(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس الأول من تفسير العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الذاريات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، من قوله تعالى:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}
الحمد لله الذي بلّغنا هذا الشهر الكريم وأوصلنا إلى هذا الموسم العظيم، له الحمد له الفضل له المنّة وهو عظيم التكريم جزيل المنّ والإنعام والإفضال، لا إله إلا هو سبحانه من كبيرٍ متعال، أرسل إلينا عبده المصطفى محمّد بالهدى ودين الحق، وجعلنا به خير أمة
ننعم من عظيم نعمه، وجلائل مننه بما لا يخطر على بال ولا يتخيل بخيال.
اللهم لك الحمد على ما وهبت وعلى ما مننت وعلى ما أعطيت وعلى ما منحت وعلى ما فتحت، أتمم نعمتك علينا وتولّنا حيثما كنّا، وصلِّ وسلِّم على عبدك المصطفى ذي الجاه الأوسع الأسنى، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ حِسًّا ومعنى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين.
وكما بلّغتنا الشهر اقسم لنا بالحظّ الوافر من عطاياك فيه، وجودك على من تحبّه وترتضيه، واجعلنا من أسعد الناس بنظرتك، وأسعد الناس بمنّتك، وأسعد الناس بمحبتك، وأسعد الناس بمعرفتك، وأسعد الناس برضاك الأكبر، يا كريم يا برّ يا أرحم الراحمين.
واجعل لنا وللأمة في هذا الشهر فرجًا ومخرجًا من جميع البلايا والشدائد والآفات، واجعل لنا وللأمة في هذا الشهر رقيًّا إلى علي المراتب والمقامات، اللهم بارك لنا في شهرنا أيامه ولياليه وساعاته ولحظاته، واجعلنا اللهم من خواصّ المترقّين فيه في كل شرفٍ ومجدٍ وفضلٍ ومنّةٍ إلى أعلى درجاته في خيرٍ وعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله الذي أكرمنا بالكتاب العزيز، وتنزيله وقد ابتدأ نزوله في الشهر الكريم المبارك قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وفتح الله لنا بالقرآن أبواب الفهم عنه، والمعرفة به، ووسائل وأسباب الوجهة إليه، والإقبال عليه -سبحانه وتعالى- والاتصال بنبيّه الذي أوحى إليه القرآن، سيد الأكوان خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم.
ونحن في تدبّرنا لكلام الله تعالى، وتأمّلنا لبعض معانيه، في هذا الشهر الكريم المبارك، انتهينا من العام الماضي وقد بلّغنا الله هذا العام ورحم الله من اندرج في هذا العام وغاب عنا من على ظهر الأرض من المؤمنين والمؤمنات وذوي الحقوق علينا وأهل المراتب الرفيعات خاصّة، وجمعنا بهم في أعلى الجنة وهو راضٍ عنّا من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخٍ ولا عقاب.
انتهينا إلى سورة الذاريات، وهي إحدى السور التي ابتدأها الله بالقَسَم والحلف والأيمان وقد تعددت السور في ذلك، وعامّة ما جاء في الأقسام فيها والأيمان على البعث والنشور والمرجع إلى العزيز الغفور، ومن الأقسام ما أقسم به على وحدانيته وهو في سورة الصّافات: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافّات:1-4].
وأقسَم -سبحانه وتعالى- على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في مطلع سورٍ أقسَمَ فيها بمثل قوله -جلّ جلاله-: {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:1-3]، {وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى:1-3] فكان في اثنتين أو ثلاثة القَسَم بالرسالة، وكان في واحدةٍ القَسَم على الوحدانية وكان في بقية السور المفتتحة بالأقسام: الأقسام على البعث والنشور والمرجع إليه سبحانه والوقوف بين يديه؛
وذلك لظهور شأن الوحدانية لكل ذي عقل، وسطوع أنوار دلائل النبوة، ثمّ أنّ أكثر ما يجادلون فيه الكفّار ويستغربونه مسألة البعث والنشور والمرجع إليه -جلّ جلاله- فتعدّدت الأقَسَام بذلك، وذلك أنه عند اختلاط الأمور على الإنسان عندما يواجَه بالحجج والدلائل، يتوقّع أنه مهما كان مبطِلًا أن الآخر الذي يجادله إنما تمكّن عليه لمعرفته بفنون الجدل وأسلوب إلقاء الحجّة وليس الأمر كما يقول أو لا يعتقد هو ما يقول، وكان في اعتقادهم أن الأمر عند ذلك يكون الفصل فيه الحلف، وأنهم يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تُهلك أصحابها وتذرُ الديار بلاقع، فاستعمل هذا الأسلوب معهم القرآن بأحلاف وأيمان على صدق ما يخبركم به رسولنا، ويبلّغكم نبينا صلى الله عليه وسلم، وها هو يحلف أمامكم بمختلف مظاهر خلقنا ووجودنا وآياتنا في الكون، وترونه حلف بها مرّةً بعد أخرى وهو مؤيدٌ معافى منصورٌ لم يُصبه شيء، ألا يكفيكم ذلك دليلاً على صدقه وما جاء به عنّا -صلى الله عليه وسلم-؟!
