(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
( أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1))
الحمدُ لله مكرمنا بإنزال القُرآن، واتساعِ معانيه على مدى الأزمان، وتَواتِر عَطائِه للمعارفِ والمَعان، وشَرحِ الصُّدور بِه والقلوبِ وتنوير الطَّوية والجَنان، يَسّرهُ لنا بأفصحِ لسان، لِسانِ أكرَمِ إنسان، الأكرمِ لَدى الله -تَبارك وتَعالى- من جَميعِ الأكوان، اللهم صلِّ وسَلِّم وبارك وكَرِّم عليه في كُلِ نَفَسٍ وآن، وعلى آلهِ وأصحابه الغُر الأعيان وعلى آبائِه وإخوانِه من النَّبِيين والمُرسلين وتابعيهم بإحسان، وعلينا معهُم وفيهم برحمَتِك يا رَحيم يا رَحمٰن.
أما بعدُ،،
فإنَنا في ذِكرِ ما يَتَعلقُ بشؤون فاتِحَة الكِتاب، أُم القُرآن، السَبع المثاني، سورة الصَّلاة، سورة الكَنز، السّورة الكافِية، وسورة الرُّقية، وما فيها وما يتعلقُ بِها من مَعان، وقد أَشرنا إلى افتِتاحِها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)). وللفاتِحَةِ مما يَخُصها الإتصالُ بالصَّلاة لهذا سُميت بسورة الصَّلاة:
ولا بّد من قراءتها وفي ذلك جَاءت أحاديث، وأنه لا يَقرأ المَأمومُ خَلفَ الإمام إلا بفاتِحَة الكِتاب.
مما يتعلقُ بهذه الفاتحة ويَختَصُ بها أيضاً مع كَونِها مُتَعلقة بِشأن الصلاة فهي أيضاً داخلةٌ في أنه يَنبغي قَبل قِراءَتِها الإستِعاذة، وإن كان لا يَختَصُ بالفاتِحة ولكن لِكُلِ قِراءة
فإذا استعاذَ بالله -تَباركَ وتعالى- قَبلَ القِراءَة في الركعةِ الأولى فَهل يُعيدُها في الركعةِ الثانِية والثالِثة؟ وللشافعيةِ أيضاً قولان:
وأخذ بَعضُهم يُفَرقُ بين حاضرِ القَلبِ من الخَواصِ الذي يَنطرِدُ عَنهُ الشيطانُ وجُندهُ بِمُجرد الإستعاذَةِ الأولى، وبين من كانَ من عوامِ النّاس يحتاجُ إلى تَكرير الإستِعاذَة في كُلِ رَكعة.
أما بعدَ قِراءة الفاتِحة، إذا أرادَ أن يَقرأ السورة فلا استِعاذَة ولا يُعيدُ الإستِعاذَة؛ لأن القِراءة مُتَصِلة؛ قِراءة بِقِراءة. وإذا ابتَدأ التعوذ في القِراءة فلا يُعيد التعَوذ بَعدَ سورة ولا بَعد سورَتين ولا أَكثر من ذلك ما دامت القِراءة مُتَصِلة، حتى يَنقَطِع بشيءٍ آخر ويَشتَغِل بِغَير القِراءة ويَتَكلم بكلام آخر ثم يُريد أن يَعود للقِراءة فَيُعيد التَعوذ حينَئذٍ.
والتعوذُ: تَحفظٌ وتَحَصُنٌ واستِجارة عَلَّمنا الله إياه من عَدوهِ، فَصيغَةُ التَعَوذ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98].
(أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ)، أَخذَ بَعضُهم في اللفظِ يَستحبُ: (أستعيذُ بالله) مُحافظةً على لَفظِ؛ (فَاسْتَعِذْ) [النحل:98]. والذي يَقول أَعوذُ أيضاً هو مُستَعيذ، (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ)، وهي الوارِدة المَشهورة ويَزيدُ بَعضُهم فيها: (أعوذُ بالله السَميع العَليم)؛ لقوله: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف:200] في قِراءَةٍ أُخرى، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36] في آيةٍ أُخرى. وقال بَعضُهم بل الصيغة أن تَقول: (أعوذُ بالله من الشَيطان الرَجيم إنه هو السَميعُ العَليم) أو (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، كما جاءت في الآية (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف:200]، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36]. فقل: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، أي: إنه الحَق تَعالى هو السَّميع العَّليم الذي عُذتُ ولُذتُ بِهِ.
(أَعُوذُ): أتَحَفظُ وأتَحصنُ وأستَجيّرُ بالله، وفي هذا تَربية لَنا أن نَستجيرَ بِرَبِنا في شُؤونِنا وأَحوالَنا كلَّها من كُل ما نَخاف ونَحذَر، فإنه لا يَقينا السوء إلا هو ولا يَصرف عَنا السوء إلا هو، كما لا يَجلب لنا الخَير إلا هو، فَلنَكُن على تَذكُرِ هذه الحَقيقة المُلهية عنها اشتِغال أذهان الخَلائِق بالكائِنات والأسباب والمُسَبِبات والآثار المَوجودَة التَي تَحجبُ عن استِحضار المُؤَثِّر، ومن مُهِمة المُؤمن أن يَبقى مُستَحضِراً للمُؤَثِّر عند الآثار، حَتى لا يُسْتَرَقَّ للآثارو لا يُستَعبَد لها ولا يَنقطعُ بها ولا يَغتر بها، فيكون سالِماً من هذه الأضرار النازِلة بِجَميع الكُفار والنازِل من ضَرَرِها شَيءٌ بالمحجوبين والغافِلين من المُسلِمين والمُسلِمات.
وقد نُبهوا بأنواعٍ من الأذكار والعِبادات على استِحضارِ هذه الحَقيقة حتى لا تَشرُد أذهانهُم عن دوامِ الشُهود وإستحضارِ المُؤَثِر القَوي القادر الفَعّال لِمَا يُريد -جَلَّ جَلاله وتَعالى في عُلاه-،
قال سيدنا الخَليل إبراهيم لِقَومِه: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96-95].
فَتَعلمنا الإستجارَة بِالله والإستِعاذَة بِالله مِن كُلِ ما نَخشاه ومن كُل ما نَحذرهُ في الدارَين، ألا إن لهذه الإستجارَة مَعنىً صَحيح يقومُ بذوقِ الإنسان ووِجدانه إذا تَمَّ وكَمُل لا يَكِلْهُ الله أبداً إلى سِواه ويَتَوَلى إجارَتَهُ، فإذا كان شَأنُ الكَريم من الخَلق أن يُجيرَ من استَجارَهَ خُصوصاً إذا جَمَعَ ما يَنبَغي للمُستجير أمامَ المُجير وأن يَبذُل لَهُ وُسَعَهُِ من قُوِّتهِ ونُفوذه ووجاهَتِهِ ونُفوذِ كَلِمَتِهِ في المُحافَظةِ عليه وفي حِراسَتِه ممن يُريدُ أن يُؤذِيَه، فكيف بشأن رَب العالمين وأكرمُ الأكرَمين إذا استَجارَ بِه المُستَجير على الوَجهِ اللائِق من العَبدِ مع الخالِق -جَل جَلالُه-؛ فإن الله يُجيرُه ولا يَكِلْهُ إلى نَفسهِ هذا المَخلوق ولا إلى أحدٍ من الخَلقِ الآخرين.
فَعسى صِدق الإستِجارة بالله وحُسن الإستعاذة بالله من كُل ما نَخشاه حتى يُجيرنا ويُعيذنا من النارِ والغَضَب والشر في الدنيا والآخرة يا خَيرَ مُجير.
(أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ)، أستَجيرُ واتَحَفَظُ وأتَحَصنُ بالله -تَعالى في عُلاه- (مِنَ الشَّيطَانِ)، وهي لَفظَةٌ مَأخوذَةٌ من الشَّطَن وهو البُعد أي: البَعيد. (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ)، الشخص البَعيد عن الله-تَبارك وتَعالى- المُبْعَد المَطرود، ولِذا يَقولون في مَن عَمِلَ عَمَل الشيطان: تَشيْطَن؛ وهذا يُؤَكدُ أن مَعناها مِن البُعدِ، من الشَّطَن، لا من شاط، من شَطَنَ، لا من شاط، وَشَطُنَ: بَعُدَ، شاطَ فلا يَقولون تَشَوَّطَ ولكن يَقولون تَشَيطَنَ. ( أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ)، ثُم يقالُ لِكُلِ ما بَعُدَ أو عَمِل عَمَل البَعيد (شَيطان):
وفيه أن كُلَ غَفلة يَميلُ بها الإنسان إلى الترَفع وإلى التكَبُر فَهي مِن الشيطان، فَلِذا قال: إنما أتَيتُم لي بِشَيطان، فما أَعجبهُ تَبَختُر هذا البِرذَون وهو يَركَبُ عليه، وعُمَر مُرَبّى، ولقد كان قبل أن تَتَناولهُ يَد محمد يُحِبُ هذه البخْتَرَة وغيرها، بل كان من أهل التخصُصِ فيها، فانتهى كلُ ذلك عندما زَكّاهُ ورَبّاهُ محمد. ونزَلَ فيه وفي سيدنا حَمزة بن عبد المطلب إن كان مُنطَبِق على سِواهُم ولكن فيهم نَزَل: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ) [الأنعام:122]، فَصارَ مُتَخَصِصاً في إلتِقاطِ شَر النفس بدِقَتها من باطنها، بعد أن كان صاحِبَ الكِبرياءِ وصاحب التبَختُر وصاحب القُوة والغَطرَسَة، صَارَ صاحِب اليَقَظَة القَلبِية في التنَزهُ عن دَقائِق آفاتِ النَفس؛ (فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام:122]، وما كان قوله المَشهور: أَصابَت إمرأةٌ وأخطأ عمر؛ إلا نَتيجَةُ هذه التربية ولو كان قَبلَ أن يَتَرَبى لَكانت اللَّطمةُ قَريباً منه، كانت أن تُلطَم أقرب من أن يُقال: أصابَت، ولكن هكذا شأنُ انتِقال الإنسان من حالٍ إلى حال بِواسِطَة القُرآن ومن أُنزِلَ عليه القُرآن: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [الجمعة:2].
فأحَدُنا في رمضان مثلاً على قَدرِ اتصالِه بالقُرآن ومن أُنزِلَ عليه القُرآن يَتَزَكّى، فَيَخرُجُ بحالٍ غير الحال الذي دَخَلَ به في رَمَضان، تَواضُعاً، خُضوعاً، خُشوعاً، إنابَةً، إتهاماً للِنفسِ، تَنَقيّاً عن الآفات، فالله يَفتَح لنا باب الصِلَة بالقُرآن ويَجعَل لَنا من سِرِّ القُرآن نَصيباً به نَتَزَكّى ونَتَطَهّر، اللهم آمين، يا أرحمَ الراحمين.
(أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ)، بمعنى المَرجوم فقد أَبعَدَهُ الله وطَرَدَهُ ورَجَمَهُ (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) [ص:77-78]، ثُمَ أن هذا اللَفظ يَتَناولُ إبليسَ بالأساس، ثم يَتَناول أنواعاً من الجِن وأنواعاً من الإنس، بَعُدوا وأُبعِدوا وطُرِدوا فما يَصدُرُ منهم إلا قولُ البُعداء وأفعالُ البُعداء فسُمُوا شَياطين وعلامَتُهم مُعاداة الأنبياء، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ) [الأنعام:112]، ومن هم أعداء الأنبياء يا رب؟ قال: (شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112]، (شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112]:
فهكذا خَلقَ الله الأصناف ورَتَبَ الترتيبات، ثم تَأتي النهاية الكُبرى وإذا بالناس فَريقان(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7]، هؤلاء يُساقونَ إلى الجَنةِ زُمراً إشارةً إلى الترابُطات والإتِصالات التي كانت بَينَهُم، وهؤلاء إلى النارِ زُمَراً: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر:73]؛ فهذه نِهايةُ هذا الخلق.
