(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: مواصلة شرح باب بيان الأحداث الناقضة للوضوء
صباح الثلاثاء: 11 ربيع أول 1445هـ
"وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: من مسَّ إبطه أو نقّى أنفه أو مسّ أنثييه فليتوضأ، وكان علي -رضي الله عنه- إذا مسّ صليبًا على نصراني يذهب يتوضأ من مسّه ويقول: إنه رجس، وكثيرًا ما كان -رضي الله عنه- يتوضأ من مسّ الأبرص واليهودي، وكان عمر -رضي الله عنه- يتوضأ من الرعاف والحجامة والفصد، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: من احتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه.
وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: من ضحك في الصلاة فليُعد الصلاة لا الوضوء. قال: وإنما أمر أصحابه ﷺ بالوضوء لكونهم ضحكوا خلفه، وليس ذلك الحكم لغيره من الخلفاء، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: من فسّر القرآن برأيه وهو على وضوء فليتوضأ، وكان يقول أيضًا: من تجشأ فملأ فمه فليعد الوضوء، وكان ابن أبي أوفى يبصق الدم فيمضي في صلاته، والله أعلم."
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن اتّبعهم بإحسانٍ سِرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله المرتقين في الخيرات أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ، يواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث والآثار المتعلقة بنقض الوضوء، قال: "وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: من مسَّ إبطه أو نقّى أنفه أو مسّ أُنْثَيَيْهِ فليتوضأ" وهذا منه ما استُحبّ منه الوضوء ومنه ما رأى أنه متعلّق أيضًا بالنظافة فقد يكون المراد بالوضوء:
فكذلك كان يأمر من مسّ الإبط أو نقّى الأنف أو مسّ أُنْثَيَيْهِ -يعني: خصيتيه- فليتوضأ، أمّا على سبيل الندب إما وضوء الصلاة أو أنه الوضوء اللغوي.
"وكان علي -رضي الله عنه- إذا مسّ صليبًا على نصراني يذهب يتوضأ من مسّه ويقول: إنه رجس. وكثيرًا ما كان رضي الله عنه -سيدنا علي- يتوضأ من مسّ الأبرص واليهودي" وهذا مما استحبّه الشافعية وغيرهم أنهم قالوا: أنه يستحبّ لمن مسّ الأبرص أو اليهودي أن يجدّد الوضوء؛ يعيد الوضوء. إذًا الأحاديث التي وردت منها هذا حديث سيدنا عمر وجاء مفرّق، فجاء عند عبدالرزاق وابن أبي شيبة بأمر سيدنا عمر بالوضوء من مسّ الإبط، وجاء عند ابن أبي شيبة من تنقية الأنف، وجاء عن ابن عمر وبُسرة بنت صفوان مرفوعًا إلى النبي ﷺ: "من مسّ ذَكَره أو أنثييه أو رفغيه.." يعني: أصل الفخذ؛ الرفغ، محل يجتمع فيه الوسخ يُقال له رفغ، والمراد: أصل الفخذ "..فليُعد الوضوء" كما جاء في رواية عبد الرزاق والبيهقي والحاكم في المستدرك، "من مسّ ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليُعد الوضوء" جاء مرفوعًا من رواية عبد الله بن عمر ورواية بسرة بنت صفوان.
وكذلك جاء في رواية عبد الرزاق عن سيدنا علي في شأن مسّ الصليب، وهو مظهر الكفر والشرك عند النصارى؛ ويعبدونه من دون الله تبارك وتعالى، فبذلك قال: أنّه نجس فأحب الوضوء منه سيدنا علي، لأن سيدنا علي -في رواية عبد الرزاق استتاب المستورد العجلي كان نصراني،وهو يريد الصلاة ويدعوه للإسلام، قال: إنّي أستعين الله عليك، قال هذا النصراني: وأنا أستعين المسيح عليك، فأهوى عليٌّ بيديه على عنقه فإذا هو بصليب فقطعه؛ قطع الصليب، فلما دخل في الصلاة قدّم رجل للصلاة وذهب يتوضأ وقال أنّه لم يُحدث ذلك بحَدَثٍ أحدثه ولكنه مسّ هذه الأنجاس؛ يعني: صليب النصراني، فأحبّ أن يُحدث منها وضوءا.
وهكذا جاء في روايةٍ عند الطبراني عن ابن مسعود قال: "كنا نتوضأ من الأبرص إذا مسسناه"، وجاء في رواية ابن عباس -عند ابن عدي في الكامل- يرفعه الى النبي ﷺ يقول: "من صافح يهوديًا أو نصرانيًا فليتوضأ او ليغسل يده" والمراد: التنقّي عن آثار ذلك الكفر باطنًا فيعبَّر عنه في الظاهر إمّا بالوضوء أو بغسل اليدين بعد مسّ الكافر. وجاء في رواية الطبراني عن سيدنا الزبير بن العوام: أن رسول الله ﷺ استقبل جبريل عليه السلام وأنه أبى جبريل أن يتناول يد النبي ﷺ؛ قبض يده عن تناول يد النبي ﷺ، "فدعا النبي بماء فتوضأ، ثم ناوله يده فتناولها -سيدنا جبريل-، قال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ قال: إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمسّ يدي يدًا مسّها كافر"، هكذا جاء في رواية الطبراني. وقد ورَدَ عن الصحابة أنهم كانوا يجتهدون في الغزوات أن لا تمسّ أبدانهم أبدان الكفار ولا ثيابهم ثياب الكفار استحضارًا للنّجاسة المعنوية والقذارة الباطنية حتى يبقى القلب محفوظًا بتعظيم دين الله وشهود الله تبارك وتعالى.
وجاء أيضًا في رواية الإمام مالك وعند الإمام الشافعي وعند عبد الرزاق والبيهقي: "أن عبد الله بن عمر كان إذا رَعَفَ انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولم يتكلم" وعلمنا أن هذا مذهب الحنفية: أنه إذا سال الدم وَجَب الوضوء وانتـقَض الوضوء، وأنه يبني على الصلاة إذا لم يحدث حَدَث آخر ولم يتكلم. وهكذا الوضوء من الحجامة كذلك ومن الفصد قد تقدّم معنا أن مذهب الحنفية أنه إذا سال، وكذلك الحنابلة يقولون: إذا كثر خروج النجاسة من غير السبيلين إذا كان كثيرًا بطل الوضوء.
وكذلك جاء عن سيدنا جابر بن عبدالله: "من ضَحِك في الصلاة فليُعد الصلاة لا الوضوء" وتقدّم أنّ معتمد الحنفية: أنّ القهقهة في الصلاة تُبطل الوضوء والصلاة معًا، وفي قولٍ عندهم أنّ ذلك إنما هو تأديبٌ لهذا الذي ضحك، وكذلك ما أشار إليه عن سيدنا جابر قال: "وإنما أمر أصحابه ﷺ بالوضوء لكونهم ضحكوا خلفه، وليس ذلك الحكم لغيره من الخلفاء" إنما كان ذلك تشديد عليهم لمكانة الإمام ﷺ.
"وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: من فسّر القرآن برأيه وهو على وضوء فليتوضأ" ومن أهل الفقه من جَعَل كل كذبٍ وغيبة ناقضًا للوضوء، فإذا كذب انتقض وضوءه، أو اغتاب مسلمًا انتقض وضوءه، وعليه الهادوية يقولون: أن من كَذَب بطل وضوءه؛ يجب عليه أن يتوضأ.
يقول: "وكان يقول أيضًا: من تجشأ فملأ فمه فليُعِد الوضوء، وكان ابن أبي أوفى يبصق الدم فيمضي في صلاته" أي: من غير وضوءٍ ومن غير غسل فمه.
ثم يتكلم عن ما ذكر الفقهاء في مسّ الرجل المرأة ومسّ الإنسان فرجه، هل ينقض الوضوء أم لا؟
"فصلٌ في لمس المرأة والفرج"
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله ﷺ يُقبِّل نساءه ثم يخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقال لها عروة ومن هي من نسائه إلا أنتِ؟ فضحكت، وفي روايةٍ أخرى: "كان يقبّلني ويصلّي ولا يتوضأ، وكثيرًا ما كنت أجسّه ﷺ بيدي بالليل فتقع يدي على بطن قدمه وهو ساجد فيُتمّ صلاته".
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يتوضؤون من لمس الصغيرة والمحارم، وكان عمر وابنه -رضي الله عنهما- يقولان: قُبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسّها بيده فعليه الوضوء، وكذلك كان يقول عبد الله بن مسعود.
وقبَّلت عاتكة بنت زيد زوجها عمر بن الخطاب مرّةً فصلّى ولم يتوضأ، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: ما أبالي قبَّلت امرأتي وشممت ريحانًا، وكذلك كان يقول علي -رضي الله عنه-، فقيل لابن عباس: فما تقول في قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، فقال ذلك الجماع ولكن الله يعفو، وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول: من قبَّل امرأته وهو على وضوء أعاد الوضوء."
يتكلّم هذا عمّا يتعلّق أيضًا بلمس الرجل للمرأة، والمراد: غير المحارم وغير الصغيرات الغير مشتهيات في زمن الطفولة وما إلى ذلك، ولكن إذا قد بلغ حدًّا يُشتهى فيه وكان غير محرم وكان المسّ مباشرة بالبشرة من دون حائل، فهل ينقض الوضوء أم لا؟:
اذًا: فلَمس الرجل للمرأة، والمرأة للرجل ينقض كلاهما:
قال الشافعية:
فإذا اجتمعت هذه الشروط صار النقض مبطلًا للوضوء عند الشافعية.
وعند الحنابلة والمالكية:
إن كان بشهوة ينقض الوضوء وإلا فلا،
وعند الحنفية:
ما ينقض الوضوء.
كذلك فيما قالوا في مسّ الفرج:
قال في رواية السيدة عائشة: "كان رسول الله ﷺ يُقبِّل نساءه ثم يخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ"، هذا حَمَله الشافعية على أنَّ ذلك بحائل فلا ينقض الوضوء، وكذلك جسّها بيديها على بطن قدمه ﷺ وهو ساجد، حمله إما أن يكون بحائل وإما أن يكون مستغرقًا في السجود لم يشعر بها.
وعلى كل حال جاءت الأحاديث والآثار، وحملوا الآية: (..أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ..) [النساء:43]، على ما جاء في أحد القراءات السبع: (..أو لمستم النساء..)، وربطوها بمعنى اللمس في بقية الآيات مثل قوله تبارك وتعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ..) [الأنعام:7]، وقوله: (..أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ..) [طه:97]، يقول سيدنا موسى -عليه السلام- للسامري؛ أي: لا لمس، فمن لَمِسه حُمَّ، وجاءته الحمى وانتقلت إليه، فكان من تأديب السامري الذي ذرَّ التراب من أثر وطء جبريل على صورة العجل، وقد جعله من ذهب فصار يخور، ودعاهم الى عبادته، وتبعوه إلا سيدنا هارون نهاهم ولم ينتهوا، وقالوا لن نتركه حتى يرجع إلينا موسى! فجُعِل من الأدب على السامري أن لا يمسّ أحد ولا يمسًّه أحد، فإن مسّ أحد أومسّه حُمَّ؛ أصابته الحمّى وجاءته الأمراض: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ) [طه:97]. وكذلك قال الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) [الجن:8]، وكل ذلك لمس يكون باليد، فحمله الشافعية على هذا.
وما جاء أيضًا في الحديث للذي اعترف عنده بالزنا ليُقيم عليه الحد، قال: "لعلّك قبلت، لعلّك لامست.."، يعني: غير الجماع، لامس غير الجماع؛ فاللمس غير الجماع على هذا الحديث، بهذا أخذ الشافعية، وقال الآخرون من الأئمة: إنَّما المراد كما قال ابن عباس بالملامسة الجماع، وسمعت قول عمر وابن عمر: أنَّ تقبيل المرأة من جملة المِساس الذي ينقض الوضوء. وكذلك ما ذكر أنهم لا يتوضؤون من لمس الصغيرة والمحارم، وهو كذلك عند الشافعية، ولكن يُسنّ عندهم للخروج أيضًا من خلافٍ عندهم في الوضوء من لمس المحارم.
"وكان عمر وابنه -رضي الله عنهما- يقولان: قُبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسّها بيده فعليه الوضوء، وكذلك كان يقول عبد الله بن مسعود." رضي الله عنهم، وذكر مع ما نقل عن سيدنا عمر أن قُبلة الرجل امرأته من المساس: أن زوجته عاتكة بنت زيد قد قبّلته مرّة فصلّى ولم يتوضأ، فلعلَّه على مقابل الأصح عند الشافعية: أنه ينتقض اللامس دون الملموس، أنه لم يحصل منه قبلة، ولكن هي التي لمسته هو لم يلمسها، فصار هي التي انتقضت دونه، على القول أيضًا عند الشافعية بأنه ينتقض اللامس دون الملموس، والمعتمد عندهم: أن الكل ينتقض اللامس والملموس، بالنسبة للرجل والمرأة.
وكذلك ما جاء "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: ما أبالي قبَّلت امرأتي أو شممت ريحانًا" أي: كما أن شمّ الريحان ما ينقض الوضوء وكذلك عنده تقبيل الزوجة ما ينقض الوضوء. "فقيل لابن عباس: فما تقول في قوله تعالى: (أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ)، فقال ذلك الجماع ولكن الله يعفو" وفي رواية: "يكنو"، يعني أنه لا يُصرَّح بذكر بعض الألفاظ من الحياء والحشمة، فما يذكر بعض الألفاظ صراحةً ويأتي بما يدلّ عليها. "وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول: من قبَّل امرأته وهو على وضوء أعاد الوضوء" إلى غير ذلك مما وَرَد ويأتي معنا بيان شيء منه إن شاء الله تعالى.
رزقنا الله الفقه في الدين، والمتابعة لحبيبه الأمين، والاستقامة على ما يحبّه منّا، ويرضى به عنّا، ظاهرًا وباطنًا في خير ولطفٍ وعافية.
بسِرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه
الفاتحة.
12 ربيع الأول 1445