مواصلة تفسير سورة الجن، من قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ..} الآية: 1
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب العلامة عمر بن حفيظ للآيات الكريمة من قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ..} إلى قوله تعالى:  {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ ..} الآية: 12، من سورة الجن

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13))

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

الحمدلله مُكرمنا بآيات الوحي والتنزيل والإكرام بالوعيد لكل مُقبل على الحق تبارك وتعالى بصدقٍ في الوجهة إليه؛ مُتّبعا للدليل الهادي إلى السبيل، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده الدالِّ عليه، والهادي إليه، رسوله المصطفى محمد، وعلى آله وأصحابه ومن آمن به واتبع سبيله واهتدى به وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة أصفياء الله وأحبابه، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 وبعد ،،،

فنحن في جود ربنا وكرمه ونُزُلِهِ وضيافته نتأمّل معاني خطاباته وتعليماته وتوجيهاته وإرشاداته ودلالاته وتنزيلاته -جلَّ جلاله- على لسان خير بريّاته في غدوات الشهر الذي أزمع على الرحيل وما بقي منه إلا القليل، بارك الله لنا فيما بقي منه ولا جَعَلَهُ آخر العهد منه، تأملنا آيات في سورة الجن يأمر الله نبيه أن يخبرنا ويقول لنا: أنه جاءه الوحي من الله عن أمرٍ حصل في عالم الجن؛ وهو استماعهم إلى رسولنا المصطفى محمد المُرسَلِ إلى العالمين إنسًا وجنًّا..

  • قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]. 
  • وقال تعالى: (وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. 

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا) أي كلاما يُقرأ مُنزّل من عند الله تعالى، (عَجَبًا) يُثير العجب بعظمته وبلاغته وحكمته ونورانيته. (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)) فكيف امتلأوا بتمجيد القرآن وتعظيمه بمجرّد السماع الأول منه، ويغفل الكثير من المسلمين عن إدراك هذا المعنى وربما هَجروا القرآن -والعياذ بالله-. 

(إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الْرُّشْدِ) الرشد: الحق والهدى، إلى الإيمان والتوحيد والعمل الصالح؛ (فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)) أي عَلِمنا أنّ ما كان يقول الإنس والجن في حق الله من اتّخاذ الشريك والولد والصاحبة، كله كذب، وكنا لا نظن أن أحد يكذب على الله -تبارك وتعالى- ويجترئ وينسب إلى ربه هذا الشيء من دون أن يكون واقع، فلما سَمِعنا القرآن علمنا أن ذلك كذب وباطل وجراءة من العباد على ربهم سبحانه وتعالى. 

(وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا) -عظمته وغِناه- (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً) إنّما يتخذ الصاحبة من هو محتاج إلى الصاحبة، مَن تغلبه حاجة وشهوة إلى الصاحبة.

(جَدُّ رَبِّنَا) غِناه وعظمته أكبر وأعظم من أن يكون محتاجا إلى شيء، (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)) إنما يأتيَ الولد من اتخاذ الصاحبة؛ (أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام:101] -جلَّ جلاله-. 

(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) إبليس هو رأس السفاهة ثم مَن تَبِعَه مِمَن صدّق.

  • (يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)) فنسبوا هذا إلى سفهائهم لمّا دخل النور في قلوبهم من القراءة التي سمعوا نبينا يتلوها -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. 
  • (كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) أمرا متعدِّيا خارجا عن الحد والطور، شطط: بعيد خارج عن المسار. 

(وَإِنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ اللَّهِ كَذِبًا (5)) حتى سمعنا القرآن، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ) -يتحفظون بهم ويتحصّنون بهم- (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6))،وذكرْنا رهق هؤلاء ورهق هؤلاء، ضعف الطالب والمطلوب؛ كلهم ضعاف. 

وعَلَّمنا ﷺ: 

  • إذا جئنا لأي بقعة في الأرض نقول: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتٍ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ -ثَلَاثًا- فَلَا يَضُرُّكَ شَيْءٌ حَتَّى تَرْتَحِلْ" من تلك الأرض. 
  • إذا قلت عند نزولك فيها: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتٍ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ"، "من قالها -ثلاثا- عند نزوله في بقعة لم يُصبه ضُر حتى يرتحل" أي لا يناله شر.

