تفسير سورة الإنفطار -2- من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14))
الحمدُ لله مولانا وإلهنا وربّنا الكريم، الذي خلقنا في أحسن تقويم، وهدانا ِبفضلِه إلى الصراط المُستقيم، وأنزل علينا الذكر الحكيم على يد عبده المُجتبى المُصطفى ذي القدر الفخيم، صاحِب المنْهج القويم والخُلُق العظيم، مَن ختم الله به الرِسالة، وجعله سيّد وإمام أهل الدلالة، اللهم أدم صلواتِك على النور المُبين المُتلالي، ذي القدر العالي، عبدك النبي محمد، وعلى آله خير آل، وأصحابه أهل البهاء والسناء والجمال، وعلى أتباعه بالصدق في النيّة والمقاصد والأقوال والأفعال، وعلى آبائه وإخوانه مِن النبيين والمرسلين أهل الكمال، وعلى مَن لهم مِن صحبٍ وآل، وعلى ملائكتك الُمقرّبين الممنوحين عظيم الإفضال، وعلى جميع عِبادك الصالِحين الذين أنلْتهم مِنك واسِع النوال، وعلينا معهم وفيهم يا كريم يا رحيم يا منّان يا وال.
وبعد…
فإنّنا ومع استشعار قُرب انْسِلاخ الشهر عنّا، ويا ليت أنه يدوم لنا ويتأخر بيننا، ولكنّه كما قال ربنا: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة:203] ولا بُدّ أن ينتهي العدد. ولكن مَن ظفرَ مِن الواحِد الأحد بكريم مدد، فإن مدد الواحِد الأحد لا ينْفد، ويسْتمر ما حصّل، وإن مرّت به الأيام وفارق شهر القيام والصيام فإن الإمداد الذي حصّل مِن ذي الجلال والإكرام يبقى له خيره ونوره وسناه على مدى الليالي والأيام.
بل أنّ أعظم فوائد ومنافِع الإمداد والإكرام مِن ربّنا سُبحانه تبدو عِند الحِمام، وعِند الخروج مِن هذه الدنيا ودار الحِطام وفي البرازخ، ثم لا يزال الاستمرار في بدوِّ خيرات ذلك المدد إلى يوم غد، يوم جمعِ الأوّلين والآخرين وحشرِهِم وقيامِهِم لربِّ العالمين في مُختلف مواقِفِهِ إلى أن يتِم اسْتِثْمار ذلك الإمداد في دار الإسْعاد، في دار الكرامة والهناء، وبُلوغ غايات المُنى، والعيش الأهنى، ومُرافقة السيّد المُصطفى، والحبيب المُقتفى، إمام أهل الصدق والوفاء، وسيد أهل النقاء والصفاء، ومن معه مِن النبيين والمرسلين والصدّيقين والشُهداء والصالِحين؛
- ومن رافق هؤلاء (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69] فحسُن أولئك رفيقاً،
- ومن حُرِم مُرافقة هؤلاء، فمن رفيقُه؟ (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء:38]،
(وَمَن يَعْشُ) -يغفل- (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف:36-39]
- إنّما الذين اشتركوا في النّعيم؛ ينْتفع بعضهم بمحبّة بعضا، وينْتفِع بعضهم بموالاة بعض، وينْتفع بعضهم بمُصاحبة ومُصادقة بعضا؛ فإنهم تصاحبوا في الله، وتحابوا في الله، و تخاللوا من أجل الله؛ فبذلك ينْتفعون؛
- "المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة، وإن أهل الجنة لينظرون إلى درجتين عظيمتين في السماء فيتراءَونها كما يتراءى النجم في الأفق الغابر أو الغاير"، فيقال: لِمن هاتان الدّرجتان؟ النبي مُرسل، أم لملك مُقرّب؟ فيقال: "إنّما هما درجتا أخوين تآخا في الله وتحابا فيه"، "وجبت محبتي للمتحابين في، ووجبت محبتي للمتباذلين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين في"
- وأما الذين كانوا يشترِكون على المعصية والغفلة في الدنيا، لا ينفعهم اشتراكهم؛ فهم مشتركين في العذاب في الآخرة فـ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
فالله ينْفعنا بهذه المجامع وبما نحضر مِن مجالس الختم للقرآن، والذكر للرحمن، والتضرّع والابتهال له، وطلب العلم، الله ينفعنا بها في الدنيا والآخرة، ويرزقنا ثمراتها الطيّبة المُباركة المُتوافِرة -اللهم وفّر حظّنا- مِن مِننك ومواهِبك المُتكاثِرة يارب الدنيا والآخرة، ياأرحم الراحمين.
"ولو تعلم أمّتي ما في رمضان؛ لتمنّت أن تكون السّنة كُلّها رمضان"، فيارب بارك لنا في الخاتِمة التي لم يبقَ لنا فيها بعد هذا اليوم إلا يومان أو ثلاثة، ولم يبقَ لنا بعد هذه الليلة إلا ليلتين أو ثلاث، اللهم بارك لنا فيها.. اللهم بارك لنا فيها.. اللهم بارك لنا فيها.
