(536)
(239)
(576)
الدرس السادس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الجاثية، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }
السبت 20 رمضان 1445هـ
الحمدلله الذي أكرمنا بالكتاب العزيز وبيانه على لسان عبده ورسوله سيدنا محمد المُجتبى المصطفى المُختار الذي جعله بين الكائنات الإبريز، أدِمِ الصلاة والتسليم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأهل بيته وعترته، وعلى أصحابه وأهل متابعته ومودّته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوتك من برِيّتك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،،
فإننا في نِعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وخالقنا -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- مررنا على الآيات في سورة الجاثية حتى وصلنا إلى قوله -جلّ جلاله-: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25))، (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا..) تُقرأ وتُلقى إليهم الآيات الواضحات بيّنات في أنهم مخلوقون لخالقٍ عظيم يرجِعون إليه؛ ويبعَثُهم ويُحييهم بعد موتهم ويجمعهم ليوم الجمع؛ (مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25)) فهل هذه حُجّة؟! هو قال لكم: إن مَن مات يرجع إلى الدنيا! هل قال لكم كذا؟! وما قال كذا، قال لكم: من مات يُحبَس إلى وقت النفخ في الصور وفي النفخة الثانية يُجمعون للقِيامة، وأنت تقول حُجتك دعوهم يجيئون هنا عندنا، هل هذه حجة هذه؟! لكن كيف؟
(مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ..(25)) هم سمّوها حُجة! ما هي حُجّة يعني: ما عندهم أي حجة ولا أي دليل؛ فلهذا يقولون هذا الكلام، يقولون هذا الكلام، يقول قائلهم: ما كان تحيتّهم إلا الضرب، يعني ما عندهم تحية أصلا إلا ضربا موجعًا، وإذا تلاقوا ما كان تحيّتهم إلا الضرب الموجع أصلا ما هو تحية (مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا) ما هي حجة أصلا! ما فيها حجة ولكنهم يحتجّون بها (مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) هيا رُدَّ لنا كعب .. قصي.. من أجدادك السابقين سنسأله!
فأين الحجة لكم في إنكار البعث؟ ما كان حجتهم في إنكار البعث والرجوع إلى الربّ ( إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25)) بل عدَم مَجيئهم ذكرى لكم؛ يقول عنها تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) [يس:31] إلى: (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس:32] -لا إله إلا الله-.
(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25)) وهكذا يتشبّثُ المُبطلون بإيراد حُججٍ لا احتجاج فيها؛ ولا أصل لها؛ واستدلال بأدلة ما تصحّ ولا حقيقة لها.
(قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ..(26)) أكِّدْ عليهم ما بعثناك به وما قامت الدلائل والحُجَج عليه واضحة:
ثم إنّ من الأجساد ما يُحترم فلا تأكله الأرض وهو:
فهؤلاء لا تمَسّهم الأرض لا تمس أجسادهم؛ فتبقى أجسادهم كما هي إلى وقت النفخ في الصّور، وبقيّة الأجساد تعود إلى هذا التراب وتنخَرُ فيها الديدان ثم يُعيدها الذي صنعها أوّل مرة.
ومن حِكمته أنْ جَعل في آخر العمود الفقري -في آخر عمود الفَقَار عند العُصعُص- حبّة مثل حبة الذُّرَة من العظم؛ هذا لا تأكله الأرض من الجميع ولا تهضمه أي مَعِدة، وما يُمكن إبادَته بأي شيء يبقى مكانه في الأرض إلى أن تُمطِر السماء بعد النّفخة الأولى، فبِمُجرد ما يصل الماء هذا العَجب من الذنَب يتركَّب الجسد؛ لِيُرينا الله ضَرْب الأمثال بأن يخلق الشجرة من البذرة، ويقول رجوعكم مثلها أجسادكم نُرجِّعها كما تشوفوا؛ نطلع لكم الشجرة كبيرة من البِذرة كما هذه صغيرة ونُقوِّمها لكم: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ) [فصلت:39] -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
فتعود الأجساد كما كانت على هيئتها وقت الموت، فيأمُر الله إسرافيل فيُحييه فيقوم من الصَّعقة، فيقول انفُخْ في الصور؛ والأرواح كُلها محبوسةٌ في الصور لا يعلم قدر عِظَمهِ إلا الله، فلما ينفخ فيه بأمر الله تطير كل روح مباشرة إلى جسدِها، سمعت! ما تعرِف إلا جسدها، كما ترى فيما خَلَق لنا هذه المغناطيسات وهذه الشرائح وهذه المُسيّرات على بعد، كل واحدة ما تروح إلا.. -فإذا أطلقوا الصاروخ المُعيّن والقنبلة المعينة والرصاصة المعينة ما تروح- إلا المَحَل الذي فيه الشريحة المُتّصِلة بها وتدقّ فيه، وما تذهب الروح إلّا جسدها الذي كوّنه الله الذي قد كان مثله موجود في الحياة الدنيا وتدخُل فيه؛ أرواح بني آدم الجن والطير والحيوانات؛ كل واحد يدخل فيه جسده.
(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:38]، كلها تُحشَر؛ وأول ما يُحشر بعد أن تُبدّل الأرض غير الأرض بنوا آدم ويكون نُقطةُ التّجمّع عند بيت المقدس؛ ولكن ماعاد بقي بيت المقدس بقي (قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:106-107] وأمّا مثل بيت المقدس أو المساجد المباركة أو الكعبة هي عند تبديل الأرض تُرفَع ثم بعد الحشر والحساب تدخل إلى الجنة حتى تمرَّ بالصِّراط، والذين كان لهم اتّصال خاص بالمساجد يدخلون فيها عند المرور على الصراط (ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:38].
(قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ..(26)) لماذا تستغربون؟ هذا الأمر لا يقبل الشك لا يقبل الرِّيبة بالدلائل الواضحة ولأنّه لا يدَع المُكلَّفين من دون مُحاسبة (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ..) [إبراهيم:51] (..لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)) فيُفضِّلون الجَهل البسيط والمُركَّب على العلم مع وُجود البيّنات والآيات الصريحات.
(قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26))، وبعد هذه الحجة في وجودكم من العدم ثم إماتتكم؛ فما الذي يمنع أن تعودوا مرة أخرى؟
يقول بعد هذا الحجة.. خذوا الحجة المطلقة الواسعة:
وهو أمام عينك؛ حتى بتقول يردنا ما يردنا، من أنت ماذا تساوي؟ انظر القدرة أمامك ولهذا قال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(27)) ما التَأَّبِي هذا حقكم والتعصب للظن والوهم والكلام بلا علم؟.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)) قامت الحجج والدلائل، فما بقي إلا انتبهوا لأنفسكم؛ فإنه من رحمته أنذر وبين لكم ماذا سيكون عندما ترجعون وعندما تقوم الساعة (..وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27))، والمبطلون: منتحل الباطل وهم المكذبون بالبعث، والمكذبون بالنشور، والمكذبون بالجمع يوم القيامة.
(..يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)) أي: تتبين خسارتهم الكبرى، في ماذا؟
فجاءوا وجدوا استعمالهم لها كل باطل في باطل؛ وما أثمر لهم إلا دخول النار، فتبين أنهم خاسرون خاسرون.. خسروا الصفقة؛ الآت أوتوها ومنن كانت كفيلة أن توصلهم إلى نعيم الأبد، وسعادة الأبد، لو أحسنوا استعمالها فأساءوا استعمالها؛ فما أوصلتهم إلا إلى شقاء الأبد وعذاب الأبد، فتبين أنهم الخاسرون خسروا مساكين، (وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3].
أول علامات الخسران أن يلهيك شيء من المال أو الولد عن ذكر ربك، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9]، انتبه تتعرض للخسران؛ يقول لك الحق هذا سوق الربح الكبير الأبدي، ادخل فيه؛ كن معي؛ وأصدق معي؛ وأدم ذكري؛ وامتثل أمري، واجتنب ما نهيتك عنه؛ ولك عز الأبد، وشرف الأبد، وكرامة الأبد، ونعيم الأبد وسعادة الأبد، أكرم به من رب، على تقييد نفسك عن شهواتها في وقت قصير حقير في أيام الدنيا فقط؛ ويقول خذ سعادة الأبد، وعز الأبد، وشرف الأبد، وكرامة الأبد، ونعيم الأبد؛ ربح حُرِمَهُ هؤلاء المبطلون.
(..وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27))؛ فمنهم المنافقون يقربون من المؤمنين، وهم كلهم ظُلْمَة؛ ويدركون أن المؤمنين أرباب نور وعندهم النور: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ..)، إنت كنت جَارِي، وإنت كنت صاحبي في المكان البلد الفلاني، والزَمَان الفلاني، (..أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ..)، ذهبتم وراء أفكار، ظنون وأوهام وخيالات، كذبتم الرسل كذبتم آيات ربكم، التي نزلت (..فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد:13-15]، هكذا (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ..) [الفرقان:27]، هذا الربح من الخسران-لا إله إلا الله-
قال تعالى: عن ذلك اليوم، (..ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ*يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ..) -رابح وخاسر- (..فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ..) [هود:103-105]، اللهم اجعلنا من السعداء.
(..يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ..(28))؛ كل طائفة .. كل جماعة، كل أهل اتجاه مجتمعين مع بعضهم، زُمَرْ زُمَرْ كما كانوا في الدنيا؛ هذا على الفكر هذا وهذا على الحزب هذا، وهذا على الاتجاه هذا، وهذا على المذهب هذا، اجتمعوا الآن كُلٌ مع من كان يحبه، مع من كان يشابه؛
(وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ..(28))، الصحف التي سجلت فيها أعمالهم، ونياتهم ومساعيهم في الدنيا، وكان من حكمة الله وهو العليم بكل شيء؛ أن جعل هذا الإثبات والتسجيل والاستنساخ:
(..كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28))؛ خذوا الجزاء.. كنتم في دار العمل والآن دار الجزاء، فاعملوا في دار لا جزاء فيها لدار لا عمل فيها. (..الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28))، هذا كتابنا صُحفنا، وما سجلت الملائكة عليكم؛ ينطق عليكم بالحق، بالواقع الحقيقي الذي لا مِرْية فيه، ويحاول أن يكابر الذين كانوا في الدنيا يغالطون الناس بالتكذيب والجحد بالأمر ويدربونهم على ذلك يقول لك: لكي لا يلاحقك القانون ويحكمك وأنكر وقل كذا وكذا.. أبدًا .. لا توجد حجة وما يقدرون عليك، يجيئون يقولون: لا يا ربي نحن ما عملنا هذا؛ مساكين.
يوم يبعثهم الله جميعا (... فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة:18-19]؛ فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم والملائكة والأرض والصور.. فينكسوا رؤسهم، حتى إذا قد ألقوا في النار ودخلوا يصيحون على أعضائهم: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا…) [فصلت:21]، كيف تفضحونَّا؟ وتوقعونا في الحرج وتوصلونا للعذاب (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) -كفر والعياذ بالله- (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:21-23]، إنما من عرف عظمة الله وقدره وأنه المطلع على كل شيء والعليم بكل شيء هو الذي ينفعه هذا في القيامة.
يقول: (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ) -في الصحف على أيدي الملائكة- ( ما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29))...
(هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..(30)) -اللهم اجعلنا منهم- (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ..(30))، إدخالًا بعد إدخال في كل حالٍ بما يناسب ذلك الحال:
(فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ..) اللهم ادخلنا رحمتك الواسعة.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ..(30))؛ لا يفضحهم ولا يظهر سيئاتهم ولا يخزيهم ولا يعرضهم للعذاب وهم على درجات في الرحمة؛ (.. ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30))، الفوز البيِّن الصريح لهؤلاء وحدهم، ومن لم يؤمن ويعمل صالح ما له فوز، وإن كان يقولوا فاز في المدرسة، فاز في المباراة، فاز في المسابقة، وماذا بعد؟ إذا كان ليس من المؤمنين ومن عملوا الصالحات ما له فوز! هذا من الخاسرين: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3]؛ فيجب أن نعتقد الاعتقاد الصحيح ما هو الفوز المبين العظيم؟ ما هو الخسران المبين العظيم؟
كل فوز دون هذا الفوز ليس بفوز، وكل خسران دون هذا الخسران ليس بخسران؛ إنما الخاسر من خسر رضوان ربه وحُرِمَ دخول جناته؛ هذا الخاسر ما تحسب حد ثاني خاسر. واحد ناله في الدنيا مرض وإلا أوذي وإلا حُبس؛ ما هو خاسر، هذا إذًا مآله دخول الجنة ما هو خاسر، بل كل ما جرى عليه يُجازى عليه زيادة إحسان وإنعام وتقريب وتمكين من دقائق التفضل الرباني. ما هو خاسر هذا.
