(536)
(239)
(576)
الدرس الخامس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الدخان، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
الجمعة 26 رمضان 1445هـ
الحمد لله مُكرِمنا بخطابه وتنزيل كتابه، وبيانه على لسان سيد أحبابه، المجتبى المختار محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى أهل متابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أرباب المرتبة الكبرى لدى الرحمن والمبشرين بحبيبه سيد الأكوان، اللهم صلّ وسلم وبارك وكرم عليهم وعلى آلهم وصحبهم وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعدُ؛
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطاب إلهنا، وتعاليم خالقنا وموجدنا ومن إليه مصيرنا -جل جلاله- بما أوحى إلى قلب هادينا ومعلمنا ومرشدنا وداعينا محمدً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قد وصلنا إلى أواخر آيات سورة الدخان، ومررنا على قوله جل جلاله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38))؛ فلو كان الخلق يمضون هكذا بلا بعثٍ ولا نشورٍ؛ وهم على ظهر هذه الأرض يظلم بعضهم بعضًا ويؤذي بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا ويستحلُّ بعضهم حق الآخر، وثم لا بعث ولا نشور؛ لكان هذا لعب، كان هذا لعب، كان هذا عبث، يتنزّه عنه مكوِّن السماوات والأرض بالحكمة، والقوة والقدرة والعظمة، وحسن التدبير والترتيب -جلَّ جلاله- (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]؛ يفعل هذا كله، ثم يدع المُكلَّفين يلعبون ببعضهم البعض وانتهت المسألة؟ هذا لعب؟ حاشا الله أن يلعب، وحاشا الله أن يخلق الوجود عبث؛ ولكنّه سيعيد الله كلًا منهم، وسيجزي فاعلًا ما قد فعل، حتى يقتصَّ ما بين غير المُكلّفين من مثل الحيوانات، وما بين الإنسان والحيوانات كذلك، إذا ظلم حيوان أو عذّبه بغير حق، أو قتله بغير حق، أو حبسه بغير حق، أو لم يطعمه ولم يشربه وهو في قبضته؛ يأخذ حقّه الحيوان من هذا الإنسان.
ومن الحيوان من يؤمر برفس صاحبه رفسات في القيامة، فيُبطح على صفحة من النار ويؤمر الحيوان برفسه كما كان آذاه في الدنيا، حتى أنّ مالك الماشية الذي لا يُخرج زكاتها؛ يُبطَح يوم القيامة على الأرض ويُؤمر أن تَمُرْ عليه واحدة بعد الثانية… وكلما انتهى أولها رُدّت عليه آخرها مدة القيامة، وهي تدوسه وتمرّ عليه؛ لأنه ما كان يخرج زكاتها في الدنيا.
فالأمر ما فيه لعب، والأمر ما فيه عبث، والأمر ما فيه لهو، (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ ..) [الأنبياء:17-19] الذين اصطفاهم وقرّبهم (.. لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ..)؛ بالخضوع، يرون أنهم عَدَم أصلهم وما أوجدهم إلا هو، وإذا شاء أن يعدمهم (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20]، اللهم ألحقنا بمن عندك، وارزقنا مشابهة مَن عندك. (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20].
يقول جلَّ جلاله: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ..(39))، الأمر الثابت، القائم، الواقع؛ وهو أن نقضي بينهم ونحكم فيما كانوا فيه يختلفون، ونعطي كل أحد جزاءه؛ المُحسن والمُسيء، ويأخذ كلّ جزاءه: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
قال تعالى: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39))، ومنهم الذين (.. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..) [الروم:7]؛ يعرف الظاهر من الحياة الدنيا بعض المواد والأجهزة وتكوينها، وهم مع ذلك مهما كوّنوا من أجهزة وطائرة بدون طيار، قل لهم: كوِّنوا ذبابة، كوّنوا بعوضة، والله لا يقدرون، والله لا يقدرون! والله لا يقدرون! انظر مظهر العجز كيف؟! قل لهم: يا أخي ما أردت طائرة ولا أردت كمبيوتر، أريد لي بعوضة تخلقها، بسم الله هات لي واحدة، أصنع بكل ما عندك من تكنولوجيا؛ أصنع بعوضة، لا يقدر! لا يستطيع عمل شيء! العجز ظاهر، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ..) [الحج:73]؛ وأغرب من ذلك قال: لو حبّة سُكّرة أخذها عليهم الذباب وطار بها لم يعودوا يقدرون يحصلونها، هات قنبلتك وهات منها .. لا تقدر تردها أبدًا، لا ترجع، (.. وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج:73] ولا الذباب قوي ولا هم أقوياء (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ..) [البقرة:165] -جلَّ جلاله-.