يقول: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَّبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)) وهذه ظنون مَن لم يعرف خَلقُه، مَن لم يَعرف وجوده، كيف وُجد؟ الذي ما وصل عقله لأن يدرك، كيف وُجد؟ هو الذي يُنكر: كيف يَبعث؟ وكيف يَعود؟ وكيف يُنكر؟ كيف وُجد؟ ما أنت موجود أو غير موجود؟! كيف جئت؟ ولكن تصامُم وتعامي النّفوس والعقول حتى لا تهتدي. 

ويقول: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79]، وأول مرة، هل استعان بك أنت أو بمن؟ لما جاءت العظام أول مرة ، من أين جاءت؟ من عندك أم من شركتك؟ أم مِمَن  جاءت؟ والذي يأتي به أول مرة، قادر أن يأتِ بها ثاني مرة وثالث مرة ورابع مرة، كما يشاء جلَّ جلاله، فهؤلاء بضعف نظرهم أنكروا البعث؛ وذلك أنهم قوم غَطّى الحِس، والبصر فيهم على المعنى والعقل، فصاروا كما يقولون عن بعض الناس؛ إيمانهم في عيونهم، بين عيونه، حدق وهذا الحيواني الحسي فقط هو ما يؤمن إلا به.

فشاهَدوا الناس يولدون، يقولون: ما يتأتى تكوين عظام وسمع وبصر من نُطَف، لا يستطيعون أن يشاهدوه، وهو أمام أعينهم، ولكن يرونه بعد ذلك يموت يقولون: ما عاد يرجع، إذا لم يرجع ما شاهدوه -عجيب والله!-  و أنت العيون التي ترى بها وغطّت على عقلك وعلى المعنى

  • ترى الحس ونسيت المعنى.
  • وقفت مع البصر وظلَمت البصيرة.

ما ينكر البعث إلا هؤلاء؛ أَظلمت بصائرهم، صدّقَوا أبصارهم، فأقرب ما يكون مَثَلهم كما يقول بعض الملحدين للطلاب في الصف: لا تصدقوا إلا ما ترونه بعيونكم، ما لا ترونه بعيونكم ليس موجودا، الموجود هو الذي تراه عيونكم؛ 

  • أترون هذه السبورة؟ قالوا: نعم، قال: هذه السبورة موجودة. 
  • أترون هذا الطبشور؟  قالوا: نعم،  قال: إذًا الطبشور موجود.
  •  قام واحد من الطلاب في الفصل قال : أترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذًا عقل الأستاذ غير موجود. 

عقله غير موجود فعلا، لو كان موجودا لما قال مثل هذا الكلام؛ لا تصدِّق إلا بالذي تراه عينك! الذي لا تراه  بعينك غير موجود! وعقلك ما يُرى، ما فيك عقل، وهو كذلك!! 

واذا جاء واحد يشكو ألم في يده، يحتاج واحد يعالجه، يقول له: أين الألم؟ ما أرى شيء! هذا والله لحم وعظم كالتي عندي، أين الألم؟ فلم يراه، ولكن يحس به صاحبه، وأراد أن تراه بعينه! 

إذا وقعنا هكذا صرنا مثل الحيوانات وأخس من الحيوانات ، أصل الحيوانات تدرك أشياء من وراء العين، لا تقيس كل شيء على عينها، فأين العقل إذًا؟ لا ينكر البعث إلا من ذهب عقله؛ ولهذا يقول الحق سبحانه وتعالى: (كلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وبِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المطففين:7-13]. 

 إن الذين لا يؤمنون بالآخرة تعطلت فيهم وظيفة العقل عن استعمالها الصحيح: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4] أي تعطل العقل عن مساره الصحيح، وعن استعماله الصحيح، فماذا يعمل العقل؟! هذا كله  يتركه، يقول له: 

  • يا شهواتي ماذا تريدين؟ العقل خدّام.
  • يا نفسي ماذا تريدين؟  العقل خدام.
  • يا مصالح الجسد  ماذا تريدين؟ العقل خدام.