دَعكَ من كُلِ هذه الضوضاء والغَبَش هذه النهاية هذه العَاقِبَة لَهُم، جميعُ من على ظَهرِ الأرض اليوم من المُكَلَّفين من الإنس والجِن كائٓنينَ من كانوا بَأي اسم تَسَماه أَحَدُهُم، بأي وَظيفة تَوَظَف، بأي مَظهرٍ ظَهَر؛ هذه العاقِبة، هذه الغاية، هذه النَتيجة؛ إما سَوق إلى الجَنة وإما إلى النار. اللهم اجعلنا من أهلِ جَنَتِك وادخلناها مع السَابِقين من غَير سابِقَةِ عَذابٍ ولا عِتاب ولا فِتنَةٍ ولا حِساب ولا تَوبيخٍ ولا عِقاب يا ربَ الأرباب يا الله.
ونَبِيُّنا في هذا الشَهر أمَرَنا أن نُكثِر سُؤال الجَنـة والإستِعاذَة من النار وقال: "لا غِنًى بِكُم عنهُما خَصلَتان، "لا غِنًى بِكُم عنهُما"؛ لا أحد يَستَغني عَنهُم لأَن المَصير هذا لا بدَّ مِنه حَتمِي ضَرورة، والله مالنا غِنى، نَسألُكَ رِضاك والجَنة ونَعوذُ بِك من سَخَطِكَ والنار، يا ربنا؛ فإذا سأَلَ الله الجَنة بِصِدق مُؤمن ـ ثلاثاًـ تفاعلتْ معه الجنة، وقالت: "اللهم اجعله من أهلي وأدخِلْه فيَّ"، وإذا استعاذ بالله بصدقٍ ثلاثاً تَفاعَلَت النار أيضاً وقالت: "يا رب هذا عَرَفَك وعَرَفَ ألوهيَتك واستجارك فأجِرهُ مني". نَسألُكَ رِضاك والجَنة ونَعوذُ بِك من سَخَطِكَ والنار؛ لهذا قَدْر هذا الذِكر عظيم، الذي يُذكر في هذا الشهر بتعليم المصطفى: تشهدون أن لا إلٰه إلا الله، وتستغفرونه، وتسألونه الجنة، وتستعيذون به من النار.
فهكذا يُؤخَذ لَفظُ الشَيطان لِكُلِ ما بَعُد، وكُل ما دَعا إلى البُعدِ عن الله -تبارك وتعالى- فهو شَيطان، وسُئلَ لما ذَكَر شياطين الإنس قال:" هل في الإنس شَياطين؟ قال: نَعم، شَياطينُ الإنس والجِن". كذلك أُمرنا بالتَحَصُّن من الجَميع، ولكن شياطين الإنس تتعدد معهم أسبابُ دَفعِ شَرِهم، فمن ذلك:
وهذا تَغلُب عليه الطَبيعة البَشرِية فقد يُستَدفَع شَرهُ بكلمةٍ طَيبة أو بإحسانٍ أو بإعراضٍ عنه إلى غير ذلك.وألا تَقصِد الجلوسَ معه لغير ضَرورة، لغير حاجة، هذا شَأنك مع شَياطين الإنس، وتأتي فيه إشكال آخر: أنك تَراه مِثلَك إنسان ما تَعرِف أنه شَيطان، إلا إن كان عِندَك حُذقٌ إيماني وعِندَك حِسٌ روحاني وقَلبي، تَعرِف أن هذا شيطان تَستَعيذ بالله وتَنتَبه لنفسك، وإلا فَهو مِثَلك دَمٌ ولَحم يجلس أمامك، ويَصوغ لك الأمر صِياغة، ما تشعر أبداً أنه شيطان من ورائِها، وأن الشَر من خَلفِها.