قال سبحانه: (.. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)) فما يفيدهم علم ظاهر من هذه الحياة الدنيا، (.. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7]، والآخرة فيها الخلاصة لمقصود الخلق والحكم الفصل الذي لا معقب له، والنتيجة الكبرى من نعيم دائم أو عذاب دائم، فإذا غفل عن هذا ماذا نفعه؟ لا أدري يصلح من أجهزة، وبعدها؟ نار أمامه ماذا نفعه هذا؟ ماذا يفيده هذا؟ لا يعلمون (.. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:6].
قال: (.. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ ..(40))،
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا ..(41)) موالاة في غير الله نهايتها معاداة؛ موالاة لغير الله نهايتها معاداة، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ..) [الزخرف:67] لو كانوا أصحاب أصدقاء في الدنيا ومتعاونين ومتحالفين، وبعدين يلعن بعضهم بعضًا (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ..) [الأعراف:38]، إلى آخر ما قصَّ الله علينا.
(.. لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا ..(41)) ولكن من والىٰ الله.. والىٰ أنبياءه.. والىٰ أولياءه.. هؤلاء يرحمهم ويشفع بعضهم في بعض، ولهذا يقولون للنار بعد ذلك لمَّا يروون بضاعتهم كلها خائبة وخسرانة وأصدقائهم كلهم ساقطين هابطين كما هم ولا لهم علاقة حسنة بولي ولا بنبي ولا بصالح، يقولون وهم في النار: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101] كيف ما لكم صديق وأنتم أصدقاء بعضكم؟ صديق كُبَّ مثله لا ينفع عند الله، ليس له قدر عند الله هو ليس صديق، هو ليس صديق له وجاهة عند الملك، ما حصَّلوا؛ لأنهم ما صادقوا إلا الساقطين مثلهم، (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101] ما هي صداقتهم؟ صداقتهم.. صداقة على فلوس ولا درهم ولا أمور فانية أو بلايا وآفات، وماذا تنفع؟ لا يوجد صداقة في الله، لا يوجد تجالس في الله، لا يوجد موالاة في الله، لم يعد ينفعهم شيء من هذا كله (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
(يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا.. (41))، وَلَا قَرِيبَ عَنْ قَرِيبُهُ، (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ) [لقمان:33]، من اتقى منهم من أطاع -نعم-، أمَّا فاسق مع فاسق ماذا ينفع؟ كافر مع كافر ماذا ينفع بعضهم؟ لا يقدرون ينفعون بعضهم البعض، ولا لهم وجاهة عند الله.
لكن شهيد في سبيل الله صَحَّت نيته ولم يقاتل إلا لتكون كلمة الله هي العليا، تفضل؛ من مات على الإيمان من قرابتك وأهل دارك ممن استحقوا بمعاصيهم دخول النار؛ يشفع في الأول الثاني الثالث إلى سبعين، "يُشَفَعُ الشهيد في سبعين من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار" إئتوا من قبيلته سبعين واحد ماتوا على الإيمان، لكن أمَّا من انحرف ومات على غير الإسلام (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]، تنفع شفاعة الشافعين لمن مات مؤمنًا، فمثل هذا لأنه عمل متصل بالله تعالى فهو سائر ونافق في حضرة القيامة وفي سوق القيامة ينفع، هذه العملات تمشي، أما الذنوب والمعاصي وسيئات هذه كلها وقود النار .. هناك تدخلك في محل ثاني، وما ينفعك إلا العمل الصالح والطاعات.
