تفسير سورة الفاتحة - 3 - تأمل معاني الحمد لله

تفسير الفاتحة وقصار السور - 3 - تأمل معاني الحمد لله
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.

نص الدرس مكتوب:

 

﷽ 

(بِـسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3)مَلِك يَوْمِ الدّينِ (4))

 

الحمدُ لله مُكرمنا بالتَّنزيل، والفَضل الجَليل، والعَطاء الجَزيل، والرَّسولِ مولى التَّفضيل وبَيانه عن المَلِك الجَليل، اللَّهم لك الحَمدُ شُكراً ولك المنُّ فضلاً، صَلِّ وسلِّم وبارك وكَرِّم على مِفتاحِ بابِ الرَّحمة سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه والمُقتَفين مَنهَجه الأرشَد وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياءِ والمُرسلينَ ومَن تَبعهم إلى يوم الوقوف بين يديك يا واحد يا أحد.

أما بعدُ،،

فإننا في مُتابَعةِ تَأمُّلنا لِمعاني الفاتحةِ أعظمِ سور القرآن، مررنا على بعضِ فضائِلها وأخبارها وأنَّ الله افتتح بها كِتابه، وأنزلَها بمكةَ المُكرَّمة، فهي السُّورةُ المكيَّة، 

  • والمُرادُ بالمكيِّ من القُرآن: ما نَزَلَ قبل الهِجرة في أي بُقعةٍ كان، وما نزل قبل فتح مكة قبل الهجرة 
  • وما كان بعد هِجرَتِه ﷺ  من المدينة فهو المدني ولو نزل بمكَّة المكرَّمة، كآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة:3]، نَزَلت بِعَرَفَة وهي آيةٌ مَدَنِيَةٌ؛ لأنها نَزَلَت بعد هِجرَةِ النَّبي مُحمد ﷺ إلى المَدينَةِ المُنوَّرة.

ومررنا على بَعضِ مَعاني البَسمَلة مع الإشارةِ إلى ما حواه (الباء) من آثار المَعاني المُمتَدّة التي لا يُطاقُ حَصرُها: (بِـسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)). وكانَ سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول للكَتَبَة: "طوِّلوا الباء وأظهروا السين ودوروا الميم"، أظهِروا دَوْرَتَه تَعظيماً لِكتابِ الله، ومن هنا كانوا يُحِبُّون لمن نَطَقَ أو كَتَبَ البَسملة على الخُصوص وآياتِ الله عامة، أن تَصْدُرَ بالتَعظيم والإجلال والتَّحسين فإنَّ ذلك دَليلُ الصِّدق مع الله؛ (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

ويُذكرُ أنَّ من أسبابِ تَحويل حال بشرٍ الحافي من غافلٍ إلى ذاكر، ومن لاهٍ إلى مُتَألِّه، ومن بَعيدٍ إلى قريب، أنه مرَّ في الطريق فوجد كاغِداً -أي ورقة- مكتوبٌ فيها: (بِـسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، فكَبُرَ عليه الأمر ونَزَل فَأَخَذَها ورَفَعها وطَيَّبَها ووَضَعَها في مَكانٍ حَصين، فَرأى في المنام مَن يقول له: "طيَّبتَ اسمه؛ ليُطيِّبنَّ اسمك في الدُّنيا والآخرة". فأرسلَ الله إليه بعد أيام صالحاً من الصَّالحين كان مِفتاحاً لِتَطييب اسمه: 

     وذلك أنه مَرَّ وأثَرُ اللَّهو والغَفلة في هذا البَيت، فهو من أهل الثَروَةِ ويَملِكُ القَصرَ وفي القَصرِ عندهُ أهلُ الغَفلَةِ واللَّهوِ والغِناء، وَمَرَّ هذا الرَّجُلُ الصَّالِح فاستوقَفَهُ شأنُ هذه الغَفلَةِ عن الله تَبارَكَ وتَعالى وطَرَقَ الباب! وبِمُجَرَّدِ أن طَرَقَ الباب بَدَأ يَتَحَرَّك قَلبُ الرجل، وهو يَقول للجارِية: شوفي من بالباب، انظُري مَن بالباب؟ فَذَهبت تَنظُر وتَسأل: مَن؟ فقال الرَّجل: أسأل عن صاحب هذا القَصر أهو حرٌّ أو عبد؟ قالت: يا أبله تسأل هذا السؤال! هو حُرٌّ ابنُ حُرّ ابن حُرّ اذهب، فذهب الرَّجل والحَقُّ قد أرسل إلى ذاك القلب ما أرسل، فسأل بشر: يا جارية، مَن بالباب؟ فقالت: واحد أبله يقول كلام ما له معنى! فقال: مَن هو؟ ماذا قال؟ قالت: سَألني أهذا القَصرُ لحرٍّ أو لِعَبد؟ قال: فما قُلتِ؟ قالت: قُلتُ له: لحُرٍّ ابن حُرٍّ ابن حُر، اذهب أيها الأبله تسأل هذا السُّؤال. 