العقل مَلِك -يا أبله!- مَلِك يُسيِّر يقول لك: إشتهِ كذا ولا تشتهي كذا، هذا الذي تشتهينه يَضرّ، هذا العقل مَلِك، وهو صَيَّرَ المَلِك خَدّام، يخدم البدن ويخدم..، فمِثاله من جاء بالمَلِك يقول له أن يَخدِم الكلب والخنزير، المَلِك يَخدِم الكلب والخنزير!!، 

  • غَضَبُ الإنسان كلب. 
  • وشَهْوَتُه خنزير.

فالذي سخّر الغضب هو العقل وذلك لخدمة الغضب والشهوة، يَأمر المَلِك أن يَخدم الكلب والخنزير؟!! قل للملك يحمل سوطه يُسيِّر الكلب في مساره، والخنزير في مساره ولا ينجِّسونه ولا يؤذونه، هذا هو محل المَلِك؛ لكن عكسوا الأمور، فنعوذ بالله من التكذيب بوعد الله. 

ووجودنا ووجود كل ما حوالينا دليل على ذلك: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) لا يرونها! أتنظرون بأبصار من دون بصائر يعني؟! بحسٍّ من دون معنى؟! ما العظمة هذه! (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) ماذا بعد هذا كله؟ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ : 6-17] هناك وعد محدد، إذا جاء -فقط- انتهت المسألة، الذي كوّن هذا كله، ما الذي يعجز عنه من شؤون القيامة؟ ما الذي يعجز القدرة التي أوجدت هذا بهذا الشكل؟! بهذه الصورة!! بهذا الترتيب!! ما الذي تعجز عنه من شؤون القيامة؟! .. الله أكبر! الحمد لله على نعمة الإسلام، الله يثبتنا.

 (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7))، (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7]، قد خلقكم من دون تعب، خلقكم من دون أن يستعين بأحد، ألا يستطيع أن يرجّعكم؟ لماذا لا يستطيع أن يعيدكم؟ ما الذي طرأ؟ ما الذي حدث؟ هو قادر، فقد خلقكم من العدم، فكيف لا يقدر أن يعيدكم؟! .. كيف يعني؟! .. لماذا لا يقدر؟! .. ما السبب؟! ما هو المنطق! ما هو العقل! قدرة أوجدت، هل ثاني مرة ما عاد تقدر! لماذا؟ هات سبب! هات لي منطق! شغِّل عقلك! لماذا؟! فقط أنا لا أريد! هل أنت الخالق أنت؟! وأنت ما أردت حتى نفسك أن تُخلق يمكن، وهل خُلِقْتَ برضاك أنت؟! 

  • القدرة خلقتك بدون إرادتك أنت، أو أنت أردت من أول؟ أنت ما أردت شيء، أنت معدوم .. ما كنت شيء!! . 
  • القدرة ما استشارتك في خَلقِك؟! بعد ذلك في إعادتك تريدها تستشيرك! فيك عقل أو ليس فيك عقل؟ مخ ما في! -كما يقولها العجم- مخ مافي.  
  • أنت وُجدت من دون اختيارك، لماذا تريد العودة باختيارك؟ لابد يشاورونك! هذه القدرة التي خلقتك ستعيدك على رغم أنفك، أنت لا اخترت أمك ولا اخترت أباك ولا اخترت بلادك، ولا أحد من المتقدمين المطورين اختار! اختار بلاده أن يولد في أمريكا أو أن يولد في أوروبا، هل اختار؟! ولا لهم اختيار، هم عدم محض، ما لهم شيء، لا اختار أمه، لا اختار أباه، لا اختار أرضه، لا اختار ساعة ولادته، لا اختار لونه، لا اختار شكله، لم يختر شيء! 

 هذه القدرة التي عملت بك هكذا، وجاءت بك هكذا، كيف تعجز عن ارجاعك؟! ولماذا؟! أوجَدَتَك بهذه الصورة، وكيف تعجز عن ارجاعك؟ تستطيع أن ترجعك ثاني مرة وثالث مرة،  لكنهم لا يعقلون.

