(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5))
الحمدُ لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومِنه ابتدأ الأمر ويعود إليه، ونشهد أنّه الله الذي لا إله إلاَّ هو وحده لا شريك له، فاز مَن خضع لعظمته وتذلل بين يديه، واستدل مِن خلْقِه وخلْقِ ما حواليه على عظمة بارئه الذي يرجع إليه، وخاب مَن أعرض عنه وتولّى، واغترّ بشيء ممّا به يُملى.
ونشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قُلوبنا، محمدًا عبده المصطفى سيد أهل الصدق والوفاء وإمام أهل النقاء والصفاء، مَن كان الأكرم والأعبد والأتقى لله في الظاهِر والخفا، فهو أقرب قريب وأحبّ حبيب إلى عالِم السِرِّ وأخفى، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المُجتبى المُصطفى سيّدنا محمد، الذي علّمنا وأرشد، وهدانا إليك وسدّد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومقتفيهم في حميد الآثار، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معادِن الأنوار، وعلى آلهم وأصحابهم وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا غفار.
أما بعد،،،
فإننا في تأمّل معاني الآيات؛ لتناول عجائب الاحسانات، وتلقّي واسِع الفيوضات، والإرتقاء إلى مراتب اليقين والمعاينات في اجتماعنا بُكرة الأيام الزاهيات الزاهرات التي أوشكت على الرحيل، وعلى وصولنا إلى الأواخر والنهايات، فباركَ الله لنا في بواقيها الزاكيات، وجعلنا ممن خُتم له الشهر بأحسن الخاتمات.
وصلْنا في التأمّلات للمعاني الربّانيات الإلهيات ولا نجد في الكائنات أبدع ولا أرفع منها، ولا أجمع ولا أوسع منها، ولا أفضل ولا أجمل ولا أكمل منها، فما عسى أن تتلقّى مِن معلومات وتصوّرات عن فلان وفلان وفلتان وشيء مِن هذه الكائنات؛ إنسًا أو جنًا أو سواهم؟ ماذا عسى أن تتلقّى في مُقابِل ما تتلقّى مِن فاطِر كلِّ شيء، وموجِد كلِّ شيء، وخالِق كلِّ شيء، الذي أحاط علمًا بكلِّ شيء؟ وهو الله ربُّك وربُّ كلِّ شيء؟!
يُحدِّثُنا الربُّ -جلَّ جلاله- عن أخبار كوْنِه، وخلْقِه ووجودِه ومصْنوعاته مِن هذه الكائنات، ونجده في سورة الإنفطار يُحدِّثُنا عن أخبار مُتعلِّقة بالفضاء الذي فوقنا وبالأرض التي نحن عليها، أمْرين اثنين مُتعلِّقات بالفضاء، وأمرين اثنين متعلقَين بهذه الأرض التي نحن عليها؛
فذكر هذه الأربعة الوقائع والحوادِث التي تحدُث في السماء والأرض، في وقت قد عيّنه وحدّده -سبحانه وتعالى-، مع إتقانهِ الصِنعة في هذا الأمر البديع العجيب، والتركيب الدقيق، يُغيّر كلّ هذا، ويبدّل كل هذا، فيكون وجودُه واستمراريته السِنين الطويلة الكثيرة المُتطاولة؛ آية مِن آياته، ثم تخريبه وتغييره وتبديله آية أخرى مِن آياته، كلّ آية أكبر مِن أخْتِها.
كما قال الله في فرعون وقومه: (فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا…لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛ ولكن بدلًا من رُجوعهم وإدراكِهم الحق واسْتِسلامِهم له وللحقيقة (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)؛ انظروا إلى التناقض، حيث قالوا عنه: أنه ساحر، ثمّ "ادع لنا ربك إننا لمهتدون"، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ)[الزخرف:47-50]، وإلى حدِّ أن هذه الآيات المُتكاثرة في الأرض وفي هذه الحياة، لا تفيد مَن سبقت عليه الشقاوة -والعياذ بالله-؛ يعرض ويتولّى، وحدٌّ بعد هذا، لو رأوا الآيات الأكبر بعدها؛ مِن خراب هذا العالم والبعث والوقوف، ثم رُدُّوا إلى نفس عالم الدنيا لرجعوا إلى طغيانهم وشهواتهم وآفاتهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28].
ربي إنَّ الهدى هداك وآياتك *** نور تهدي بها مَن تشاء
اللهم اهدنا فيمن هديت، الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان.
يقول الحق:
(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) هُنا علِمنا بهذا، كما ذكرنا مِرارًا أنَّ القيامة أكبر مِن حُروب الأرض وانفجارتها، ووجود أسلحة الدمار الشامل كما يُسمّونه، إنما يتدمّرون هم بها، وهذا الكوكب، لكن أين هم مِن الكواكب؟! أين هم مِن السماوات؟! القيامة أكبر مِن كل هذا؛ سماوات تنْفطر وكواكب تنْتثر، ماذا تعمل أسلحة دمارهم هذا؟! فهي عند عالم القيامة أمر يضْحك مِنه؛ جميع أسلحة الدمار الشامل في العالم، أمر يضحك مِنه يسْتخفّ به؛ ليست بشيء.
(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1))، تشققت السماوات المُحكمة الصُنع، القويّة البِناء؛ (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا) [النازعات:27] كم أنت وكم السماء؟! كم جسمك وكم السماء؟! ماذا تساوي عند السماء؟ أنت يمكن ربع السماء؟! ثلث السماء؟! خُمس السماء؟! عُشر السماء؟! ماذا تساوي بالنسبة لحجم السماء؟! لا إله إلاَّ الله،
هم الآن هؤلاء الذين يصعدون الى الفضاء يرون الأرض صغيرة جدا، الأرض التي أنت عليها هذه والتي فيها أسلحة الدمار الشامل صغيرة جدًا؛ عندما ينظرون للأرض بهذا المنظار، لا إله إلاَّ الله، وهم لازالوا في أماكن قريبة بالنّسبة لكون الله، فما نظرُ العارفين بالله إلى الأرض وما عليها، مِن قديم كانوا يقولون:
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب
يقول: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1)) هذه السماء القوية الشديدة، ملايين السنين، ألا توجد صيانة لها؟! ألا يوجد ترميم لها؟! ألا يحدث حدث لها؟! لا انْشقاق فيها! لا انصداع ولا شيء أبدًا! في لحظة واحدة تتشقّق وتتصدّع، ما هذه العظمة؟! عظمة في بقائها، عظمة في تغييرها -جلَّ القوي- (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ)، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12]، (بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) [النازعات:27- 28].
يقول: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ) هل تعرف شيء غير الكواكب والسماء؟ انتهى علمك؟. (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2)) -تساقطت- (إِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2)) انقضّت، مُتساقِطة مُتهالِكة مُتضارِبة في بعضها البعض (انتَثَرَتْ)، (۞إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]، وهكذا ترى الطائر يطير بين الأرض والسماء؛ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ) [الملك:19]، هو الذي يُمْسِك الكواكب، فإذا أطلقها انْتثرت -جلَّ جلاله-.
(وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ) عندكم ثلاثة أرباع الأرض، هذه الكرة التي أنتم فيها، وتُكوِّنون دولا كثيرة، تحصل بينها نزاع وحروب؛ هذه التي أنتم عليها؛ ثلاثة أرباعها بحر - ماء-، ليس فيها بشر يعيش منكم وسطْها، وعلى الربع هذا الباقي تقوم نزاعات وحروب وضجّة طويلة -مئتين دولة-، وكم في العالم، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله. يقول: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3))، كيف فجّرت هذه؟
ومنها الآيات الدقيقة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) [الرحمن:19-20]، وعند ذاك الوقت انتهى كل شيء، حتى جاء في قراءة: (فُجِّرَتْ) يعني بغتْ، هم الآن (لَّا يَبْغِيَانِ) وبعد ذلك، هذا يطغى في هذا، هذا يدخل في هذا، وانتهت المسألة.
واليوم تقف على البحر:
في هذا الماء العذب حيوانات تعيش لا يصلح لها المالح ولا الوسط، وفي هذا المالح هُناك حيوانات تعيش -ملايين- لا يصلح لها الوسط ولا العذب، لو خرجتْ تموت (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)، فيه حيواناته فقط، لا تدخل هنا وإلّا ستموت، والتي هناك إذا جاءت عندها تموت، والتي هنا إذا جاءت عندها تموت، كل واحدة في مكانها، الله (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) [الفرقان:53]، فإذا جاءت القيامة، دخل هذا في هذا وانتهى كل شيء.
(وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3))، يأتي مِن معنى ذلك (إِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) اختلطت ببعضها البعض، فساحت فذهب ماؤها وتسوَّت الأرض تسْوية، ويأتي معنى ثالث، وهو معنى تسجير: إلتهبتْ بنيران موقدة وتحوّلت إلى نار (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير:6] كما يأتي في سورة التكوير.
يقول تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ)
صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ ***ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ *** أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
كم جسد مثل جسدك قد قُبر في هذه الأرض -في التراب-؟ كم؟ ملايين، خفّف القدم قليلا، أمشِ رويدًا، أنظر، مثل أجسادك كانت فوق الأرض، الآن صارت تحت، يمكن التراب الذي تمشي عليه الآن فيه ذرات مِن أجساد قبلك، وأنت مثلها سترجع هناك (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) [طه:55] فامشِ هَوْنًا (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان:63] اُترك البذخ والتّرف والكِبْرياء والغطْرسة، أعرف قدْرك، أعرف حقيقتك ومصيرك.
يقول: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4))، بُعثرت: نُبشت، قُلِّبت، انْكشفت، أُخرِج مَن فيها (فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) [يس:51] (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:7-8]، فيخرجون مِن القبور.
النفخة الثانية: الروح تدخُل، أول مايُحشر الإنس، والأرض قد تغيّرت، لا يوجد فيها معالم، لايوجد فيها جبال، لايوجد فيها بحار، لايوجد شيء فيها.. انتهت، تجمّعوا (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:106-107]، مُستوية تمامًا، مُدّت: كبيرة صارت، حتى تسعْ هؤلاء، وإلّا لن تسعهم في وقت واحد، كم قرون هذا يموت، وهذا يحيى، فإذا اجتمعوا:
الناس في الموقف يرون السماء تمور، وتتشقق، والملائكة ينزلون- في هذه الحوادث، في ذاك الوقت المُقبل الحتمي الآتي لا بد، على الكل.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5))، كلٌّ عَلِم، عَلِم ماذا؟ عَلِم ما قدّم وما أخّر، علِم ماذا؟ عِلم مُعاينة، عِلم ذوق، عِلم نتيجة، عِلم عاقبة! الآن هناك ميزان قائم مضبوط؛ كل واحد أمامه ما قدّم وما أخّر، ما قدّم، ما أخّر ماذا؟
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)):
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) كلُّ هذه المعاني أمام عينك في تلك الساعة واضحة جليّة، تدري ما بنفسك الآن، الله، ففي البداية عند القيام في الموقف الكل يُقَوّم حسابه، ماذا قدَّم؟ ماذا أخَّر؟ ماذا اختار؟ ماذا رغِب؟ في ماذا رغب؟ ما الذي انطلق فيه؟ ما الذي امتنع عنه؟ (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما قدّمت مِن فعل الفرائض، وما أخَّرت وتركْتها.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) لكل هذه المعاني، كل نفس تستشعِر وتذوق، وتعلم عِلم ذوقٍ، ومُعاينة، وإحساسٍ بالعاقبة، والنتيجة ما قدّمت وما أخرّت؛ نظراتها، مسموعاتُها، خلواتُها، جلواتُها، مُعاملاتُها؛ مع نفسها، مع أهلها، مع أولادها، مع جيرانها، مع أعمالها، مع شرِكاتِها، مع أسفارِها، مع إقامتِها، ما قدّمت وأخّرت! ثم يُفصَّل ما قدّم وأخّر؛ في صحف يُؤتونها، في موازين تُوزن لهم، في أعضاء تتكلم، وأرض تتكلم، ياالله، (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة:4].
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5))، (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:14] الله، كلٌّ يعرِف ما قيمة العمل الصالح، وشؤم وسوء العمل السيء ومصائبه، كلٌّ يعرِف.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) وسيكون نفخ النفخة الأولى في الصور -القيامة- في مثل هذا اليوم، في يوم جمعة؛ لكن لا ندري سَنة كم؟ لا ندري، و يُذكر في بعض الآثار أنه أيضًا يوم الجُمعة في خمسة عشر رمضان، في مثل هذا الشهر، لكن سنة كم؟ لا أحد يعرف (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) [الأعراف:187]، عِلم الساعة -جلَّ الله-؛ ولكن لا بد ستجيء، ستجيء، كما قال الله.
مُكوِّن يتحدّث عن كائناته، ماذا سيصنع بها، لازلت تريد كلام أحد ثاني؟! إعقل، قال الله: (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) [الكهف:51] فعليهم يصغون ويستمعون، يقول: ماذا سأعمل بكم، وكيف سأحولكم، وكيف سأعمل بالسموات والأرض، لأنّي أنا الذي خلقتها- أما هم يأتون مُستحدَثين بما يكتسِبونه -حادث مضى- ويريدون أن يحكِّموا المُكوّن والخالق.
ما في عقل عندك أنت؟! أنت نفسك ما عرفت تصنع نفسك، لا صنعت نفسك، دع مُكوّن السماء يتحدث عن السماء، دع مكوَّن الأرض يتحدث عن الأرض، وهو خالقها ويقول لك: أنا سأعمل بها كذا، وسأعمل كذا، وسأُغيّرها إلى كذا، له القدرة والتصرف، فتعجّب في الذي أمامك؛ كيف خُلِقتَ أنت فقط! وكيف خُلِق الذي حواليك هذا، إذا علمت ذلك، لن تستغرب إذا قال لك خالقها: أنا سأحوّلها كذا، -الأمر أمره والقدرة قدرته، وما الذي يُعجزهُ -جلَّ جلاله-.
يقول: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)) عندئذ، وقتها، حينها (عَلِمَتْ نَفْسٌ) -كل نفس.. كل نفس- (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) فإن كنتَ مؤمن واعي عاقِل؛ اضبط ما تُقدِّم وما تُؤخِّر باقي عمرك مِن الآن، فإنّك هُناك لا يُصادِفك ولا تُلاقِي إلاَّ ماقدّمتَ وما أخّرتَ (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).
الله يرزقنا الاستعداد، والتزوُّد بأشرف زاد، ويُهيئ لنا -سبحانه وتعالى- مُرافقة خِيار العِباد، في يوم الميعاد، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، بارك في جُمْعتُنا -آخر جُمْعة مِن جُمَع رمضان- لا تأتينا الجُمْعة الثانية إلاَّ وقد خرجْنا مِن الشهر، وخرج ورحل الشهر عنّا؛ فبارك لنا فيها، وأسعِدنا بإسعاداتِك لخواص أهليها، برحمتك يا أرحم الراحمين،
وبارك لنا في خاتِمة الشهر وبقيّة لياليه وأيامه، واجعلنا مِن أسعد عِبادك بما فيه، وبما تجود على أهليه، ولا تجعله آخر العهد مِن رمضان، مرَّت علينا أيامه سريعة فأعِدنا إلى أمثالِها وأجعلها شاهِدة لنا لا علينا، وحُجّة لنا عِنْدك لا علينا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الذي يقول: هل الجن يستظلّون بظلِّ العرش مثل الإنس؟ خيِّره وشرّه، وصالح وطالح، وصادق وكاذب؛ وكلٌّ مُجازى بعمله؛ هذا في ظلِّ العرش، وهذا في الشمس، كلهم مِثل الإنس، وهذا في الجنّة وهذا في النّار، مثل الإنس كذلك (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا) [الأنعام:130] بلى.
الله يجعل مآلنا خير، ويجعلنا مع خير الجن والإنس، مع حبيب القُدّوس سيّد أهل حضرة القُدس، أزكى الخلائق نفسا، وأقواهم أُسَّا، زين الوجود، صاحِب المقام المحمود، معه احشرنا يا بر ياودود، وأنت راضِ عنّا، واحشر معه جميع أهْلينا، وأولادنا، وطُلابنا، وأحبابنا، وأصحابنا، ومَن والانا فيك، والحاضرين ومَن يسمعنا. وذوي الحقوق علينا وعليهم برحمتك.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
26 رَمضان 1437