ابتدأ -سبحانه وتعالى- السورة بالحلف بالذاريات، وأصحّ الأقوال في الذاريات: أنها هذه الرياح التي يُرسلها الله -سبحانه وتعالى- فتذْرُو السحاب وينزل منها بعد ذلك الأمطار. {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(1)} فذروا مصدر: ذرا، يذرو، ذروًا، كما يقال: ذرى، يذري، ذريًا.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} ويرجع أيضًا معنى إلى أن الحاملات هنّ السحب يحملن وِقرًا، حِملًا ثقيلًا وهي: المياه التي يجعلها الله -سبحانه وتعالى- وسط ذلك السحاب، وينزلها غزيرةً، قد تعرّض عند نزولها الأبنية القوية للتكسير على ظهر الأرض، فكيف كانت محمولةً في الهواء؟ كيف كانت محمولةً في الفضاء؟ إنّه وقِر، وأمرٌ ثقيلٌ صعبٌ حُمِلَ بقدرة الله -تبارك وتعالى-! وإن الرياح تذرو وتنشأ بها -بأمر الله- السحب فتحمل وقِرَا حملًا ثقيلًا.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} تجري بأمر ربّها -سبحانه وتعالى- كما قال -جلّ جلاله- في مسألة الجبال: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]. ويمرّ السحاب من منطقةٍ إلى منطقة، ويجري بهذه الرياح التي يسخّرها الله -تبارك وتعالى- ليصِل إلى هذه البقعة وهذه البقعة وهذه البقعة، ويتقسّم بذلك بأمر الله تعالى شؤون نزول الأمطار، وتتفرق بذلك السحائب في الأماكن المختلفة {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} كما يأتي في معنى الذاريات: أنهم الملائكة، وياتي في معنى المقسّمات أمرا كذلك أنهم الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بتقسيم الأرزاق، وبتقسيم شؤونٍ معنويةٍ كثيرةٍ بين العباد بأمره -جلّ جلاله-.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)} يأتي في معنى الحاملات وِقرا: السفن التي تجري في البحار وتحمل الإنسان وتحمل كثيرًا كثيرًا من الأحمال الثقيلة، تمشي بها على ظهر الماء من بقعةٍ إلى بقعة، آياتٌ من آيات الله -سبحانه وتعالى- أمام الأعين يشهدها الكل! رتّب أن هذا النوع من الخشب والعود لا يغوص في الماء، ثم يمنع غيره ويحمي غيره أيضًا من الغوص مهما ثَقُل ذلك الغير، ومهما كان يغوص غوصًا شنيعًا بأدنى اتصالٍ بالماء، لكن حينما يدخل في حصن ذلك النوع من المادة المخلوقة لله تعالى، لا يغوص ويبقى سالمًا ومحفوظًا لا يستطيع الماء أن يبتلعه {ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
فصار يحمل، وقد أبدى سبحانه وأبرز وخلق أيضًا وصنع على أيدي ما علم عباده في البرّ حاملات وِقر، وفي الجو كذلك، وسخّر العقول بهذه المخلوقات له -سبحانه وتعالى- بصناعة هذه الطائرات التي تحمل الأحمال الثقيلة بين السماء والأرض، وإن كانت لا تصل إلى درجة وقوة ما تحمل السحّاب، فما يحمل السحاب شيءٌ عظيم، وشيءٌ ثقيل وأكبر لا تحمله، بل هذا الذي تحمله السحاب لو انصبّ على الطائرات لسقطت ولما استطاعت أن تنهض بنفسها، ولكن الكل فيه آياتٌ من تدبير الله في كونه، ومن تحكّم الخلّاق في مخلوقاته وكائناته بما يشاء وما يرتّب من هذه الأسباب -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وهكذا يخضع الكل لهذا الترتيب والتقدير الإلهي، ولا يستطيعون في تقدّمٍ ولا تطوّر يقولون: أنّا نجعل الذي يحول بين الأجسام والغوص في الماء غير ما رتب الله من هذه النوع من الأخشاب وترتيبها فنحن الآن نجعل الحجر أيضًا لا يغوص، لا يقدرون! نجعل أجسامنا لا تغوص، لا يقدرون! إلا بحسب ما قدّر ورتب هو قبل أن يُخلقوا، قبل أن يخلقهم، فالكل تحت قهره، وإن كابروا وإن جحدوا وإن تكبّروا، فلا كبير إلا الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
