تفسير جزء عمَّ - 47 - تفسير سورة الشمس
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.

نص الدرس مكتوب:

((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))

الحمدلله الذي أكرمنا بتأمل الآيات، ومعانيها الكريمات الكبيرات العظيمات الدائمات، الدائمات التي لا يزال خيرها ونورها وفائدتها مستمرة، عند الممات وبعد الممات  ويوم الميقات وإلى الجنات، وليس هذا للعلوم الأخرى، لكن لعلوم الحق ورسوله علوم هي علوم، هي علم، علم حق وحقيقة مستمرٌ نفعه، عند الموت ينفع، بعد الموت ينفع، يوم الحشر ينفع، في مواقف القيامة ينفع،  وفي الجنة ينفع، ولا كذلك بقية العلوم، لكن هذه العلوم الدائمة، الباقي نفعها، المستمر خيرها وعطائها.

بحمدالله في كل يوم من أيام الشهر الكريم نتأمل من كلام الله و قرآنه الكريم، والذكر الحكيم، والنور المبين والكتاب العظيم، والقرآن العظيم نصيبًا، وهو أبحرٌ زواخر نرتشف منها ما يعيننا الله عليه وما يقوّينا على حمله، الله يوفر حظنا وإياكم.

  نبدأ في اليوم الأول من أيام هذه الدورة في تأمل معاني سورة الشمس: 

  • وإذا أشرقت الشمس ذهبت الظلمات، 

  • وإذا أشرقت الشمس أضاءت المسالك للعباد ووضحت الطرقات، 

  • وإذا أشرقت الشمس بدت أنوار، وذهبت أكدار، وانزاحت أغدار، وتبين المسلك لأولي الأبصار.

ثم إننا نعبُرُ من شمسٍ تغيب إلى شموس لا تغيب، أجلاها في العالم الخَلْقِي كله شمس سيدنا الحبيب.

فهو السراج المنير، الدائم الإنارة، كما سمّاه الدائم الباقي، "السراج المنير"، قال له مخاطبًا ينبئنا عن شيء من السر بينه وبينه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *  وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب:45-46]، سراج لا ينطفئ، سراجٌ يزداد ضوؤه أبدا، سراج تزداد أنواره في يوم الوقوف بين يدي الرحمن، سراج يُمَرُّ بنوره على الصراط إلى الجنان، سراجٌ ينطق بنطقٍ لا ينطق به غيره من ملكٍ ولا إنسٍ ولا جان.

يقول في ذلك الشأن: "أنا لها" وهي كلمةٌ لا يقولها سواه، ولا ينالها من عداه من ملائكة الله ولا أنبياء الله ولا المقربين إلى الله ولا من سواهم من خلق الله، لا ملَك ولا إنسي ولا جني ولا من سواهم من الكائنات يقول هذه الكلمة غير نبيكم، فأُسعدتم بهذا النبي، قوّى الله روابطكم به ثبّت أقدامكم على دربه، فلتعشق أرواحكم سر الإتصال به والمشي على خطاه وطريقته ودربه فهو نور الله.

كم تغيب الشمس من مكان إلى مكان على ظهر الكرة الأرضية؟ والقمر كذلك؟ وهذه ما تغيب، كم تتعرض جميع السُّرُج المنيرة إلى كثير من الاشكالات والاخفات والانقطاع؟ ولكن هذا السراج يزداد نورًا أبد الآباد وسرمد السرمد؛ لأنه نور الواحد الأحد متجلٍّ في ذات محمد.

(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)؛ النور هو الرسول والكتاب المبين هو القرآن: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة:15-16]، يهدي به الله، بهذا النور.

في سورة الشمس: أقسم الله بسبعة أشياء على أمرٍ عظيمٍ خطيرٍ كبير وهو: الفلاح والخيبة؛ من يُفلح ومن يخيب، وإذا أقسم الله بهذا فلا تصدق أحد آخر، يقول لك يُفلح غير هذا الذي ذكر الله أو يخيب غير هذا الذي ذكر الله، فإن القول قول الله والعلم علم الله والمُلك ملك الله؛ (قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:73]، اللهم اجعلنا من المفلحين و ألحقنا بالمفلحين وهب لنا ما وهبته للمفلحين في كل شأن وحال وحين يا أكرم الأكرمين.

يقول ربنا -جل جلاله-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)) يقسم بالشمس، وضحاها: نورها الساطع المشرق. (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) بداية إشراقها في أول النهار. 