قال: (إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ.. (42)) فوفقه في الدنيا لولائه وولاء أنبيائه وولاء أوليائه، اللهم اجعلنا منهم. (إِنَّهُ.. ) -تعالى- (هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)) له الحمد وله المنّة، عزيز: لا يحتاج إلى شيء ويحتاج له كل شيء، ولا يحيط به أحد وهو يحيط بكل شيء، عزيز.. رحيم:
رحيم له المنة، ورحمته بكم أن جعلكم من خير أمة، اشتريتم هذا أنتم بمقابل؟ أحد منكم عمل عمل لأجل أن يكون في خير أمة؟ ولا شيء، وضعكم في خير أمة، سبحانه إنّه (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)).
يقول الحق تعالى: تنتظرون خبر القيامة؟ وأخبار الدار المُستقبِلة لكم؟ التي أنتم راجعون إليها وأخبرناكم على ألسن أنبيائنا أنّه كما خلقناكم نردكم، ثم نقركم في دار البقاء إمّا في الجنة أو في النار خذوا الخبر:
كما قال الله تبارك وتعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات:65] لها رائحة منتنة، منتنة ورق زعيد يحشى منه أفواه الآثمين الفاجرين المجرمين، (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ) [الصافات:66-67] -والعياذ بالله تعالى-.
زقوم: طعام ضريع شوك، ويشتعل نار، ومنتن، ومذاقه شديد المرارة، ويأكلون منه.. أطنان يأكلون منه -أعوذ بالله-. كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة:45-53] لا تقولون لا نريد ولا… كُلْ، كُلْ، بالقوة، (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:53-55] وفي قراءة (شَرْبَ الْهِيمِ) الإبل العطشى، تجيء إلى عند حوض تكرعه، تشرب كثير الإبل إذا عطشت، من الإبل يجلس بلا ماء حتى أسبوع إلى عشر أيام، يجلس بلا ماء ممكن، ولكن بعدها يعطش ويشرب حوض كامل، قالوا هؤلاء (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:54-55] الإبل العطاش، اللهم أجرنا من عذابك.
قال: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44))، الأثيم: كثير الإثم والزلل، المجرم الأثيم. الأثيم: فعيل في البالغة، يعني: متوالي الآثام كثير الذنوب والسيئات، ذنب بعد ذنب، ذنب بعد ذنب، لا يتوب ولا يقلع ولا يرجع، كل يوم ذنب، كل ليلة ذنب، وذنب فوق ذنب.
طعام الأثيم كمثل أبي جهل، هذا الطعام (كَالْمُهْلِ ..(45))، المُهل: ما يصب مما يغلي من الصُّفُر، ومن الذهب، ومن الفضة، أو من دُرْدي الزيتون الذي يذوب منه بالنار، يصب، هذا مهل. (كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ..) وفي قراءة: (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) يعني: وسط البطن وبعده يفوُر، تجده في ذا إناء من خزف تخرجه من فوق النار، وبعده يفور، يفور، يفور، يبقى مدٍ، وهذا يدخل لبطنهم، وهذه يفور داخل وسط البطن، يا الله! يغلي (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)) من شدة الحرارة، إذا قُرِّب من وجه أحدهم شواه، وخرجت فروة رأسه لما يقرب منه ويشربه -لا إله إلا الله-.
ولما ذكروا هذا المذاب من النحاس أو من الذهب والفضة أو من دردي الزيتون -ما رسب أسفل العَسَل والزيت-؛ لما يُفور ويُغلى، يقول: من يستطيع أن يأكل هذا؟ فكيف من طعامه هذا؟ هذا الطعام له طول الوقت. اللهم أجرنا من النار.