    فاهتزَّ قَلبُه ونَهَض من بين القَوم وخَرج يَجري وراء هذا الإنسان، فَلَقِيَهُ في الشارع، وخَرَجَ يَجري من دون أن يَلبَس النَّعلين فلمَّا لَقِيهُ بالشارع، قال: أنتَ الذي مَرَرتَ على ذاك القَصر؟ فقال: نَعَم، رأيتُ أثَر غَفلَةٍ وبُعدٍ فعجبتُ أهؤلاء القوم يَشعُرونَ بأنهم عبيد لإلٰه من فوقهم! فيعرفونَ حقَّ الألوهية أم هم يَرَون أنفسهم أحراراً لا إلٰه لهم ولا رَب! فسألتُ جارية كلَّمتني فقلت: أهذا البيت لحرٍّ أو لعبد؟ فقالت: لحُرٍّ ابن حُرٍّ ابن حُر، فقلت: قد عَلِمتُ، ما كانوا يَفعلونَ هكذا إلا وهم يَعتَقِدون هذا!

    فأكبَّ على قَدَميه يُقَبِّلهُما، وقال: بَل عَبدٌ ابن عَبد ابن عَبد، هذا البَيت لعَبد ابن عَبد ابن عَبد ما عَرَف حَقَّ عُبودِيَتِه، والآن يَمُدُّ يَده إلى يَدِك، لِيَتوب إلى الله على يَدِك ويَعرِف حَقَّ عُبودِيَتِه ويَرجِع إلى حالِه وأدَبِه، فبايَعَهُ بالتَوبة والإنابةَ.

   ورَجَع  إلى القَوم يقول: مَن يُطيعُني في تَقوى الله والرُّجوعِ إليه وهو الذي خَلَقنا ونحن الغافِلون عنه وإلا فليَبعُد مني، وتحوَّل حالُه، ثمَّ أحبَّ أن يَمشي دائماً بِلا نَعلٍ فقيل له في ذلك، حتى اشتَهَر بِبشر الحافي، حافي ما يَلبَس النَّعلين، قال: إنهُ حَصَل الصُّلح بيني وبين رَبِّي وأنا حافي.. خرجتُ أتبع الرَّجل وأنا حافي، فحَصَلت حالَة الصُّلح بيني وبين الله، والرَّجعة بعد الغَفلة، فتعْجبه تلك الحالة وتلك الساعة فصارَ يَستَحلي أن لا يَلبس النَّعلين؛ تذكُّراً لحالةِ الحَفاء التي لَقِي فيها مُلاطَفَة عالم السِّر وأخفى -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، يَجبُ أن يَستقرَّ تَعظيمها في قُلوبِنا، وأن نَنطَلِقَ بها في جَميعِ شُؤونِنا وأحوالِنا فهي تَحمِلُ من المَعاني أنَّ كلَّ شَيءٍ قائم باسمه، مَحوطٌ بِعلمه، لا قُدرة لشَيءٍ من الكائِنات على أن يُكَوِّنَ نفسه ولا على أن يُسَيِّرَ نفسه. بعد ذلك، فبسم الله سُبحانهُ وتَعالى يَكونُ كلُّ كائِن، وكان كلُّ ما كان، ويَكونُ كلُّ ما يَكون، لا إله إلا هو.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، وكم في هذا الاسم المعظَّم اسم (اللَّهِ) من مَعاني وشُؤون كَبيرة وهو يَحتَوي على اسم الذَّات بِجَميعِ صِفاتِها اسم (اللَّهِ)، وجَميَعُ الأسماء والصِفات مُندَرِجَة في هذا الإسم لأنه يَدُلُّ على الذَّاتِ مُباشَرة (اللَّهِ)، واختَلَفوا هل له اشتِقاق؟ وعَدَّدوا النَظَرَ في ذلك، وما أجملَ مَن قال: أنه بلا اشتِقاق هكذا أصله (اللَّهِ) -جَلَّ جَلالُه وتَعالى في عُلاه-. 

  • هذا الإسم الأجَل الذي لَيسَ حظَّ العَبد منه إلا التعلُّق، فإنَّ له من بَقية الأسماء حظٌّ في التَّخلُّق بما يَليقُ بمقام العَبد، ولكن هذا الاسم للتعلُّق وبقية الأسماء للتَّخلُّق، -لا إله إلا الله-. 
  • اسم (اللَّهِ) سبحانه وتعالى حظُّ العبد منه أن يَتَألَّه أن يَنقَطِع إلى هذا الإلٰه ويَمتَلئ بهذا الإلٰه ويَجتَمع على هذا الإلٰه، ويُعَظِّم على هذا الإلٰه، ويَحضُر دائماً مع هذا الإلٰه، ويَعتَمِد على هذا الإلٰه -تعالى في عُلاه- ويَستَنِد إليه، ولا يَرجو إلا هو ولا يَخاف إلا هو.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، اسمان من أسمائِه العُلى- جلَّ جَلالُه وتَعالى في عُلاه- وأسماؤهُ لا يُحيطُ بها غَيرُهُ -جلَّ جَلالُهُ-، ومنها ما أبداهُ لنا رَسول الله ﷺ، فَمِنها ما جَعَلَهُ في التِّسعَةِ والتِّسعينَ الإسِم، ومنها ما نَطَقَ به في كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام غَيرَ هذه الأسماء، ومنها ما جاءنا به القُرآن الكريم، وقد جاءنا في الدُّعاء عنه ﷺ سُؤال الله بأسمائه بقوله: "أسألُكَ بكلِّ اسم هو لك سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلتهُ في كِتابِك، أو علَّمتهُ أحداً من خلقكِ، أو استَأثَرتَ به في عِلمِ الغَيبِ عِندَك"؛ فدلَّنا هذا على أنَّ أسماءَ الله منها ما أنزلَها في كُتُبه، ومنها ما علَّمَها أحداً من خَلقِه، ومنها ما استَأثَر به في عِلم الغَيبِ عنده فلا يَعلمُها إلا هو.