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1))، قال أهل العلم: إن أوقات اليوم والليلة على ظهر الأرض أشبهها وقتًا بوقت الجنة وبحالها. ما يكون قرب طلوع الشمس عندما ينبسط النور بلا وهج ولا شدة والنسيم يهِب والجو لطيف، هذا الموجود على ظهر الأرض أقرب شبهًا بما يكون في الجنة، وما في الجنة أكبر وأعظم، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ساعات اليوم والليلة ما هُنّ أقرب شيئا للشبه إلى حال الجنّة وأوقاتها هذا الوقت، عندما يقرُب طلوع الشمس والجو هادي والنسيم يهِب والضوء بلا وهج، ولكن كان نبينا كلما وصف الجَنّة وأطنب في وصفها يقف، يقول: "وفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، ويقول: "اقرؤوا إن شئتم" قوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍۢ جَزَآءًۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1))، قيل أن المراد بضحاها النهار كله أو نورها أو بداية سطوعها وإشراقها. (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)) تلىٰ الشمس وتبعها؛ (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) [يس:40]. ولكن ترتيب دقيق من الخالق القدير الحكيم -جل جلاله- يتبع هذا هذا، ويجيء هذا، كذا القمر يقابل الشمس في بداية الشهر من طرفها، فيتنور طرفها من نور الشمس، فترسله على الأرض ثم تزداد المقابلة شيئا فشيء حتى تكتمل بدرًا كاملًا، في ليالي البيض مثل هذه الليالي التي نحن فيها، ثم يبدأ ينقص فهذا يتلو هذا ويتابع هذا ويزيد ويرجع. 

(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2))  وإذا غابت الشمس في أول الشهر برز القمر في وقت غياب تلك الشمس وبعد غيابها مباشرةٍ  وسويعات. (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)).

  يقول تبارك وتعالى: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)) أي:  أظهر سلطان هذه الشمس وقوة نورها وخصائصها حينما تظهر في النهار؛ لهذا يقول: الشمس سلطان النهار، سلطانها في النهار والقمر سلطانه في الليل.

حتى رتب الفقهاء على هذا، أنه لو غربت الشمس كاسفةً لم يُصلي أهل مكان غروبها صلاة الكسوف، فقد فاتت، لِمَ؟ لأنه دخل الليل والليل سلطانه القمر، ذهب سلطان الشمس وإذا غرب القمر خاسفًا والليل باقٍ فيُسن لأهل المكان الذي غرب عنه القمر خاسفًا أن يصلوا صلاة الخسوف لأنه الليل باقي والليل سلطانه القمر، سبحان الله. 

ترتيبات واعتبارات من عند المكوِّن جعلها في الكائنات، وكلها ليست شيء لأنها في قبضته وتحت تدبيره وترتيبه، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]، ما الحساب الدقيق هذا؟ في أماكنها، في دورتها، في تتابُعها (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) الله الله، لو قرُب قليل أو بعُد قليل لتغيرت الحياة وفسدت لكن تقدير العزيز العليم (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن:5-7].

(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3))،  وأيضًا جلَّ لنا الأرض بواسطة نور الشمس، فهو يُجلِّي الشمس فيُظهرها لنا، ويُجلِّي أرضنا بنور تلك الشمس في أثناء النهار، تتجلَّى الأرض بنور الشمس ويُجلِّي هذا النهار لهذه الشمس وخصائصها فينا؛ فتبرز علينا وتطلع :(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3))

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)) يغشى الأرض فتبدو ظلمته، (يَغْشَاهَا) يغطي الشمس بذهابها وانحراف الأرض عنها المقابلة لها إلى الجهة الأخرى، فإذا بها تغطت عنّا الشمس وذهبت. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)) يسترها ويغطيها؛ يغطي الأرض بظلمته ويغطي عنّا الشمس ببعدنا عنه ودوران الكرة الأرضية إلى الجهة الأخرى، فلا تبقى للشمس مجال فهي عنّا مُغطّاة مُغشّاة بظلمة الليل. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)).

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4) وَالسَّمَآءِ..(4))؛ أقسم بالسماوات، هذه مظاهر الكائنات كلها، جمّعها لنا في هذه الآيات ليعلم أن المقصود من خلقها؛ هذا الإنسان، 

  • إما يُفلح بالتزكية، 

  • وإما يخيب بالتدسية، 

وأقسم الله بمظاهر الكون كلها على هذه الحقيقة، على نفس الإنسان، يقول جل جلاله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا (5)).