قال تعالى: (طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)) الماء المفوّر وسط البطن داخله تطلع هكذا، يا لطيف -اللهم أجرنا- (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)) ما الذي يقال عنه؟ كان رئيس.. ما أعرف ماذا؟ كان قائد… ما أعرف ماذا؟ كان مفكر.. ما أعرف ماذا؟ كان العبقري.. ما أعرف ماذا؟ قال: (خُذُوهُ..) يأمر الله من يأمر من الملائكة الآمرين لخزنة جهنم، (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ..(47)) اعتلوه هذا. العتل: الأخذ بقوة وشدة والدفع بشدة، والأخذ بمجامع الثياب التي على الرقبة والدفع بقوة هذا هو العتل، (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) كما يفعل بالمجرمين هكذا.
(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)) إلى وسط النّار، (إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)) هذا الحميم الذي يغلي، ومنه القيح والصديد الذي يخرج من فروج الزناة والزانيات؛ لأنّهم لمّا عصوا الله تعالى بفروجهم تلبيةً لدعوة الشهوات المنحطّة المنقضية، وخالفوا أمره وانتهكوا الأعراض، يسيل منهم كما كانوا يسيّلون منها النطف في غير محلها، والمنيّ في غير محله، فيسيل منها القيح والصديد، يؤلمهم ويؤذيهم ريحهم، ويتجمع في مكان في النار يغلي ويأخذون منه يسقونهم، ويسقون الأثيم في النّار، -اللهم أجرنا من عذابك-، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر25-26].
من يتكبر على الجبار الأعلى الخالق المصور البارىء الذي خلقه من عدم وأعطاه سمع وبصر ويقوم يتكبر؟ هذا إنسان لئيم! (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس:17-19]، (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ..) -ويأتي يجادل الأنبياء في الأمور الواضحة الجلية- (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ..)، نسي كيف خلقناه؛ ما أدري أين عقله؟ عقله راح، نسي من أين جاء؟ ويقول: ( مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) من الذي خلقها أول مرة؟ أنت العظام هذا حقك كيف جاءها؟ هاا… إعقل؟ كيف جاءت العظام هذه حقك أنت؟ هوووووووو؟ هل ليست من خزانتك أو خزائن جماعتك؟ من أين جاءت العظام؟ ونسي خلقه (قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ من أين رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:77-79] -جلَّ جلالهُ-.
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذَّكَّرُ..)، وفي قراءة: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا *) [مريم:66-67]، وما في الرجعة كما الجيئة، كيف جئت؟ الذي جابك يردك انتهت المسألة، لا يوجد فيها أي استغراب عند العاقل، الله أكبر.
قال: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48))؛ (سَوَاءِ الْجَحِيمِ): وسطها ومعظمها. (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48))، الْحَمِيمِ: وهو من الأسماء التي تُطلق على النار، وإن كان مُخصّص بطبقة من طبقاتها يُقال لها الجحيم، لكن كما قد تُسمى الكل بإسم البعض؛ فأدناها منزلة هذه الأقلها النار التي يُحبس فيها عصاة الموحدين من مات وفي قلبه شيء من الإيمان وعاصي؛ يُحبسون فيها على قدر الذنوب التي لم يعفوا الله عنهم فيها، ولم يُقبل لهم فيها شفاعة؛ ثمّ يخرجون منها وتبقى الباقية:
فهذه الطبقات ست توصد عليهم وما يخرجون منها أبداً، (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) [الهمزة:8-9]، يقول: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ) [المائدة:37] من النّار.
(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48))؛ وقد كان أحد هؤلاء الآثمين أبو جهل يسمي نفسه العزيز الكريم، يقول: أنا العزيز الكريم في قومي .. الكريم، فكلّما صبّوا فوقه الحميم؛ وحشَوا بطنه من هذا الزقوم؛ وأشربوه من هذا المهل؛ يقولون له:
كنت تعادي الأنبياء وتقول: أنا العزيز الكريم! خُذ ياعزيز يا كريم، هذا الكرامة والعزة حقك هي غاية المهانة وغاية الذّل، وغاية الخزي، انظر العزة حقك والكرامة! العزّة والكرامة لو تبعت الأنبياء؛ العزة والكرامة لو تبعت رسل خالقك -جل جلاله وتعالى في علاه-، أمّا أنت لا عزة ولا كرامة معك، معك همهمة وكلام فارغة ومظاهر زائلة وخلاص والعذاب وراءك. -والعياذ بالله تعالى-.