ونحن في عطاء هذا الربّ والإله الكريم نتعرّض لرحماته ونفحاتِه وتجلّياتِه وهِباتِه وتفضُّلاتِه وإكراماتِه ومُنوحاتِه وعطياتِه -جلّ جلاله- بالاجتِماع والاستِماع إلى معاني آياتِه وبياناتِه ودلالاتِه وتعليماتِه في عظيم وحي أوحاه إلى مُصطفاه صلوات ربي وسلامه عليه، فهو أعظم ما التفتت إليه عُقولُنا، ووعته قُلوبُنا، اللهم اجعل آذاننا واعية سامِعة، وقُلوبُنا واعية فاهِمة مُطيعة برحمتك يا أرحم الراحمين؛ قال تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].
وقد تأمّلنا كلام هذا الإله -جلّ جلاله- ما ذكر لنا عن انفِطار السماء وتشقُّقِها، وانتِثار الكواكب وتساقِطُها مُتهافِتة، واقِعاً بعضها على بعض، مُتصادِمة. و (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (2)) فكلّ هذا الذي حوالينا من حِكْمة الله تعالى أن اقْتضت إرادته أن يتغيّر ولا يسْتقر، فما جعل الثبات والدوام لِشيء مِن هذه المظاهِر الكونية؛ ليعلم الناس أن وراء الكون مُكوّن، وله الآية الكُبْرى في صُنْعِه وإتْقانِه وإبداعِه ثم في تغييره وتبديله، فهو القوي القادِر، إله القهر ثم يُعيد بعد ذلك ما يُعيده بِقُدْرتِه -سبحانه وتعالى-.
وتكون السماء غير السماء، والأرض غير الأرض، السابقة تفتت وتشققت وانفطرت، وبِحار الأرض انفجرت، والقبور بُعثِرت، فأرضٌ غير الأرض والسماء غير السماء (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم:48] بُروزاً، كانوا محجوبين عنه بِحُجُب فيما مرّ بِهم مِن مراحل عُمر الدنيا والبرزخ، فيكون الأمر هُنا أوضح، وكشفَ عظمة هذا الإله وقُدْرتِه وإحاطتِه، إذ كانوا يؤمنون بها ولكن في الدنيا من وراء سُقُف وحُجُب ما بين غليظ كثيف، وما بين مرقّق للبعض، ولا يبلُغون فيه نهاية .
وفي البرزخ بعد ذلك أيضاً يتّضح الأمر أكثر، ولكن في القيامة هم أبرز (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) [غافر:16] المعنى؛ يشعُرون ويُدْرِكون وينظرون أنه لا يخفى على الله منهم شيء، أما هم:
- فأيام كانوا في الدنيا لا يُخْفى على الله منهم شيء،
- وأيام كانوا في البرزخ لا يُخْفى على الله منهم شيء،
ولكن في ذاك اليوم هم يعلِمون هذا العِلْم أنه لم يكن شيء مخفي، فيعْلمون هذا العِلْم عن مُشاهدة وعن ذوق وعن تحقّق، والكلّ يعْلم أنه (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
فمن سبق في الإيمان فله نصيب من الجِنان -إذا مات على ذلك- ومن لم يسْبِق له الإيمان بذلك وعاند فلا حظّ له في الجنّة، ومحلّه النيران -والعياذ بالله- بعد أن دُعي إلى الإيمان فأبى -نعوذ بالله من غضب الله-.
- قال سيدنا المصطفى: "لَتَدْخُلُنَّ الجنةَ كلُّكُمْ إلَّا مَنْ أَبَى"، ومن يأبى يا رسول الله الجنّة، الجنّة ما أحد يرضى يدخلها؟!يرضى لايدخلها؟! قال: "مَن أَطاعَني دخَلَ الجنَّةَ، ومَن عصاني فقد أبى" ما رضي، نقول له: تعال هنا ما يرضى، يدهب الى هناك، هذا هو الذي أبى، أبى الآن أما بعد ذلك من؟ جنة أمامك، نار أمامك، حُكُم واحد هُنا، وواحد هُناك (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7] ما عاد شي لك مجال، لكن في الدنيا قال لك: هُنا طريق الجنُة رفض، إذا رفض انتهى.
- "إلَّا مَنْ أبى"، مثلِما يقول ﷺ: كمثلِ ملِك اقْتنى دارًا، وجعل مأدُبة، وأرسل رسول يدعو النّاس إليها، فمن أجاب الرسول دخل الدار، وأكل من المأدُبة، ومن لم يجب الرسول، لم يدْخُل الدار ولم يأكُل من المأدُبة، فالملِك الله، والدار الجنّة، وأنا الرسول، والمأدُبة الضيافة في الجنّة" هُناك موجودة.