الخاسر مصيبة هذا الذي لم يؤمن ولم يعمل الصالحات هؤلاء خاسرين، وإن كان ملياردير ملياردير .. ملياردير؛ خسران! شقاوة الأبد .. عذاب الأبد .. إهانة الأبد .. صياح الأبد .. بكاء الأبد -نعوذ بالله- هذا خسران. في ماذا ينفع أنه كان مليونير أو ملياردير؟ هل ينفعه شيء؟! -الله- حتى وهو في الدنيا يتعرض لأمراض ما تنفعه حقه المليارات، ويقع في حوادث ما تنفعه حقه المليارات، وتتمكن منه عصابة وما تنفعه حقه المليارات، وهو ما زال في الدنيا، ثم بعد ذلك إذا قد بطلت العملات كلها وبقي عملة ملك الملوك حسنات سيئات فقط، غير هذا لا يوجد، لا إله إلا الله!
(هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30))، ومن مظاهر الرحمة في القيامة:
ومع عجائب في دخول الرحمة في ذاك اليوم، وأجلاها:
مظاهر الرحمة الجلية، ووراء ذلك مرافقات ومخاطبات ومواصلات... وعجائب ومنها؛ بعد المرور على الصراط على الأرجح الورود على الحوض…الورود على الحوض المورود؛ "من شرب منه لم يظمأ بعد ذلك أبدًا"، لا إله إلا الله!
ومن الذين عَظُمَت رحمة الله عليهم ينصب لهم الشفاعة؛ يشفعهم في واحد .. اثنين .. ثلاثة .. أربعة .. خمسة .. عشرة .. مئة .. مائتين .. ثلاثمئة… ألف ألف أقل أكثر؟ فمنهم الرجل يشفع في القبيلة والرجل يشفع في الطائفة .. الرجل يشفع في العشرة .. الرجل يُشفع في خمسة.. الرجل يُشفع في واحد والرجل يُشفع في نفسه ما له جاه وعمل صالح يستوعب غيره -يُخارج نفسه-. وقال ﷺ في سيدنا أويس إذا كان يوم القيامة يُقال له: "قف فاشفع فيشفع في عدد كربيعة ومُضر"، أكبر قبائل العرب، أكثرهم عدد. قال في وحده ذا أويس يشفع في مثل العدد هذا كله، ملايين يشفع فيهم واحد! وهم درجات عند الله، ارحمنا برحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين.
(ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30))، البيِّن الواضح الجليِّ الكبير الدائم.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)): من العذاب ومن الوعيد ومما حدثهم عنه الأنبياء كانوا يستهزئون ويضحكون وقع فيهم بهم الآن، ها هم مشاهدوه (أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ)؟ [الطور:15].
فالله يجعلنا من أهل رحمته ويسكننا فراديس جنته ونسألك الدرجات العلى من الجنة ونسألك الفردوس الأعلى، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، اجعلنا يوم الحشر والمآب مع خاصة الأحباب الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واجعله يوم نشوره من كل خوف آمنا يا أرحم الراحمين، واجعله يوم نشوره من كل خوف آمنا، - الله- فأحيه لك مسلمًا وتوفه بك مؤمنًا واجعله يوم نشوره من كل خوف آمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
فما أحسن أن نستعد من في هذه الأيام المباركات لتلك الأهوال الفظيعات
تبلــَّـــغ بالقليل من القليل *** وهيِّئ الدار للسفر الطويلِ
ولا تغتر بالدنيا وذرها *** فما الدنيا بدار للنزيـــلِ
ولا تحسب بأنك سوف تبقى *** فليس إلى بقــــاء من سبيــــلِ
فليس إلى بقاء من سبيلِ
الله أكبر! نتوجه إلى الرّحمن أن يكرمنا وإياكم بسكنى الجنان وفراديس العلى مع خيار المحبوبين من عباده أهل محبته ووداده إنه أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
19 رَمضان 1445