(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا (5))، فيّصح في (وَمَا بَنَاهَا) أن:

  •  يكون بنائها(ما) مصدرية، 

  • أو تكون "ما" بمعنى: من،  ومن بناها؟ الله،

 السماء ورب السماء سبحانه -عز وجل-، السماء في عظمتها، كم لها هذه السماء مخلوقة فوقنا؟ من يرمّمها؟ من أين صيانتها؟ أي الدّول عندها صيانة السماء؟ اذهبوا انتم وعقولكم اعملوا صيانة لعمارات عندكم ومكائن صنعتوها واقعدوا مكانكم، ليس لكم دخل في السماء ولا صيانتها من فوقكم، لا إله إلا الله (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [عمّ:12]. 

مليون سنة، مليونين سنة، ما في إنفطار قليل؟ إنشقاق صغير! مافي شي يسقط، ما هذه القوة؟ سبعا شدادا الله أكبر، وهذه السبع الشداد وملايين السنين لحظة تأتي من تجلّي القوي، وإذا وقد السماوات مطوية كطي السجل للكتب، تشققت وتلاشت وانتهت، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) [الفرقان:25]، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) [الإنشقاق:1].

 فالقوة لواحد، رأينا من شؤوننا التي في الأرض تقوم قليل وتتهدم وماتدوم. والسماء من فوق  لها مئات السنين، ملايين السنين ليس لها صيانة، ولا ترميم، ولا تجميل، ولا تزيين، ولا قطع غيار، ولا أي شي، عجيب! ثابتة  مكانها،لا تسقط، لا تُعوَج ولا تنعسف.

(فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك:3-4]، طيب على المدى هكذا؟ هؤلاء يقولوا تطور تطور! وهم مكانهم في الكرة الأرضية. 

انظروا الى العوالم فوقكم كيف؟ (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33]، ما معنى (إِلَّا بِسُلْطَانٍ)؟ إذا قلنا لكم عرجنا بمحمد صدِّقوا؟ هذا الذي خرج من أقطار السماوات والأرض كلها، الله، ولا حتى أقطار السماوات التي فيها الملائكة خرج منها، الله، وسيدنا جبريل يقف، يقول: يا مالك اطلع، لا يستطيع الطلوع. ما اطلع، "في مثل هذا الموطن يترك الخليل خليله؟ يامحمد وما منا إلا له مقام معلوم"، أنا لا أتجاوز هذا المكان، أنا إن تقدَّمت احترقت، و أنت إن تقدَّمت اخترقت ﷺ؛ هذا الذي جاوزها بسلطان، قوة الرحمن، قدرة الرب -جل جلاله- (..لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33].

بعد ذلك، ساعة يقولون وصلنا القمر ونحاول وصول المريخ، ومرَّ التاريخ ولا شي خبر من القمر ولا من المريخ، ولا أحد سكن فيها، ولا عملوا لهم ولاية من الولايات هناك، ولا عملوا لهم شي، غير صالحة لحياتهم! هو العالم فقط الجو والقمر والمريخ؟ خذوا ملايين الكواكب، خذوا بلايين الكواكب، ومسافات بالسنين الضوئية بينكم وبينها، الله الله الله الله الله، واستوسِع مملكة الله.

 اقعدوا في كرتكم الأرضية هذه واغترّوا الى أن تشبعون، هناك مرجع قريب وستعرفون العظمة لمن،  ستعرفون  أنفسكم، أنّكم كنتم تضحكون على أنفسكم؛ (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85]، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].

من يُسيّر الكواكب؟ أتركوا الكواكب، هذا الكوكب الأرضي الذي أنتم فيه، من منكم يتحكّم في تحريكه؟ من منكم يتحكّم في دورانه؟ من منكم يتحكّم في زلزلته؟ ما في! هيا اجلس مكانك هنا، عاجز وسط  هذا الكوكب الأرضي، اترك الملايين، هذا الكوكب مُذكّر لك أنّك ضعيف وأنّك عاجز وفوقك قوي يُسيّرك عليه ويُسَيّره لك.

