(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الثاني من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الدخان، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)}
الثلاثاء 23 رمضان 1445هـ
الحمدلله مُكرمنا بالتنزيل على قلب عبده وحبيبه محمّد المصطفى الجليل، وإيصال ذلك إلينا بخير توصيل. اللهم لك الحمد على ما مننت فأتمِم نعمتك علينا، وصلِّ وسلم في كل لحظةٍ وحينٍ وآنٍ ونفسٍ على عبدك الهادي إليك والدالِّ عليك، معلّمنا ومرشدنا وهادينا حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، أبي القاسم أبي الزهراء البتول الطاهرة وأبي إبراهيم، اللهم أدِم صلواتك والتسليم عليه في كل شأنٍ وحالٍ وحين، وعلى جميع آله وأهل بيته وصحابته الغرّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسانٍ اليوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الفضل المبين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،،،
فإننا في نعمة تأمّلنا لخطاب ربنا وتعليمه وتوجيهه -سبحانه وتعالى- وكلامه؛ الذي أوحاه إلى عبد وحبيبه خاتم النبيين، مررنا على أوائل آيات سورة الدخان، حتى انتهينا إلى قوله جل جلاله:
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)) مع وجود الآيات البيّنات والكتاب المبين المنزَل في الليلة المباركة، ووجود الرحمة الربانية والآيات الكونية والآيات القرآنية، ومع ذلك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9))؛ وقد قال -سبحانه وتعالى-:
فمصيبة الناس لهو القلوب عن ما هُيأ لها أن تسمعه وأن تبصره بوضوح؛ فتهتدي به إلى الحق الصريح، وتدرك به حكمة الخلق والإيجاد، وتنظر به واسع الإفضال والإمداد من قِبل الموجِد رب العباد، وتوقن أنها راجعةٌ إليهِ فإليه المعاد، وأنه حاكم بين العباد في جميع ما اختفلوا فيه، حتى يستقر كل منهم:
كانت هذه الحقائق يمكن أن تتوضح لهم تمامًا لو أحسنوا استعمال عقولهم وقلوبهم على وجهها الطيّب، ولكن لهو قلوبهم بما طُرح بين أيديهم اختبارًا لهم، من زهرة الدنيا وفتنتها وسلطتها ومالها وجاهها والشهرة فيها وما إلى ذلك، أخذهم فأسكرهم حتى ما كأنهم يسمعون؛ ولا كأنهم يبصرون؛ ويردّون على الأنبياء والمرسلين بما جاءوا به من حُجج واضحة. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) -بينهم البين يتكلمون خفي عن غيرهم- (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ) [الانبياء:3]، وهم يعلمون -الذين أتاهم سيدنا محمد- أن جميع الرسل من قبله كانوا بشر! وكل من قال لرسوله أنت بشر هو يعلم من أول أن الوحي الرباني لهداية الخلق إنما ينزل على بشر، أولهم أبوهم آدم، فالذي علم أولاده هو آدم، أولاده الذين من صلبه، وهو من عند الله تعالى: (..فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123] وعلم هو أولاده. هل من أحد في تاريخ البشر جاء رسول من عند الله غير بشر؟ ما حصل أصلاً! (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) [الإسراء:95]، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا) [الإسراء:94]؛ ولكنه العناد والسُكر؛ السُكر بهذا الزخرف وهذا الزهو الحقير الفاني لزهرة الحياة الدنيا التي صارت أسحر من هاروت وماروت!
يقول: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9))، والشك مصدره أنهم لم يُقبِلوا، ولم ينصتوا، ولم يُحسنوا استعمال القوى التي أوتوها من العقل والقلب؛ وإلا لزال الشك وذهب، وفطرة كل إنسان تساعده على أن يؤمن بإلهه الرحمن؛ لأنها (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم:30] -جل جلاله- ومع ذلك فإن سُكرَ عقل الإنسان بالمتاع الفاني يلهيه عن كل حق وعن كل صدق وعن كل حجة وعن كل برهان -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9))، ولمّا أبطأوا في الإجابة مع الصبر الكبير منه ﷺ، قال: "اللهم أعنِّي عليهم بسبع سنين كسِنِّي يوسف"، السبع العجاف؛ فقحطوا؛ فتعبوا؛ واشتدّ بهم الجوع: حتى كان أحدهم ما ينظر بينه وبين السماء إلا هيئة دخان كبير من شدة الجوع، ثم جاء أبو سفيان إلى عند النبي قال له: يا محمد أنت بعثت بصِلة الرحم استسقِ لقومك، قومك مضر وقريش مسنتين تعبانين؛ فاستسقى لهم ﷺ فسقاهم الله؛ وكانوا قالوا له: إن ارتفعت هذه المحنة نؤمن بك؛ سقاهم الله وعادوا إلى كفرهم واستمروا في طغيانهم وعنادهم.
قال تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10)) واضح أمام أعينهم دخان من شدة ما بهم من جهد وجوع، ما يرون بينهم بين السماء إلا دخان (يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)) معجّل؛ هو لمن لم يعتبر ويدّكر مقدمةٌ للعذاب الأجلْ الآلم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ الأشد ألمًا وهو عذاب الآخرة؛ على حد قوله: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) [السجدة:21]؛ فهذه الشدة والألم الذي فيها هي أصغر بالنسبة لعذاب الآخرة -ذاك الأكبر- هذا هو العذاب الأدنى؛ جميع شدائد الدنيا من أولها إلى آخرة هي بالنسبة لعذاب البرزخ والآخرة عذابٌ أدنى، جميع شدائد الدنيا عذابٌ أدنى، ليس في الدنيا عذاب أكبر إذا قسناه بذاك العذاب لا شيء؛ كل أنواع التعذيب الذي فيها ما يساوي شيء! (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26].
إنما جعل الله أصناف هذا العذاب وألوانها في الدنيا تذكرة وعبرة، حتى النار نفسها خلقها لنا في الدنيا، وجعل فيها مصالح لنا، ولابدّ من اتصالنا بها لطبخنا وطعامنا وغير ذلك، يقول: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَة..)، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَة..) [الواقعة:71-73] تذكركم بنار الآخرة، هناك نار قدّامكم (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَة وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِين) للمسافرين منكم، وتقضون بها أغراض في الدنيا لأنكم تحتاجون إليها لأنكم لابد أن تتصلون بها حتى تتذكروا النار الأخرى، هذه حِكَم خلق الخلق (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ) [الوقعة:73].
يقول: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ ..(11)) من شدة الجوع، هيئة الدخان بينهم وبين السماء (رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ ..(12)) يقولون.. ويأتون إلى عند نبيّنا ويقولون: ادع ربك، كما كان قوم فرعون إذا اشتد عليهم البلاء جاءوا إلى عند موسى: (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) -يكشف الرجز- (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) [الأعراف:134-135]؛ هذه طبيعة الإنسان؛ إذا لم يتهذب بنور الوحي والنبوة؛ لا الحيوانات ولا غيرها هو أخسّها هو أقل وأسوأ! إلا إذا تهذب فهو في أحسن تقويم، وهو مكرم من قِبل العلي العظيم جل جلاله، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين:4-5]، إذا لم يتهذّب ولم يتأدب (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).
يقول: (رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12))، وأوحى الله إلى نبيه أنّا سنكشف عنهم هذا العذاب ولكن لن يؤمنوا بك؛ (أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ..) -أنّى يتذكر هؤلاء القوم- (..وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13)) واضح الصدق، ظاهر الأمانة، صدوق، ما عرفوا أصدق منه في حياتهم كلها، في حياتهم ما رأوا أصدق منه، من أيام صباه وصغره، حتى اشتهر بينهم بالصادق الأمين، وكانوا يسمونه الأمين، ويسمونه الصادق من أيام نشأته وأيام شبابه، والآن بعد الأربعين سيكذب؟! ويترك الكذب على الخلق ويرجع يكذب على الله تعالى؟! هذا كلام!!
(أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ..) كيف يتّعظ هؤلاء؟ بأي آية؟ وبأي سبب؟ وقدّامهم الآية الكبرى! (..وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ ..(13) خَتَم الرّسُل، وسادَ الرّسُل، وأمَّ الرّسُل، بيِّن صدقه، بيِّن أمانته، بيِّن سلوكه الحسن الجميل. بعد هذا الوضوح كله؛ من نظر في وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب، بمجرّد ما تقع العين على الوجه تُجلّ هذا الوجه، أوجَه وجه لدى الرحمن.
(أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ ..(14)) إنا ما ندري مَن مِن البشر يجيء له بهذا الكلام: (..وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)) ومجنون أيضًا؟! بعد الأخلاق كلها والمعاملة الطويلة أربعين سنة.. ومجنون؟ المجنون من يَصِفه بالجنون! (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:2-3]. ﷺ، كيف خُلُق عظيم وجنون؟ هذه كيف تركب؟ من أين تجيء؟! مجرّد الخُلق فكيف إذا كان عظيم؟! مجرد الخلق ما يقوم إلا بحسن النظر في استقبال أحداث الحياة وحسن التعامل معها، وعي كامل، فكيف خُلُق عظيم وجنون فيه؟! ما يتأتى هذا! كلام مناقض للواقع والحقيقة.
(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ..(14)) أعرضوا عنه ﷺ، ومع ذلك أول ما أشهر الدعوة بينهم، نادى على جبل الصفا؛ استخدم أقوى وسيلة إعلامية كانت في ذاك الوقت؛ إذا أحد عنده خبر مهم يطلع على جبل الصفا وينادي، ويتجمع الناس. فطلع على جبل الصفا ونادى: واصباحاه! قالوا: الأمين ينادي! وجاءوا كلهم، هذا الأمين هل من خبر معه؟ خبر سيكون عظيم مهم، حتى من لم يستطع أن يحضر تلك الساعة أرسل أحد من أولاده وأصحابه وقال: اذهب وانظر ماذا يقول؟! فتجمّعوا، فلما اجتمعوا قال لهم: "ما تقولون لو أنّي قلت لكم إنّ وراء هذا الجبل جيش مُصبّحكم أو مُمسّيكم أكنتم مصدقيّ؟"، كلهم صاحوا: "نعم نصدقك، ما جرّبنا عليك كذبًا قط"، أصلًا ما كذبت طول عمرك، أقام الحجّة عليهم، نعم نصدقك والله، قال: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم، ولو غششت الناس جميعًا ما غششتكم، وانّ الله بعثني إليكم رسولًا لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتُبعثنّ كما تستيقظون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا"؛ سكتوا ونكسوا رؤوسهم، وقام أبو لهب يقول له: "تبًا لك ألهذا جمعتنا؟"، ما أحد أجاب عليه جواب قبيح إلا هذا عمه أبو لهب، وانصرفوا.
فشى ذكر الإسلام في مكة وهم يعلمون أنه أمين أمين، هم يعلمون ذلك! ولكن جاءت شهواتهم ونفوسهم وأهوائهم وعبادتهم للأصنام، وتصدّى أولئك الكفار: (أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)) -لا إله إلا الله- (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ..) -الذي يقولون أنه يُعَلِّمُهُ- (…أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل:103]، كيف يستقيم الأمر؟! يتّهمونه بواحد أعجمي، وهو يأتي لكم بأبلغ ما يكون في لغتكم بحيث يعجز بلغاؤكم وفصحائكم أن يأتوا بمثله، كيف تركب ذي في العقل؟ (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفرقان:5].
(..وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14))، قال الله لحبيبه: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ..(15) في مدة سنكشف عنهم هذا العذاب، ونواصل لهم رزقنا، وترتفع الشدة عنهم (.. إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)) وسيرجعون.. ولن يؤمنوا ولن يصدقوك (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)) إلى الكفر، وكذلك عائدون -والعياذ بالله تبارك وتعالى- الى العذاب الإكبر؛ إلى النار عائدون، وعودهم إليه، ومرجعهم إليه -جلّ جلاله-.
قال: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ ..(16)) علمنا هذا الدخان، وإن كان هناك دخان يأتي قبل قيام الساعة أو عند قيام الساعة؛ نعم وردت فيه أحاديث، لكن ليس هذا المراد..
فهناك دخان وهو من آيات الساعة الكبرى، هذا الدخان عند قيام الساعة من أكبر العلامات الكبرى التي تأتي عند قيام الساعة، ينتشر الدخان:
لكن يكون في لطف المؤمنين، لا إله إلا الله! هذا من علامات الساعة.