  • (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7))
  • ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:104].
  • (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]. 
  • (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:6-7].

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) أي اتخذنا سبيلا إليها، ودنوْنا منها؛ (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا..(8)) يعني أمر الله ملائكة أن يمنعوها من القرب.

  • (حَرَسًا) -ملائكة- (شَدِيدًا) أي أن ما أمدَّ الله به الملائكة من القوة لا تقوم لها قوى الإنس ولا الجن، لا يقدرون، تضعف قوى الجن أمام قوة الملائكة. 
  • (حَرَسًا شَدِيدًا) يعني لا نقوى عليهم، لا نقدر. 

(مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)) يعني ملائكة أمدَّهم الله بقوة ليست عند الإنس وليست عند الجن، فلا يستطيع الإنس -لو اجتمعوا كلهم- والجن أمام مَلَك واحد، لا يستطيعون أن يقاوموا بما أمدّه الله من قوة، بريشة من جناحه يقضي عليهم، إذا أراد الله تعالى قضى عليهم، قوة عظمى غيبية: 

  • (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا) أنتم جن تستطيعون أن تطيروا، وهل الجن آلهة؟! إنهم كلهم عبيد! 
  • (مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)) فوق الحرس الذين يمنعونا؛ يلحقنا شهاب من هذه الشهب النارية التي تخرج من نارية الكواكب، فتصيبنا. 

(مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا) -في ماضي زماننا- (نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ) لنا مواضع، ندنو منها ونستمع ما يقوله أهل السماء، (مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ) يعني من بعد تلك الليلة، ليلة بُعث النبي إلى الآن -إلى المستقبل- (فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)) مرصودا له، معيَّنا له، لا يتخطاه؛ يحرقه: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) [الملك:5].

 قال: (يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)) أحدث هذه الحراسة القوية الآن للسماء، وأمر هؤلاء الملائكة أن يحصوا عدد الشهب، هذا في صالح الناس؟ أم يريد أن ينزل العذاب عليهم؟ أو هذا فيه رحمة، ورسول سيجيء، ونور من الله تعالى في الأرض؟ 

(لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10))؛ تأمل التعبير الحسن الذي حكاه الله على ألسن الجن في أدبهم: 

  • (أَشَرٌّ أُرِيدَ)، لم يقولوا؛ أراده الله ولا أراده ربهم. 
  • وأما الخير قالوا: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) فبعِدوا عن نسبة الشر إلى الحق -جلَّ جلاله-. 

أدبًا مع الحق، وكله بمشيئة الله لكن أدب، كما كان سيدنا الخضر يقول في السفينة: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) [الكهف:79]، فيقول بعد ذلك في الجدار: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا) [الكهف:82]، أَرَادَ رَبُّكَ.

 يقول: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)) وفيه أن كثيرا من الحوادث التي تحدث تكون علامة على إرادة الله، يقصرعنها فهم الانس، فهم الجن، لا يدرون ماذا وراء ذلك! ولهذا يقول سبحانه وتعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، 

فلابد أن يقف الكل أمام إرادة المولى موقف عبيد أمام إله سيد، حتى لما قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا) قالوا ربنا -في الأول كان فيها جن وأفسدوا وفسقوا- (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أي في الأشياء التي يُحدثها الله، لا يتجاوز عِلم الملائكة وعِلم الإنس وعِلم الجن، هو الأعلم جلَّ جلاله، (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]. 

ولما اختبرهم بتعليم آدم الأسماء من دون أن يعلمها الملائكة (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [البقرة:31-32]؛ فلا الملائكة ولا الإنس ولا الجن؛ لا العلم الظاهر ولا العلم الباطن، ولا علم الذرّة ولا علم طبقات الأرض الجويّة، ولا علم الفضاء ولا علم البحار ولا علم التكنولوجيا، لا شيء منه قليل ولا كثير إلا بتعليم الله: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لم) [العلق:5]، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل:78].