(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ  تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر:41]، هل سيصلحون شيء؟ يمكن هناك تكنولوجيا تمسك الأرض، تمسك السماء، هل ممكن ؟  ماذا؟ ممكن! (إِنْ أَمْسَكَهُمَا) يعني ما أمسكهما من أحدٍ من بعده.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحج:65]، إلى أن يأتِ وقتها:

  • (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم:48].
  • (الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17].

يقول جل جلاله: (وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا (5))، ما هذا البناء المُحكم القوي؟! ويروى في بعض الأخبار أن سُمك كل سماء مسيرة 500عام حجمها، وما بينها الفضاء وما بين السماء التي فوقها 500عام. ياالله، هيا انظر! وقد يكون هذا الوارد لتقريب الأمر، وإلا فما بين الأرض وما بين السماء أوسع من ذلك بكثير -سبحان الله- كم يكتشفون اكتشاف بعد اكتشاف، كواكب ونجوم بالملايين، بينك وبين بعضها مئة سنة ضوئية! مئة سنة ضوئية، كم من ألف هذا! كم مليار سنة بالسير العاديه هذا، وهناك فضاء وهناك سماء فوقك: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ..) [الرحمن:33]، 

إهدأ إهدأ،، على الكوكب الأرضي الصغيَّر، يا صغيَّر اجلس فوق الصغيَّر، وعظّم الكبير، الكبير فوقك وفوق كل شي ومرجعك إليه، ماذا عرفت؟ وهذا الآن اكتشافاتهم، مالم يكتشفوا أكبر وأكثر وأعظم، ولا أحد منهم جاوز هذا إلا نبينا، ولا أحد منهم صنع له صاروخ ولا صنع له مركبة فضائية يمشي فيها! لكن رفعه الرحمن -جل جلاله- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء:1].

(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) [النجم:8-16]، في غشيان السدرة وعظمة السدرة وفوق السماوات السبع كلها، جاء حبيب الملِك (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) جاء حبيب مالكها وخالقها ومدورها، وقد عبّر عن هذا بعض أجزاء الأرض، كان يصعد على أُحد ومعه سيدنا أبوبكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان، أُحد زاد عليه الفرح والطرب تحرّك يقول ﷺ: "أُثبُت أُحد أُثبُت أُحد، إنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان"، وفي لفظ: "إنما عليك نبي أو صدّيق أو شهيد" كان هو النبي، أبوبكر الصدّيق، الشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهم، وعبّر ﷺ عن معنى في ذلك لما رجع من غزوة تبوك ومشى على أُحد "إن هذا أُحد جبلٌ يحبّنا ونحبه".

كان بعض الأخيار قال: ليتنا حَجَرة في جبل أُحد، يُحبّنا ونحبّه، يأتون من الفضاء يصوّرون تضاريس الجبال، جبل أحد، يحب محمد، من  الذي خلقها؟ هذا الذي ظهر، قوائم العرش اسمه عليها، أبواب الجنة اسمه عليها، مامن كتاب انزله الله من السماء إلى الأرض إلا واسمه فيه ووصفه فيه، هذا الحبيب للرب (وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا (5) والأرض..(6)) هذا الكوكب  الذي أنتم عليه هذا.

(والأرض وما طحاها (6)) بسطها ومدّها، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [عمَّ:6] مهّدها تمهيد، مثل مانعد مهد للصبي يجلس عليه مرتّب، مهّدها -سبحانه وتعالى- الله أكبر، مهّدها لنا وهيّأها، سخّرها، زوّدها بكل مانحتاج إليه في حياتنا لأجسادنا ولدوابّنا؛ (مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [النازعات:32].

(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)) -قَسَم سابع- (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) ونفسٍ: النفس الروح، الباطن للإنسان، جوهر الإنسان، ونفسٍ: وإن شملت كل نفس، فالمقصود الأول نفوس بني آدم، ويلحق بهم نفوس الجان المُكلفين، المُرسل إليهم نبينا ﷺ.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)): 

  • أما جسدها ففي أحسن تقويم، خلَقه بأحسن شكل وهيئة، 
  • أما ذاتها الروح هيّأها سوّاها؛ لتعي لتفهم، لتدرك، لتنظر، لتُبصر، لتتلقّى الخطاب، لتتحلى، لتذوق، لتنكشف لها الأمور؛ مهيّأة الروح؛ للقرب من حضرة ربها، لمُرافقة أهل النبوّة.

(سَوَّاهَا) عجائب في الجسد وأعجب منها في الروح.