هذه آياتٌ قَسَم بها على الوعد الصادق في أمر الخلائق في محشرهم ومرجعهم إليه:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} ومنها السفن التي تجري في البحار، مُيسّر لها أمر قطعها من منطقة إلى منطقة، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} ما أنبأكم نبيّنا عن نعيم أهل الإيمان وحيازتهم دخول الجنان، وعن عذاب أهل الكفر والطغيان وحلولهم في النيران، وعدٌ صادق لا ريب فيه ولا شك، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ} أي: الجزاء، بعد المحاسبة: الجزاء والثمرة للعمل بالمجازاة عليها، {وَإِنَّ الدِّينَ} أي: الجزاء {لَوَاقِعٌ} فعلًا، لا يؤخره تكذيب المكذّب ولا إنكار المنكِر ولا جحود الجاحد، الجزاء واقع واقع، وسيجزى كل نفسٍ بما كسبت، ويجزى كل أحدٍ بما عمل، {وَإِنَّ الدِّينَ} أي: الجزاء بعد المحاسبة {لَوَاقِعٌ} حاصلٌ ثابتٌ يأتي في الوقت الذي رتبه هذا الإله، وحدّده تعالى في علاه، فسيحاسَب الكل، "سيُعيد الله كلّاً منهم*** وسيجزي فاعلاً ما قد فَعَل" -سبحانه وتعالى-.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ} أي: الجزاء {لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} أقسم بالسماوات من فوقهم، ذات الحبك: الطرق المرتبة المحبوكة حبكًا بما يرتب لكل من الكواكب والنجوم من مواطن ومنازل، وما يرتب -سبحانه وتعالى- لهذه الرياح، وما يكون في السحب أيضًا من ممرّات ومن طرقٍ للأمطار ولحملها ولتحوّلها من منطقة إلى منطقة إلى غير ذلك.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} أي: المحبوكة كما قال -جل جلاله-: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] مُحْكَمَّةَ الصنع متقنة، وتمرّ عليها ألوف السنين ومئات ألوف السنين، وملايين السنين ما لها من صيانة من قِبل أي شركة ولا من قِبل أي دولة ولا حكومة! ولا تتفطّر ولا تتفطر حتى يأتي الوعد الذي يريد الله أن تنشقّ السماء فتنشقّ، ولكن هذه الملايين من السنين كيف هي مُحكمة بهذه الصورة من دون ما تتشقق، من دون ما توهن، من دون ما تضعف، من دون ما يطرأ عليها تغيير ولا فساد ولا خراب سبحان الخالق الكريم!
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8)} يا معشر المكذبين يا معشر الكافرين! هذا نبيّنا ومن قبله من الأنبياء كلهم على أساسٍ واحد، لا إله إلا الله خالق كل شيء وإليه يعود كل شيء ومرجع كل شيء، واحدٌ أحدٌ حيّ قيوم، ثابتين على مسلكٍ قويم وقولٍ واحد، يا معشر الكفار! واحد يقول صادق، واحد يقول كذّاب، واحد يقول ساحر، واحد يقول مجنون، واحد يقول كاهن، فما الأساس الذي تبنون عليه دينكم؟!
ما الأصل الذي تقيمون عليه اعتقادكم؟! {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8)} متناقض، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} متغيّر، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} متبدّل من شأن إلى شأن، ولم يزل حال الكفر كذلك! وأنواع الكفار والمكذبين بالدين، واحد يهودي، والثاني نصراني، والثالث..، والنصرانية كذا كذا قسم، واليهودية كذا قسم، واحد ملحد، والملحدين كذا كذا قسم، واحد بوذي، وذا يقول كذا وذا يقول كذا، وذا يقول كذا، … على أي أساس تقيمون دينكم؟ هذا كلام الأنبياء من عهد آدم إلى محمد إلى المؤمنين في العالم الموجودين على قول واحد، لأنه أساس ثابت وصحيح وقويم وقوي، وأنتم حتى في النظر للأشياء يوم تقولون كذا.. يوم تقولون كذا، حتى كلامكم عن الماديات عن البحار، عن الفضاء، يوم تقولون كذا، يوم تجيبون كلام ثاني، وتتناقضون بينكم البين، وبعدين تقولون: اكتشفنا لا التصوّر الأول خطأ! {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}.