قل للذي اخترع هذا وذاك، لما خرجْتَ من بطن أمك، ماذا كان معك من علم ؟ ومن أين جاء؟ أنت أصلك جاهل ما عندك شيء، من أين جاء هذا؟ .. أعطاك آلات تستخدمها، على حسب ما جعل فيها من قانون، وتتأمل في كائناته ومخلوقاته، وتستخرج وتنتج.

 أنت وآلاتك والكائنات خلْقه، فمن الخالق؟ أنت أو هو؟ أنت أصلاً كنت نطفة وعلقة ومضغة، لا أحد منكم خالق، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر:3]:

  • لاصانع طائرة ولا صانع تكنولوجيا، لا أحد منهم خالق؛ كلهم مخلوقون، ومغلوبون كذلك، وكذلك مُسَيّرين على قانون الحق في الوجود، لو يريد أن يُقلبه هو لا يقدر،  وهو مخترعها. 
  • نقول له؛ إسمع! بدل ما تستخدم القانون الإلهي في أن الطيران يكون بتدوير المحركات والاتجاه صوب كذا، غيِّر هذا، اجعل الدوران بالعكس، وإلا من دون هذه المحركات، هو ما يقدر أصلا. 
  • اسمع؛ لماذا تأخذ الوقود هذا؟ أحسن استخدِم تراب فقط أو حجر قوي، هو ما يقدر أصلا! هو قاصر! هو فقط يرى سُنّة الخالق في خلقه ويعمل بها فقط. 

أمّا هو، هل يقدر أن يقلب شيء؟!  لا يقدر، لا هُم ولا السحرة ولا غيرهم، لا يقدر؛ يقلب الأمر على أصله أو على حقيقته، سنة الله تعالى، ولا تقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) [الأنعام:112].  لا إله إلا الله، لا خالق إلا الله. 

قال: (لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)) وهكذا العجز إلى حدود كبيرة، أعلم الخلق بأسرار الله في الوجود والعلم بأمور الخير والشر، خصوصا ما يتعلق بكسب المكلفين هم الأنبياء، ومع ذلك يفاجئهم من الأحداث والأحوال ما لا يعلمون حكمة الله فيه إلا بعد.

  • (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)، قال: ما المشكلة؟! الآن هؤلاء الضيوف في الظروف هذه، يأتون ومعي القوم هؤلاء: يسوِّدون الوجوه، يؤذون خلق الله ويتعبوننا، ما هذه المشكلة التي جاءوا بها؟! (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود:77]، وهو يوم الفرج، هو يوم النصر، وهذا نبي، لكن ظاهر الأمر رآه هكذا، ثم قالوا: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ) [هود:80-81]، (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) [الحجر:63-64].
  • وهكذا، لما مرّوا كذلك على سيدنا إبراهيم، لم يعرفهم في البداية، وبعبوديته لله وقيامه بحق الله ظنّهم ضيوف جاءوا، فقام يكرم الضيف، فهو أبو الأضياف سيدنا إبراهيم، بسرعة جاء بعجل حنيذ قرَّبه إليهم، (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود:69]، وهم ملائكة، فلما أخبروه قالوا له؛ إننا رسل من ربك، قال: إلى أين؟ قالوا: سوف نهلك سدوم والقرى التي فيها قوم لوط، قال: فيها لوط! النبي  لوط هناك! قالوا: نحن نعلم ومن فيها من الجن وأهله، (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود:74-75]. 

إذًا فالإحاطة بما ينطوي في الأحداث من أبعاد قريبة وبعيدة وحِكَم؛ لا يحيط به إلا الله، حتى كثيرا مما يؤمر به الملائكة أن يتصرفوا فيه، لا يدري ما الحكمة من ورائه، لا يعلمها إلا فيما بعد، هو مَلَك تصرَّف كذا، لماذا لا يدري؟! لأن العلم لواحد؛ هو الله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) [البقرة:216]