فإنَّ الحَقَّ سُبحانه يُمتنع أن يُحاط بوصفٍ من صِفاتِه ولا بِأسمائه، لايمكن الإحاطَه بأسمائه، بل مَعاني كُل اسم من أسمائه لا يُمكِن لأهل السَّمٰوات والأرض أن يُحيطوا بها، وإنما يعلمون معنىً من كلِّ اسم ما هيأَّهم الله لهُ: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]، أما الاستيعابُ والإحاطة فمُمتَنِعة لا يُحيطون بِجميعِ معاني الإسم الواحد، ولا يُحيطونَ بالأسماء كلَّها، ولا يُحيطونَ بالصِّفات كلها ولا بمعاني الصِّفة الواحدة من صفاتِ الله، وهذا مُقتضى الألوهية وهذا مقتضى الرُّبوبية.

يقول: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، و(الرَّحْمَٰنِ) وهو الأبلَغُ في اللَّفظِ وفي المَعنى، لا يُسمَّى به غيرهُ خِلاف (الرَّحِيمِ) فإنَّ الله سَمَّى به رَسولَه المُصطفى ﷺ، ويُطلقُ هذا الإسم على غير الله فيكون بالمَعنى اللَّائق بِذلك المَخلوق، ويُطلَق على الله فَيَكون بالمَعنى اللَّائِق بالخالِقِ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. 

  • فَمن أسماء الله ما لا يُمكن أن يُسمى به غيره ولا يَجوز، كاسم (الجَلالة)، وكاسم (الرَّحمٰن)، وكاسم (الرَّزاق)، وكاسم (الخالِق) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
  • وهناك من الأسماء ما يُمكِن أن يُسمى به غَيرُهُ ونَقرَأ هذا في كِتاب الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، فمن الأسماء التي حَكاها لنا مَنسوبةً إلى غَيرِه بما يَليق بهم، أنه يَصِف سيدُنا يوسف نَفسه ويُسمِّيه بالحَفيظ العَليم: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55]. (حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، من أسماءِ الله سُبحانَهُ وتَعالى. 
    • كما أننا نَعلَمُ أنَّ من أسمائه تَعالى (العَليّ) وأنه عَلِي وهذا الاسم يُسمَّى به النَّاس، ويقال: عليّ ويوضعُ علماً على كثير من النَّاس ويقال: علي، وهكذا كلُّ ما ارتَفَعَ وعلا شأنهُ قيل له: علي، فيكونُ هذا الاسمُ والوصفُ للمخلوق على قَدره وعلى قَدرِ ما يليقُ به، فإذا نُسبَ إلى الرَّحمن كان له المَعنى اللَّائِق بِجلال الله سُبحانَهُ وتَعالى.

(الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، سُبحانهُ وتَعالى الذي أفاضَ مِنَنَهُ ونِعَمَهُ على الخَلائِق بِما لا يُمكِن أن يُحصى ولا أن يُستقصى، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النَّحل: 18]، فلهذا أَتبَعَ هذين الوَصفَين بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2))، فما لنا إلا أن نقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

(الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2))، تستغرقُ معاني الحمد وهو: الثَّناء والشُّكر، وجميعُ معاني الثَّناء والشُّكر مُستحقَّةٌ للواحد الأحد -جلَّ جلاله-، فإنه لا يُمكن أن يكون شيءٌ يُثنى عليه من جَمالٍ ولا كَمالٍ، ولا يُحمدُ عليه من إنعامٍ ولا إفضالٍ؛ إلا ومصدرهُ الله، إلا وأصلُه من الله؛ (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النَّحل:53 -جلَّ جلاله-، ولا جَميل إلا ما جَمَّلهُ، وما خَلقَ جماله غيرهُ -سُبحانه وتَعالى- فالجَمال كلُّه لله، وجَميع ما يوصفُ بالجَمال في الحِسّياتِ والمَعنَوياتِ في الكائِناتِ كُلِّها بأصنافِها خَلقُهُ وتَقديرهُ -سبحانه وتعالى- وتدبيرهُ، فهو الأهلُ للثَّناء والحَمدِ كُلِّه، أهل الثَّناء كُلِّه، أهل الشُّكر كلِّه.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2))، فكم تَحتَوي هذه من معانٍ كبيرة، إلى حَد أن يَرِد عن سيدنا عمر بن الخطَّاب وكان جالس مع جَماعة فيهم سيدنا علي بن أبي طالب، ومن عادة سَيدنا عمر أن يُثير الإلتِفات إلى المَعاني العَظيمة والدَّقيقة، وأخذَ يقول: عَرَفنا سُبحان الله، وعَرَفنا لا إله إلا الله، فما الحَمد؟ ويَلتَفِت إلى سَيدنا علي، قال له: لفظٌ اختارهُ الله لِنَفسه وأَحَبَهُ من خَلقِه، أَحبَ من خَلقِه أن يَقولوه. (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2))، يعني يحتوي على شُؤون ما يُستَطاعُ وصفها؛ اختاره الله لنفسه، وأحبَّ من عِباده أن يقولوه، وسيدنا عمر يُريد أن يَسمَع النَّاس هذا الكَلام، معاني الحمد لله، فكم احتوت، وقد جاء في الحديث قوله ﷺ: "الحمدُ لله تَملأُ الميزان"، تملأُ الميزان.