(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ*) [الشعراء:205-207]. ماذا أفادهم هذا؟ ماذا نفعهم هذه المتعة؟ سنين (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) هل شيء نفع فرعون من يوم الموت إلى الساعة التي نتكلم الآن فيها؟ هل شيء نفعه من ملكه؟ هل شيء نفعهم من غطرسته شيء؟ هل شيء نفعه من نفوذ حكمه شيء؟ . وقالوا له المؤمنون من السّحرة بعدما آمنوا قالوا: (إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) تقضي قليل مدة بقاءك في الدنيا وغيره ما تقدر تقضي؛ ما تقضي في البرزخ؛ ولا تقضي في الآخرة؛ ما معك حكم، الحكم بيد واحد فوقنا وفوقك -جل جلاله- (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *) [طه:72]، وصلح الذي في رأسك حكم من الأحكام؛ وصلَّح حكم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الاعراف:124]؛ ولا قتَّل ولا صلَّب هو غرق، هذا حكمه لكن حكم الله هو يغرق وهم ينجون؛ فبطل حكمه ونفذ حكم الله؛ ما نفذ إلا حكم الله، وحكمه بطل.
قال: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49))؛ يقول الله: (إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ ..) هذا الذي كنتم تشكون فيه يا معشر الفجار! يا معشر الكفار! تستهزئون بالأنبياء، تستهزئون بالصالحين، ومن يخوفكم من عذابنا، (إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50)) تشكون فيه، كلما جاءت فطركم لتؤمن بدواعي ما فطرناكم عليها تصرفونها بشهواتكم وأهواؤكم، و(تَمْتَرُونَ) ترجعون للشك، وتأبون أن تأخذوا الأمر اليقيني باليقين.
(إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50)):
يدخلونهم إلى النار يقولون (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا..)؟ هو سحر هذا؟ الآن أنتم تحترقون صدق (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:15-16].
يقول: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50))، وخذ خبر الفريق الثاني الطيب -الله يجعلنا منهم- (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51))
(فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) مكان إقامة مكان يقومون فيه على طول:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51))، وهناك يأتيهم الموت من كل مكان؛ والعقارب والحيات والحميم والزقوم، وفوق رأسه ومقامع من حديد عندهم، وهذا (مَقَامٍ أَمِينٍ) الفرق والفرق! (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20]، اللهم اجعلنا من أصحاب الجنّة نسألك لنا ولجمعنا ومن يسمعنا والمؤمنين رضاك والجنة، رضاك والجنة، رضاك والجنة، نعوذ بك من سخطك والنار نعوذ بك من سخطك والنار، نعوذ بك من سخطك والنار، اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب، اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب، اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب.
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء:101-102]. آمين، اللهم آمين، آمين، اللهم آمين، وجميع أهلينا، وجميع أولادنا، وجميع طلابنا، وجميع قرابتنا، وجميع جيراننا، وجميع أصحابنا وجميع ذوي الحقوق علينا.. آمين.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51))، محل رضوان ربهم، محل قُربه، محل مرافقة أنبياؤه، محل يتلقون السلام فيه، في كل يوم سلام؛ سلام يأتيهم من:
يقول: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان:75]، (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ *) [الرعد:23-24] ، (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ )[يس:58]، (مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) ما لذة واحد وسروره والسلام جاؤه من عند الرحمن؟ (مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) -الله أكبر-، لو واحد يعز عليك وجاء من عنده واحد قال لك فلان ذكرك، والسلام عليك، كيف تنتشي وتفرح! هذا (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) هنيئاً لهم، هنيئاً لهم. ويأتيه ملك يحمل له كتاب، هذا كتاب من ربك يقرؤك السلام، يا الله! اجعلنا من أهل جنتك، وفي الفردوس الأعلى،
يا رب واجمعنا وأحباباً لنـــــا *** في دارك الفردوس أطيب موضع
فضلاً وإحساناً ومنا منك يا *** ذا الجود والفضل الأتم الأوسع
يقول: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ ..(52)) بساتين.. أشجارها عجيبة وبديعة، وجذوعها شيء ذهب، شيء فضة، شيء زمرد، شيء ياقوت شيء جواهر، لا يوجد خشب من هذا، ولا يوجد فيه شوك، ولا يوجد فيه أذى، ثمرها قريب طيب حيث ما يخطر بخاطرك ينقلب لك كذا وكذا، لا تضع يدك على الثمر إلاّ خرجت من نفسها، ولا تقربها إلاّ انفتحت من نفسها، ولا تضعها في فمك إلاّ ذابت من نفسها، لا يوجد تعب حتى في المضغ.