- "فمن أجاب الرسول دخل الدار وأكل من المأدُبة" -اللهم ارزقنا- حسن إجابة هذا الرسول، "ومن لم يجب الرسول لم يدْخُل الدار ولم يأكُل من المأدُبة"، دعاه فأبى، "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى"، اللهم ارزقنا حُسن المُتابعة له ظاهِراً وباطِناً.
ذكر لنا -سبحانه وتعالى- بعثرة القبور، وأخبر أنّ عند هذه الوقائع كُلّ نفس، كُلّ إنسان، كُلّ مُكلّف لا يدور فِكْرُه وما تحويه نفْسُه من وعي وإدْراك واهْتِمام وانْتِباه وتشوّف إلا إلى ماذا قدّم وماذا أخّر، ينصرِف الناس، كُل واحد يفكّر في هذا، لاتوجد أشغال أخرى، لا توجد برامج من هنا ولا من هناك، ولا ترتيب مع جهة، والكل مشغول، ماذا قدّم؟ ماذا أخّر؟
- رئيس، مرؤوس
- صغير، كبير
- غني، فقير
- أول، أخير
- إنسي، جنّي
الكلّ شغله اليوم، لا توجد رئاسة، ولا وزارة، ولا قبيلة، ولا جماعة، ولا حُجُب، ولا عاد شي، ماذا حصل؟ كل واحد ما الذي معه؟! ماذا قدّمت؟ ماذا أخّرت؟ ماذا أجبت المرسلين؟ ماذا تعاملت مع الوحي؟ ماذا تعاملت مع الشريعة؟ ماذا تعاملت مع المنهج الإلهي؟
كيف قضّيت عُمُرك؟ جالست من؟ اخْترت ماذا؟ اخْترت ماذا من الأقوال؟ اخْترت ماذا من المنْظورات؟ يُسِّرت لك المنْظورات؛ بعضها عام في الشوارِع والأماكن، وبعضها في الجوّال، وبعضها في آيباد وبعضها ... ماذا اخْترت من المنظورات؟ ماذا اخْترت من المسموعات؟
أما الآن (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) لايوجد شُغِل آخر، لا يوجد فكر آخر، (يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا) لا أحد مربوط بوظيفة، ولا وزارة، ولا شركة، ولا مؤسسة، الآن وقت الجِد، وقت الصِفر
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) الذي كان في عصابة، والذي كان رئيس العصابة، كلهم مشغولين بأنفسهم (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) الله الله .
- (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما فعلت وما تركت، هذا من معاني ما قدّمت وما فعلت، قدّمت:
- عمِلت -أنْفذت- أخّرت -تركت-، هل عمِلت الواجِبات والخيرات والحسنات؟ وأخّرت الذُنوب والسيئات والجرائم والكبائر -تركت-؟
- أو هي قدّمت الذُنوب والمعاصي والسيئات وأخّرت الطاعات والحسنات وما فيه؟ تعْرِف اليوم؟ علمت نفس ما قدمت وما وأخرت؛ ما الذي اكتسبت؟ ما الذي عملت؟ ما الذي حصّلت،
- (وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ* وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ) [النجم:39-41]
- (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما قدّمت من خير أو شر، وما أخّرت مِن سُنن خير يُقتدى بها من بعده أو سُنن شر،
- علِمت نفس ما قدّمت في أول عُمُرِها، وما أخّرت: ما عملت في آخر عمرها،
- علِمت نفس ما قدّمت مِن أموالها ومكْسوباتِها، وما أخّرت: تركة للورثة ومن ورائهم، علِمت نفس ما قدّم وما أخّر،
فكُلّ هذه المعاني يشْغِل عقِل كلّ واحد بها، كلّ واحد من المُكلّفين ينْشغِل عقْلُه بها لأنها أمامه الآن، لا مجال للجُحود ولا للإنكار ولا للزيغ ولا...
انتهت المسألة أمام الكلّ؛ هذا الجبّار، وهذه الجنة، وهذه النار، ما هذا؟ (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]؛ لا توجد هيئة تتكلم، جماعة تتكلم، مجلس يتكلم؟! ما في كلام، انتهت المسألة، كل واحد مشغول الآن؛ ما قدمت وما أخرت؛ (يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:13-15]، تتعذّر بأي شيء لا ينفع، أنت تدري بنفسك، ماذا اخترت؟ ماذا ارتضيت؟ من اتبعت؟ بمن اقتديت؟!
يا مسلمين لكم عقول تحب التشبّه بالفساق! .. بالفجّار! .. بالمجرمين! أنقذ نفسك، بمن تقتدي؟ بمن تهتدي؟ هل هذا سيشفع لك؟ هذا أمر يُرضي ربّك؟ إرفع نفسك، لماذا تقع إمّعة؟ إلى هذا الحد؟! إمّعة لم تجد إلا الفاجر تقتدي به؟! قال قصّته مُمتازة، قال: ثوبه أعجبني! فاجر خبيث إلى النار تقتدي به في ماذا ؟! إرفع نفسك، تريد السقوط إلى هذا الحد؟! إمعة! ماوجدت من تتبعه إلا فاجر ساقط هابط؟! (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، إذا أردت أن تتبع أحدا؛
اتبع نبي، اتبع صدّيق، صالح، ولي؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، لكم الشرف بذلك، أما تستهوون بواسطة الدعايات والإعلانات الكاذبة لتكونوا أتباع وإمّعات وراء السقطة؟! فهذا يفقدكم كرامتكم وشرفكم وعزكم في الدنيا والآخرة،
إنما العز لنا بالاقتداء بمحمد، محمد بن عبدالله:
- (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31]، انظر الى النتيجة الكبيرة، انظر الى الفائدة العظيمة، انظر الى الثمرة الواسعة النفع والفائدة؛ (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) -مَن مثله في هذا الأمر؟- (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
- (مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ) [النساء:80] صلوات ربي وسلامه عليه،
- (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62] فكل مؤمن يطلب رِضْوان الله ورسوله قبل كل شيء، تفكيره ينْصرف إذا أراد أن يقوم بمشروع، أو مناسبة، أو سفرالى مكان، أو سيدرس في مكان، أو سيعمل عقد مع أي جهة؛ أول ما يفكر فيه رضوان الله ورسوله- هل يرضاه الله ورسوله، هذا أولا، هذا هو أهم شئ.
- (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) على قدر الإيمان.
وأما الذي يفكر ما المردود وما المصلحة القريبة الحسّية أوّلا؟ ثم آخر شيء يفكّر، هل هناك قول أو طريقة أو..، أين منزِلة الله عندك! إن أردت أن تعرف منْزِلتك عند الله فانظر ما منْزِلة الله عندك؟! ما منْزِلة ربّك عندك؟ آخر شيء تُفكِّر فيه رضاه؟ آخر شيء؟ أولًا أهواءك ومصالِحك، ثم آخر شيء تفكر؛ يرضى أو لا يرضى؟! هو آخر شيء هو؟! الأولى أن يكون خالِقك وموجِدك ومُرجِعك إليه، أول شيء تفكر فيه.
عابَ الله على المنافقين: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62] يرضى عنك هذا أو هذا، أو يغضب هذا؛ (اللَّهُ وَرَسُولُهُ) قال سيّد أهل المعرفة والحقيقة والحضْرة، يقول للربّ: "إن لم يكن بِك عليّ غضب فلا أُبالي" لذلك توارثوها، صار يقول مثل الشيخ با مخرمة عليه رحمة الله:
إذا كان مولاي راضي *** فمن أراد يغضب يغضب
إذا الله راضي علينا *** سواء عندي المدح والسب
الذي يمدح والذي يسب؛ يقول الذي يقوله، يشبعون، أهم شيء، هل الله راضي أو لا؟
(اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ)؛ هذا معنى قول النبي: "إن لم يكُنْ بِك عليّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافِيتك هي أوسع لي" هذا مقتضى الإيمان.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) كلام من؟ تفكير من؟ تصوير من؟
- (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي شيء.. أي شيء من كائناته؟ أي شيء من موجوداتُه غرّك؟ حتى قال لك: لا تُبالي بأوامِرُه، لا تُبالي بِنواهيه
- (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ما الذي يقولونه؟ غرّهُ بفلان: أي أمّنه جانِبِه وهو لا يُؤمَّن، قال: لا تُبالي به، ليس بيده شيء، وهو بيده الشيء، فغرَّه وتركه يتصرّف، فقام ينتقم منه هذا، ما غرّك بفلان، يقول: أنت ما الذي أصابك تتجرأ على فلان؟ من الذي قال لك؟ تظن أنه ما بيده شيء؟
- (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ) من الذي قال لك أنّه لا يُرجّعك؟ لا يُحاسِبك؟ من قال هذا؟ من قال إن أوامِره سهلة، نواهيه سهلة؟!
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الكريم؛ أنك كنت عدم وأوجدك، الا تفكر؟! كريم؛ أنزل كُتُب، أرسل رُسُل؟! كريم؛ خلقك سوّاك عدّلك! كيف تمشي بهذه القومة العجيبة والشكل البديع، على رجلين مستوى، لا شي أطول من الثانية ولا أقصر، وعينين سواء، لا واحدة واسعة ولا واحدة قاصرة، ولا واحدة في شق وواحدة في شق آخر.
(خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7)) كريم، بهذا الكرم كلّه، يقتضي أن تستحي، وتطلب كيف تشْكر؟ ما الذي غرّك، قال لك: اعْصِه، خالِفُه، اتْرُك أوامِرُه، افْعل ما حرّمه؟! (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) ما الذي حملك على أن تصير بهذه الصورة؟ بهذه الحالة، تُعامِل مولى الجلالة، تُعامِل المُكوِّن! خلق لك هواء، خلق لك سماء، خلق لك أرض، مكّنها وطّدها بالجبال، يسّر لك رزق، كريم، بهذه الصورة كلها، الكريم، وذو الكرم يقتضي حِكْمة، فعلهُ لماذا؟ هل فعَلهُ عبث؟ العبث لا يجيء عنده (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) [المؤمنون:115].
فالإنسان بهذا التقْويم وبهذه الصورة، وبهذا الإفضال والإنعام والتسخيرات مِن حواليه، جاء لحِكْمة أو عبث؟ عبث! مُستحيل على الله أن يكون عبث، هذا الكرم والإفضال ناتج عن حِكْمة أو بغير حِكْمة؟ لو بغير حِكْمة فهو تبذير ليس كرم، لو بحِكْمة فهو كرم، نعم هذا كريم.
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) يعني ما أكرمك وأعطاك بِلا مقصود، بِلا مراد، بلا حِكْمة، ولكن هذا الكرم أعطاك ووهبك؛ لِتعي، لِتُدْرِك، لِتُصدِق، لِتُصْلِح، لِتقوم بالخِلافة عنه في هذا الكوكب الصغير، سينقلك إلى عالم فسيح كبير، سيُثيبك، سيُعطيك جزاءك، -الله أكبر- يُعطيك هذا الكرم كله! وتقوم تُخالِفُه وتعصيه؟!
كيف تعصي الذي *** من نطفة جلّ سواك
ثم غذّاك بـ إحسـ *** ــانه ونمّـى ورباك
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) مالذي جرأك على ترْك أوامِره، وارتِكاب ما نهاك عنه؛ في قلبك، في عينك، في أذنك، في سمعك، في يدك، في رجلك، في جميع أعضاءك، ما غرّك؟! أيليق بِك؟! أيصْلُح مِنك؟! هذا الكرم كلّه، ومُقابِلُه إهمال واستِهانة واستِخْفاف بالأوامِر والنواهي؟!
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) يسّرَ لك مِثل هذه الموائد، وتحضُر كلّ هذا الشهر إلى نهايته، هذا الكرم الواسع كلّه ثم تنوي أن تُخالِف في شوّال أو ترجِع إلى أصدقاء سوء أو..
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7) فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8)) أصدقاءك هم ركّبوك؟! أو أصحابك أو جماعاتك؟ أو أهل الواتساب هم ركّبوك؟! (خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7) فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8)) كيف تغْتر؟! كيف تغفل عنه؟! كيف تُخالِف أمره؟! (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ..) هذا الإحسان، وهذا الامْتِنان بماذا يُقابَل؟ كيف ينبغي أن يُعامَل هذا المُحسِن، المُكْرِم، الكريم، المنعم! ولهذا جاء بلفظة الكريم، ما جاء بلفظة الحكيم لأن هذا الكرم صادر عن حِكْمة ليس تبذير ولا سفاهة، السفيه يُبذّر ماله ويضعه في غير محلّه، لكن الإله العظيم القادر يُعطي نِعم كثيرة؛ للمسلمين.. للكفار، صغار، كبار، لكنّه بحكْمة ليس بسفاهة ولا بعبث، لا يليق العبث بحضرة الإله.. الله الله.
ولذا وجدتَ الواعين المُدركين، تَعظُم النِعم عليهم؛ فيُعظِّم الأدب عِنْدهم، يعْظُم الاحْتِراز والانْتِباه مِنه، والنِعم عِنْدهم أكثر، والجود عليهم أكبر، وهم أتْقى وأخْوف لهذا الإله، مُحاسِبين للحِساب بقوّة؛ ولذلك قال سيّدهم: "أما إنّي أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بما يُتّقى" -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "أما إنّي أخشاكُم لله" عليه الصلاة والسلام.
يقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) الذي ربّاك؛ ربُّك، كُنت لا شيء؛ كوّنك؛ خلق روح يُريد أن يُبْرِزُها إلى عالم الأجساد في قالب، أعتنى به، مِن نُطْفة حوّلك إلى مُضْغة إلى علقة إلى مضغة الى عِظام، كسا العِظام لحمًا، بتصوير بديع مُتقن جميل، ومِن نُطْفة؛ عيون وبصر، ومِن نُطْفة؛ أذان وسمع، ومِن نُطْفة؛ أعصاب، ما هذا؟! عظمة، ما الذي غرّك يا أيها الإنسان؟
انظر! ربِّ العرش يتنزّل لنا ولكم إلى هذه الحُدود، يقول: أنا الذي صنعت وصنعت وأعطيت، كيف تُعامِلونني؟ كيف تُقابِلون كرمي؟ لا تسْتحيوا مِن أمور تعملونها، لو كان بينكم البين -وكلكم مخْلوْقين- لاستحييّتم من بعضِكُم البعض، ها أنا إلهكُم أذكّركم بكلّ هذا رحْمةً وشفقةً حتى إذا قابلْتُموني ما تعرّضتم لسخط، لا طاقة لكم به، لغضب لا طاقة لكم به، لعذاب لا قُدْرة عليكم به، أنا أتنزّل معكم، وأنا الغني عنكم ولو عذّبتُكم وقتلْتكم ما نقص في مُلكِي شيئًا.
لكن يفعل كل هذا معنا؛ تنزُّلًا، تفضُّلاً، تطوُّلًا، تكرُّماً، نغفل عنه بعد ذلك؟! نعصيه بعد ذلك؟! نُخالفه بعد ذلك؟! أوامره مُهْملة في الديار في الشوارع، في أماكِن الأعمال، في الخلاء، في الملأ، في الباطِن، في الظاهِر، مُضيِّع أوامِرُه، مُهْمل شرْعه، هكذا يُعامل؟! هذا المُبدئ الفاطِر الخالِق المُنْعِم المُكوّن لك هذه الصورة.
تذْكر مرة، واحد من الناس، وأنت في حاجة وفي شدة، وهو أنقذك، تقول: ما أنساها له! ونسيت ربك الذي وهبك العين والسمع؟! والذي جاء لك بذاك هو، خالقك وخالق ذاك الذي أنقذك، أنسيته؟!
يقول: أشرفتُ مرة على الهلاك، فأنقذنا فلان، لن أنساها له طول عمري -الله يحفظه، أي شيء يريد أنا مُسْتعِد، لو يريد روحي سأعطيه-، وهذا الذي أوجدك وجاء لك بذاك يُنقِذك هو، .. أتنساه؟! وأوامره تهملها؟!
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ) أنا وإيّاكم مِن الناس هؤلاء، وهذا خِطاب الرحمن
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ) فكلٌّ منّا ومنكم مقْصود بهذا مِن الإله سبحانه.
( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) لو تحرّكتْ مِنك الهِمّة وتابعتَ مُحمد وشابهْته في إقبالِه على الحق، وتعْظيمِه لأمرِه، واحتِقاره للفانيات؛ لسعدِتَ ولكتبَ لك هذا الكريم أن تُرافِقه، وأين أنت مِنه؟! مهما عمِلت وعبدت وزهدِت وصدقت واتّقيت، أين أنت من محمد؟! لكن قال لك: أنا أرافِقك، أوصِلك إلى عنده، أورِدك حوضه، أُظلك بظِل لوائه، أُدخِلك معه الجنة، أُريك إيّاه في الجنّة، ما هذا الكرم؟! فكيف يُقابَل؟! فكيف يُقابَل؟!
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ) خاطبَني وخاطبكم هذا الإله المنّان،
- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6))
لا بُدّ أنّ مسارنا في الحياة بعد اسْتِشْعار هذا الخِطاب؛ أن يكون مسار من فقِه عظمة ربّ الأرباب، فتحلّى بالآداب، وطلب الاقتِراب، حتى يأتي وقت اللِقاء، وإذا لقيته وأنت مُقبِل وأنت متوجّه، ترى كم يُكرِمك؟! ويصير كلّ الكرم الذي مضى يتضاءل أمام الذي يأتي.. الله أكبر.
(وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [آل عمران:198] أعدّ وخبأ لك -هو- في عظمتِه: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، من يقدِر يخبئ لك هذا؟ صندوق التوفير يعمل كذا؟ "خبأتُ لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمِعت ولا خطر على قلب بشر" الإله الأكبر القادر، يقول: أنا خبأت.. الله الله الله الله.
فجاء حبيبه وعبده المُصطفى، لمّا تخلّق بأخلاقه، لمّا أنه أكرم الخلق عليه الصلاة والسلام، وأرحم الخلق على الخلق "واختبأتُ دعوتي، شفاعة لأمتي يوم القيامة" قُل لي بالله، مَنْ مِنْ الحُكومات والدّول يُخبِّئ لك مثل هذا الخبأ؟ ولا الآباء ولا الأمهات ولا لنفسك بنفسك، خبئ خبأه محمد! ربك خبأ رحمات يرحم بها العباد يوم القيامة! وخبأ ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
- (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم) من الذي أخفاها؟ فحتى الإحاطة بحقائق هذا النّعيم الذي سيواجه الصادِق منّا، جبريل الآن لا يُحيط به ولا ميكائيل.
- (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم) أخفاه هو مِن خلْقهِ، هم يتصوّرون عظمته، وهو أعرف، سيدنا جبريل أعرف مِن عامة البشر بهذا النعيم المُقْبِل، لكن لا أحد يحيط به، أبى الله أن تعلم نفس،
- (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17] يُفاجئهم به الحق -تعالى- عطيّة بعد عطيّة، هذا الإله، هذا خبأ.
وحبيبه محمد خبَّأ الدعوة الكُبُرى الموهوبة لكلّ نبي، الكُبُرى خبأها، قال: "وقد تعجّل كل نبي دعوته" لأن الله جعل لكل نبي دعوة كُبُرى عظيمة تُستجاب، قال: "وقد تعجّل كلّ نبي دعوته واختبأت دعْوتي شفاعةً لأمّتي" وغيرها خبأ "آتاني آتٍ من عند ربي، فقال: إن الرحمن" هذا قد غيّر الدعوة الكبيرة التي قد خبأها "أن الرحمن يقول لك ثلاث دعوات الآن موهوبة مُستجابة فما هي أطلب؛
- أما الأولى فقلت: اللهم اغفر لأمّتي،
- قال: وأما الثانية؟ قال: اللهم اغفر لأمّتي،
- قال: وما الثالثة؟ قال: اختبرها.. اختبؤها، قال: وخبأت الثالثة شفاعة لأمّتي في يوم يلوذ بي فيه الناس حتى ابراهيم وموسى" فلا أكرمَ من ربّنا ولا أكرم في الخلق من نبينا!
وبين هذين الكريمين نُقرُّ أنفسنا على الذُنوب، على المعاصي، على السيئات، خُذ لك لباس رمضان مِن فضلك؛
- تكره به الذُنوب طول عُمْرك،
- تكره به المعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها،
هذه خِلع يخلعُها الله في خلال هذه الأيام، من لبِسها أتى بها يوم القيامة، من أفخر اللباس لا يُنزع عند الموت، لا يقدُر أحد أن ينزعه مِنك (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26]
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)؛ تصوّر ممن الخِطاب؟ ووصل إليك على يد من؟ عظمة في الألوهية، أعظم الأنبياء حمل لك هذا الخِطاب مِن رب العالمين (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ) بصَرٌ سوي، سمْعٌ سوي، قوامٌ سوي، بطنٌ سوي، سنًّ سوي -سبحان الله- (فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7)):
- في قراءة: (فَعَدَّلَكَ) عدّل بعضك ببعض،
- (فَعَدَّلَكَ) رتّبك ترتيب حسن.. الله أكبر.
(فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8))، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) [آل عمران:6]، (كَلَّا بَلْ) الذين يُكذِّبون محمد ويناؤونه ويخالِفونه (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)) بالجزاء المُقبِل الذي لابُدّ مِنه؛ خلْقُكم دليل عليه، وتسْويتِكم دليل عليه، وتعْديُلكم دليل عليه، -فإنّي خلقْتُكم بهذه الصورة المُستوية لا عبثاً، إذن لحِكْمَة- الحِكْمة فما هي إذاً في هذا الخلْق؟ هل الحِكْمة راجعة إلى الإله الذي خلقه أو إلى المخْلوق؟ أن ترجِع إليه هذا باطل؛ لأن الإله لا يحتاج إلى شيء.. الله، إذًا راجعة إلى المخْلوق، مادامت راجعة إلى المخْلوق هذه الحِكْمة، فما الذي يحصل لهذا المخلوق في خلْقِه ووجوده؟ هل هذه الحِكْمة لخلْقِه موجودة في الدنيا أو في دار آخِرة؟
انظر إلى الدنيا؛ هذا يظلم هذا، وهذا يؤذي هذا، وهذا يطغى على هذا، لا حِكْمة في الدنيا موجودة لخلق الإنسان، إذاً لا بد من دار، لا بد من حياة تظهر فيها حِكْمة هذا الخلق، و تسْويتك وتعديلك دليل على المرجِع والمصير. لذا يفكّر بعض الناس بتفْكير عام، يقول: إذا كان الخلْق في هذه الدنيا، هذا يظلِم هذا وهذا يبْتز وكذا .. ثم لا يوجد جزاء؛ كان الناس تظلم بعضهم البعض، والظالم هو الرابح، لا لا.. لا لا لا.. لا لا (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42].
فالذي خلق الوجود بهذه الصورة البديعة، وهذا الإنسان بهذا التقويم الجميل، هل يتْرُك الظالم يظلم ثم لا ينتقم مِنه؟! إذا كان كرمهُ في إنه أمهلَ العاصي وأخّره مدّة، حتى عسى يرجِع، وهل هذا الكريم يعجز عن أن يأخذ حق المظلوم من الظالم؟ لا لا لا لايترك لايترك شيء (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) [الأنبياء:47] انسان يعْتدي على حيوان يقول: هات حقّه -الله الله-، حيوان يؤذي حيوان، يقول: خُذ حقّك، لا يترك شيء -جل جلاله وتعالى في علاه- وهذا مُقْتضى الوجود بهذه الصورة، وخلُقُنا بهذه الكيفيّة دليل على هذا.
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7) فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)) الجزاء والحِساب وخلْقُكم دليل عليه، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ) -في هذا العالم من دون أن ترونهم- (لَحَافِظِينَ (10)) ملائكة وكلّناهم بِكُم، كما زينّا السماء بالنجوم، ووطّدنا الأرض بالجِبال، وجعلنا لكم ملائكة يمْشون معكم ليل ونهار، وفيهم كتبة.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)) يحفظون أقوالكُم وأفعالكُم وأحوالُكم ولا ينسون شيء، إلا إذا أراد سبحانه، أن يسامح أحد يمسح من أذهانِهم وإلا لا ينتسي، يحفظون كل شيء، لا أحد يقول: أكتب أو لا تكتب، كل شيء يُكتب، بدون زيادة ولا نقصان.
حافظين (كِرَامًا) كرام عند الله، يعني موثّقين من قِبَل الخلَّاق، مأمون جانِبهم لا يزيدون، لا ينقصون، لا يكذِبون، الله أكبر، لا يصوّرون شيء إلا بحقيقته وواقعه، (كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) يعلمون ما تفعلون: كل ما فعلْتُم وتصرّفتُم وكتبْتُم يعلمونه تمام، الدوافِع له، والإرادة له وما يُحيط به وكيفيّة العمل يكْتِبونها.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12))؛ فتأتي النتائج الكُبُرى (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14))، مع الأبرار اجْعلنا، مع الأخيار اجْعلنا، إلهنا الكريم، إلهنا الكريم مهما دعتْنا أنفسنا إلى الغرور، وشهواتِنا وهوانا وشياطين الإنس والجن وتأخيرُك العذاب، حِلْمُك عنّا، تأخيرك العذاب، ورفْقِك بِنا، فنسألك أن لا تأخِذُنا على غِرّة، وأن لا تجعلنا مِن المغْرورين، وأن لا تجعلنا ممن يُضيّع كسْب رِضاك في هذه الحياة، ليلقاك على خير حال عِند الوفاة، ويسعد إلى الأبد بإسعادِك يا الله، هب ذلك لكل حاضِر معنا ولكل سامِع لنا، لأهلينا وأولادِنا وطلّاِبنا وأحبابِنا وأصحابِنا يا خير واهب، يا جزيل المواهِب، أعوذ بِجلال وجهِك وعِزِّ قُدسُك أن يكون أحد مِنهُم مع الفريق الآخر الذين خسِروا الدنيا والآخرة .
اللهم اجعلنا في الصادِقين، في المُخْلِصين، والعِباد المُقْبِلين بالكلّية عليك، أنت أحقُّ من نُقْبِل عليه، أنت أكرم من نتوجّه إليه، أنت أولى من نُعظّمه، ونُعظِّم أمْره، فيا إلهنا وإله كل شيء، صلِّ على حبيبك القُدْوة المُنْتقاة لنا، وارزقُنا حُسن الاقتداء به في الأقوال والأفعال والمقاصد والنيّات. يا الله لا تُسلّط على قُلوبِنا قُدوة لغيره ولا تجعلنا إلا به مُقتدين، بِهدْيه مُهتدين، لا نستبدل به سواه، كما أنك لم ترتضي لنا غيره ولا في أحد خالفه. اللهم ثبتنا على دربه، وأسقنا من شُرْبِه، وأدخلنا في حِزْبِه، وأحشُرْنا في زُمْرته، وارزقنا كريم مُرافقته، وأنت راض عنّا من غير سابقة عذاب ولا عِتاب ولا فِتنة ولا حِساب.
يا رب هذا الدعاء في خواتيم الشهر الكريم فأجبه وحققه وأنلِنا إياه وتممّه لنا فضلاً وكرما وجودا وإحسانا، فإننا يا كريم سفَهٌ أن نطلب غيرك، ونؤمل سواك، وقد علِمنا من ذنوبنا ما يُخجِلُنا، ولكن علِمنا مع ذلك أنها لا تستطيع أن تحجُبنا عنك إذا رحمتَ، وإذا سامحت وإذا عفوت، فمن نحن؟ وما ذنوبنا؟ ومن نحن؟ ومن طاعاتنا إن أعرضت عنّا أو توليت عنّا، أو لم تقبلنا؟! من نحن وما طاعاتنا؟! إلهي ومن نحن؟ وما ذنوبنا؟ إن عفوت وإن غفرت وإن سامحت فلسنا بشيء، وليست ذنوبنا بشيء، أمام عفوك وصفْحِك ومغْفِرتُك. اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا، فاعف عنّا واغفر لنا واقبلنا على ما فينا، وثبّتنا على ما تحبُّ مِنّا ظاهراً وباطناً.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
اللهم إنا لا نملك أن نؤخر الشهر ولا أن نمد في أوقاته شيء على ما جعلته فيه ولكنك تملك أن توفّر حظْنا منه وأن تُهبنا فيه جزيل المواهب؛ فهب لنا ما بيدك من عظيم الفضل فإنا نطلبك ذلك طلب من عرفوا عجزهم، ووثقوا بربهم و التجأوا إليه، وتذللوا بين يديه، وأيقنوا أن لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين.
27 رَمضان 1437