ويُروى أنَّ ناقةً لرسولِ الله ﷺ سُرقت يوم، وأخَذَها بعضُ الكفار وذهب بها إلى بلاده وقومه، فذُكرت للنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فقال: "لئن ردَّها الله عليَّ لأشكُرَنَهُ ولأثنينَ عليه"، فلما كان بعدَ أيام كانت في القَوم مُسلمة وعَرَفت أنَّ هذه النَّاقة جيءَ بِها من نَحو المَدينة، فَوَقَعَ في نَفسِها أن تَركَبها وتَرجِع بها إلى المدينة، فنظرت إلى غفلةٍ من القَوم فركبت وجاءت، فلمَّا دَخَلَت المَدينة رَآها الصَّحابة وفَرِحوا، وقالوا: "هذه ناقة رسول الله ﷺ، وجاءوا أخبَروه الخَبَر فلمَّا رَآها قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، ثمَّ ظنّوا أنه نَسي فقالوا: قلت يا رسول الله "لئن ردَّها الله عليَّ لأشكُرَنَهُ ولأثنينَ عليه"، فقال ﷺ: ألم أقل الحمد لله؟!". أي هذه الكلمة تحتوي على مَعاني في الشُّكر والحمدِ بالِغةَ عظيمةَ لا يُستطاع حصرها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ..(2))، وكانت هي الغالِبة على أقوالِ سيدنا علي بن أبي طالب، كما يُذكر أنَّ سادتنا الخلفاء الرَّاشدين مع ذِكرهم لله بأنواع الذِّكر متخرِّجين من مدرسةِ سيد الذَّاكرين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إلا: 

  • أنَّ الصِّديق كان يَغلُب عليه حتى يَخلط كَلامه بِذِكرِ "لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فكان كُلَّما تكلَّم سُمع منه "لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، ويكثرُ من"لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، 
  • وأنَّ سيدنا عمر بن الخطَّاب كان يَغلُب عليه في أذكارِه أن يقول: "الله أكبر"،  وكُلَّما تكلَّم قال: "الله أكبر"، وكُلما مرَّت به فترة سُمع منه "الله أكبر"، 
  • وأنَّ سيدنا عُثمان بن عفَّان كان يَغلُب عليه في ذكرِه التَّسبيح فكان يقول: "سبحان الله"، وكلَّما تكلَّم قال: "سبحان الله"، 
  • وأنَّ سيدنا علي بن أبي طالب كان يَغلُب عليه التَّحميد "الْحَمْدُ لِلَّهِ".

وقد جاء في وَصف هذه الأُمة في الكُتُب السَّابِقة أنهم الحَمَّادون، يَحمَدون الله تعالى على كُلِّ شِدَّةٍ ورَخاء، ولو أدرك العاقِلُ منَّا، أسرار الألوهية في الوجود لرأى أن الله مستحق الحمد على كلِّ حال، وبكلِّ معنى في كلِّ وجه، وفي كلِّ ظرفٍ، وفي كلِّ شأن، (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2)).

وقَد رَأينا من أَثَر تَربِيَة الصَّالحين أن  مَلؤوا قُلوب العَوام بإستِشعار الحَمد، فوجدنا منهم من يَكونُ في الشَّدائدِ ومن يَكونُ في الأمراضِ، ومن يَكونُ في الظُروفِ القاسِيَة فإذا سَألتهُ أوَّل ما يُجيبَك، (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..(2))، وله الحَمد، يَستَحِقُّ الحَمد: 