فدَفَعَ الله عَنّا شَرَ شياطين الإنس والجِن و استعذنا بالله منهم أجمعين.
(أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ)، وبأسرارِ هذه الإستِعاذة وما يَقومُ بِسبَبِها من حِفظٍ لَك وأنت مُلتَجِأٌ إليه تعالى وواثقٌ به ومعتمدٌ عليه ومستندٌ إليه جَلَ جَلالُه. ولقد غَضِبَ بعضُ الناس، تَلاحى مع آخر مَرةً أمامَ نَبِينا، حتى كاد الثاني يلصق أَنفهُ بالتُراب من شِدةِ الغَضب، وقال نبينا: "إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قالَهَا ذَهَبَ عنْه ما يَجِدُ"، قالوا: ماذا يا رَسول الله؟ قال: (أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ)، ولِغََلَبة السوء عليه جاءهُ بعض الصحَابة وقيل يا هذا: "قُل أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم لِيَذهب ماتَجِد، قال: ليس بي جُنون، أنا مَجنون؟! أنا ليس بي جُنون!. أَبى أن يَستَعيذ من الشيطان الرجيم"؛ لأن الشيطان الرجيم راكب عليه!.
فَنعوذُ بالله مِنَ الشَيطان الرجيم، ونَسأَلهُ أن يَحفَظنا ويَحرُسَنا ويوصِلنا إلى دائِرَة عِبادِه المَخصوصين بالنِسبة والإضافَةِ إليه وأولئك ليس لشيطان عليهم سلطان، وقد أُنذِرَ بهذا وعُلِّمَ من أَولِ وَهلَة قبل أن يَخرُج إلى الأرض وقبل أن يَغوي أحد، قال له: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء:64-65].
اللهم اجعلنا من عبادِك الذينَ لَيسَ للِشَيطان عليهم سُلطان.
وربما واحد كان متسلِّط عليه شَيطان، يَدخُل رَمضان يَصدُق مع الرَحمٰن ماعاد يَخرُج رَمَضان الا وهو مَنقول إلى دائِرة عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، إذا أُطلِق المَرَدَة وانطَلَقوا إلى الناس بعد انتهاء رَمضان لِيَتَدارَكوا ما فاتهم عليهم في أيام رمضان منهم؛ (لِيُرْدُوهُمْ) [الأنعام:137]. أو إذا قَرُبوا من مِثل هذا قال لهم أبوهم: حتى أنا ما عاد أقدر على هذا، هذا انتقل إلى دائرة أُخرى؛ انتَبِهوا لنَفسِكُم منه.
فهكذا مع استِمرارِيَتِهم في مُحاولة ما، حتى المُقَرَبين والمَعصومين، لكِنَهُم يَخسَؤون ويُرَدون ويُدحَرون عنهم بِقُدرَة الله القَوي المَتين (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل:99]. يَكفي الإيمان فقد نَصَّ على خُلاصةٍ من سِر الإيمان تَتَعَلّق بِهذا الشَأن في رَدِ كَيدِ الشيطان اعتماداً واسناداً على الربِ وانقطاع عن شُهودِ النفسِ في فاعِلِيَتها، قال: (وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99]. نَصَّ على هذا وإن كان من مُقتَضى الإيمان وفيه مُقتَضَياتٌ كَثيرةَ، لكن هذا على وجه الخُصوص.
فكثيرٌ من المُؤمنين يَنقُص عندهم هذا؛ فيَتسلَّط عليهم الشيطان بِمِقدارِ نَقصِ التوَكُّلِ على الله، إذا اثبَتوا أنفُسَهُم، إذا رَأوا أنفُسَهُم، إذا شَهِدوا أنفُسَهُم، إذا ظَنّوا بإجتِهادِهم وفَعلِهم أنهم حَصَلوا، يَتَسَلط عليهم بِهذا المِقدار، لكن (أمنوا على ربهم يتوكلون) [النحل:99]، يَبعد بَعيد لايقدِرعليهم، "إيهٍ يا ابْنَ الخَطَّابِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ".
