(535)
(339)
(363)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 330- كتاب الصيام (07) مسائل الأكل والشرب والقبلة للصائم ومبطلاته
صباح الأربعاء 7 محرم 1447هـ
"فرع: وكان رسول الله ﷺ كثيراً ما يقول: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ولا قضاء عليه"، وفي رواية: "من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة "، وكان ﷺ يرخص للصائم فيما لا يسمى أكلا وشرباً قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وكثيراً ما كان رسول الله ﷺ يقبلني وهو صائم ويمص لساني"، وكان ﷺ يرخص في المضمضة والاستنشاق للصائم ويقول: لا بأس بذلك ما لم يبالغ، وكان عكرمة يقول: من احتقن أو استعط أفطر، وكان ابن عباس كثيراً ما يقول: الفطر مما دخل وليس مما خرج، وكان ﷺ كثيراً ما يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم ويدخل الماء في أذنيه ولم يكن يسدهما بأصبع ولا غيره، وكان ﷺ يرخص في القبلة للشيخ وينهى عنها الشاب، وسأل رجل ابن عمر عن القبلة وكان شاباً فقال: لا تقبلوا فقال شيخ عنده: لم تضيق على الناس؟ والله ما بذلك بأس فقال له ابن عمر: أما أنت فقبل فليس عند استك خير، وكان عروة يقول: لم أرى القبلة تفضي لخير أبداً، قال شيخنا -رضي الله عنه-: وهذا كله لمن لم يملك إربه وإلا فقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان رسول الله ﷺ يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه"، وكان أنس يقول سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقبل امرأته في رمضان فقال: "لا بأس ريحانة يشمها"، وفي رواية: "كل شيء حل للرجل من المرأة في صيامه ما خلا ما بين رجليها"، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول لعبد الرحمن بن أبي بكر ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها، فيقول لها: أقبلها وأنا صائم؟ فتقول له: نعم.
وسأل رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن القبلة وكان شاباً فنهاه عنها ثم جاءه شيخ فسأله عنها فأباحها له فقال له الشاب: فكيف نهيتني عنها ونحن في دين واحد؟ فقال له ابن عباس: إن عرفك معلقة بالأنف فإذا شم الأنف تحرك الذكر وإذا تحرك دعا لأكثر من ذلك والشيخ أملك لإربه، وكان ذلك بعدما أصيب بصر ابن عباس فقيل له: إن خلفك امرأة سمعت كلامك، فقال: أف لكم من جلساء قوم هلا أعلمتموني".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذَّااكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته، عبده وصفوته سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومودته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات خلق الله -تبارك وتعالى- وأئمة خليقته، صلى الله وسلم عليهم وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،
يواصل الشيخ الشعراني -رضي الله تعالى عنه- ما يتعلق بأحكام الصيام، يقول فيه: " فرع: وكان رسول الله ﷺ كثيراً ما يقول: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ولا قضاء عليه". وفي رواية: "من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة".
فهكذا حكم الأكل والشرب بالنسبة للصائم، وهو يختلف عنه بالنسبة للمصلي، فإن المصلي ولو أكل ناسياً تبطل صلاته، وإنما اغتُفِر لهم مقدار حبة السمسمة، وما زاد على ذلك فتبطل صلاته. وعلل الفقهاء أن للصلاة هيئة تذكِّر بها، وليس للصوم هيئة تذكِّر بأنه صائم، فيبعد ينسى في الصلاة، قائم أو راكع؛ سيأكل -فين هذا- نسى أنه يصلي! وهو قائم وراكع وجالس؟ كيف ينسى أنه في الصلاة؟ فإذا أكل ولو ناسياً بطلت صلاته، فإن المصلي في صلاته يعتبر صائماً، ما أفطر الصوم أفطر في الصلاة.
ولذا قالوا: إن معاني الأركان الخمسة للإسلام مجموعة في الصلاة:
ففي الصلاة معانٍ من أركان الإسلام الخمسة كلها، وهي عماد الدين.
فحكم الصائم أنه إذا نسي فأكل أو شرب وهو ناسٍ فلا يبطل صومه عند الجمهور ولا قضاء ولا كفارة، وقال المالكية: إن كان في رمضان فعليه القضاء، وإن كان في غير رمضان فلا قضاء عليه.
ثم ذكر بعد ذلك، الله ..الله .. الله ما ليس بمعتاد وما ليس بمغذٍّ، يقول: "وكان ﷺ يرخص للصائم فيما لا يسمى أكلاً وشرباً"، فالجمهور أيضاً على أنه لا يُشترط أن يكون الداخل للجوف مغذي يفسد الصوم، فيدخل ولو حصاة ولو شعرة ولو أي شيء يدخل إلى جوف الإنسان مما يغذي أو لا يغذي فهو يبطل الصوم. وهكذا يقولون: يجب الإمساك عما يصل إلى الحلق والجوف من أي المنافذ، مغذياً كان أو غير مغذٍّ، وإن تناول أيضاً ما لا يؤكل عادةً مثل تراب ولا حصاة ولا غير ذلك، أو حبوباً نية وما إلى ذلك، فكله يبطل صومه. ولكن اختلفوا بعد ذلك فهل عليه كفارة أو لا؟
فيجب القضاء والكفارة عند الحنفية إذا كان أكله على دفعات، دفعة بعد دفعة، أما إذا كان مثل ملح ونحوه من غير المغذي دفعة واحدة، فيجب القضاء دون الكفارة.
والكلام في الكفارة والخلاف فيه أما القضاء فيجب عليه القضاء ويبطل صومه عند الجميع إذا أدخل إلى جوفه.
أما ما ليس أكل وما لا يسمى أكلًا ولا شربًا، هذا ما استُثني منه مثل غبار الطريق وغربلة الدقيق، أو نحو ذلك أو صادفه شيء من البعوض أو ذباب طائراً ودخل من دون اختيار وابتلعه من دون اختيار منه، فهذا الذي لا يبطل به الصوم. وأما مع التعمد؛ فإدخال أي شيء ولو كان حصاة يبطل الصوم، وما وصل إلى الجوف عن طريق الحلق فِبالإجماع، وما كان من أي منفذ آخر فعليه كلام الجمهور أنه يبطل صومه. قال سيدنا عبد الله بن عباس: "إنما الصوم مما دخل".
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وكثيراًما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلني وهو صائم ويمص لساني"، وهذا الكلام عن القبلة للصائم تُكره عند الجمهور أن يقبِّل الصائم زوجته، بعد ذلك يجيء فيها عدد من الروايات ولكن قدّم الكلام هنا.
"وكان ﷺ يرخص في المضمضة والاستنشاق"، كذلك حكم المضمضة والاستنشاق، يُسنُّ للصائم إذا توضأ أن يتمضمض وأن يستنشق كذلك؛ ولكن لا يبالغ لقوله ﷺ: "بالِغْ في الاستِنشاقِ إلَّا أن تَكونَ صائمًا"، إذاً فالمبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجه الأسنان واللثات.
عبّر الثلاثة بسنة وعبّر المالكية بمندوبة لغير الصائم، المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة عند الأئمة الثلاثة ومندوبة عند المالكية لغير الصائم، أما الصائم فتُكره له المبالغة لئلا يفسد صومه، فإذا وصل الماء إلى حلقه وجب عليه القضاء، قال ﷺ: "إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً".
إذاً فالمبالغة سنة في المضمضة والاستنشاق للوضوء لغير الصائم، فإذا تمضمض الصائم فدخل الماء جوفه فسد صومه وعليه القضاء.
إنما يُغتفر إذا سبقه شيء من غير اختياره إذا كان في فعل سنة، في سنة المضمضة والاستنشاق، سنة من أجل الوضوء، من أجل غسل يتمضمض مضمضة سنة؛ فإن سبقه شيء فيه فهو معذور، فأما لغير السنة؛ كأن يتمضمض للتبرد فسبقه شيء وإن كان بغير اختياره فيبطل صومه، أو كانت رابعة بعد الثالثة هذه ما عادت سنة، تمضمض ثلاثاً وزاد رابعة وسبقه ماء إلى الجوف بطل صومه، لأن الرابعة ليست من السنة.
إذاً، إذا سبقه ماء المضمضة والاستنشاق المسنونين إلى جوفه، إن بالغ أفطر وإلا فلا.
إذن فعند الشافعية أقسام:
يقول عليه رحمة الله: "وكان ﷺ يرخص في المضمضة والاستنشاق للصائم ويقول: لا بأس بذلك ما لم يبالغ، وكان عكرمة يقول: من احتقن أو استعط -يعني: أدخل الدواء عبر الأنف- أفطر، وكان ابن عباس كثيراً ما يقول: الفطر مما دخل وليس مما خرج" والوضوء مما خرج، ينتقض الوضوء مما خرج، وينتقض الصوم مما دخل إلى الجوف.
"وكان ﷺ كثيراً ما يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم ويدخل الماء في أذنيه ولم يكن يسدهما بأصبع ولا غيره" فهذا حكم ما يتعلق بالاستعاط، دواء يُصب في الأنف فإيصال شيء إلى الدماغ عبر الأنف يقال له: استعاط، ومثله الاحتقان، فكل ما وصل إلى الجوف أبطل الصوم.
وبعد ذلك ذكر لنا أيضاً قوله: "يصب الماء على رأسه من الحر"، فيجوز الاغتسال من أجل التبرد ولو بالانغماس في الماء أو بصب الماء، وإدخال الماء في الأذن من دون أن يتسلل إلى الباطن لا يضر.
يقول بعد ذلك: "وكان يرخّص في القبلة للشيخ وينهى عنها الشاب -الصائم يعني-. وسأل رجل ابن عمر عن القبلة وكان شاباً فقال: لا تقبلوا فقال شيخ عنده: لم تضيق على الناس؟ والله ما بذلك بأس فقال له ابن عمر: أما أنت فقبل فليس عند استك خير" -يعني: ما عندك شهوة تحملك على تجاوز الحد- "وكان عروة يقول: لم أرى القبلة تفضي لخير أبداً،"، فكان يكرهها للصغير والكبير.
"وقال شيخنا -رضي الله عنه-: "وهذا كله لمن لم يملك إربه، فقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان رسول الله ﷺ يقبِّل ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه". "وكان أنس يقول سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقبل امرأته في رمضان فقال: "لا بأس ريحانة يشمها"، فقال: "وهذا محمول على من لم تُحرِّك شهوته". "كل شيء حلالٌ للرجل من المرأة في صيامه ما خلا ما بين رجليها"، وبالجماع يفسد الصوم وتجب الكفارة العظمى.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول لعبد الرحمن ابن أبي بكر: "ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبِّلها وتلاعبها؟" فيقول لها: "أُقبِّلها وأنا صائم؟" فتقول له: "نعم".
"وسأل رجلٌ ابنَ عباس -رضي الله عنهما- عن القبلة وكان شاباً فنهاه عنها -ولا يجوز لك- ثم جاءه شيخ -كبير- فسأله عنها، فأباحها له.قال له: يجوز لك. والشاب حاضر، قال الشاب: "كيف نهيتني أنا ونحن في دين واحد؟ -وأنا ممنوع وهذا مسموح ونحن في دين واحد وتجيب حكمين في المسألة- قال له ابن عباس: "إن عرقك معلَّق بالأنف، فإذا شمَّ الأنف تحرك الذكر، فإذا تحرك دعا إلى أكثر من ذلك، والشيخ أملك لإربه منك" -ما يتحرك- "وكان ذلك بعدما أُصيب بصره" يعني عمي في آخر أيامه. قالوا له: "إن امرأة كانت قريب منك تسمع كلامك". قال: "أفٍّ لكم من جلسائي! هلا أعلمتموني!".
أي: حينئذٍ لا أتكلم بالصراحة في هذا وأطلق بعض الألفاظ، فيه أدب الصحابة وما ربّاهم عليه زين الوجود ﷺ من الحياء والعفة، وأنه في كلامهم مع النساء يحفظون الألفاظ ويضبطون ويبعدون عن كل ما يُستحيي منه أولو المروءة وأولو الحياء، ولهذا أنكر عليهم قال: "فقال: أف لكم من جلساء قوم هلا أعلمتموني"، ألا تقولون لي أن المرأة تسمع؟ وإلا لبيَّنت للرجل بلفظ آخر وبصورة أخرى ولا أذكر هذه الصراحة أمام المرأة. فهكذا كان ديدنهم الحياء، والحياء والإيمان في قرن، إذا ذهب أحدهما تبعه الآخر.
ولذا يحرص الشيطان على أن يُذهِب الحياء ليُذهِب الإيمان، ويزين لهم أن قلة الحياء أنها تقدم وتطور، أي شيء يسمونه من الأسماء الفارغة التي لا معنى لها ، والقصد أنه يخدش مروءته ويخدش أدبه، ليُضعِفَ إيمانه، ثم يذهب عليه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، وكانوا يخافون على الأمة، وإذا كان يجتمع نحو العشرين فليس فيهم من يُستحيا منه فقد ذهب خير الأمة، ذهب الخير من الأمة، لا إله إلا الله.
ولما كان بالغ الحياء بسيدنا عثمان عليه رضوان الله؛ جوزي فاستحيت منه ملائكة الرحمن، كانت تستحي منه الملائكة لقوة حيائه من الله -تبارك وتعالى-.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفع عنا الآفات والعاهات، وثبَّتنا أكمل الثبات، ورعانا بعين العناية حيثما كنا وأينما كنا، وأصلح لنا الحس والمعنى، وفرّج كروبنا وكروب المسلمين، وجعل العام السابع والأربعين بعد الأربعمائة من هجرة نبينا من أبرك الأعوام على أمته ظاهراً وباطناً، واكشف الشدائد والآفات عنهم، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، وتولّنا بما أنت له أهل في كل شأن وحال وحين، في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
10 مُحرَّم 1447