  • ويتكرَّر هذا على ألسُن العَوام الذينَ يُعدُّون من العَوام، وهو ذوقُ خواصٍّ أخذوه من الخاصة الذين جالَسوهُم ونَظَروا إليهم واستَفادوا منهم، فصارَ أحدهم يقول هكذا: له الحمد، له الحمد، يستحق الحمد على كل حال، (الْحَمْدُ لِلَّهِ)
  • فكان هذا حال كثيراً منهم، فكانوا من الحمَّادين وهم الصِّنفُ الأول الدَّاخلون إلى الجنَّة من هذه الأُمة، "أوَّل من يدخل الجَنة من الأمة الحَمَّادون"، كَثيرو الحمد لله -تَبارَكَ وتعالى-. 
  • (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، يقول أيضاً سيدنا جعفر الصَّادق: "إنَّه ضَلَّ على أبي بِرذَون كان له فقال: لإن رَجَعَ إليَّ لأحمدنَّ الله تعالى بمحامدَ بَليغة، فلم يَلبَث أن جيء به بسَرجِه ولِجامِه، فَرَكب عليه ثم قال: الحمد لله"، فكانت هذه المَحامد البَليغة التي أثنى بها على الله سُبحانه وتعالى، الحمد لله
  • ولو أردنا أن نُقابل نِعمةَ الإيجاد وحدها بقولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لكُنَّا نُفني الأعمار في الحمد لله ولا نَستطيع أن نَفي بحق هذه النِّعمة
  •  فإذا انضافت إليها نِعمةُ الإسلام، -الله.. "الحَمدُ لله على نِعمَة الإسلام وكَفى بِها من نِعمة" ولو انقَضى عُمرُنا كُلُّه في الحَمدِ ما وفينا لله بحَقِّ نِعمَة الإسلام! 
  • فإذا قُلنا الحمد لله أن جَعَلَنا في السَّواد الأعظم من الأمة وأهلُ السُّنةِ من أتباع محمَّد ﷺ فكلُّ العُمر لو انقَضى في الحَمد لكانَ دونَ هذه النِّعمة
  • فإذا كان مع إمتاعِ أَحَدِنا حتى بَلَغ إلى رَمضان، وحتى أدرَك في رَمضان ثلاث ليالٍ، وحتى قابلَ اليوم الثَّالث وقد عُقدَ له فيها صَلوات ومجالس عِلم  واذكار. 

الحمد لله على كلِّ ذلك، فلو استَقصَينا العُمر في تَرديد الحمد لله على هذه النِّعمة ما وفَّينا بحَقِّها، وكم لله علينا من نِعمٍ وراء ذلك، وقد علَّمنا النبي ﷺ ما قلتم في صباحكم هذا بحمد الله: "اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نِعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنكَ وحدَك، لا شريكَ لَك، فلَك الحمدُ، ولَك الشُّكرُ على ذلك".

يَرتَكِّزُ الحمدُ على الُّشعورِ بالإفضالِ والمَنِّ وبعجزِ الإنسان عن أن يقوم في مقابلة ذلك بأداء أيِّ شيء، وبهذا صارَ الحمد مُرتكزاً لقيامِ العبودية لله تعالى، واللِّواء الذي يُعطى للشَّفيع المشفَّع ذي الجاه الأوسع في يوم الهولِ الأفظع يُسمَّى: لواء الحمد؛ وقال ﷺ: "ولواء الحمد بيدي يوم القيامة"، "آدم فمن دونه تحت لوائي"، وأنعم بذاك اللِّواء، ولو عَرفنا من أسرار الحَمدِ ما عرفنا لهُيِّأ لنا مكاناً تحت لِواءِ الحَمدِ على قَدرِ ما نَعرِف من حَمد الله -تبارك وتعالى- ما دُمنا في هذه الحياة.

اللَّهم أعنَّا على ذِكرِك وشُكرك وحُسن عِبادَتِك، واجعَلنا من الحَمّادِينَ لَك، ورَضي بالحَمدِ شُكراً له من خَلقِه جلَّ جَلاله وتَعالى في عُلاه؛ لأنَّ هذا غاية ما يَستَطيعُهُ العِباد وإلا كَيف يُقابلون أيِّ نِعمة بأيِّ شُكرٍ!؟ ما يقدرون! إلا أن يَبعثوا هذا المَعنى المُتعلِّق بشعورهم وأذواقهم، والسَّائر إلى مسارِهم وأفعالهم، فإنَّ معنى الحمد يتَّسع من هذا الشُّعور المُتأصِّل في القلب إلى حالتك مع مَن تَحمَده، في أقوالك، وفي أفعالك، وفي مسارك.. ما حالتُكَ إن كنت صادقاً في حَمد الذي تَحمده؟ فما تَفعلُ أَمامهُ؟ وما تَفعل اتجاه أوامِره؟ ما تَفعل اتِجاه نَواهيه؟ ما تَفعل أمام شَريعَته؟ ما تَفعل أمام إطِلاعهِ عَليك ونَظَرِه إليك وإحاطَتِه بك إن كُنت تَحمَدُه؟! إن كُنت تَحمَده! -جلَّ جلاله- فما حالُ الحامِد مع مَن يَحمَده؟

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) كم نَقولها في كلِّ رَكعة؟!، ونَقولها في اليوم واللَّيلة، وهي تَشتَمل على الخَيرات وعلى الأسرار الرَّفيعات، وعلى خَفايا الصِّلات الباطنيات الغيبٓيات بين الخَلق والخالِق، بين العَبد والمَعبود، بين العَبد والسَّيد، بين المَصنوع والصَّانع، بين الإنسان وربِّه -جلَّ جلاله-، فالله يرزقنا خَيراتها وبَركاتها ويحقِّقنا بها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، مُربِّي العالمين، مالِكهُم، المُتصرِّف فيهم الذي إليه مَرجعهم، (رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، وهو جَمعُ عالَم ولكنَّ العالَم يُطلق على ما من شَأنه أن يُعلَم وهو كل ما سِوى الله -سبحانه وتعالى-، إلا أنه: 

  • إذا قيلَ (العالَمون): إنطَلقَ إلى روح هذا العالَم، فإنَّ أجناس هذا الوجود المتنوِّعة، روحها العُقلاء وهم: الإنس والجنُّ والمَلائكة. 
  • وإذا قيل: (العالَمون): انطلق إليهم فصارت بقية العوالِم في معنى التَّبعية لهم، وفي معنى الإنطواء فيهم، فإنهم هم محلُّ النَّظر الإلهي من ربِّ العالم الذي خَلق العالم كلِّه. 