يقول لك: أنت في دار ضيافتي، لكل لقمه طعم أولها وطعم وسطها وطعم آخرها، كل طعم أحسن من الذي قبله ولا يمسح الذي قبله حتى يطعم في الوقت الواحد سبعين طعم إلى سبعمائة في الوقت الواحد، في الدَّنيا إذا شي عجبك طعم، ثم جاء طعم ثاني بعده ذهب ذاك، يروح، لكنْ هذا يبقى معك، طعمُهُ الأول والثاني والثالث يبقى معك، كل طعم يبقى مِقدار سبعين سنة، كل طعم يبقى مقدار سبعين سنة، يا الله.. سبعين سنة وأنت تَذوق الحلىٰ هذا وهذا وهذا، نَعيم؛ نَعيم؛ كما سماه الله شيء لائق بعظمته سبحانه وتعالى.
يقول: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)) تجري وأنهار من لبن وخمر وماء وعسل، لا يوجد فيه غش ولا مشاكل، ما هي المشاكل في الدُّنيا؟
(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ ..(53)) -رقيق الحرير- (وَإِسْتَبْرَقٍ..) غليظ الحرير. إستبرق: لقوة لمعانه يبرق وسمِّي استبرق، وسندس: رقيق الحرير، فجيء بطانة له من الإستبرق وسندس من فوق، حتى أنَّ الحورية في الجنة تلبس سبعين حُلَّة تُرى كل حلَّة، ويُرى من وراء الحُلَّل مُخ سَاقها، يرى من وراء الحلل كلها؛ ترى مناظر غريبة عجيبة.
قال: (مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53)) أولئك الجماعة يلعن بعضهم بعضهم في النارهنا، وهؤلاء:
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ -يعني: في الدنيا- فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ كنا -خايفين من الله لهذا أَمننا- (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-28]، ندعوه .. ندعوه .. ندعوه وفينا مستجاب الدعوة وفينا ملائكة؛ وقع قبول ودَّخلنا الجنة، تذكروا خوفهم في الدنيا ودعائهم لله سببين يتذكرونها. يقولُ: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ..) [الطور:26-28]، خوفهم من الله والدعاء؛ أقوى أسبب دخولهم إلى الجنة: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:28]، (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [طه:27].
قال: (يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54))؛
(كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54))؛
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ) -أنواع ما تشتهي الأنّفس وتَلذ الأعين، كل فاكهة!-
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)) آمنين؛ حتى من نقص الفاكهة كُلْ ولا شيء ينقص، ما تأخذ فاكهة إلا نبت محلها أحسن منها على طول، ما شي ينقص أصلاً أمان عجيب وأمنْ عظيم بديع.. يا رب اجعلنا من أهل الجنة.
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ) -يعني: ينادون- (بِكُلِّ فَاكِهَةٍآمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ..(56)) كفاهم خلاص، قد أماتهم وخرج أرواحهم من الدنيا لكي ينتقلوا للبرزخ ولا يوجد موت بعده؛ (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) أمَّا ذولاك.. غصصّ .. غصصّ، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ) [إبراهيم:17] في النار، أمَّا هؤلاء (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ..(56)) وخلاص قد مرت عليهم.
(وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)) والعجيب حتى هذه الموتة الأولى آلامها وأتعابها ما يُحس بها مَن قد أمات في الحياة نفسَه من أجل ربه وخالف شهواتها وقتلها؛ أمات نفسه من أجل الله خلاص يحيا قلبه حياة أبديه، حتى بعد ذلك غصص الموت ما عاد حوله منها ولا عاد يحس بشيء من آلام الموت بل مجرد انتقال ..لا إله إلا الله.
(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ..(57)) -ونِعم المتفضل، ونعم المتفضل ربنا- (ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57))؛ فلا أحد يضحك علينا يقول: تفوزون تفوزون، أردتوا تتفوزون؟ أنا إن دخلت الجنة فائز، والله إذا قَطعت أنا عن الجنة ما عندي فوز، ولو أعطيتني الدنيا من طرفها لطرفها ما في أفوز (ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57))؛ (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185].
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ) هذا الذكر وهذا الوحي وهذا القرآن (بِلِسَانِكَ ..(57)) يا محمد؛ لسانك العربي وبلسانك النبوي؛ حتى تجلي لهم عرائس معاني خطابنا وكلامنا لما يسمعوه (بِلِسَانِكَ). حتى يقول بعض أرباب الذوق والمعرفة: من عظمة كلام الله لو لم تَنطق به لسان عبده ونبيه ما استطعت لسانٌ من الخلق أن تنطق به لعظمته ولكن يُسِّر بهذا اللسان. أكرمنا الله بلسان مُحمد تَلَّت فقدرنا أن نتلو من ورائه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (57)):
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (57) فَارْتَقِبْ ..(58)) من سَبقت له السعادة سيؤمن بك ويتبعك ويدخل الجنة، ومن أصرّ وكابَر؛ فلا بد أن يُهزم في الدنيا ويدخل النار في الآخرة والعياذ بالله.
(فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (58))، هم أنفسُهم مهما خططوا وقالوا لن يكون لهم في الدنيا ولا في الآخرة إلا ما قدّرتْ. وقد أوحيت إليك ما سأعمل بالعصاة والكفار في الآخرة فلن يجدوا غيره، وما أفعل بالمؤمنين والصادقين ومَن عمل من أجلي فلا يجدون غيره، فما معك ولا معهم إلا ترتقبوا هذا الأمر الضروري المفروض على كلٍّ منكم.
(فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (58))، (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) [يونس:102]، ما يأتي إلا ما قال الله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، أي واحد يريد أن يحصل في الوجود غير هذا ما يقدر عليه، حكم من فوق! عاندت، أبيت، تكبّرت، روح.. لن يكون إلا هو هذا، فارتقب نحن مرتقبين معك، كلنا منتظرين حكم من القهّار وأمر، ويا فوز المؤمنين الطائعين، ويا خيبة الكفّار والعصاة المصرّين على الكفر والإثم، ويا خيبة كل أفّاكٍ أثيم، ولهم (..شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44))، والعياذ بالله. اللهم ارحمنا بالرحمة الواسعة واجعلنا من أهل جناتك الرافعة. آمين.
وانتهت بنا السورة إلى السُّورة التي قبلها سورة الزخرف، تكون في ختام أيام رمضان، بارك الله لنا في خاتمته، "ولو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان"، ولكنها أيام معدودات، وصلنا فيها إلى الأواخر النهايات، فالله يقبلنا، الله يقبلنا، ويقبل بوجهه الكريم علينا.
الله يدخلنا في رضوانه، الله يدخلنا في أمانه، الله يجعلنا من الآمنين من الهول العظيم ومن بلاء الدنيا والآخرة، ومن عذاب الدنيا والآخرة، ويربطنا بسيد أهل الدنيا والآخرة، ونحشر في زمرته الطَّاهرة، اللهم لا خلفتنا عنهم، ولا خلفت أحدا من أهل جمعنا ومن يسمعنا ومن يوالينا فيك وأهالينا وقراباتنا وذوي الحوق علينا يا رب العالمين.
نسألك وندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا إنك لا تخلف الميعاد، وأجمعنا في زمرة خير العباد، وأنت راض عنَّا يا كريم يا جواد.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
26 رَمضان 1445