وهذه الأقوال المختلفة بأصنافها، يهدي الله المستنيرين العقول المطهّرين القلوب لوجه الحقّ فيُعرضون عنها ولا يتضرّرون بشيءٍ منها، {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} يُبعد عن هذا القول المختلف من سبقت له السلامة والسعادة، كما يؤفك عن القول الصحيح الثابت الراسخ فيُكذّب بالنبوّة والرسالة من أٌفِك ممّن سبقت عليه الشقاوة - والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فالذين سبقت لهم السعادة من أرباب العقول يؤفكون ويُبعدون عن هذه الأقاويل المختلفة التي لا أساس لها، وما اختلفت وتناقضت إلا لأنه لا ركن تقوم عليه، ويهتدي للحق. والضالّون والمُفسدون يؤفكون عن قول الحق الصريح الواضح البيّن والدلائل واضحة، ويدخلون في واحدة من الأقوال هذه المختلفة، وقد هو في عمره ونفسه يختلف من حال إلى حال، قد يكون في اليوم الواحد قوله في الصباح غير قوله في المساء، ويضلّ -والعياذ بالله تعالى- ويَزِل، فنسأل الله أن يهدينا ويثبّتنا على الحقّ والهدى، اللهم اهدنا فيمن هديت.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} يقول الله هؤلاء المتبّعون للأهواء، المُنقادون للشهوات، الذين لأجل ذلك اختلفت أقوالهم في الأشياء وفي النظر إلى النبوة والرسالة، والنظر إلى الألوهية والربوبية، والنظر إلى المعاد والآخرة واختلفت أقوالهم لا أصل لهم يبنون عليه كلامهم فهم خرّاصون! يبنون أمورهم على الظنون والأوهام { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي: حلّ عليهم البلاء والعذاب واللعنة -والعياذ بالله تعالى- إذ آثروا الخرصَ والظنّ على الحقيقة واليقين الواضح البيّن. {قُتِلَ الخرَّاصُون (10)} ضلّوا وسقطوا وعُذّبوا وتعرّضوا للسخط واللعنة من قبل الرب. {قُتِلَ الخرَّاصُون} الذين يبنون شؤونهم في الحياة على خرصٍ وظن {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
{قُتِلَ الخرَّاصُون} ولكن الأنبياء ومن ورائهم من الأولياء أرباب عين اليقين وحق اليقين ما يتكلمون عن ظنٍّ ولا عن وهم، ولكن عن يقين ثابت ومعاينةٍ ومشاهدة قال الله للكفّار الذين يُمارون نبيّنا: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} [النجم:12]، الذي يدعوكم إليه يُشاهده ويُعيانه معاينة، تمارونه على شيء يُعاينه ويُشاهده ببصره وبصيرته؟! فكيف يُكذّبوا بشيءٍ يُشاهده ويُعاينه؟ وأنتم في المادّيات أمامكم إذا عاينتم شيء ما تُطيقون أن تكذّبوا به! كيف تكذّبون بشيء قدام عيونكم؟ وهذا الذي يدعوكم إليه من الإيمان معايَنٌ له معاينةً واضحة فيراه رؤية تامّة كاملة {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} -صلى الله عليه وسلم- وكذلك يتكلم الأنبياء، ويتكلم ورثتهم من الأصفياء الأولياء عن معاينةٍ وعن مشاهدةٍ بالبصائر وبالأبصار كمشاهدة أهل الأبصار للمادّيات بأبصارهم.
