(535)
(339)
(364)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 358- كتاب الحج والعمرة (05) فصل: في بيان الاستطاعة
صباح الأربعاء 2 ربيع الأول 1447هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال:
فصل في بيان الاستطاعة
"كان رسول الله ﷺ يحث على تعجيل الحج عند الاستطاعة ويقول: "تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، وفي رواية: "من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة". وكان ﷺ يقول: "حجوا قبل أن لا تحجوا فكأني أنظر إلى حبشي أصمع أفدع بيده معول يهدمها حجرًا حجرًا"، والأصمع صغير الأذن والأفدع زيع في اليد والرجل، وكان ﷺ يقول: "الحج قبل التزويج"، وكان ﷺ يقول: "ليحجن لهذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج"، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، وكان ابن أبي داؤد يقول: "سئل رسول الله ﷺ عن قوله تعالى فيمن لم يحج (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97] فقال ﷺ: "من حج لم يرج ثوابه وجلس لا يخاف عقابه فقد كفر".
وكان عكرمة يقول: "لما نزل قوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا)[آل عمران:85] الآية، قال أهل الملل كلها نحن مسلمون فأنزل الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾[آل عمران:97] فحج المسلمون وقعد الكفار، وكان ﷺ يقول: "قال الله عز وجل: إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت عليه في رزقه لا يفد إليّ في كل خمسة أعوام مرة إنه لمحروم".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتك، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريّته عبده وصفوته سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، خيرة الرحمن في بريّته، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- في هذا الفصل ما يتعلق بالاستطاعة في الحج، التي أشار إليها الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: (..وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..)[آل عمران:97]. وهي الشرط للوجوب.. لوجوب الحج.
فإنه للحج مراتب:
وعند الاستطاعة فقد سبق معنا ذكر اختلاف الأئمة، هل يجب الحج على الفور أم على التراخي؟
إذًا المبادرة عند الاستطاعة بأداء الحج مطلوبة عند الجميع، ما بين أنها فرض أو أنها مستحبَّة.
قال: "كان رسول الله ﷺ يحث على تعجيل الحج عند الاستطاعة ويقول: "تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، هكذا جاء في رواية الإمام أحمد في المسند. وفي رواية: "من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة"، فيخرج عن الاستطاعة في أعوام مُقبلة.
ولذلك قال -في خطر التأخير- الشافعيّة: أنه إذا مات قبل أن يحج، تبين عصيانه من آخر سنة استطاع الحج فيها فلم يحج.
وكان الرسول ﷺ يقول: "حجوا قبل أن لا تحجوا.."، أي قبل ألَّا يُمكنكم الحج:
وذكر أن بعض الكفار من الحبشة، قال: "فكأني أنظر إلى حبشي أصمع -يعني: صغير الأذن- أفدع -يعني: زايغ، فيه زيغ، فيه ميول في يده أو رجله- بيده معول يهدمها حجرًا حجرًا" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ ثم يرمي بأحجار الكعبة في البحر، فلا تُعمر بعد ذلك أبدًا؛ وهذا بعد سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام-.
قال:"الأصمع صغير الأذن والأفدع زيغ في اليد والرجل، وكان ﷺ يقول: "الحج قبل التزويج"، أي: هو مقدم عليه لمن لم يضطر له. وكان ﷺ يقول: "ليحجن لهذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج"، يعني: في أيام سيدنا عيسى -عليه السلام-.
يعيش سيدنا عيسى بعد هلاك يأجوج ومأجوج مدة، ويستمر الحج والعمرة، وبعد وفاته أيضًا بقليل يستمر الحج والعمرة، إلى أن تأتي ما بقي من العلامات الكبرى، ويأتي هذا الذي يهدم حجر الكعبة حجرًا حجرًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فإذًا يستمر على ظهر الأرض الحج ببيت الله والعمرة إلى آخر الزمان، إلى أيام سيدنا عيسى وما بعده بقليل. وبعد وفاة سيدنا عيسى -عليه السلام- يكون ذهب خير الدنيا، ولم يبقَ إلّا آخر العلامات الكبرى للساعة، ثُمّ توالِي الكفار على ظهر الأرض، بحيث يكون من على ظهر الأرض كلهم كافر ابن كافر ابن كافر، ليس فيهم من يقول: الله.. -لا إله إله الله- وعليهم تقوم الساعة.
قال: "وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ".. رأى تراخيهم وتأخرهم عن الحج سنة بعد سنة وهم قادرون، أن ذلك دليل على أنهم ما هم متحققين بالإسلام، وبيُسَن بهم سنّة اليهود والنصارى بضرب الجزية عليهم، تعظيمًا لشأن الحج، وتخويفًا من التراخي في أدائه للمستطيع.
كان ابن أبي داود يقول: -في قول الله- "فيمن لم يحج (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97]، قال: "من حج لم يرج ثوابه وجلس لا يخاف عقابه فقد كفر".
(وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) كفر بوجوب الحج وبثوابه لمن يحج، وبتعرض المتأخر عنه مع القدرة عليه للعذاب والعقاب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ من كفر بهذا (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وسيذيقه مغبَّة ما كفر من العذاب.
.. أجارنا الله من عذابه ومن الخزي في الدنيا والآخرة.
قال: "وكان عكرمة يقول: "لما نزل قوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ..)[آل عمران:85]، قال أهل الملل كلهم نحن مسلمون فأنزل الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ..﴾[آل عمران:97] فحج المسلمون وقعد الكفار. (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ..)[آل عمران: 19] (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ..)".
والاستطاعة: هي القدرة على الشيء.
وإن كانت الاستطاعة والإطاقة: تعني أنها غاية ما يقدر عليه الإنسان؛ والقدرة أوسع من ذلك؛ ما يسهل عليه وما يصعب عليه كله يقال فيه قدرة.
ولكن ما يقال استطاعة أو إطاقة إلا للأمر الذي يستعمل فيه غاية وسعه وغاية طاقته.
من توفرت فيه هذه الخصال وجب عليه الحج:
وقال المالكية: ما يُشترط آلة الركوب، بل القادر على المشي يُعتبر مستطيعًا ولو من بلد بعيد.
وقال الجمهور: إن كان قريبًا من مكة أو من أهل مكة، فلا يُشترط وجود الراحلة في حقه ولا وجود المركوب، وهو قادر على المشي، فيجب عليه أن يمشي. فمن بينه وبين مكة دون المرحلتين فهو من حاضري المسجد الحرام، ولا يلزم في استطاعته وجود الراحلة ولا المركوب، بل إذا كان مستطيعًا المشي فيجب عليه أن يحج.
وقالت المالكية: لا فرق بينه وبين البعيد من مكة، كلهم سواء، من قدر على الحج ولو ماشيًا وجب عليه، ولو من أبعد بلد وهو قادر على أن يمشي.
استدل الجمهور بما جاء في تفسيره ﷺ الاستطاعة بقوله الزاد والراحلة: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ". فبذلك قالوا أنه لا يكون مستطيعًا من لم يجد الراحلة ولا يجد أجرة ما يركب عليه إذا كان بينه وبين مكة أكثر من مرحلتين.
فإذا لم يجد أجرة ما يركب وبُذل له المال فلا يلزم.
ووجوده أيضًا لثمن الركوب وما إلى ذلك، يُشترط أن يكون فاضلًا عمَّا تمس إليه الحاجة مدة ذهابه وإيابه، عن نفقة أهله ومن تلزمه نفقتهم، وعن قضاء ديْنَه الحال.
وتكون النفقة لمدَّة ذهابه وإيابه.
أيضًا المالكية قالوا: هنا يكفي وجود النفقة للوصول لمكّة بس فقط؛ ولا يُشترط أن يكون عنده ما يُرجع به؛ إلّا أن يخاف الضياع؛ وإلّا فيكفي في الحج وفي اعتبار الاستطاعة وجود الزاد الذي يُوصله إلى مكّة.
الجمهور قالوا: يكون عنده الزَّاد للذهاب وللإياب، ومن ذلك أيضًا نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم، وكذلك ما حضر من الدّيْن يُقدَّم على الذهاب إلى الحج.
وأمّا صحة البدن؛ فهل هي شرطٌ للوجوب أم للأداء بالنفس؟
كذلك ما يتعلق بأمن الطريق على النفس والمال وقت خروج الناس للحج:
إذًا فيلزم من اجتمعت له القدرة والاستطاعة أن يحج بيت ربّه -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ويزداد بالنسبة للمرأة:
إذًا فمن الشروط المتعلقة بالمرأة خاصة للاستطاعة: أن يصحبها في الحج الزوج أو محرم منها؛ إذا كانت المسافة بينها وبين مكة مسيرة القصر -مسافة القصر-، لقوله ﷺ: "لا تُسافِرِ المَرْأَةُ ثَلاثًا، إلّا وَمعها ذُو مَحْرَمٍ"، و"لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَومٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مع ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا".
أما في حج النفل:
لا يجوز للمرأة إلا مع زوج أو محرم، ولا يصح مع نسوة ثقات ولا مع صالحين كما هو واجبٌ في حجة الفرض عند المالكية.
إذًا يكون المحرم شرطًا لوجوب الحج -وجود المحرم-؛ وهو كذلك عند المالكية والشافعية والحنابلة. والراجح عند الحنفية أن وجود الزوج أوالمحرم للزوم الأداء بالنفس، لا للوجوب.. الوجوب: يجب، لكن لا يلزمها بنفسها أن تذهب بنفسها إلا أن تجد زوجًا أو محرمًا، مثل المعضوب عندنا.. الحج يجب عليه ولكن لا يلزمه بنفسه؛ وهكذا إذا لم تجد زوجًا أو محرمًا عند الحنفية سواء.
ولا يُشترط في المحرم البلوغ، ولكن التمييز والكفاية.
والشرط الثاني: ألا تكون مشغولة بعدَّة طلاق أو عدَّة وفاة أيام الخروج للحج.
قال الحنابلة: لا تخرج في عدَّة الوفاة، ولكن تخرج في عدَّة الطلاق المبتوت -إذا كان طُلِّقت ثلاثًا-؛ أما الرجعيّة أو من كانت في عدَّة وفاة فلا تخرج للحج.
وسمعنا ما قال الحنفية أنَّ عدم العدَّة شرط ٌ للأداء بالنفس -للحضور بالنفس- وليس شرطًا للوجوب.
ونعلم اختلافهم في: هل الحج على الفور أو على التراخي؟
فأصح الروايتين عند الإمام أبي حنيفة وكذلك صاحبه أبو يوسف ومالك في الراجح عن الإمام مالك وكذلك مذهب الإمام أحمد: أنه يجب على الفور للمستطيع. فمن تحقق فرض الحج عليه في عامٍ فأخَّره يكون آثمًا، فإذا أدَّاه بعد ذلك صار أداءً لا قضاءً، ولكنه يأثم فقط في التأخير، ويرتفع الإثم إذا حجَّ ويصير الحج أداء.
ولكن عند الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن من الحنفية أنه يجب على التراخي، فالمستطيع لا يأثم بتأخيره، وإنما يجوز التأخير بشرط العزم على الفعل في المستقبل، وأن لا يتوقع انتهاء الاستطاعة. فإذا توقع -باحتمال قوي- أنه بغير هذه السنة ما بيقدر، وجب عليه.
يقول: وكان ﷺ يقول: "قال الله عز وجل: إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت عليه في رزقه لا يفد إليّ في كل خمسة أعوام مرة إنه لمحروم". فمن تيسّر وتسهل له الذهاب إلى الحج فلا ينبغي أن يؤخّره عن خمسة أعوام، في كل خمس أعوام يفد إلى البيت الحرام؛ وهكذا أورد الحديث الذي عند أبي يعلى وابن حبان والطبراني في الأوسط، يقول الله: "إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت عليه في رزقه لا يفد إليّ في كل خمسة أعوام مرة إنه لمحروم".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله، ورزقنا حسن متابعته والاقتداء به والسير في دربه؛ فرّج كروبنا وكروب أمته أجمعين في المشارق والمغارب، ودفع عنّا وعنهم جميع المصائب والنوائب، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، وأصلح شؤون الأمة، وكشف عنهم كل غمة، وجعلنا في خيار الأمة، وأنفع الأمة بالأمة، وأنفعهم بالأمة عامّة وخاصَّتهم خاصة؛ ودفع السوء عنّا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ووقانا جميع الأسواء والشرور وكل محذور، في خير ولطف وعطف، وعلى ما نواه الصالحون من كل نيّة صالحة جامعة في الدنيا والآخرة.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
02 ربيع الثاني 1447