نعم عالم الأرواح خيرٌ من الجسم *** وأعلى ولا يخفى على كل ذي علمِ

(وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:6].

يقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7))، قوّمها رتّبها ونظّمها وأبرزها بأحسن الأشكال جسدًا وروحا. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7))، 

ومع هذه التسوية مظهر من مظاهر بديع التسوية(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))علّمها الخير والشر، الصلاح والفساد، النور والظُّلمة، الهدى والضلال؛ فكُلّ نفس مُهيأة لأن تعرف ذلك وتُدركه؛

  • وإذا بدأت يغلب عليها وصف الأمّارة بالسوء،
  • فباليسير من تهذيبها وتأديبها وتربيتها تنتقل إلى اللوّامة؛ فيبدأ يتحرّك فيها الضمير ويحيا.
  • فبمُتابعة ترقيتها قليلًا؛ فيصير الأوضح فيها هذا الإلهام فتصير النفس المُلهمة،
  • فإذا داوم الإنسان على مُتابعة تزكيتها ارتقت فصارت مُطمئنة.
  •  ثم صارت راضية.
  • ثم صارت مَرضِيّة. 

ثم صارت نفس عجيبة، إنسان كامل، الكمال الإنساني يبلُغُه من تهذّب؛ وهو نهاية الفلاح.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))، كما هو أحد المعاني فيما سيأتي معنا من سورة البلد: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10]  طريقين والأمرين والحالين. (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) ما يصلُح به شأنها في الظاهر والباطن تُلهم وتعرف، فهي مُسوّاة وهي مُلهمة لكن اختيارات صاحبها، بعد ذلك إما يرفعها أو يضعها، إما يسلك بها في النور والهدى وإما في الظُلمة والضلال

  • فإذا سلك بها في النور والهدى بدأت خصائص هذه النفس تظهر، مزاياها تبرز؛ فإذا بها في عجائب،
  • وإن مال إلى الشِّق الثاني، تغطّت مزاياها وخصائصها وما امتازت به من كل التسوية البديعة العجيبة التي فيها بسبب التدْسية.

قال تعالى بعد هذه الأقسام، وربك الصادق من دون يحلف لك، خذ لك أول حلف وثاني حلف وثالث حلف: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاها (7))، خذ الأيمان هذه كلها، يارب أنت الصادق،  ماهذا  الحلف؟ على  ماذا  تحلف يارب؟

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) انتهت القضية؟ كلُّ نفس لغربي، لشرقي، لعربي، لعجمي، لصغير، لكبير إما يفلح بتزكيتها وإما يخيب يتدسيتها.. وانتهينا، هذه قصة البشر على مدى القرون ومن أيام آدم إلى أن تقوم الساعة، بجميع تطوراتهم ووسائلهم وأمتعتهم وعصورهم هذه النهاية.

 (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) وانتهى كلّ شيء، هذه قصة البشر، هذه نهاية الكون ومافيه. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)) فما أحوج الأمة إلى التزكية، قد أفلح من زكّى هذه النفس، الفلاح، الفوز والسعادة؛ المُراد فوز الأبد، سعادة الأبد.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))، أكثر مايُنشر اليوم في البرامج المختلفة والوسائل المختلفة يُدسِّي النفس، فالخيبة قريبة ممن استرسل وراء هذه المنشورات، ولكن الفلاح لمن زكّاها -الله يُزكّي النفوس بواسطة محمد ﷺ يقول: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [الجمعة:2]، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة:152]، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

اللهم آتي نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليُّها و مولاها. بأنوار محمد تزكّت نفوس الصحابة وتزكّت بهم نفوس التابعين، الذين تأدّبوا بآدابهم وتخلَّقوا بأخلاقهم، ولم يزل رجال التزكية في الوجود مطمح ومظهر ومجلى النور الرباني المحمدي في الأمة.

اللهم أكرمنا بحُسن التزكية، كمال التزكية وأنلنا الترقية، ورقِّنا مع من تُرقّي، ونقِّنا مع من تُنقّي، اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، انفعنا بالقرآن وعُمَّنا بالغفران وافِض علينا فائضات الامتنان، وفّر حظنا من شهر رمضان، ياربي مضى قريب من نصفه علينا فبارك لنا فيما بقي فينا بركة تامة، واجعلنا من خواص أهله عندك برحمتك يا أرحم الراحمين. 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي ﷺ

 اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

15 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

01 يوليو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام