(535)
(390)
(610)
(339)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن حفيظ للآيات الكريمة من قوله تعالى: { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً}، إلى آخر سورة الجن
﷽
(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الحمدلله الذي أكرمنا بأنوار الوحي العظيم وبَيَّن لنا المعاني على لسان رسوله الكريم، الهادي إلى الصراط، المستقيم عبده المصطفى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على منهاجه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل القدر الجليل الفخيم، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإننا في مواصلة تفضل الله علينا واستقبالنا لبدائع إفضاله وعجائب جوده ونواله في أن جعلنا من المسلمين والمؤمنين وأمة خاتم النبيين، نتأمل معاني الذِّكر الحكيم والقرآن العظيم، وهو أعلى وأجلّ ما استنار به قلبٌ وعقلٌ وبصيرة، ونحن وقد أدركنا بفضل الله وما آتانا من العافية والصحة والخير شهر رمضان ومَرّ علينا أكثرُ أكثرُه بلغنا أوله وبلغنا الآن آخره والله يُتمه علينا وعلى المؤمنين بالصلاح والفلاح وصلاح الأجساد والأرواح ونشر الخير في جميع النواح، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
وفيما بقي من الأيام المعدودات نتأمل من معاني الآيات وقد وصلنا في آيات سورة الجن إلى قوله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22))، أصلٌ من الأصول التي يَبتَني عليها الحق وشرائع الحق وملة الحق ودين الحق، أصل راسخ ثابت عند كل عاقل من الملائكة والإنس والجن من المؤمنين، لا يتزلزل ولا يتزعزع؛ الملجأ واحد ولا يُجير على الله أحد.
وأن كل ما يبدو لكل عاقل على ظهر الأرض من ترتيبات ربانيات بديعات في الأسباب الظاهريات:
فلما أعطى هذه الأشياء، وثبُت العطاء ورسخ، ظن الواهمون أنهم مستقلون وأنهم فعالون والفعَّال واحد، إن ربك (هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:13-16] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
ولمّا قال من قال من الكفار والمنافقين، للصحابة والنبي، يقولون على الذين قُتلوا في أُحد، يقولون:
(فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران:168]، هم لا يقدرون أن يَدَّعوا ذلك؛ لأن الحسّ يُكَذِّبهُم، هم يُدْرون بأنفسهم أنهم لابد أن يموتوا، وكيف تقول إذا أطعتنا لن تموت، وأنت بنفسك تموت؟! بدلا أن تدرأهُ عن غيرك، أدرأهُ عن نفسك أولا أنت؛ الموت.
فكيف القضية؟ القضية:
وهكذا -سبحان الله- مهما أردت أن تهرب منه؛ فإنك تمشي إلى الموقع الذي ستموت فيه، ويُذكر أنَّ سيدنا النبي سليمان كان عنده يوما سيدنا عزرائيل -عليه السلام- وعنده بعض أصحابه، وكان يُردِّد النظر في وجه الصاحب هذا..
ضحك سيدنا سليمان وقال: فزع منك وقال لي وأراد وطلب أن يُنقَل إلى الهند، البقعة (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران:154]، وهكذا.
أَخبَر بعض الأنبياء أو بعض أتباعهم -تاجر من التجار أو مَلِك- يقول له: أن الله تعالى قدّر أجلك أنت، على سبب شوكة تصيبك ثم يكون إثرها موتك، قال: شوكة!، بنى القصر المشيد وجلس فوق في القصر، ممنوع أحد يطلع إلا بتفتيش ولا يُقَرِّبون شيء -منه- ولا يظهر شوك ولا شيء من قريب أو من بعيد، -مسكين- هو لا يَقدِر يُقَدِم ولا يُؤَخِر.
وبعد يوم وهو مولَّع بِحُبّ الغنم والضأن منها، ورأى يوم من نافذته واحد من البياعين مار بكبش، أُعجب به كثير وقال: دع هذا يطلع، يقول: اطلع، طلعوه إلى عنده، قال: بكم تبيع هذا؟ تَبايَعوا وخرج، جاء يحمله ويمسك به؛ فإذا بشوكة عند ذيله دقت فيه؛ أخذ يصيح ثم مرض ومات بعدها، هو الَّذي طلب! قال: دعوه يطلع إلى هنا، دعوه يجيء إلى عندنا وراح يُقَلِب به مسكين فرحان به، يقول: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء:78]، لو قُدِّر عليك الموت في بطن أمك تموت في بطن أمك، حيثما أراد وحيثما كنت وأين ما كنت لا أحد يقدر يُقرّب ولا يُبَعّد: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
قال سيدنا علي: جاؤوا بحرس يحرسونه، قال: ممن تحرسونني؟ من أهل الأرض أم من أهل السماء؟! قالوا: تعلم إننا ما لنا سبيل على أهل السماء، بل من أهل الأرض، قال: فاذهبوا فإنه لا يحصل شيء من أهل الأرض حتى يتخلى حرس السماء، وإذا جاء الوقت المحدد يذهبون حرس السماء؛ وإلا ما يقدر أهل الأرض أن يصيبوا أحد حتى تأتي ساعته ويأتي وقته ويأتي -الله أكبر-
إذا جاءت الأقضية كان ما كان، يبيت ابن آدم في صحراء ملآنة بأنواع من الحيوانات والحشرات ولا يقدر شيء منها أن يؤذيه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله) [الرعد:11] يعني بأمر الله، فإذا جاء القضاء والقدر نزل، قال: الحية الفلانية في الساعة الفلانية ستأتي الى فلان فتُميته، تعالي يا حية -يا فلانة- بالضبط هي في وقتها وفي مكانها وتأتي وتلسعه، والملائكة لا يقدرون أن يتصرفوا في أمر من القاضي، صاحب القضاء؛ أن اتركوه، هذا القضاء، فيأتي أكبر منها وأقل منها لا يقدر عليه؛ إلا لمّا يأتِ وقت القضاء فإنه لا يحصل من أهل الأرض شيء حتى يتخلى حرس السماء.
يقول: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)) مآلا ولا مرجعًا ولا ملاذًا ولا ناصرًا ملتحد، لا أجد، فمآلي وملاذي إليه وجواري وحفظي منه -جلَّ جلاله-:
أما الضر والرَشَد ليس بيدي، هذا الذي أقدر أن أعمله معكم وهذا هو مظهر التجائي إليه واستنادي إليه واعتمادي عليه وبه يحفظني.
(إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23))، من يعص الله ورسوله، هذا متعدِي متجاوز الحدود، تجاوزت حدود الرب الّذي خلقك، والمصطفى الّذي أرسله لك، قل له: اذهب أعصِ الدول، أو اعصِ الأمراء، أو اعصِ رؤساء الأقسام، أو اعصِ المديرين، لا تعص رب العالمين فوق، قفْزة إلى فوق!
تعصي الله تعالى وسيد المرسلين -خاتم النبيين- تعصيهم وتريد بعد ذلك جنة! (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) -اللهم أجرنا من النار- (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)) وما هم بخارجين من النار، (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [هود:106-107].
(فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23))؛ والتحديات هذه والكلام الكثير والتصورات الغريبة والإدّعاءات إلى متى هذا؟
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24))، من أضعف ناصرا، أي من الذي نصيره ضعيف ولا ناصر له، من أقل عددا أي: جند ونصرة، من؟! من الذي جنده أقل، والذي نُصرته أقل من؟!
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24))، وعندها تذهب كل هذه الأوهام، أما سمعت فرعون وكلامه:
بعد قليل وعند الغرق: (آمَنتُ)، (آمَنتُ) [يونس:90]، آمنت؛ ذهب الوهم هذا كله، ذهبت الغطرسة، ذهبت الكبرياء، ذهب التعدي، ذهب التحدي. أنت قبل أيام كنت تقول لما قالوا لك:
مثل أكثر الكلام الدائر اليوم في العالم، هو بالنسبة لكل فرد منهم، من عند الموت يذهب؛ يعرف أنه خيال باطل؛ لا رئيس كوريا ولا رئيس أمريكا ولا رئيس شرق ولا رئيس غرب؛ كلهم يعرفوا أن كل الذي معهم والذي يتشبثون به يذهب ويختفي من عند الموت هذا على سبيل الأفراد.
في الجمع لما نجتمع كلنا، نعرف أن القوة كانت لواحد والعظمة لواحد والمُلك لواحد؛ سمعت؟ يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ [غافر:16] -الله أكبر-
وهكذا (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؛ الحق يقول: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت:15-16].
سبحان مُهلِك عاد، سبحان مُهلِك فرعون، سبحان مُهلِك النمرود، سبحان مهلِك الألوف والملايين من الفجرة والكفرة والطغاة -أفراد وجماعات- في مختلف الأوقات وفي مختلف الأماكن! ما لنا نتعامى عن عظمته وجلاله وكبريائه؟! والكل مقهور تحت حكمه؛ خَرِّج هَيبة من سواه من بالك وعقلك؛ فهو الذي يُهاب وهو الذي منه المبتدأ وإليه المآب، وهو ربُّ الأرباب، ومُسبّب الأسباب، وبيده الملكوت؛ (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56].
(حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ..(24))
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)):
(حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي) -يعني ما أدري- قل ما أدري (أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ) -من أجل كل واحد منكم، ثم القيامة- (أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)) وقتا معينا يطول أَمَدُهُ، يطول وقته، مع أنَّ كل الوقت الذي بَقي في علم الله تعالى وإرادته من بعد بعثة النبي محمد إلى أن تقوم الساعة ويُنفخ في الصور قصير جدا بالنسبة لما مضى من عمر الدنيا، لذا..
وَلكن لمّا يتحدث الحق عن قُرب، ليس قرب صاحب العمر القصير منا، الآن نحن -حتى في الحياة الدنيا- الذي قد مرت عليه سنوات كثيرة، يبقى يشعر أن عنده متسع بعض الشيء، ويرى أن السنة قريبة؛ لأنه قد مرَّت عليه سنوات قريبة، لمّا تقول له: سنة .. سنتين.
أما لو واحد طفل صغير تقول له: سوف أعمل هذا بعد سنة، يرى السنة بعيدة؛ لأنه مازال عمره كله كم سنوات! فالسنة هذه بالنسبة لعمره شيء كبير، لما بدأ يكبر قال: قليل، يقول: سنتين .. ثلاث سنين لا بأس، لكن أربع خمس سنين يقول: بعيد هذا عشر سنين.
ومسكين هذا وقد كبر وقرب من الأجل، ولكن يرى العشرة سنين تمر بسرعة؛ لأنه قد مرت عليه أربعين، خمسين، هو يرى العشرة تمر بسرعة، يقول: بعد عشر سنين سأتفاوض معك!! مع أنه مفروض هذا الّذي قرُب الآن هو مفروض يقول: الوقت قريب؛ لكن هكذا طبيعة الإنسان.
ولما قال الله: قريب، ليس هو بحسب مدارك الناس، القرب هذا قد يكون؛ ألف، ألفين، ثلاثة ألف سنة ممكن، هذا قريب؛ لأنه كم سنوات مرّت من حين كَوّن الأرض، وكم من حين أخرج أبانا آدم من الجنة؟ ملايين السنين، وهذه الثلاث ألف، والأربع قليل لا تساوي شيء؛ قريب، ''بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْن":
ولكن بالنسبة للموازين البشرية في القُرب والبُعد: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25))، تمتد قليلا من الوقت لكن لأجل معلوم، (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا).
ربي هذا (عَالِمُ الْغَيْبِ (26)) أنا المحيط بعلم كل شىء؛ الغيب هذا بالنسبة للخَلق، أما عند الله لايوجد غيب، وهذا كله عند الله سواء؛ لكن بالنسبة للخلق لا يغيب عن مداركهم الموهوبة لهم -بحكم الترتيب الإلهي، وسُنة الله في الخلق- لا يغيب عن مداركهم بالأسماع والأبصار والأشياء التي يتمكنون من إدراكها بحضورها وشهودها ووسائلها؛ إذا غاب عنها يقول: هذا غيب، بالنسبة لك هو غيب، أما عمل الثاني في خلوته وخواطره في نفسه، بالنسبة له ليست غيب، بالنسبة لك أنت هو غيب؛ لأنه ليس عندك مدارك تصل إليه:
لأنه يعلم كل الأشياء بذاته، فعلمه محيط بكل شيء، أما أنت لا تعلم إلا بواسطة تعليم وآلات أعطاك إياها تتأمل بها فتُدرِك، فلابد أن يكون إدراكك محصور وقاصر، وما غاب عن هذه المدارك لا تدركه.