ثم مع الإستِعاذة تَأتي بَعدها البَسمَلة وفيها من اللَطائِف أنك بالإستِعاذة تَتَنَقّى عن الشَوائب ومَداخِل السوء وأنواع الشُرور في المُعتَقَد والوِجهة والنِّية والقَصد والعَمل. وإذا قُلتَ بسم الله أَثبَتَّ وتَحَلَيّتَ بالفَضائِلِ والمَكارِمِ والخَيراتِ قَصداً ونِيةً واعتِقاداً وعَمَلاً، فكان هذا كَمالُ التَخَلي وهذا كَمالُ التَحلي، (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ)، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ).
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) ما أعظمها، تَقَدَّم الكلام إلى أقوالِ أهلِ العِلمِ أنها آيةٌ من القُرآنِ باتِفاقٍ:
وجاءَ في الحَديث: " أنه ﷺ لا يَعرِفُ فَصلَ السورَةِ حتى يُنزَل عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)"؛ وهذا يُشيرُ إلى تَأييدِ قَولِ من يَقول أنها آيةٌ من كُلِ سورة إلا سورة واحدة وهي سورة براءة -سورة التوبة-، وبذلك كَتَبَ الصحابة المَصاحِف التي كُتِبَت في عَهدِهم كُلها، فما كتبوا مُصحف إلا وكَتَبوا في أولِ كل سورة: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، ولم يَكتُبوها في أول سورة بَراءة، ولم يُدخِلوا في القُرآن غَيرَه قط في مَصاحِفهم الأولى التي نُسِخَت على أيدي الصَحابة، لا إسم سورة ولا أي شَيء لم يُدخِلوا في القُرآن شَيء إلا من البَسمَلة إلى سورة الناس؛ قُرآن خالِص لم يَخلِطوا بِه غَيره.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، وقُلنا يُشتَقُ الإسم إما:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، فَيَتَهَيأ القَلب عِندَ النُطقِ بسم قَبل لَفظ الجَلالة لِتَرِدَ عليه أنوارُ لَفظ الجَلالة فَتَملؤهُ بسم الله، ولم يَقُل: بالله، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، وقد أشَرنا إلى:
(بِسْمِ اللَّهِ)، هذا الإسمُ الأعظَم الذي اختَصَ بهِ الحَقُ -جل جلاله- وهو الذي يَحمِلُ الدلالَة على الذات الواجبةِ الوُجود الأزَلِيةِ الأبَدِية بِجَميع صِفاتِها وأسمائها (الله)، وإنَّما تَقوى الدَلالَةُ في بَقِيةِ الأسماء على بَعضٍ من الصِفات، بَعضٍ من شُؤون هذه الذات. ولكن اسم (الله) يَدُل على الذات بِجَميعِ أسمائها وصِفاتها الله، فما أعجب اسم الله. شَرّف الله بأنوارِه بَواطِنَنا وسَرائِرَنا وألسِنَتِنا وحِسَنا ومَعنانا يا الله.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ) وهذا من فَضلِ الكَريمِ المَنّان ولو شاء لَجَعلَ لنا بسم الله الجَبار، بسم الله المُنتقم، بسم الله القَهار، وكلها أسماءُه لكن اختار لنا: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ). لك الحَمد يا أرحم الراحمين، زِدنا رَحمة، وكُن لنا في كُل مُهِمة، وبارك لنا في قِراءَةِ البَسملة وفي الإستِعاذَة قَبلَها وفي قِراءَة القُرآن حَيثُ ما قَرأنا بَركة تامة، فاجعَلنا عِندَك من أصحاب القُرآن واجعلنا لَديك من أهل القُرآن واحشُرنا في زُمرَة أهله وأنت راضٍ عنا في خيرٍ ولطفٍ وعافيةٍ.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
02 رَمضان 1435