ولكن القول الراجح أن المراد هنا بالدخان المبين: ما حصل لأهل مكة، عندما كذّبوا النبي ﷺ وأبطأوا، ثم كُشِف عنهم وعادوا، وجاءت البطشة الكبرى. البطشة الكبرى؛ مقدمتها من العذاب الأدنى ما كان لهم يوم بدر، وكانت بطشة كبرى لأن الذين قتلوا وهم أكبر صناديدهم، وأعظم عظماؤهم، السبعون الذين قتلوا فيهم هؤلاء الصناديد العظماء كلهم انتقلوا إلى نار موقدة، وعذابٍ برزخي متصل بعذاب القيامة متصل بدخول النار، فبطشة كبرى هذه، هذه بطشة كبرى! (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ ..(16)) وجاءوا الأكابر منهم، وأخزاهم الله في ذاك اليوم، فقُتل سبعون، وأُسِر سبعون، وجُرح الباقون، وفرّوا هاربين، منهم نساؤهم وجواريهم، وهربوا، وقد قُتل سبعون، وأُسر سبعون، وأقام ﷺ ثلاثة أيام بعد انتهاء المعركة في بدر، الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين من رمضان، ثم في يوم الحادي والعشرين عاد إلى المدينة المنورة ﷺ. وقد قُتِل زعماء قريش الكبار، أئمة الكفر في ذاك الوقت، فكان يوم الفرقان: فَرَق بين الحق والباطل، كما سمّاه الله -سبحانه وتعالى- (..إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..) [الأنفال:41].
(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)):
(..إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16))، (..إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [ابراهيم:47] فأين يذهب عن نقمة هؤلاء المعاندون المعادون في أي وقت كانوا؟! في أي زمان كانوا؟! في أي مكان كانوا؟! لا فرق بين كفار زماننا ولا من قبلهم ولا من يأتي بعدهم من الكفرة. كل من بلغته الدعوة وعاند واستكبر وطغى وجنّد قواته لمضادّة وحي الله وتنزيله وما بعث به نبيه؛ فهو مصيره أن يكون عبرة:
يقول: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ..(17))؛ أمثلة مضت في العالم كثيرة، ومن أبرزها قوم فرعون، (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) -اختبرناهم- (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17))؛ كريم على الله، كريم في قومه، كريم في خُلُقه ومعاملته، سيدنا موسى بن عمران على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام رسول كريم، كريم على الله، كريم في قومه، كريم في صفحه ومعاملته وأخلاقه، موسى كريم. (..وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)) وإذ قال ﷺ في جد موسى؛ سيدنا يوسف: "الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحاقَ بنِ إبْراهِيمَ"؛ نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، صلوات الله عليهم.
قال: (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ..(18)) سلِّموهم لا تعذبوهم، لا تؤذوا الناس بغير حق، (أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ..) بني إسرائيل هؤلاء الذين تُقَتِّلونهم، وتستخِفُّون بهم، وتسخِّرونهم لحاجاتكم (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) -مِن عند الله- (أَمِينٌ (18)) على الرسالة (..إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ..) تتعالوا وتتكبروا على خالقكم؛ اغترارًا بما سخَّر لكم وآتاكم ليختبركم؛ (..إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19)) بحجة واضحة، بدليل قوي، ومنها:
(إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19))، قالوا: سنقتل ونعمل.. قال: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ..) -التجأتُ وتحفَّظتُ- (..بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20)) -أن تقتلوني- (وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي..) -ما صدَّقتم بما جئتُ به- (فَاعْتَزِلُونِ (21))؛ اتركوا للناس حرّيتهم! هذه الحجج واضحة، وإذا أنتم ما اقتنعتم فأنا ما جئتُ من أجل قتلكم ولا أذاكم؛ جئت من أجل إنقاذكم: (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ) [النازعات: 18-19]؛ هذه مهمة الأنبياء! لكن أقوامهم يقاتلونهم فيردُّون عليهم، ويظلمون، ويصدُّون، ويعاندون فيردّون عليهم.
(وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)) اتركوني أُبَلِّغ رسالة ربي، من اهتدى بسَنَاها الواضح، ونورها الساطع يهتدي، اتركوا للناس حريتهم، أنا لن أقتّل أحد منكم، ولن أقول لك اخرج من مُلكك، مالي غرض في هذا! (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ) [النازعات: 18-25] دنيا وآخرة وانتهت، ماعاد بقي له شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة.
(وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22)) مكابرون، معاندون.. الآيات أمامهم، والعلامات، والاختبارات واحد بعد الثاني، ويُرفع الرجز عنهم ويرجعون! (أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22)). قال الله تعالى، أوحى إلى عبده موسى: مصيرهم كما من قبلهم، ولا تنزعج منهم، ولا تخف. ولمَّا جاء الوقت قال: أسرِ بعبادي في الليل، أسرِ أنت وجماعتك (إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23)) سيَجيئون وراكم يتبعونكم. يعني؛ يقول الله: أن لي خطة من وراء عقولهم يخبر سيدنا موسى عنها، اخرج أنت وقومك وأسروا في الليل، فإن الجماعة، فرعون وقومه سيتبعونكم (..إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23))، وسأُحدِث لكم آية وأُسَكِّن لكم البحر وتمشون فيه، وإذا مشيتم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ..(24))، ساكناً كما هو، لماذا؟ لأن لي غرض أن أغرق هذا الجند بهذا البحر: (إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24)).
(فَأَسْرِ بِعِبَادِي ..(23)) أي: المؤمنين معك من آمن وصدَّق، نَسَبَهم إليه، وكل الخلق عبيده ولكن هؤلاء بإيمانهم وتصديقهم صارت لهم مكانة عند إلههم -جلّ جلاله- فأضافهم إليه تشريفًا. (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ..(24)) رَهْوًا أي: على سكونه ورهوه؛ فإنني سأُسَكِّن هذا الموج المضطرب المتحرّك السائل، وسأعيده إلى صلابة، صلب كأنه جبل: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24)).
كما قال في الآية الأخرى: (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) [الشعراء:60]، أول إشارة جاء الخبر عند فرعون؛ موسى هرب بالجماعة حقك، فزعوا منك وخافوا وراحوا؛ قال نحن وراهم! اجمعوا الجنود، جمَّع جمَّع الجنود، منهم ألوف، قال: وراهم سنمسكهم (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) -وقت الإشراق- (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ..) جماعة سيدنا موسى؛ المؤمنين هؤلاء ما عندهم أسلحة، ولا عندهم تدريبات عسكرية، ولا عندهم... وذاك جنود دولة كاملة وأمامهم فرعون؛ (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61]؛ الآن ستقع لنا مصيبة ولا أحد سينجو منا! لماذا؟ قالوا: البحر هنا والجيش هنا، هذا فرعون وقومه سيذبحونا ويقتلونا، وهنا بحر إن دخلنا سنغرق فيه! (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ) [الشعراء:61-62] ما معنى كلا يا موسى؟! (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي..)، قال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، هكذا الإيمان واليقين، (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء:63]، تعال عند البحر واضرب بالعصا، وهذه أمور غريبة وأسباب أيضًا، أرأيت ناس يضربون البحر؟! قال له: اضرب البحر! حتى تعرف أن مألوفاتك ومعتاداتك شيء، والقدرة فوق كل شيء! قال اضرب البحر، (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ) -اثنى عشر؛ لأن أتباعه اثنى عشر قبيلة- (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:63]، قال كل واحد كل قبيلة تدخل فيه، وتحولَتْ سيولة الماء الى صلابة الجبل -سبحان القادر- قال: (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ) [الشعراء:63-64]، ثم لمَّا دخلوا وصاحوا قالوا: يا موسى، نريد نطمئن على بعضنا، نشوف بعضنا البعض! فَتَح الله لهم كوَّات من الطريق ذا إلى الطريق ذا، وينظرون لبعض حتى وصلوا.
وصل فرعون والبحر قدّامه بهذه الصورة، وجاء في بعض الروايات قال: أنا.. أنا شققتُه لهم… أنا؟ أيش أنا؟! هيَّا ادخل بتشوف أنت اللي صلحته! ولكن هكذا يدَّعون، هكذا يدَّعون، كلهم الفراعنة هكذا يدَّعون. وأعلِمْهُم أني وراءهم، امشوا وراءهم نلحقهم ندركهم؛ دخل.. توسَّط البحر هو وقومه، ردَّ الله الماء إلى سيولته، فوقهم، وهو يطلع وينزل في الماء، فلمّا أدركه الغرق قال: آمنت آمنت آمنت، راحت الغطرسة كلها، راحت الكبرياء كلها، راح الغرور كله، راح العُجب كله، (..آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ..)؛ هو ذا ربهم رب أولئك، العظام التي وقعت سببهم في المصيبة، هو ربهم ما أحد رب ثاني، ما أحد إله ثاني، ( لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، قال الله: (آلْآنَ..)؟ -هل ينفع الآن إسلام- (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً..) [يونس:91-92]، فمات، وألقى البحر جثته إلى الساحل، وبقيت جثة فرعون وحنّطوها، وباقية إلى الآن في مصر مسكين! وهو في العذاب هذا جسده، ولكن روحه في العذاب، ويرى النار كل يوم، يقول سبحانه وتعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]، اللهم أجرنا من عذابك.
يقول: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24))؛ فكانت النتيجة: (كَمْ تَرَكُوا..) -بعد غرقهم- (مِن جَنَّاتٍ ..(25))، بساتين كثيرة معهم ومزارع لصغارهم ولكبارهم، ولأمرائهم، ولفرعون ولهامان ولقارون، ولوزراءهم؛ بساتين كثيرة في مصر، شيء في الفيوم، وشيء في القاهرة، وما حواليها.. لاإله إلا الله! يقول: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26))؛ أماكن حكم، ومنابر خطابة، مقامات لكن كلها ذهبت (كَمْ تَرَكُوا..) راحوا عنها وأخذها غيرهم، (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ) -نَعمَة: يعني لذائذ- (..كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)): يضحكون، يمرحون، يلعبون، ويتنعّمون لهم باللذائذ الحسية، أما نعيم الطمأنينة والسكون والإستقرار من بعد ما كذبوا موسى ما كان معهم شيء من هذا، كان معهم هذه اللذائذ الحسية فقط.
(وَنَعْمَةٍ ..) ما قال نِعمَة؛ نَعمَة.
فما كانوا في نِعمَة كانوا في نَعمَة، لذائذ عاقبتها غير محمودة؛ فما نفعتهم.
(وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ..(28)) أي: كذلك سُنَّتُنا في التعامل مع المعاندين والكافرين. (..وَأَوْرَثْنَاهَا..)؛ الجنات، والعيون، والزروع، والمقام الكريم، (..قَوْمًا آخَرِينَ (28))؛ بني إسرائيل، هم رجعوا وهم ملكوا هذه الأشياء كلها، فرجعت لهم وملكوها بعد ما كانوا مُهانين فيها وكانوا معذّبين، رجعوا هم ملَّاكها وقائمين عليها وانتهى، ودمرنا ما كان يصنعه، (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف:137] بماذا وصلوا لهذا؟ قال: (..بِمَا صَبَرُوا..)؛ إيمان ويقين وتقوى وعمل.. بهذا وصلوا، ما قال بتخطيط ولا بتدريب ولا بقومهم؛ (..بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف:137]، وذاك بماذا هَلَك؟ هَلَك فرعون وقومه: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 136]؛ هذا السبب القوي لهلاك فئات الكفر المعاندين: (..بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، هذا سبب هلاكهم، يتمادون يتمادون حتى يأتي "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، لا إله إلا الله!.
فالله يرزقنا إيمان ويقين، ويزيدنا إيمان في هذه الأيام المباركة المنيرة، ويرزقنا -سبحانه وتعالى- كمال اليقيم بما أوحى إلى قلب عبده سيد المرسلين، يا رب انظر إلى قلوبنا واحشُها بنور اليقين، وارزقنا المعرفة بك، وارزقنا القُرب منك، وارزقنا المحبة منك والمحبة لك، وارزقنا الرضا منك والرضا عنك يا ربنا، وضاعف لنا الهبات واجزل العطيات، واجعل حظنا من القرآن موَفَّرًا كبيرًا، وقِسمَنا منه جسيمًا كثيرًا، برحمتك يا أرحم الراحمين، اجعلنا عندك من أهل القرآن، وارحمنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، وامزج القرآن بلحومنا ودمائنا وأجزائنا وكليّاتنا يا حيّ يا قيوم يا رحمن، واجعله أمامنا يقودنا إلى جناتك، في الدنيا جنات المعرفة والقرب، وفي الآخرة جنات النظر إلى وجهك الكريم ومرافقة أنبيائك ورسلك، اللهم أكرمنا بذلك، اسلك بنا أشرف المسالك.
اللهم فرّج كروب هذه الأمة، واكشف الغمة عن جميع الأمة، وادفع البلايا والآفات والنقمة، وحوِّل الأحوال إلى إحسنها وأحِلَّ نقمتك بالمعاندين الظالمين المعتدين الغاصبين، ولا تبلّغهم مرادًا فينا ولا في أحدٍ من المسلمين، يا حيّ يا قيوم يا قويّ يا متين اكفِ شر الظالمين، وعاملنا بالفضل وما أنت له أهل برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
23 رَمضان 1445