(عَالِمُ الْغَيْبِ (26))، (عَالِمُ الْغَيْبِ) على الإطلاق بجميع الشأن، يعني المحيط علماً بكل شيء، ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لا يكون؛ كله عالم به.
(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26)) يعني لا يُطْلِع على بعض غيبهِ؛ وليس غيبهِ كله، لا أحد يطَّلع على غيبه كله: لا ملائكة ولا أنبياء ولا غيرهم؛ لكن على شيء من غيبه أو شيء من علمه لا يظهر على شيء منه؛ (إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ..(27)) مِن مِثل الرسل فإنه يُطلِعُهُم على غيوب في العالم الأعلى، وغيوب في البرزخ، وغيوب في القيامة، وغيوب فيما وقع قبلهم، وغيوب فيما يحْدث بعدهم، أشياء يخبرهم بها، فيخبرون بها على حسب ما يَأذن لهم.
(إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ..(27)) -الله أكبر- فيكون هذا الاستثناء منقطع، الرسل لا يطَّلِعون على جميع الغيب الرباني ولا الملائكة، والمعنى أنه يُطْلع:
لكن لا أحد منهم يحيط بعلم الغيب، لا يمكن..
فكذلك هذا علم الغيب، من ادَّعى الإحاطة به فقد كفر، ومن ادَّعى أن غير الله يُحيطُ به فقد كفر.
ولكن مَن عَلِم أن الله يُعَلِّم مَن شاء مِن الملائكة، من الرّسل، من الأولياء، من الصالحين شيئًا من الغيب من دون إحاطة فهو الذي آمن، وبهذا نرى ما كان يتحدث الناس عن بعثة النَّبي -قبل بعثته- وفي الأسواق يُذكر ذلك، غيب:
وسيدنا عمر بن الخطاب وهو في مكان بعيد من موقع المعركة، المعركة في الشام وهو في المدينة، وينظر وذاك يسمع هناك: يا ساريَة الجبل، وهو في الخطبة ويقول: يا ساريَة الجبل! بعض الناس حاضرين بجوار سيدنا علي يقولون: ما يقول أمير المؤمنين؟ ضحك سيدنا علي، وقال؛ سيرجع إلى الخطبة، فرجع إلى خطبته -أكملها- وهابّوا يسألونه: ماذا تقصد؟ ومن ساريَة؟ وعن أي جبل عندنا هنا في المسجد النبوي في المدينة؟!.
وانتهت المعركة وجاؤوا بعدها وقالوا: في يوم الجمعة كانت عندنا معركة في تاريخ كذا وكذا، وكان خلفنا جبل استدار منه بعض المشركين، وكادوا أن ينزلوا علينا، يقول سيدنا ساريَة؛ فوالله ما شُعِرنا إلّا بصوت عمر يخرق مسامعنا، يقول لي: يا ساريَة الجبل، يا ساريَة الجبل، قال: فالتفتُ فرأيتهم فصعدتُ عليهم، وهذا يرى من هنا وذاك يسمع من هناك، ما هذا؟! (فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ).
(إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ..(27)) وأتباع الرسل، ما يُطلعهم مع الغيب كله على شيء من هذا الغيب، يقولون -في لغة العرب- : ما دخل اليوم عند الملك إلّا الوزير، يقولون هذا وقد دخل معه ولده وخادمهُ وحارسهُ وحاشيته، كلهم دخلوا عنده، يقولون؛ ما دخل عنده إلا الوزير اليوم، هؤلاء أتباع له، وهؤلاء أتباع الرسل -عليهم رضوان الله تعالى-.
(فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ) -فإنه يظهره على بعض الغيب- (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)) تأتي فيها معاني:
(يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27))؛ لِيَعلَم هذا النبي والموحى إليه، أن الكلام هو من عند الله حقا، لا دَخل فيه للشياطين ولا للوسوسة، وأنه عبر الملائكة؛ ليعلم كل رسول أو نبي أن الأمر جاء -من فوق- من عند رب العالمين؛ (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا) -الملائكة- (رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ..(28)) الله أكبر.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ):
(لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ..(28))، ويقول بعض أهل التفسير:
(لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ)؛ والواقع أيضا في وصف الله تعالى: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)) فالكائنات كلها -مهما عَظُمَت- موجودات متناهية؛ ولأن لها عدد تنتهي إليه مهما كبر، فلكل شيء نهاية؛ ولكن (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم:42]، حتى أبديّة الجنة وأبديّة النار واستمرارها بإبقائه لها، ليست بذاتها، فهي في حد ذاتها في كل وقت تتناهى آثار الموجودات التي فيها بحدودها؛ لكن بإبقاء الله لها تبقى وتستمر وتستمر! وبزيادتها تزيد وتزداد! فهؤلاء لهم عذاب صعد يزيد دائما، وهؤلاء لهم نعيم يزيد يتجدد دائما.
فإذًا كل ما سواه فهو مَحُوط بعلمه، محصيّ عددا، عدد نفس كل واحد، عدد أنفاس الجميع، عدد أنفاس الحيوانات، عدد أنفاس أهل الجنة: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) أحاط بما لديهم علما و اطلاعا من كل الجوانب (وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28))، ولذا قال: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47]، لا أحد سوف يغيب؛ لا صغير ولا كبير، إنسي ولا جني، أين يذهب؟! وإلى أين يذهب؟!
ماهذا؟! أشد من كمبيوتر، أشد من أجهزة مخفية تصورنا! ماهذا؟! كل شيء واضح أمامنا نشاهدها؛ صوت وصورة، أمامك أعمالك كلها، تراها! ترى لمّا تسرق المحل الفلاني؟! ترى هنا مكتوب وهنا منظور، ترى لما كذبت على فلان في يوم كذا، تسمع ماذا تقول له، يوم وضعت يدك تحت الثوب ذاك! في ذاك اليوم! ترى هنا مكتوب وهنا منظور، تراه أمامك!.
فيا من (أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)) اغفر لنا ماتعلم واعفُ عما تعلم، واكفنا كل ما أحاط به علمك من الشرور والآفات في الدنيا والبرزخ ويوم النشور، وسلمنا من جميع فلاني البلايا، وأصلح لنا الظواهر والخفايا، يا عالمًا بكل شيء، يا قادرًا على كل شيء، اغفر لنا كل شيء، وأصلح لنا كل شيء، ولا تسألنا عن شيء، ولا تعذبنا على شيء، يا رب كل شيء، بقدرتك على كل شيء، بعلمك بكل شيء، هب لنا كل خير أحاط به علمك، وادفع عنا كل شر أحاط به علمك في الدين والدنيا والبرزخ والآخرة، يا ربّ الدنيا والبرزخ والآخرة، يا رب العالمين ويا أكرم الأكرمين.
وارزقنا كمال الإيمان واليقين وزدنا بهذا القرآن، ومن أنزلته عليه إيمانًا ويقينًا، وارزقنا الصدق والإخلاص لوجهك الكريم، واجعل لنا في رمضان هذا سرًا من سر القرآن، ونصيبًا من نور القرآن، وبركة القرآن، وأن تسري سرايته فينا حتى يمتزج بلحومنا ودمائنا، ونحشر في زمرة أهل القرآن وأنت راضٍ عنَّا، واشمل بذلك من حضر، ومن يسمعنا، ومن في ديارهم وأهاليهم وقراباتهم، وأصلح شؤون المسلمين يا رب، وردهم إلى القرآن وارفعهم بالقرآن وانفعنا واياهم بالقرآن، واجعلنا من العاملين بما فيه، المترقين في مراقيه.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
27 رَمضان 1439