فصار هؤلاء الذين خَصَّهم بخصوصيات العقل المخصوص الذي به يُعقلُ من أسرارِ خطابه أوامرهِ ونواهيه وأسرارِ صِفاتِهِ وأسمائهِ ما لا يُمكن بغَيرِه، فتميَّزت هذه الكائنات بهذا الإستعداد الذي عندها عن بَقيةِ الكائنات كلِّها الإنس والجنُّ والملائكة، فهم (العالَمون) كما إذا قيل:"الحج عرفة"، فأعمالُ الحَجِ متعدِّدة كثيرة لكن هذا رأسٌ من رؤوس الأعمال. فإذا قيل المراد (بالعالَمِين) الإنس والجن والملائكة يعني هؤلاء رؤوسُ العالم. 

والعالَمُ: هو كلُّ ما سوى الله -سبحانه وتعالى-، فهو عالَم وكلُّ صنفٍ منه يُدعى بعالَم، فيقال: عالَمُ الطَيرِ، وعالَمُ الذَّرِ، وعالَمُ البَحرِ، وعالَمُ الفَضاء.. إلى غير ذلك، فكلُّ ما سوى الله فهو عالَم مكوَّن بتكوين الله -سبحانه وتعالى-، مخلوقٌ بخلقه وإيجاده.

 (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، فاستَشعِر كلَّما صلَّيت و قرأت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، هذه المَعاني أنَّ قِيام كلِّ شيءٍ باسمه؛ من الأرض والسَّماء والمُلكِ والمَلكوت، واستشعر سرايةَ رحمتهِ في هذا الوجود: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) [النور:21]، ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحج: 65]، كم لها السَّماء ممسوكة ما وقعت فوقنا! بالنِّسبة لكَ من يوم خُلقتَ أنت إلى الآن!، هذا مَظهر الرَّحمة مُستمر معك، ولو وقعت فوقك، مَن لك؟! ليست السَّماء كُلَّها، يُرسل عليك شِهاب من الشُّهب، ويُرسِل عليك أثر من آثار الكَواكب، ويُرسل عليك بَرَد، يُرسل عليك مَطر كثير، ويُكمِّلك ودِيارك وحالَك ومالَك وما عِندَك -سبحانه وتعالى-، 

  • (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحج:65]؛ هذا مَظهَر من مَظاهِر الرَّحمة، والأرض -تحتك- مُستَقرَّة برَحمَته لمَ لا تَضطَرِب! وفي سَيرِها ودَورانِها تَرتيبٌ حتى لا تَشعُر به ولا يَسقُط منك شَيء ولا عليك شيء من هذه الأمتعة، سبحان الله.
  •  يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6] ، وخذ لكَ ما لا يُحصى من مظاهر رحمته المُحيطة بك (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)).

ثمَّ كرَّر سبحانه وتعالى أيضاً ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3))، لتَتَذَكَّر أنك ما وَقَفت بين يديه باستِحقاقِك وقُدرَتِك، وأهَّلَك للوقوف بين يديه مع ضَعفِك، وعَجزِك، وتَقصيرك، وإساءة أدبِك، وتَفريطِك، ولكنه الرَّحمن الرَّحيم -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))، استَشعر معاني الحَمد لمولاك -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- حتى تَكون ممن يُقرُّ بالنِّعمة، ويَعرِف أنها من الله وحده، وأنَّه لا يستطيعُ القيام بحقيقة شُكرها ولو بَذَل ما بَذَل، وكلُّ ما يبذلهُ فضلٌ من الله جديد، ونِعَمٌ من الله تزيد، فهذا شأن العبيد مع الملك المَجيد -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. 

حتى قال بعض الأنبياء: ربِّ، كيف أَشكُرك؟ وأنا كُلَما عَمِلت شَيئاً لأشكُرَك كان قِيامي بذلك الشَيء نِعمةً جديدة مِنكَ عَلي، تَحتاج إلى شُكُر! فأوحى الله إليه: إذا علمتَ ذلك فقد شكرتني، أنا أكتفي منكَ بذلك! أُبذُل ما في وِسعك واعلم أنه مني وإلي وأعدُّك من الشَّاكرين

وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة وجدنا هذه صورة أفاضَها الله على العباد رحمة منه حتى يُسمِّيهم حمَّادين، ويسمِّيهم شاكِرين، وهم وخَلقُهُم وحَمدُهم مِنهُ، الشَّاكر هو، الحامد هو في الحقيقة، ماهذا العقل؟ هؤلاء ما قَدِروا يَخلُقوا أنفسهم ولا يَخلقوا لأنفُسهم الحَمد ولا الشُكر، ولكنَّه بفَضلِه وبإنعامه فهو في الحَقيقَة الشاكر، وهو في الحقيقة الشَّكور، ولكن أفاضَ على الخَلق هذه التَّسمية ونسبها إليهم إكراماً منه لعباده، فالحمد لله ربِّ العالمين.

(رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))؛ مُربِّيهم، ومُصَوِّرِهم، وفاطِرِهم، وخالِقِهم، وموجِدِهم، وإليه مَرجِعُهم ومآلُهم -سبحانه وتعالى-. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، فإذا قَرَأتَ هذا في صَلاتِك أو خارج الصَّلاة، فاستشعر أنَّ العالَمين تحت قهر المشيئة والإرادة والقُدرة والتَّدبير، أوَّلهم وآخرهم، جميع الإنس والجِن والمَلائِكة وما وراءهم من العالَم كلِّه؛ تَحت قَهره فهو الرَّب، هو الرب لهم، ولذلك قال قائِلُهم:

أعطِ المَعِيَّة حَقَّهـــــــــا  ***  والزم له حُسنَ الأدب

واعلم بأنك عَبدُه  ***  في كلِّ حال وهو رب

جلَّ جلاله وتعالى في علاه

(رَبِّ الْعَالَمِينَ (2))، فإذا نطقتَ بربِّ العالمين، استشعر حاجة العالَمين؛ فَقرَهُم وقَهرَهُم تحت المَشيئة، وأنه المتصرِّف فيهم وحدهُ -جلَّ جلاله-، (رَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى يَخرُج من قلبكَ كلُّ رجاءٍ في غَيره، كلُّ خوفٍ من غيره، كلُّ استنادٍ إلى غيره، فهم مَقهورون تحتَ مَشيئته وتَقديره وتَصريفه ، هو ربُّهم، وهم عَبيدُه (رَبِّ الْعَالَمِينَ)؛

أنتَ والخلائق كلُّهم عبيــد *** والإله فينا يفعل ما يريد

همَّك واغتمامك ويحَك ما يُفيد *** القضا تقدَّم فاغتنم السُّكــــــــون

لا يكثر همُّك ما قُدِّر يكون

سبحانه عزَّ وجل ولا يكون إلا ما شاء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يَكُن؛ ولأجلِ المعاني في هذا الحمد عُدَّ من الدُّعاء بل جاء في الحديث: "أفضلُ الدُّعاءِ: الحمدُ للهِ"، أفضل الدُّعاء الحمد! هل هذا دُعاء وإلَّا ذِكِر وإلَّا ثَناء؟ قول: الحمد لله؛ هو ذِكر وهو ثَناء وهو دُعاء أيضًا، وبقية الأذكار كلُّ ذكر له محل، لكن الحمد ذكر وثَناء وشُكُر ودُعاء (الْحَمْدُ لِلَّهِ)فإنك إذا قلتَ: الحمدُ لله، استوجبتَ المزيد من فَيضِ رَبِكَ وفَضله فأنتَ تدعوه، أنتَ تدعوه، بل كلُّ دعاءٍ ابتدأ بالحمد كان أقرب إلى القَبول وإلى أن يُجاب صاحبه فالحمد لله ليس دعاء! بل  قال ﷺ:"أفضلُ الدُّعاءِ: الحمدُ للهِ".

كما أنك تعرف أنك تكون سائلاً وطالباً لو وقفتَ على سَخِيٍّ جَوادٍ، تقول له: أنتَ المُتفضِّل، وأنتَ المُنعِم، ولكَ المِنَّة، ولك أيادي كثيرة علينا وعلى الناس، جزاك الله خير، هل طلبت شيء أو ما طلبت شيء؟ ما هو هذا؟ ما معناه! معناه: أَعطِنا، زِدنا، تفضل علينا

 وهو ما قال شئ، لكن أَثنى، في هذا الثَّناء الكَلام مَعروف.. فإذا حَمِدتَهُ أفاضَ عليك، واحد من خَلقِه تُثني عليه فيُفيض عليك، فكيف به هو؟ الله.. إفاضتهُ أكبر، وجوده أوفر وأغمَر، فكلَّما أثنيتَ عليه أعطاكَ وزادك: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، فأنتَ بالحمد تدعوه، بل قال ﷺ: "أفضلُ الدُّعاءِ: الحمدُ للهِ". 

الله يُحيينا على الحمد، ويميتنا على حمده، ويحشرنا في زمرة الحمَّادين مع سيدهـم صاحب لواء الحمد، حتى أسماءهُ اشتُقَّت من الحَمد ﷺ: أحمد، محمَّد، حامد، محمود، حَمَّاد.. هذه أسماؤه ﷺ؛ كلها مُشتقَّة من الحَمد، هذه اشهر أسماءِه وأظهَرِها عليه الصلاة والسلام، فهو أَحمد، وهو محمَّد، وهو الحامد، وهو المَحمود، وهو الحمَّاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولواء الحمد بيده صلوات ربي وسلامه عليه.

والمعنى أنَّ جَميعَ حَمد الخَلائِق مُندَرِجٌ تحت صاحب اللِّواء، فهو الحمَّاد، الذي يعلَمُ من الله، وبالله، وعن الله، في الله -تبارك وتعالى- ما لا يَعلَمَهُ مَلَكٌ ولا نبيٌّ ولا صِدِّيق ولا أحدٌ غيره ﷺ، هذا الذي يَعلمُ عن الله، وبالله، ومن الله، و في الله -سبحانه وتعالى- من أسرار الألوهية والرُّبوبية ما لا يعلمه غيرُه، إذا حَمِد فَحَمدُهُ على قَدرِ ما عَلَّمَهُ، ولم يُعلِّم الحقُّ أحداً كما علَّم محمَّداً، يقول سبحانه وتعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113]، صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3))، ولولا هذه الرَّحمة ما قَدَرنا نَجلس وإياكم  مثل هذا المجلس، مجلس ننطوي فيه تحت مظاهرِ وحقائقِ وعناوينِ الذاكرين له، والطائعينِ له، والمُلبِّين لدعوته، والمقتدينَ بنبيه، والخاضعينَ لجلالهِ، والمتهيئينَ لنوالهِ، والمتلقينَ لإفضاله .. ما هذا؟!  لولا أنه رحمن رحيم ما كان هذا! وأنا أعلم وأنتم تعلمون من أنفسكم أنَّ وصفاً من أوصافنا السَّيئة، وفَعْلة من فعالتنا السَّيئة، وكلمةً واحدة من كلماتنا السَّيئة لو أُوخذنا بها ما استحققنا شيء من هذا قط، ولا وقع لنا شيء من هذا الخير قط؛ ولكنَّه ستر كلَّ ذلك وأعطى هذا الخير فالحمد لله. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3))، -جل جلاله وتعالى في عُلاه- 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَلِك يَوْمِ الدّينِ (4))، وقرأ الكَسَائي وعاصم: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4))؛ 

  • ومَالِك: صفة فعل 
  • مَلِكَ: صفة ذات

(مَلِك يَوْمِ الدّينِ (4))، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)) ولكلٍّ منهما معاني.

(يَوْمِ الدِّينِ (4)) والدِّين: يأتي بمعنى الجزاء، بمعنى الحساب، كما أنه يأتي بمعنى الطاعة والعبادة وما إلى ذلك.. 

  • والمراد به هنا: يوم القيامة. 
  • (يَوْمِ الدِّينِ): يوم الجزاء والحساب، 
  • (يَوْمِ الدِّينِ):اليوم الذي لا ينجو فيه إلا أهل الدِّين، ولا ينفع فيه إلا الدِّين وهو الصِّدق مع الله، 

(الدِّينِ): الصدقُ مع الله، قال سبحانه وتعالى: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:119]، لما يسأل سيدنا عيسى بن مريم يقول: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ) [المائدة:116]؟ هؤلاء الألوف والملايين المغرورين الذين يتكلَّمون عنك وعن أمك كلام لا يليق ويقولون أنَّ الله ثالث ثلاثة، (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة:]116، أنا امتثلت وقمت بالأمر عبداً لك، مخلصاً لك، يقول: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:116-119]، مَن قام بِحق الأمانة، بِحق الدِّيانة فهو المُنتَفع في ذاك اليوم (يَوْمِ الدِّينِ (4)).

هيَّأنا الله (يَوْمِ الدِّينِ) بجعلنا في زمرة سيِّد المرسلين وتحت لوائه، اللهم أكرمنا وأدخلنا في رُفقائه، وأثبتنا اللهم في أهل حُسن متابعته واقتفائه برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.

 وانظر إلى أمته فأيقظ قلوبهم لأخذ عزِّ الإقتداء به، والسَّير في دربه، والإقتفاء لأثره، ولا تخذلهم إلى أن يقتدوا بمن سقط من عينك ولا مَن لم تنظر إليه لمحة من حين خلقتَه، اللهم حوِّلهم من هذه الأسواء التي وقعوا فيها من الرِّجال والنِّساء عدد كثير إلى شرف وعزِّة التبعية لمن أحببته ولمن اصطفيته ولمن قرَّبته، حتى لا يتحوَّلوا أتباعاً لمن سقط من عينك، ولمن لا نصيب له عندك ولا حظ، ولا خَلاق له في الآخرة.

اللهم خلِّقنا بأخلاق نبيِّك المصطفى، وأدبنا بآداب حبيبك المُقتفى، وأثبتنا في ديوانه مع أهل الصِّدق والصَّفاء، وأهل الوفاء بالعهد أتمَّ الوفاء، يا عالم السِّر وأخفى، يا مَن استوى عنده الظَّاهر والخفاء، صلِّ على هذا المُصطفى أفضل الصَّلوات وسلِّم عليه أزكى التَّسليمات عدد ما أحاط به عِلمُك، وكلُّ صلاة من تلك تُنقِّينا بها عن شوائب الإلتفات إلى ما سواك والتَّعلُّق بمن عداك، وأذقنا اللهم لذَّة المناجاة وحلاوة الرَّحمة وبرد العفو والرضا، واعفُ عن ما مضى، وكن لنا في الإحجام والإمضاء، واجعلنا ممن بنور الكتاب المنزَّل ومن أنزلته عليه استنار واستضاء، برحمتك يا أرحم الرَّاحمين ويا أكرم الأكرمين. 

  بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي 

اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

03 رَمضان 1435

تاريخ النشر الميلادي

30 يونيو 2014

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام