كشف الغمة 332- كتاب الصيام (09) فرع: النهي عن الوصال في الصوم
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 332- كتاب الصيام (09) فرع: النهي عن الوصال في الصوم
صباح الإثنين 12 محرم 1447هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- معاني الوصال في الصوم
- من خصوصيات النبي ﷺ
- المقصود من قول النبي: إني أُطعَم وأُسقى
- معنى حديث: فليواصل إلى السحر
- توضيح عن رواية ابن الزبير في الوصال
- الحكم لعموم المؤمنين وما الأفضل
- هل قول النبي "يطعمني ويسقيني" أمر معنوي؟
- أثر دعاء النبي للسيدة فاطمة وسيدنا علي
- من معاني: أبيت عند ربي يطعمني
- حكمة النهي عن الوصال في الصوم
نص الدرس مكتوب:
"فرع: وكان ﷺ ينهى عن الوصال في الصوم ويقول: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا إنا نراك تواصل يا رسول الله، قال: إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"، وفي رواية: "ما بال أقوام يواصلون وإنكم لستم مثلي، أما والله لو مد لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعميقهم"، والله أعلم."
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمِنا بالشريعة الغرّاء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا محمد صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأهل بيته الذين آتاهم الله به طهرا، وعلى أصحابه الذين رفع الله لهم به قدراً، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان سراً وجهراً، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الرّاقين في الفضل والشرف والكرامة أعلى الذُّرَى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر ما يتعلّق بأحكام الصيام، وذكر النّهي عن الوصال، وهو أن يصل صوم يومٍ بيومٍ قبله لا يفطر بينهما.
قال: "فرع: وكان ﷺ ينهى عن الوصال في الصوم، ويقول: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، قالوا: إنا نراك تواصل يا رسول الله، قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"، وفي رواية: "ما بال أقوام يواصلون وإنكم لستم مثلي أما والله لو مُدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعميقهم"، والله أعلم".
هكذا جاء الحديث في النهي عن الوصال، والوصال:
- يقول جمهور أهل العلم: أن معناه أن يُواصل صوم اليوم الثاني بالصوم الأول لا يفطر بينهما.
- وخصّصه بعضهم بخصوص الطعام والشراب، بحيث غيرُهم من المفطِّرات ما تمنع الوصال، لو فعل شيئ من المفطِّرات الأخرى غير أن يطعم وأن يشرب فهو مواصل على هذا القول.
- وكذلك يقول بعض الحنفية -يفسرون الوصال-: أن يستمر على صوم الأيام كلّها في السنة حتى أيام العيد، هذا الوصال محرّم؛ أن يواصل صوم السنة كلها حتى الأيام المنهي عنها في قول عند بعض الحنفية في تفسير الوصال.
- وكذلك المعتمد عند الشافعية وغيرهم: أن يستديم جميع أوصاف الصوم من يوم إلى يوم آخر، حتى يوصل صوم اليوم الآخر باليوم الذي قبله، بحيث لا يتناول في الليل مفطِّراً، وينتهي هذا الوصال بأي شربة، وبأي لقمة يطعمها.
إذًا: فالوصال يحرم؛ وهو بالنسبة لرسول الله ﷺ قربةٌ له جائز، بل هو قربة مستحبة له، فهو يواصل لما آتاه الله -تبارك وتعالى- من خصوصيات، وقال: "إني لست مثلكم، إني أُطعَم وأُسقَى" و"إني لست كهيئتكم"، وهكذا في الإشارة إلى الخصوصيات، فإبرازُ الحقِّ تعالى له في القالب البشري لا يناقض خصوصياتٍ آتاه إياها تخرج عن طبيعة البشر وعن حال البشر، ولذا قالوا:
محمد بشرٌ لا كالبشر *** بل هو كالياقوتِ بين الحجر
صلوات ربي وسلامه عليه.
فإذا قرأنا قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) ذكر أعلى الخصوصيات فقال: (يُوحَىٰ إِلَيَّ)[الكهف: 110].
فكذلك هناك خصوصيات كثيرة له ﷺ، حتى ألّف علماء الإسلام وعلماء الحديث والسيرة كتباً مخصوصة في الخصائص، في خصائصه وما مُيِّز به ﷺ من المزايا، وذلك بحسب ما اطلعوا عليه من النصوص، وقد خصّه الله تبارك وتعالى- بخصائص ومزايا لا يطّلع عليها إلا هو -جلّ جلاله-، ومنها ما يطلع عليه خواص عباده من أنبياء أو صدّيقين ومقربين.
وَفِيهِ عَلَيْهِ اللهُ صَلَّى وَدَائِعُ *** مِنَ السِّرِّ لَا تُرْوَى خَلَالَ الدَّفَاتِرِ
وَلَكِنَّهَا مَكْتُومَةٌ وَمُصَانَةٌ *** لَدَى الأَوْلِيَاءِ العَارِفِينَ الأَكَابِرِ
وَمَوْرُوثَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِضَنَائِنٍ *** لِرَبِّكَ مِنْ أَهْلِ التَّقَى وَالسَّرَائِرِ
صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، ومما أظهر الله من خصوصياته..
هُوَ السَّاسُ وَالرَّأْسُ لِلأَمْرِ كُلِّهِ *** بِأَوَّلِهِم يُدْعَى لِذَاكَ وَآخِرِ
وَتَحْتَ لِوَاهُ الرُّسُلُ يَمْشُونَ فِي غَدٍ *** وَنَاهِيكَ مِنْ جَاهٍ عَرِيض وَبَاهِرِ
صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، فهو أول شافع وهو أول مشفع إلى غير ذلك مما تحدِّث عنه من الخصوصيات التي خصه الله بها.
فمنها ما يتعلّق بالشأن البشري أنه يُطعَم ويُسقَى، أي: طعاماً معنوياً وسُقيا معنويًا يؤثر على الظاهر، حتى لا يتضرّر بعدم تناول الطعام والشراب، فيواصل اليومين والثلاثة ولا يتأثر بذلك ولا يتضرر صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وبعضهم يحملُ على أنه يُؤتى له بطعام من الجنة، وذلك أن طعام الجنة ما يُبطل الصوم وأنه لا ينقُض الوصال، ولا حاجة لمثل ذلك، فإن فحوى الكلام ليعلموا أن المقصود أثر الطعام والشراب الذي يرفع عنكم الكُلفة أنا أجده بما يواصلني به ربي، وبما يختصني به من المعارف والأسرار والوَصْل الرباني.
"إني لست مثلكم إني أُطعَم وأُسقَى" كما جاء في لفظ الإمام مسلم، والحديث أيضاً عند الإمام البخاري، وفي اللفظ الآخر: "إني لست كهيئتكم".
أما قوله: "مَن أراد أن يواصل فليواصل حتى السَّحَر"، فيه إشارة إلى الذين يروضون أنفسهم ويعودونها نصيباً من الجوع، ويُبعِدون عن أجسامهم ثِقَل الاتصال بالمطعومات والمشروبات، فقال: يمكنهم أن يجعلوا لهم أكلةً -وقعة- عند السحر، إذا اجتنبوا الطعام والشراب في بقية الوقت، وحينئذٍ ينتفي الوصال عنهم لكونهم لم يواصلوا صوم اليوم الثاني بصوم اليوم الأول.
إذاً:
- فلا يُكره الوصال إلى السَّحَرِ، كما هو أيضاً عند الحنابلة وجماعة من المالكية. والحديث فيه "فأيّكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر" والحديث هذا أيضاً في الصحيح أورده الإمام البخاري.
- ولكن يبقى بعد ذلك لعموم المؤمنين سُنِّيَّة تعجيل الفطر وتأخير السحور، فهذا هو الذي اللائق لعموم المؤمنين.
وإذاً:
- ينتفي الوصال في الصوم بتناول أي طعام أو شراب في خلال الليلة من المغرب إلى طلوع الفجر.
- فأما عدم الفطر لليوم الثاني فهو حرام عند الجمهور، وإن قال بعضهم: إنه يحرم على من شق عليه، ويباح لمن لم يشق عليه.
وجاء في ذلك أيضاً:
- نقل أقوالٍ عن السلف، وما جاء عن عبد الله بن الزبير"أنه يواصل خمسة عشر يوم"، فيما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وصحّح إسناده الإمام ابن حجر في فتح الباري، فإسناده أن ابن الزبير كان يواصل خمسة عشر يوماً، وأظن هذا ليس من باب مواصلة الصوم، ولكن من باب القوة على الكفّ عن الطعام والشراب فيما يذكر من الرّياضات الرّوحية التي يروِّض الناس أنفسهم عليها، فلم يكن بقصد ذلك الوصال.
- فإنه أيضاً نُقل عمّن بعد الصحابة من التابعين وتابع التابعين ترك الطعام والشراب أوقاتا طويلة وليالي كثيرة، وليس ذلك من باب تقصّد الوصال للصوم، ولكنّه يتعلّق بتحملهم ترك الطعام والشراب مدداً معينة.
وعلى كلٍ:
- فذلك مسلك خواصٍ يحكمه مقاصدهم ونياتهم وعلمهم.
- وأما الحكم لعموم المؤمنين فهو لا يجوز أن يواصل صوم يوم بيوم قبله؛ ولكن يتناول المفطِّر من الطعام أو الشراب في أثناء الليل فينتفي عنه الوصال.
- والأفضل أن يُعجّل الفطر عند تيقّن الغروب، فهذه هي السنّة.
ثم عرفنا إرشاده ﷺ لأرباب المجاهدة والرياضة، أن يجعلوا تناولهم للطعام عند السحر، فيكون ذلك أكلة في اليوم والليلة.
ومن جملة ما احتجّ به الذين قالوا: إن النهي للتنزيه وليس للتحريم، قالوا: إنه واصل بهم، وهو يعلم أنهم يواصلون ولم يزجرهم، وإنما أراد أن يبيّن لهم عدم قدرتهم على مثل ذلك، وإلا لو كان محرّماً لنهاهم في اليوم الثاني، ولم يقرهم على فعلِ محرّم، فإقرارُه لهم في اليوم الأول والثاني والثالث، كالمنكٍّل لهم أيضاً دليل عند هؤلاء دليل أنه لم يكن حراماً، ولو كان حراماً لما أقرهم عليه ﷺ، فهي مسالك للنظر، والذي عليه الجمهور أن ذلك محرمٌ في حق عامة المسلمين.
وذكر ﷺ خصوصيته أن ذلك له أن يواصل، "وإني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" في رواية الإمام أحمد بن حنبل، وفي رواية: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"، وفي رواية:" إني أظل عند ربي" إشارة إلى أن الطعام والشراب معنويًا وليس بحسي، فإنه لو كان حسيًا لكان فاطرًا، أفطر بأن يتناول في النهار شيء، ولكنه يقوي القول بأن المراد بقوله: "يطعمني ويسقيني"، أنه أمر معنوي يُفيض عليه من تجليه ما يقويه حتى يغتني عن الطعام وعن الشراب.
بل وجاء أيضاً من أثر دعائه ﷺ أنه لما كانت تتعرض كثيراً ابنته الزهراء للجوع من وقتٍ إلى وقتٍ، وكان ذلك دأبهم، فدعا الله أن يُذهِب عنها ألم الجوع، فكانت لا تحس بألم الجوع، تجوع ولكن لا تحس للجوع بألم.
وهكذا قال ﷺ لأبي الهيثم بن التيهان، وقد جاءه هو وأبو بكر وعمر، فحمل كسرة من الخبز ووضع عليها تمرات وقال: "ابعث بهذا إلى بيت فاطمة بنت محمد، فإن لها ثلاثة أيام لم تذق طعاماً" -عليها رضوان الله تبارك وتعالى-.
كما دعا لسيدنا علي أن يقيه الحر والبرد، فكان لا يشعر بالحر ولا بالبرد، وكان يتعجّب بعض جلسائه أنه يخرج إليهم في أيام الصيف وعليه صوف وكساء غليظ، ويخرج أحياناً في أيام الشتاء بثيابٍ رقيقة خفيفة، وبعدها تعجّب بعضهم وسأله، فقال: من ليلة خيبر ما عاد شعرتُ بحرٍّ ولا ببردٍ، فإنه لما أرسلني دعا لي وقال: وقهِ الحرَّ والبرد، فمن تلك الليلة ما شعرت بحرٍّ ولا ببردٍ لأن الكل عنده سواء.
وهكذا دليلُ الخصوصية، إذا أراد الله أن يخص أحداً بشيء، فإن شؤونَ الطبع البشري وشؤون هذه الماديات والحسيات حكم من الله على عموم الناس، ولكنه يؤخرها متى شاء، ويبعدها متى شاء، ويرفعها عمن شاء -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.
"يطعمني ربي ويسقيني":
- قالوا: مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة أن يعطيني قوة من أكل وشرب، ولم آكل ولم أشرب ﷺ.
- ويقول بعضهم: يشغلني بالتفكّر في عظمته، والتملّي بمشاهدته، والتغذّي بمعارفه، وقرة العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه، فيشغلني بذلك عن الطعام وعن الشراب ﷺ.
- قالوا: لئلا يضعف من يواصل عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات، أو يملّها أو يسأم منها لضعفه، أو يتضرّر بدنه أو بعض حواسه، وذلك محرّم في الشريعة أن يضرّ الإنسان بحواسه وببدنه، وهكذا،
- ويقول: وقع رفقًا ورحمة النهي عن الوصال.
- وذكر بعضهم أيضاً البعد عن التشبّه ببعض النصارى، فإنه جاء في الحديث أن النبي ﷺ نهى عن هذا، وقال: "يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله، أتمّوا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا"، هكذا جاء عند الإمام أحمد بسند صحيح، ذكر صحته الإمام ابن حجر في فتح الباري حديث "يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله".
ومع كونه حراماً فلا يبطل صوم اليوم الثاني.
ثم انتقل إلى ذكر ما يتعلّق بتوقيت الإفطار والترغيب في تفطير الصائمين، يأتي معنا إن شاء الله تعالى.
رزقنا الله الإنابة والخشية والاستقامة والبركة، ورزقنا اتباع حبيبه محمد ﷺ في كل قول وفعل ونية وسكون وحركة، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وثبتنا على ما يحبّه منّا ويرضى به عنّا، ودفع السوء عنّا وعن أمة الحبيب الأعظم، وعجِّل بالفرج -سبحانه وتعالى-، وكشف الشدائد عن أهل الضفة الغربية وغزة، وعن أهل أكناف بيت المقدس وعن الشام وعن اليمن وعن الشرق والغرب، وكُفَّ أيدي المعتدين والظالمين والمفترين والغاصبين والفاجرين، وردّ كيدهم في نحورهم، وهزمهم وزلزل بهم، وخالف بين وجوههم وكلمتهم، ووقى وكفى المسلمين جميع شرورهم وآفاتهم في خيرٍ ولطفٍ وعافية، وأصلِح شؤون الأمة أجمع، وبارك لنا وللأمة في هذا العام، وجعله من أبرك الأعوام علينا وعلى جميع أهل الإسلام، لكل خاص وعام، في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
12 مُحرَّم 1447