لكن مع الناس غرورهم فقط، هؤلاء الملائكة مع أنهم عندهم معلومات أوسع من بني آدم كلهم، في كثير من الشؤون، ومع ذلك يقولون: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا علمتنا) [البقرة:32]، ويأتي واحد يعْلم شيء من أجزاء من أجزاء من أجزاء من الكون يقول: العلماء! نحن العلمانيون! … هذا البحث العلمي!! ما الذي قد عرفت؟ ما الذي قد اطَّلعت عليه؟ لكن غرور الإنسان .. غرور الانسان، و لو أحد ناقشه في عينه فقط، يجهل كم عدد خلايا عينه؟! عينه فقط، أذنه كذلك،  ما الذي عرفت؟ الذي عرفت لا يساوي شيء بالنسبة لما جهلت وما لم تعلم؛

فقل للذي يدِّعي بالعلم معرفة *** عرفت شيئا وغابت عنك أشياءُ 

واحد في مجال العلم مغتر بنفسه، قال: اسألوني ما بدا لكم، قام واحد قال له: كم عدد شعر لحيتك؟ يبغى جهاز يعدّها أو ماذا؟! هو ما يعرف! .. يجهل عدد شعر لحيته!  شيء قاطع فيه، قائم فيه؛ ما يعرف عدده! وهو فيه، هذا وصف المخلوقين، أحب كل مخلوق أن يقول لله: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].

وقال الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10))؛ فالعلم لله، لذا لمَّا تَعَلَّم من دعاء النبي ﷺ في الاستخارة، ما تعلّم أحد من كبار العُلماء، فكان في دعائه يقول -هو الشيخ شَعِيبَ بِنْ مَديَنْ المَغربي عليه رحمة الله-: "اللهم إن العلم عندك وهو محجوب عني، ولا أعلم أمرا اختاره لنفسي، وقد فوضت إليك أمري ورجوتك لفاقتي وفقري فأرشدني اللهم إلى أحب الأمور إليك وأرضاها لك وأحمدها عاقبة عندك"، فالعلم عندك وهو محجوب عني: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق :12].

 يقولون: (وَإِنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ) فإما دون ذلك، من هم لم يبلغ رتبة الصلاح، وإما الصالحون المؤمنون، ومن دون ذلك الكفار (وَإِنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ) هذا شأن الإنس والجن كذلك؛ (مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ) مسارنا في التفكير والمذاهب والأعمال والمعاملات؛ (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)) مذاهب شتى واتجاهات متنوعة، قدد، قدد، قدد: جمع قدة؛ قطعة قطعة قطعة، ومختلفة: النصارى، اليهود، المجوس، المؤمنين، الملحدين، الكفار، المشركين، العلمانيين، وكذلك كما هم في الإنس: 

  • فيهم المسلمون أهل السنة.
  • فيهم المبتدع موجودين كما الإنس.
  • فيهم أهل الرفض. 
  • فيهم أهل النصب.

يشبهون الإنس في الأعمال كلها وفي طريقة الأفكار والتفكير، إلا أنه سبحان الله، القدرة العظيمة في الوجود لا تمكّنهم -لا الإنس ولا الجن- من كل شيء حتى في حدود إمكانياتهم "، لا يقدرون أن يتصرفوا كما يشتهون، وإلا قد يحصل أحيانا نصارى جن يريدون أن يتسلطوا على أحد من المسلمين، ولا يخرجون منه إلا بعد أن يأتي عند نصراني واحد من أصحابهم؛ لكي يفتنوا المسلمين، مثلاً يحصل. 

جن مبتدعة إذا تسلّط، …لكن هذا في حدود ضيّقة؛ لأن الأمور ليست مفتوحة على مصاريعها، فوق المملكة مَلِك، لو كانت مفتوحة على مصاريعها، سوف يكون لعب في الحياة ومشاكل، سمعتم يروننا الآن ولا نراهم، لو الأمر مفتوح، كم من جني مغتاظ على إنسي! سيأتي ويقول لهم، لكنه لا يراه، ما يقدر! ما يقدر! مع أنه مغتاظ ويريد أن يضره.

لكن المملكة فوقها مَلِك، جعل لها نظام وترتيب، كل واحد لا يقدر أن يتجاوز حدَّه، "اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"؛ قد قالها النبي ﷺ لابن صياد؛ واحد من أبناء اليهود يتكلم ببعض الغيوب والذي في نفوس الناس، فقال له: "اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"؛ جرّبه فيما ابتلاه الله وابتلى الناس به، فيما يتكلم به على خواطر الناس، فخبأ له ﷺ في نفسه سورة الدخان، فجاء إليه يقول له: خبأت لك شيئا، ما خبأت؟ ما عرف أن ينطقها يقول: الدخ الدخ، ما عرف أن ينطق الكلمة، قال له:"اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"؛ كل واحد له قدره. 

وإلإ كانت مرادات إبليس يقدر أن ينفذها في الوجود، ولن يترك واحد مسلم الآن، لكنه لا يقدر! من قديم يقول له العزيز الجبار: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، الكل مقهور ومتكبر، مقهور ومتكبر، لا إله إلا الله، دع الكبر للقاهر، القاهر الذي بيده الأمر كله جلَّ جلاله، ولا يكون إلا ما أراد، هؤلاء كلهم بهذا المعنى؛ إنسهم وجنّهم، صغارهم وكبارهم. 

لا يدرون إلا وواحد من صناع القرار حصل لولده شيء لا يريده، وفي نفسه أيضًا، وهو من صناع القرار في الحياة، يمشي في السيارة وحصل له حادث، قرار من هذا؟ وأنت من صنّاع القرار، لماذا تترك السيارة ترتكب حادث؟ مقهورون أصلا، هو هذا صانع القرار مقهور، ولكن متكبر -لا حول ولا قوة إلا بالله- لم يعرفوا أنفسهم، لو أصغوا إلى الأنبياء لعرفوا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19]؛ نسوا، ما استمعوا إلى الأنبياء صلوات الله عليهم.

 (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11))، وهكذا يقول ربي سبحانه: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام:163] سبل مركبة على الأهواء والشهوات والمرادات المنحطة، وقوّموا عليها مذاهب وأفكار ومدارس وشركات وما إلى ذلك؛ لكن إلى أين تصير هذه كلها؟ والحق واحد في طريق الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وما بعثهم الله به، فمن حفظه الله وعصمه، غلَّب ما آتاه من نور العقل على ظلمات الشهوات والأهواء، فاستقام.

 فيا رب ثبتنا على الحق والهدى، وقَرَّب الطريق علينا ببركة هذا الكتاب، وهؤلاء الرسل اتبعوهم وتسْلموا من البلايا الكبيرة والآفات المختلفة كلها، ستخرجون من ظلمات أهواءكم وشهواتكم ونفوسكم وشياطين الإنس والجن؛ اتبعوا فقط:  

  • (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام:153].
  • (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء:65].
  • مشوا وراءك وسلموا من كل الشرور وأنواعها (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54] اللهم صلِّ عليه. 

وهكذا: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11))؛ إننا ظننا الآن أننا على يقين، يعني انكشف عنا بعض الغبار الذي يغطي العقول عن إدراك مهمتها وواجبها وعن إدراك حقيقتها، كيف؟ 

كان عندنا شيء من الغطرسة والكبر، (وَأَنَّا ظَنَنَّا) -يعني أيقنّا لآن- (أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ..(12)) مهما كان عندنا من قوة وطيران، (كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ (9)) من السماء، نحن مقهورين لقهر القهار خالق السموات الأرض: (أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12)) لا نقدر أن نفر منه، نفوت عليه لا يمكن، إذًا فما هو دورنا؟! نخضع لجلاله ونتبع رسوله؛ الآن عرفنا أنفسنا! الآن عرفوا! ولما عرفوا الله عرفوا أنفسهم؛ (لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) من أين نقدر؟ أين نروح؟. 

(وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12))، والحق يقول: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا) ولا إنسي ولا جني، ما أحد يقدر ينفذ، هم تحت خيمة السماء وفوق هذه الأرض، في محلهم، هيا انفذوا، (لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33] لا تنفذون إلا بشرط أن تكون قوة منا. 

إذا قلتم محمد كيف عرج؟ بسلطان؛ رفعناه، ليس في السماوات فقط، أخْرجناه من السماوات كلها والأرض كلها، من فوق سدرة المنتهى إلى حيث لا تصل عامة الملائكة وخواصهم -مثل جبريل- لا يصل إليه، وهو وصل، خرج من هذه الأطوار كلها حتى جاوز السبع الطباق ووصل إلى حضرة الإطلاق، يريد منّا أن نتعجب في طيار أو في مركبة فضائية، عندنا رسول جاوز السبع الطباق كلها، هو أحق أن نعظمه وأن نتعجب فيه وأن نهتدي بهديه.

 يقول: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12)) ما نقدر نفوت عليه، أين نروح؟ ما نقدر نهرب، مانقدر نفوت عليه، أين نفوت؟ أين؟ في أي مكان نحن تحت قبضته، عرفنا أنفسنا، ومعنى الخضوع للرب، الله أكبر!.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ) -هذا القرآن يقرأه سيد الأكوان- (آمَنَّا بِهِ) -هنيئًا لهم بهذا الإيمان- ..

  • (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا)، لا يخاف بخسا: ذلَّة ولا مهانة، ولا ينقص عليه شيء 
  • (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)) عدوانًا ولا ظلمًا ولا طغيانًا، كما قال في الآية الأخرى: 
    • (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه :112]، لا ننقص عليه شيء ولا نعتدي عليه في شيء أبدا. 
    • حسناتك محفوظة ولا تعاقب على شيء من غير سيئاتك: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) [فاطر:18].

فالله يرزقنا الإيمان ويرزقنا اليقين ويبارك لنا ولكم في خواتيم رمضان، ويزدنا فيه إيمان، كل يوم يا رب في باقي أيام رمضان، إجعل إيماننا فيه أقوى وأوسع وأعلى وأرفع وأثبت يا حي يا قيوم، وكل ليلة كذلك، في كل ركعة زدنا إيمانا، بكل آية نتلوها أو نسمعها زدنا إيمانا، وأعطنا هدية كبيرة في رمضان من الإيمان واليقين، تشمل بها حاضرينا وسامعينا ومن يوالينا وتعود العوائد على من في بيوتهم أجمعين برحمتك يا أرحم الرحمن. 

يقول أن اليهود يؤمنون بالبعث، الجن تكلموا على قضية الخلق على وجه العموم بعد أن سمعوا كلام الخالق على لسان المرسل إلى جميع الخلائق، فذكروا القِدَد؛ الطوائف والأصناف، ومنهم الذين ينكرون البعث، فذكروا الجميع، وكان كلامهم كلام من التقى برسول العالمية، برسول العالم إلى الخلائق، علموا هذا، ما عاد بقوا محصورين في مجرد جنسهم ولا عقيدتهم، رأوا كلام عظيم من عند خالق للكل على لسان مُرسل للجميع، فتحدثوا عن الطوائف كلها التي بينهم، وعن القدد التي بينهم.

ومنهم أنكروا على الطائفة الذين ينكرون البعث كَشَأن المشركين؛ لأن فيهم المشركين وفيهم أصناف من الناس، أهل السنة من الجن؛ فيهم الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي موجودين، ويتعلمون المذهب يأخذون ويدرسون كتب المذهب ويحضرون عند مشايخ المذهب وهم هكذا -لا إله إلا الله- والوعد بين الجميع بعد ذلك يوم الحكم قال: ( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) [الواقعة:49]، حكم إله واحد، ولا يفوز إلا من اتبع رسله وانتهينا: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، وباقي الطوائف والقدد والناس؛ عندهم النار، روحوا الى بئس المصير-والعياذ بالله!-.

 فالحمدلله على نعمة الإسلام و يا رب ثبتنا برحمتك ياارحم الراحمين، و الحمد لله رب العالمين، تقبّل منا ذلك وأجب دعواتنا و بلّغنا فوق ما نأمل، وزدنا منك، ما أنت أهله من الزيادات الواسعات. 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

24 رَمضان 1439

تاريخ النشر الميلادي

08 يونيو 2018

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام