو السِراج المُنير، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45-46] سِراج مُنير إلى الأبد، يزداد نوراً، متى؟ في كلِّ اللحظات، في كلِّ الأنفاس، في كلِّ الساعات، يزداد نوراً، يزداد نوراً، تسمع دعاؤه كلّ يوم: "وزدْني نوراً، زدْني نوراً" يزدادُ نور في كلّ لمْحة، في كل نَفَس، يَزداد نور في البَرزخ، في القِيامة، في الجنّة، ونوره يَزداد -صلوات ربي وسلامه عليه-.
وإذا كان نور الواحد من أتباعِه يُدْهِش، نور الواحد من أتباعه يتبرقع في العرش، فكيف بنور الأصل؟! هذا هو: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]؛ محمد والقرآن. هذا من الله جاءنا.. محمد والقرآن (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]:
هو النور المُبين به اهْتدينا *** هو الداعي إلى أقوى سبيلِ
آتانا داعيا بالحق يدعـو *** إلى الإسلام بالقول الثقيلِ
فبادر بالإجابة كلّ عبد *** مُطيع للإله وللرســـول
وأنكر كلّ ذي بغْي وكُفْر *** وأعْرض كل ختّال ضلولِ
ففاز المُقبِلون بِكـــلّ خيــــر*** و عُقباهم إلى الظل الضليل
وخاب المُعرِضون وكان عقبى *** معاصيهـم إلى الخِزي الوبيـل
بذلك جاءنا القرآن يُتلى *** علينا بالغُدو وبالأصيل
كتاب الله أنزله تعالى إلى *** الهادي على يد جبرائيلِ
كتابٌ جامِع للحقِ يدعو *** تنزّله على العلماء بــاقِ لديهم وهو منقطع النزول
نُزوله انقَطع وباقي تَنَزّله مايُعطي من المعارف ومن المعاني، من اللطائف، من العجائب؛ مستمر
تنزّله على العُلماء بــاقِ *** لديهم وهو مُنقطع النزول
بحُكم الإرث للمُختار نالوا *** غريب الفهم من أعلى مُنيلِ
ولكن بعد ما اتّبعوه فيما *** تلقّوا عنه من فعل وقيـــل
فدونكم سبيلهم اسلكوها *** فإن الخير في هذا السبيل
يقول تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)) ينفتِح لهم باب العلو والرفعة، فيسْتمرّون في العُلو أبدا سرْمدا -الله أكبر- يدوم لهم العطاء، وأكثرهم وأهنأهم شُرْباً، أكثرهم عطشاً.. أكثرهم عطشاً، فَكُلَّما عَطِشوا سُقوا وكُلما شعِروا بالعطش أكثر سُقوا شراباً أهْنأ وأوفر، فدوامُ السُقيا بِدَوام العَطَش، ومن رأى نَفسهُ رَوي قُطِعَ عنه السَّقي،
فلذا لمّا كتب بعضُ العارفين مِن الصالِحين لأخيه في الله: شرِبتُ من كأس المحبّة حتى رُويت؛ فكتب إليه: أخي؛ ولكن غيرك شرِب البِحار ثم لم يزدد إلا عطشا، شرِب البِحار وازداد عطش! شوق إلى فوق مُسْتمِر على طول! هؤلاء يتحدثون عن الترقية وهذا دوام العطاء، ولما سَمِع بَعضُهم قول بعض الصالِحين:
ديروا عليّ كأسِكم *** ظمآن يا أحباب بشرب
ظمآن يا أحباب بَشرب، أسرعوا في عَجَل قال: حياه الله، شعر بالظمأ فَيَطيب لهُ السُقيا.
يقول: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)) فلا يَزالون في تَرقّي وارْتِفاع واتِّساع واطِّلاع وعَطاء بعد عَطاء، إيمان يَزداد، يقين يزداد، معرفة تزداد، مَحبّة تزداد، قُرْب يزداد، وذَوق يزداد، وفَهم يزداد، وعِلم يزداد (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114] -الله أكبر-، وقدر واعْتِلاء مُسْتمر إلى ساعة الوفاة، ويكونوا على خير الحالات مَرّت بهم في الحياة، فَيَلقون الله وهم يُحِبّون لِقاءه وهو يُحِبّ لِقاءَهم، ويَنتَقِلون إلى عالم أفسح في الشُهود والرؤيا، تَنكَشِف الحُجُب في عَليِّ الرُتب، ويكونون في علِّيين، هُم أيامهم في الدنيا مِن العُلو الذي هم فيه؛ الملائكة يَتَسابَقون إلى خِدمَتِهم، إلى رَفع كَلامِهم، إلى رَفع أعمالهم إلى الرَّب -جلّ جلاله-.
فكلُّ من تَمكّن مِمن يُؤذن له من كِبار الملائكة، سبقوا لأخذ كُتب كِبار الصالِحين من عِباد الله على ظَهر الأرض، لأنّهم يَعرِفون مَكانَهُم عندَ الكبير، مكانِهم عند الملك -جلّ جلاله-، يتسابقون إليهم، ملائكة السماوات كذلك تترقّب ويتسابقون لمن هو أقرب وأقرب إلى الربّ لِيَزُفّوا عَمَله (لَفِي عِلِّيِّينَ (18))، (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18))، وهكذا طول الحياة؛ عِند المَوت مَلائكة يَأخُذونه يُبَشِّرونه، ويَتَسابَقون إلى تَبْشيره وتتلقّاهم الملائكة (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]،
وهكذا، الصِنف الثاني يَتَقَرّب المَلائِكة بِتَهديدِهِم وبتكبيتهم (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93]، يقولون: (بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)، يقول تعالى في الآية الأخرى: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [الأنفال:50]،
لكن يَتَسابَقون إلى الأرواح الطاهِرة؛ انظرإلى هذا في سجِّين ولكن هذا في علِّيين، وهكذا:
- إلى القَبر، إلى الحَشر،
- إلى أن يَصل روح هذا الإنسان في مُخاطبة الرحمٰن،
- تُفتَح أبواب السماء، تَطلع روحه أول ما تخرج من الجسد،
- تَمُر على طوائف المؤمنين في الدرجات الأولى إلى فوق حتى يتجاوز الأبرار إلى المُقَرَبين -لا إلٰه إلا الله-،
- ويُخاطبه الرب بالقبول والغفران.
تبقى روحه مُعَلّقة بجسده حتى يعْرِف من يُغَسِّله ومن يُكَفِّنه وكيف يَصنَعون به، ومن يَتَرَفّق به، ومن لا يُبالي به، وإلى أن يُوضع على النعِش وهو مُستعجِل، يقول: قَدِّموني قَدِّموني،- ماذا؟!- قَدِموني قَدِموني إلى جَنة ورِضوان ورَبٍ غير غَضبان.
والثاني -والعياذ بالله- خَلِّفوني خَلِّفوني، ما تَخَلّف، يقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟ إلى ما قَدَّمَت، إلى ما قَدَّمَت لِنَفسِها، أين يُذهَب بها؟ كُلٌّ سيَذهَب إلى ما قَدَّم؛ صَغير كبير، كُلُّ مُكَلَّف شرق أو غرب، عربي أو عجمي، ذكر أو أنثى؛ يَقدَم على ما قَدَّم، يقول: يا ويلها إلى أين تذهبون بها؟ سمعت! بعد ذلك
- القيامة، ثم ظِلّ عرش، ثم لواء الحمد
- ثم حوض مورود، ثم مُقابلة للرب سبحانه وتعالى.
- ثم رُجحان الميزان، ثم اسْتِلام الكتاب باليمين
- ثم مُرور على الصراط كلمِح البصر، أسرع من لمِح البصر، كالبرق الخاطف، كالريح المُرسَلة؛
عِلِّيِّين؛ (لَفِي عِلِّيِّينَ (18))؛ كلّ أمورهم عالية إلى الجنّة، وإلى النظر إلى وجه الله الكريم الله.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)) -شيء عظيم- (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19))، احد يَرغب في الرِّفعة؟! في السمو؟! في العلو؟! هو هذا (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)).
يقول تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ)، أهلُ البِّرِ هؤلاء، أهل الصِدق معي الذين من أجلي، كَبَحوا طبائِعَهم وجِماحَ نُفوسِهم وشَهَواتِهم؛ صاروا يَنفَعون لا يَضُرون، يُحسِنون لا يُسيؤون؛ الأبرار: (لَفِي نَعِيمٍ (22))، صدق ربي، وإذا قال ربي نعيم فهو نعيم .. فهو نعيم .. فهو نعيم لائق بعظمة العظيم -جل جلاله-.
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)) مثل ماذا هذا النعيم؟ يذكر لكم بعض المظاهر: (عَلَى الْأَرَائِكِ … (23)) جمع أريكة، سرير له حِجال، تكون الحِجال أمر مسْتقر والأسرِّة، فإذا اجتمعت؛ سرير وحِجال؛ تكون أريكة، قال: (عَلَى الْأَرَائِكِ)، والأسِرّة من ياقوت، من لؤلؤ، من زبرْجد، الله، ليس من خشب ولا من حديد ولا من بلاستيك ولا شيء آخر.
يقول: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23)) نظر ثاقب قوي، (يَنظُرُونَ) مَد البصر يبلغ نظرهم، إلى بعيد (يَنظُرُونَ)، ينظرون مُلْكِهم الذي آتاهم الله، ينظرون الولدان، ينظرون الأنهار، ينظرون الأشجار، ينظرون الحور العين، ينظرون.. ينظرون عَجائب الجِنان وما فيها، ينظرون إذا شاؤوا إلى من عاداهم ومن آذاهم من المُجرمين والكفار ينظرون الى من هم في النار، ينظرون من أريكتهم.
(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23)) -ينظرون أعلى شيء- (يَنظُرُونَ) إلى وجه الله، وفي الحديث الصحيح أنهم لمّا يُكرِمهم الله بالنظر إلى وجهه، يعودون إلى أهاليلهم يقولون: ازددتم حُسناً، وجمالاً بعدنا، يقولون: كيف لا نزداد حُسناً وقد رأينا ربّنا؛ ولهذا قال: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)) وأي نعيم سيبدو على الوجه ليس أجَلّ ولا أكبر من نعيم النظر إلى وجه الله الكريم، ويَسعد كلّ من كان في عمره نظرهم، هذا النظر إلى ربهم -جل جلاله- له الحمد والمنة (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) [الجمعة:4].
(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23)) أنواع هذا النظر، لا يحتاج إلى نَظّارة ولا يحتاج إلى عدسات ولا يحتاج إلى تلسكوب ولا يحتاج إلى منْظار ولا يحتاج الى شيء؛ نظر مُباشر، يريد ينظر إلى الجنة وينظر إلى العرش وينظر إلى اليمين إلى اليسار؛ يمد بصره فينظر إلى مسافة الأميال البعيدة بقوة ما آتاه الله من نظر -سبحان الله-، ولا يمنعه الحِجال من النظر إلى ما وراءها، أمر النظر في الجنّة غريب! الناس الآن يعرِفون النظر من حيث ما أعطوا من النظر في الدنيا، اترك فلسفة النظر، هذه والإدراك والبصر الذي في الدنيا كلّه على جانب، النظر هناك مختلف.
يكون في الحورية سبعين حُلّة، يرى السبعين الحُلّة كلّها في وقت واحد، كل واحدة لا تحْجُب الثانية، ويرى ساقِها ومُخّ الساق من وراء السبْعين الحُلّة، البصر في الجنة شيء آخر، أنت خلق لك هذا البصر في الدنيا وتريد أن تُحِكم قُدْرتُه فيه؟! أعطاك بصر؛ واحد بصره قوى، وأحد ضعيف، وأحد بصره كالخفافيش بصرهم ضعيف، إذا جاء هذا النور ما عاد يرى، بينما إذا وِجد نور ضعيف مثل نور النجم ونور القمر يرى -الخُفّاش-، خفافيش موجودة، طيور وإذا جاء الشمس ما عاد ترى، ضعُف نظرها، إذا قوي النورلا ترى شيئا، والخفافيش من بني آدم كثير، لا يرون النور (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا) [الأعراف:179]، وإذا جاء عند قوة النور لا يرى شيء، لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الله عنهم: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [الأعراف:198]، نورك قوي لايرونه، هؤلاء خفافيش، وإلا سيؤمنوا، من يرى وجه ولا يؤمن؟! "من نظر في وجهه علِم أنه ليس بوجه كذّاب". قال عبد الله بن سلام: أول ما وقع بصري عليه -لما جاء الى المدينة- علِمْتُ أنّه نبيّ -علِمْت أنه ليس بوجه رجُل كذّاب-، هذا ليس بوجه كذّاب، الله.. الله، ولكن لا ينظرون.
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24))؛ يظهر النعيم في وجوههم، مُّسْفِرَةٌ، (ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) [عبس:39] مُنيرة جميلة، والحُسن يزداد، يزدادون حُسن في الجنّة، في غاية الحُسن ثاني يوم أحسن، ثالث يوم أحسن، رابع يوم.. وأما عند النظر إلى وجه الله.. الله عَجائب من الحُسن يُكسَونَها! والحُسن يسْتمر ويزداد! -الله الله الله الله الله الله- (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35] بلا عَدِّ ولا تَحديد.
(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]، لو عُرِض عليك مُلك جميع المُلوك من أوّل الدنيا إلى آخرها في مُقابِل ساعة من ذاك المُلْك لكانت الساعة في ذاك المُلك أطيب وأرغب وأحبّ وأرحب وأعظم وأكرم وأنفع وأرفع وأصفى وأوفى وأسعد وأمجد، كيف وهو مُلك الدوام! مُلك دائِم، من أوّل ما يُنادون به إذا دخلوا الجنة أهل هذا النعيم:
- إن لكم أن تَحْيو فيها فلا تموتوا أبدا،
- إن لكم أن تَشِبّوا فلا تَهرموا أبدا،
- إن لكم أن تَصِحّوا فلا تَمرَضوا أبدا،
- إن لكم أن تَنعموا فلا تَبأَسوا أبدا؛
هذا من أول ما ينادون به عند دخول الجنة: "إن لكم فيها أن تَنْعَموا فلا تَبأسوا أبدا وأن تَصِحّوا فلا تَسقَموا أبدا، وأن تَشِبّوا فلا تَهرَموا أبدا، وأن تَحْيوا فلا تَموتوا أبدا، هل هناك مُلك في الدنيا يُشْبِهه؟! ما الذي يُشْبِه هذا؟ ذاك مُلك الخبل والغفالة والغباوة لا يغْتر به إلا مُغفّل.
وبذلك لما نَظَر بِعَين البَصيرة وامتد النظر؛ صاحِبُ القلب الحيّ يقول:
- هؤلاء الذين يُسَمّون في الدنيا فقراء -من الصادِقين المُخْلِصين المُسْتقيمين على المنْهج- هم المُلوك،
- هؤلاء يدّعون المُلك وهم يعْصون الله ويُخالِفونه؛ مصيرهم مُحْزِن ونهايتهُم مُتعِبة لا حول ولا قوة إلا بالله.
ما لذّة العيش إلا صُحْبة الفقراء *** هم السلاطين والسادات والأمراء
أصحبُهم وتأدب في مجالسِهم *** وخلِّ حظّك مهما قدّموك وراء
-الله الله الله-
أُحِبهم و أواليهم و أؤثرهم *** بمُهْجتي وخصوصاً مِنهم نفرا
-عليهم الرضوان-
قوم كِرام السجايا حيث ما جلسوا *** يبقى المكان على آثارهم عطِرا
من لي وأنّى لمِثْلي أن يُزاحِمهم *** على موارد لم أُلفي بها كدرا
-لا إله إلا الله-
ولهذا لما جالسوه الصَحب وذاقوا، قالوا: إن دخلْنا الجنة كُنّا في درجة أسفل فلا نراه، فماذا تنفع؟ الواحد منهم يكون وقت راحته وبين أهله وأولاده يَذْكُرُه، فلما يذْكُر لذّة الجُلوس مع الحبيب يخرج من البيت ويترك الأولاد، يترك الأهل يبحث .. يبحث؛ يُلاقيه في المسجد أو عند بيته، أو يبقى يبحث حتى لا يهدأ إلى أن تقع عينه على وجهه،
هذا أمر مُشتَهِر بين الصحابة ومُنتَشِر، ليس في واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة ولا ستة ولا سبعة ولا ثمانية ولا تسعة ولا عشرة.. هكذا كانوا.. هكذا كانوا هكذا كانوا، وفَكّروا هذا التفْكير، حتى ألم النار قاسوه بألم فِراقِه فزاد عِندهم ألم فِراقه على ألم النار قال: "إن أنا لم أدخل الجنّة" لم يقل سأحترق، رأى أن المصيبة أكبر، قال: لم أرك، هذه المُشكِلة عنده، المُشكِلة يعني آلام النار كلها تَخِف عند عدم رؤياك، وإن دخلت الجنة قاسوا النعيم هذا العظيم الذي في الجنة واللذائذ بلذّة رؤيته ومُجالسته، فوجدوا أن لذّة الرؤية أعظم، قال: لم أرك -كنت في الجنة درجة دون درجتك فلا أرك- هذه مصيبة ما عاد ينفع النعيم هذا من دون رؤياك،
سكت النبي، جبريل نزل بالآية: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ) فما هدأت اللَوعة إلا بـِ (مَعَ) لما قال: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) [النساء:69] ارتاحوا، لذا سمعتَ بلال يقول عند الموت: "واطرباه واطرباه غداً ألقى الأحِبة محمدا وحزبه" اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله.
الله يُرينا إيّاه، الله يُشَرِّف عيوننا بالنظر إلى محيّاه، الله يُكرِمُنا بلقائه.. ياالله، كيف لا نشتاق إليه؟! أحبُّ خلْق الله إلى الله، أكرم خلْق الله على الله، كيف لا نشتاق إليه؟! كيف لا نحبّه؟! كيف لا نطلُب رؤياه؟! كيف لا نطلُب لقاءه؟ بجاهه عليك لا تُفرّق بيننا وبينه.. يا الله، (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24))، الله الله الله الله الله الله، وأحدهم من يوم بايعهُ وصافحه، لمسته يده هذه، ما عاد لمِستْ عورة، ماعاد لمِست قَذَر إلى آخر العمر، قال: صافحْتُ بها محمدا.
أبو محذورة -عليه رحمة الله- كان مؤذن في مكة المُكرّمة، وهو صغير سمع النبي أصواتهم قاموا يُقَلِّدون بلال -سيدنا بلال قام يؤذن، فقام جماعة من الأطفال هناك- صبيان يؤذنون كما يؤذن بلال ، فرمق ﷺ صوت واحد منهم مناسب حسن، ناداه، قال له: ادعوهم، -أتوا- قال: أذِّنوا، واحد واحد، وَصَل عند أبومحذورة، قال: تعال، وعَيَّنه مؤذنًا عنده، فكان في أيام مكة يؤذن؛ أبو محذورة، مسح ﷺ بيده على ناصية أبي محذورة ففاحت طيباً، فكان إذا اعْتمرأو حَج يقول للحلاق: هذا المحل لا تَمَسّه، يقول للحلاق: هذا المحل -الناصية- لا تَمَسّه، هذا لمِسته يد النبي، فيحلق باقي الرأس ويتْرُك الناصية حتى طالت الناصية، وكان يَطويها ويتُركها إلى أن مات، قال: شعر مسّته يد الحبيب، اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)) -الله- (يُسْقَوْنَ) يُسقون هؤلاء الأبرار في النعيم -الله أكبر- (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ) -شراب طاهِر طيّب- (مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25))، عندهم أنهار من خَمْر، وأنهار من لبن وأنهار من ماء، وأنهار من عسل، وهذا رحيق: شراب خاص، (مَّخْتُومٍ) -مُغَطى- (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ) تكْرِمةً، كما يُحافَظ على الشيء المُمتاز، يُغَطّى في الدنيا هنا، وإن كان في الجنّة لا توجد مكْروبات، لا توجد أضرار، لا شيء من الأشياء هذه الذي خلقها الله في الدنيا، لاشيء في الجنة من الأشياء الضارة كلّها هذه، ولكن مع ذلك يأتي بِصور مْختومة، مختوم لكن ( خِتَامُهُ مِسْكٌ ..(26)) مُخّتم، ليس بالطين، ليس بإسْمنت، ليس بالصمغ، ليس ببلاستيك ( خِتَامُهُ مِسْكٌ) ..الله.
وفي معنى: (رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25)) يعني له عاقبة حسنة -خاتمة- (رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ) و( خِتَامُهُ مِسْكٌ ..(26)) يعني نِهايته يفوح رائحة المِسْك مِنه، بدل الذي يعْلق بالماء من الطين، هذا يكون من مِسْك (خِتَامُهُ مِسْكٌ)، فإذا شرب كان خاتمة الشراب مِسْكاً يَفوح منه، أي مخْتوم مُغطّى و(خِتَامُهُ مِسْكٌ).
قال الله تعالى: هذا النعيم الذي أصِفُه لكم، من كان يعْقِل عنّي، إن ْهُناك تنافُس معكم في الحياة، فعلى هذا تنافسوا، يُغْرونكم بالألعاب، يُغرونكم بالوظائف، يُغْرونكم بالرِئاسات، يُغْرونكم بأشياء كثيرة؛ لكن يكْفيكم عقلاً أنْ أقول لكم: تنافسوا في هذا، (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)) يَرغبُ الراغِبون، يَتسابق المُتسابِقون في هذا -يا رب اجعلنا ممن رغِب، وممن لبّى نِداءك.
(وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26))، إن كان هُناك مُسابقة، إنْ كان هُناك مُنافسة حَسنة شريفة ففي هذا نتنافس، ومتى يُقَسّم؟ من مثل الأيام هذه والليالي يُقَسّم هذا الشراب نفْسه يُعد لأُناس مِن هُنا، يُعَد لهم شراب هُناك، وإن شيء تنافُس في هذا فلنتنافس (خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)) هذا ترغيب الله لنا في هذا التنافُس الشريف الرفيع العالي الله.
(وَمِزَاجُهُ) مِزاج شراب الأبرار هذا الذين ارْتقوا إلى رُتْبة المُقرّبين مِزاجُه وخلْطُه.. خلْطُه.. خلْطُهُ وهو من معنى خِتامُه ايضاً، خلْطه مِسْكٌ وهذا (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27)) تسْنيم؛ شي رفيع عالي ينزل، فأرفَع شراب في الجنة؛ هذا التسْنيم، أعلى شراب، عامة أهل الجنّة يُمزَج شرابهم، أي شراب أخذوه مِن مثل هذا الرحيق المخْتوم أو أي كأس أخذوه من كؤوسِهم ينْزِل عليه يُصبْ من فوق، يُسْنّم: يُصَب فيه من التسنيم، يُحَسِّن، يكون فيه ذوق من شراب المُقرّبين.
(وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27))، قالوا وأين (تسنيم) هذا؟ قال: (عَيْنًا) التسنيم هذه عين فوق، (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)) مباشرة خالص للمقربين، و لبقية أهل الجنة يُمْزج مِزاج، مزاج -خُذ قليل من شراب الذين في عليين، خُذ قليل وضعهُ في طعامك يُحَسِّن لك طعمك- (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)) أهل عليين هؤلاء هم أهل فوق.
قال: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))، يقول ﷺ: "أكثرُ أهل الجنة البُله، وعِلِّيون لأولي الألباب" فوق فوق، يقول في بعض الأثر: أن نواحي الجنّة يُشْرِق فيها نور سَنا، يقال: ما هذا؟ يقول: رجل من عِليين انْتقل إلى غُرْفة، رجل من العليين انتقل من غرفة إلى غرفة ذهب فيشرق سنا نوره على بقية أهل الجنة"، أهل عليين هؤلاء رفيعو القدر عند الله؛ الأنبياء والصدّيقون هناك، المُقربون هؤلاء؛ قال: (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) - بقية أهل الجنة- (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة:88-94].
قال: (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))، بل يُكرِم الله تعالى أهل الإيمان في الموقف في البِداية حول الحوْض، حوْض النبي ﷺ الواسع ملآن ماء، يُصَب في ميزابين من الكوثر من نهْرِه الذي هناك لكي يُحَلّى به، والصَّب هذا أيضاً الذي من التسْنيم يُصَب مُباشرة في الهواء هكذا، أنت احْمِل الكأس فقط، وإذا أردت أن تشرب ينزل عليك، يمْزُج شرابك، وإذا أنت من أهل عليين تشرب مُباشرة، الله أكبر، وهكذا…
- أنهار الجنة مُرتفِعة في الأرض، لا شيء منها في أخاديد، ولا مُنْحط في الأرض، مُرتفِعة تمْشي في الهواء هكذا، وأيضا الماء ينزل في الهواء مباشرة، وأشجار الجنّة مُعَلّقة في الهواء، جُذورها أعلى وأغصانُها تحت (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة:23]،
- حتى صاحِب الأريكة لمّا ينظر، أي شيء يخْطُر على باله يَنظُره، أي شيء يُريده ينْظُره، يُريد طير؛ طير، يُريد شجرة؛ شجرة، يُريد ثمرة؛ ثمرة، يُريد أي شيء، بمجرّد ما يخْطُر على باله.
- الأزرار شغّالة عند الخواطِر مباشرة، هذا دار الضيافة من كريم قدير يُضَيِّف على قدر كَرَمِه، على قدر قُدْرته -جلّ جلاله- يُضَيِّف، الخواطر شغّالة، أزرار لكلّ ما عندك من مُلك، أي شيء في خاطرك بالأزرار يوصل لك الذي تريد -سبحان الله-.
حتى إذا اشتاق أن يزور أحدا من إخوانه الذين كانوا معه على طاعة الله في الدنيا؛ في اللحظة التي يَخْطر على باله هذا، يخْطر هذا على بال الثاني، نفس الوقت، بمُجرّد الخَطْرة السرير يتحرّك والأريكة كلّها تمشي، وأريكة الآخر تمشي، وسرير هذا إلى سرير هذا، قال :أنا أريد عندك.. سبقتنا! .. قال الآخر: أنا أريد عندك، قال: الآن خطرَت على بالي.. قال الآخر: الآن خطرْت على بالي، السلام عليكم، كيف حالكم؟ ما خبرك في الجنّة؟ ألا تَذكُر أيام كنّا في تلك الحياة القصيرة، الصغيرة والتي ذهبت بِسُرعة والحمدُلله، سلّمنا الله من شرِّها وضُرّها؟ وماذا وجدت من المجْلِس الفُلاني لمّا جلسْنا، ماذا كافأك الله؟ ماذا أعطاك على الجماعة التي حضرناها، وذاك الدعاء الذي دعونا الله في ذاك اليوم؟ قال: أووه أتدري؟! أعطاني كذا.. أعطاني كذا، أنظر، تعال سأُريك إياها، أعطاني هذا وأعطاني ذاك، هذا جزاء المجْلِس الفلاني، وذاك جزاء المجْلِس الفلاني، وهذا كذا ..وهذا .. وهذه من الجلسة التي جلسْناها، هذا من البكْية التي بكيناها من خشية الله، وذاك من الصدقة التي تصدّقنا بها، أنظر أعطانا كذا، وتعال أُريك أعطاني كذا، .. قال: ماذا أعطاك أنت؟ قال: تعال أنا أُريك، أعطاني كذا وأعطاني كذا (إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)) اللهم اجعلنا منهم، وألحقنا بهم بمحْض فضْلِك يا الله، (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً) [الواقعة:7]، أصناف ثلاثة في القيامة، نحن والخلق هؤلاء المُكلّفين كُلّهم من الأول إلى الآخر ثلاثة أصناف، لايوجد رابع:
- (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *
- وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *
- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:8-11]، الأنبياء والصديقين الكبار هؤلاء (أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:11]
كيف ننسى محبّة هؤلاء؟ ويأتينا رجل فاسق يُغرينا بشيء من أعمالهِ، ويقول عنده حلّ للمشاكل فنذهب وراءه ونحبَّهُ! إن كان هُناك محبّة وتعْظيم فلِمن عَظِّم الله العظيم، ولِمن عظمتهم دائمة وباقية (أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة:11-14].
الله يُلْحِقْنا بذاك القليل، أهل العطاء الجزيل، والخير الواسع من الإلٰه الكفيل، لا إلٰه إلا الله، آمنّا بِك وبِجنّتك وبِنارِك، وبما جاء به حبيبك محمد.
فارزقنا كمال اليقين وارزقنا الصِْدق، وإن أكرمت بالدخول في دوائر أولئك المقربين، فنسألك أن تأذن، نسألك أن تسْمح، نسألك أن تتكرّم، نسألك أن تجود، نسألك أن تتفضّل، نسألك أن تُنْعِم علينا وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وأصحابنا وطلابنا، من يحْضر معنا ومن يسمعنا؛ لندخل في تلك الدوائر مع أهل ذاك المقام الفاخِر، في زُمْرة الحبيب الطاهِر وأنت راض عنّا يا كريم ويا غافِر يا منّاح ويا فاطِر يا أول ياآخر يا باطِن يا ظاهِر يا الله.
ندعوك، فإذا تقابل أهل الجنة وقالوا: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ) [الطور:28]، فاجعلنا فيهم يالله، اجعلنا منهم، اجعلنا معهم إذا (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-28]، نُحن ندعوك يا الله (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:28]، يا بر يا رحيم مُنّ علينا وقِنا عذاب السموم، يا بر يا رحيم مُنّ علينا وقِنا عذاب السموم بوجاهة المُصطفى وأهل تقْريبه وأهل محبّتك ومحبّته.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد ﷺ
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
كما أكرمْتنا بالسماع عنك وعن نبيك بما في تلِك الجِنان العالية، والدرجات الفاخِرة؛ فأكْرِمْنا بِشُهودها وأكْرِمْنا بالدخول فيها وأنت راض عنّا برحمتك يا أرحم الراحمين.
25 رَمضان 1437