يقول تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} غُمِروا بالشهوات، بالأهواء، بالأغراض الفانية، بالعصبيات، غُمِروا بها غمرة، فما يُفيقون ولا يتبيّنون الحقيقة {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} غُمِروا بأهوائهم، غُمِروا بشهواتهم، يعني: غُطّوا خلاص، غطّت عليهم الأهواء والشهوات حتى لا يُبصرون الحق ولا يهتدون إليه، ولا يستمعون إلى حججه.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُون} عن الحقيقة وعن الواجب وعن المهمة في الحياة، فهم في سهو! {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ} سؤال استهزاء {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)}؟ يوم الجزاء هذا الذي تقول يا محمد، يوم العقاب والعذاب والمحاسبة على ما كان منّا {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؟ يقول الحقّ -جلّ جلاله- تساؤلكم بهذا الاستهزاء عن أمرٍ واقعٍة لا محال قادمٌ عليكم { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} يعني: يُحرقون بها، يُقال: فَتَن الذهب إذا أحرقه بالنار، فتن الفضة { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} يعني: تُقلّب فيها وجوههم وتُشوى بها جلودهم، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، فيصلونها ويحرقون فيها { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} اختلاطكم واختباطكم ورضاكم بالخرص واختلافكم في الأقوال التي لا أساس لها {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} تستهزئون تكذبون تقولون: وين هذا حقك الحساب؟ فين الجنة؟ فين النار؟ الذي كوّنك من العدم أخبرك عنها فهي قائمة وهي موجودة ولا بد من رجوع الناس إمّا إلى هذه أو إلى هذه {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] اللهم اجعلنا من أهل الجنة.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}
يالله انظر الفرق الكبير يوم يأتي هذا اليوم يوم الجزاء ويوم الحساب بين من آمن وبين من كذّب، ويقال لهؤلاء المكذبين وقد فُتنوا على النار اُحرقوا فيها واختلطوا بها: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} والفريق الثاني: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} بساتين من أشجار عظيمة الصنع والثمار والمقدار، وعيون تجري بعجائب من جود الله -سبحانه وتعالى- على أهل تلك الجنات، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} ظافرين وحائزين ونائلين عطاء إلهٍ يُعطي ولا يبالي، يُعطي بغير حساب، يرزق بغير حساب، يتفضّل بما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر. {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} مربّيهم الذي خلقهم وكوّنهم فلم يكفروا به ولم يجحدوا بعظمته ولم يخالفوا أمره، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ} قبل الوصول إلى هذا المصير أيام الحياة الدنيا أيام التكليف {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ} كانوا على قدم الإحسان أيام كانوا في الدنيا فلهم هذا العطاء الكبير، وذكر الله مظاهر هذا الإحسان، جعلنا الله من أهلها، قال -سبحانه وتعالى-: {كانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فذكر في مظهر الإحسان محاربتهم للنوم في أوقاتٍ النفس فيها تشتهي النوم بحكم الطبع، وينام الناس فيها، ولعًا بالإله الذي خلق ومحبةً له وشوقًا إليه، فيتركون المنام في تلك الساعات ويقومون بين يديه يصفّون أقدامهم وقلوبهم، في ذلّتهم وخشوعهم، قال الله وهم مع ذلك غير مغترّين، غير معجبين غير شاهدين المنّة لهم، بل يرون فضل الله عليهم وأنهم مقصرون؛ فيقرنون هذا العمل بالاستغفار {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الله الله! وإنما من انحرف ولم يقم بالعبادة على وجهها، لو قام بشيءٍ، ببعض ما قاموا به لافتخر ولعجب ولرأى نفسه على شيء! لكن هؤلاء يقومون بهذه الأعمال الصالحة، ثم يشهدون عجزهم وضعفهم وعظيم فضل الله عليهم في مقابل تقصيرهم فيستغفرون الله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] وثمّ يستغفرون يستغفرون في السحر كأنهم باتوا على ذنوب ومعاصي، وهذاك يبيت على الذنب المعصية ولا استغفار، ويصبح عاده باستكبار! فرق بين هذا وهذا! من يستحق الجنة ومن يستحق النار؟
هؤلاء ينامون قليل ويستغفرون، يشهدون التقصير، وذاك يذنب ولا يستغفر! ويتكبر عاده! لا حول ولا قوة إلا بالله!! أو يعمل صورة من الطاعات علامة عدم قبولها لا تُكسبه خشية، ولا تزيده معرفة بهذا الإله، ولا تزيده خضوعًا، عبادة غير صحيحة غير مقبولة! كل عبادة مقبولة: تزيدك أدب مع الرب، تزيدك تعظيم له، تزيدك محبة، وتزيدك خضوع لجلاله.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وهكذا يأتي معنا مظاهر هذا الإحسان الذي أثنى به عليهم الرحمن في آيات القرآن الواضحة. جعلنا الله وإياكم ممّن يتدبّر القرآن، ويهتدي بنوره، ويستدل بدلالة رشده، ويطّلع على معناه، ويعمل بمقتضاه، ويُكرم فيه بالفتح من الرحمن تعالى في عُلاه.
اللهم افتح لنا في القرآن العظيم فتحًا مبينًا، واجعلنا اللهم ممّن يزداد به إيمانًا ويقينًا وارفعنا به يا مولانا مقامًا في المعرفة بك والمحبة منك والمحبة لك والإخلاص لوجهك والرضا منك والرضا عنك ثابتًا قويًّا مكينًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
02 رَمضان 1444