كشف الغمة 322- كتاب الزكاة (30) فصل في إحصاء الصدقة، وفصل في صدقة السر

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني:  كشف الغمة 322- كتاب الزكاة (30) فصل في إحصاء الصدقة

صباح السبت 18 ذو الحجة 1446هـ 

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

  •  معنى إحصاء الصدقة
  •  المراد بإطلاق الصدقة عند الفقهاء والتوسع فيه
  •  فتح أبواب الرزق لمن يتصدق
  •  معنى قول النبي: يا عائشة أعطي ولا تحصي فيُحصى عليك
  •  متى يكون أفضل إظهار الصدقة أو الإخفاء؟
  •  مضاعفة ثواب صدقة السر
  •  صدقات السر لسيدنا علي زين العابدين بن الحسين
  •  قصة رجل لم يستطيع إخفاء صدقته
  •  صدقة السر تطفئ غضب الرب

نص الدرس مكتوب:

فصل في إحصاء الصدقة

"كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُةٌ) [سبأ: 39] ما كان من خلف فهو منة من الحق تعالى فقد ينفق الإنسان جميع ماله كله ثم لم يزل عائلاً حتى يموت من غير خلف، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: ذكرت مرة عند رسول الله ﷺ عدة مساكين أو عدة من صدقة فقال لي: "يا عائشة أُعطي ولا تحصي فيحصى عليك"، وكانت -رضي الله عنها- تقول: دخل علي سائل ورسول الله ﷺ عندي فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله ﷺ: أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك. قلت: نعم، قال: مهلاً يا عائشة أنفقي وانصحي ولا تحصي فيحصي الله عليك"، وفي رواية: "ولا توعي فيوعي الله عليك"، وفي رواية أخرى: "ولا توكي فيوكي الله عليك"، يعني لا تمنعي ما في يدك فتنقطع مادة بركة الرزق عنك".

 

فصل في صدقة السر 

"كان الحسن -رضي الله عنه- يقول: جاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بصدقة ماله وأخفاها وقال: يا رسول الله هذه صدقة ولي عند الله مزيد، وجاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله صدقة وأعلنها وقال: يا رسول الله هذه صدقة وعندي لله مزيد، فقال النبي ﷺ: وتر أبو بكر القوس بوترها لما بين صدقتيهما كما بين كلمتيهما، وكان رسول الله ﷺ يقول: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلاً تصدق صدقة فأخفاها تعلم شماله ما أنفقت يمينه"، وكان ﷺ يقول: "لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تميد وتنكفئ فأرساها الله تعالى بالجبال فاستقرت فعجبت من شدة الجبل فقالت: يا رب هل خلقت خلقاً أشد الجبال؟ قال: نعم الحديد قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الحديد؟ قال: النار قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من النار؟ قال: الماء قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الماء قال: الريح قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الريح؟ قال: ابن آدم إذا تصدق صدقة بيمينه فأخفاها شماله"، وتقدم ﷺ قوله: "صدقة السر تطفئ غضب الرب"، والله سبحانه وتعالى أعلم". 

اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتك، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلون 

 

الحمد لله واسعِ الهباتِ والجودِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على عبدهِ وحبيبهِ صاحبِ الخُلقِ المحمودِ، صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسانٍ إلى اليومِ الموعودِ، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين ساداتِ أهلِ الشهودِ، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِ اللهِ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.

 

ويذكرُ الشيخُ هذا الفصلَ في إحصاءِ الصدقة، أو وَكْئِها أو جعلِها في الوعاء أو عدِّها وما إلى ذلك، مشيرًا إلى أنَّ واجبَ المؤمنِ أن تطيبَ نفسُهُ بما يُجري اللهُ على يديهِ من الإنفاقِ والعطاءِ في سبيلِ اللهِ تبارك وتعالى. 

 

والصدقةُ التي إذا أُطلقت غالبًا أرادوا بها صدقةُ التطوعِ، وإلا فكلُّ ما يُعطى على وجهِ التقرُّبِ إلى اللهِ -تبارك وتعالى- يُقالُ له إذا لم يكن على وجهِ المكرمة يُقالُ له: صدقةٌ، سواءٌ كانت من المفروضةِ وهي الزكاةُ، أو كان المتطوَّعَ بها. 

 

فما يُخرجُهُ الإنسانُ من مالِهِ على وجهِ القُربةِ لا يقترنُ به وجهُ إرادةِ الإكرامِ والإجلال؛ فإذا اقترنَ به وجهُ إرادةِ الإكرامِ من دونِ أن يكونَ ذلك زكاةً ولا أمرًا يُعطى لأجلِ الحاجةِ ولكن لإكرامِ المُعْطَى كان ذلك هديَّةً. وكان  يأكلُ الهديَّةَ ولا يأكلُ الصدقةَ ، فما يُعطى ذوي الحاجةِ على سبيلِ الحاجةِ تقرُّبًا إلى اللهِ تبارك وتعالى ما كان يأكلُهُ، وما يُعطى على وجهِ الإكرامِ من الهديَّةِ فكان يأكلُهُ. 

 

ثم إذا أُطلِقَ الغالبُ عند الفقهاءِ "الصدقةُ" أرادوا بها التطوعُ، وهذا الذي تحلُّ للأغنياءِ، وتحلُّ أيضًا لذوي القُربى من بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ، تحلُّ لهم صدقةُ التطوعُ. أما الصدقةُ التي بمعنى الزكاةِ فلا. 

 

كما تُطلَقُ الصدقةُ أيضًا على الوقفِ الذي يُوقَفُ. 

وقد كان سيدنا عمرُ تصدَّقَ بمالِهِ في عهدِ النبيِّ  قال له: تصدَّقْ بأصلِهِ لا يُباعُ ولا يُوهَبُ، فجُعِلَ الوقفُ أيضًا من جملةِ الصدقةِ، قال: "لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ ولكن يُنفَقُ ثمرُهُ". هكذا جاء في إرشاده  لسيدِنا عمرَ عند البخاريِّ: أن يجعلَها صدقةً له جاريةً. وأيضًا قد يُتوسَّعُ في إطلاقِ الصدقةِ على كلِّ نوعٍ من أنواعِ المعروفِ، يقال له: صدقة؛ كلُّ معروفٍ صدقةٌ وفي الحديثِ: "كلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، والتحميدةُ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكرِ صدقةٌ، وإعانةُ أخاك على حملِ متاعِهِ صدقةٌ"، إلى غيرِ ذلك. 

 

فالأمرُ فيها بأن تكونَ طيبةً نفسُ المؤمنِ بها عند إخراجِها، غيرَ مقنِّطٍ ولا مُستثقِلٍ ما يخرجُ منهُ، فإنَّ ذلك يكونُ أدعى للقبولِ عند اللهِ ولأن يُباركَ عليه. 

 

يقولُ: (ومَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه. "ويقولُ ما كان من خَلَفٍ، قال سيدنا ابنُ عباسٍ: -يُعَجَّلُ في الدنيا- فهو مِنَّةٌ من الحقِّ تبارك وتعالى"، مشيرًا لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ ولا يجبُ على الحقِّ شيءٌ. هو أنه قد يُشكِلُ على بعضِ الناسِ الذي جعلَ معنى الخَلَفِ تيسيرَ مُقابِلٍ حِسِّيٍّ في الدنيا، وإن كان ذلك هو الغالبَ مع ما يُؤخَّرُ له في الآخرةِ إذا قصَدَ وجهَ اللهِ تبارك وتعالى. 

 

وفي الغالبِ أنَّ المتصدِّقَ يُعجِّلُ اللهُ له -سبحانه وتعالى- برزقٍ وتيسيرِ ما يدخلُ إلى مُلكِهِ وتحتَ يدِهِ بسببِ الصدقة "وما نقصَ مالٌ من صدقةٍ" يقولُ . وهكذا حتى كان بعضُ علمائنا المتأخرين أيضاً هنا، كان من عادتِهِ إذا ضاقت عليه المادةُ، وما يكفي عندَه شيءٌ، يستدينُ فيتصدَّقُ، فتُفتَحُ له أبوابُ الرزقِ من هنا ومن هناك، وكان يُعامِلُ اللهَ تبارك وتعالى هكذا. وهذا هو الغالبُ، ولكن لا يجبُ على اللهِ شيءٌ كما هو معلومٌ.

 

قال: "وكانت عائشةُ رضي اللهُ عنها ذكرَت مرةً عند رسول الله ﷺ عدةَ مساكينَ أو عدةً من صدقةٍ، قال: "يا عائشةُ، أعطي ولا تُحصي فيُحصَى عليكِ"، يعني: إذا أردتِ من اللهِ وهْبَ أرزاقٍ من دونِ حصرٍ ولا عددٍ، فلا تُحصي ولا تعدِّي ما تتصدَّقينَ بهِ، ولتطِب نفسَكِ بكلِّ ما يخرجُ من يدِكِ، فذلك أقربُ أن لا يُحصَى عليكِ. وكذلك قال لأسماءَ كما جاء في الحديثِ عنه : "ارضخي ولا تُحصي فيُحصَى عليكِ، ولا تُوكي فيُوكَى عليكِ." من الوِكاءِ الذي يُعصَبُ به رأسُ الوعاءِ ويُشَدُّ به من الربطِ يقال له: وِكاءٌ. يعني: لا تحبسي المالَ عندكِ خشيةَ الفقرِ وما إلى ذلك، فيُحصَى عليكِ ويُوكَأ عليكِ، أي: يُمنَعُ عنكِ الزيادةُ والتيسيرُ، وتحصيلُ الرزقِ، ووهب المواهبِ منهُ -سبحانه وتعالى-.

 

يقولُ: "ولا تُحصِي فيُحصى عليكِ"، "وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقولُ: دخلَ عليَّ سائلٌ ورسولُ اللهِ ﷺ عندي، فأمرتُ له بشيءٍ، ثم دعوتُ به" -أي: بذلك الشيء- فنظرتُ إليه، فقال ﷺ: "أما تريدين ألا يدخلَ بيتكِ شيءٌ ولا يخرجَ إلا بعلمِكِ؟" قلتُ: نعم. قال: "مهلاً يا عائشةُ، أنفقي وانصحي -وفي رواية وانضحي- ولا تُحصي فيُحصي اللهُ عليكِ" وفي روايةٍ: "ولا تُوعي"، أي: تخبِّئيهِ في الوعاءِ، تُوعي شيئًا يعني: تخبِّئيهِ في الوعاءِ -تغطين عليه- تُقفلينَ عليه في الوعاءِ، "ولا تُوعي فيُوعي اللهُ عليكِ"، أي: يمنعُ عنكِ كثيرًا من رِفْدِهِ ورزقِهِ وواسعِ خيرِهِ -سبحانه وتعالى-. وفي روايةٍ: "ولا توكي فيوكي الله عليكِ، -أيضًا من الوكاء- يعني: لا تمنعي ما في يدك فتنقطع مادة بركة الرزق عنك".

 

وذكر إخفاء صدقة التطوع، فالزكاةِ الأفضلُ إظهارُها -الواجبةُ- غالبًا؛ في غالبِ الأحوالِ، لأن فيها الحثَّ على إخراجِ زكاةِ الفرضِ، وكذلك تطهيرَ العِرْضِ من الظنِّ والتُّهمةِ بعدمِ إخراجِ الزكاةِ. وأما صدقةُ النفلِ فالأفضلُ فيها في غالبِ الأحوالِ والشؤونِ الإسرارُ بها وإخفاؤُها، وذلك أعظمُ درجةً عندما قال تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة: 271].

وإنما في بعضِ الأحوالِ النادرةِ يترجَّحُ جانبُ الإظهارِ، وخصوصًا لمن كان يُقتَدى به وأمِنَ الرياءَ، فيمكنُ أن يُخرِجَ بعضَ الصدقاتِ في الجهرِ من أجلِ أن يستحثَّ من يقتدي به على أن يُخرِجَ الصدقةَ، ويعتني بإخراجِ شيءٍ مما عندَهُ. والصدقة غالبًا في المندوبِ والمسنونِ الأفضلُ أن يُسِرَّ بها، في الحديثِ: "ممَّن يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّ عرشِهِ: رجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنفِقُ يمينُهُ" مبالغةً في الإخفاءِ والكتمِ، ويكونُ أبعدَ عن الرياءِ وعن المنِّ. وهكذا جاء في خبرٍ: "صدقةُ السِّرِّ أفضلُ من صدقةِ العلانيةِ بسبعينَ ضعفًا"، وإن كان الأمرُ يختلفُ باختلافِ المُعطي لها، والمُعطَى إيَّاها، والناسِ الشاهدينَ لها، 

  • فبحقِّ المُعطي في إظهارها إظهارٌ للسنةِ، وثوابُ القُدوةِ، وآفتُها الرياءُ والمنُّ والأذى، فإذا ذهبت هذه الآفاتُ وبقيت الفائدةُ، فيصيرُ الإظهارُ أفضلَ. أما إذا كانت الآفاتُ موجودةً، فالسرُّ هو الأفضلُ. 
  • كذلك الذي يُعطَى، السرُّ أسلمُ له من احتقارِ الناسِ له، أو نسبتِهِ إلى أنه أخذَها مع الغنى وأنه تركَ التعفُّفَ. 
  • وأما حالُ الناسِ، فالسرُّ عنهم أفضلُ من العلانيةِ لهم، إذ ربما أنهم طعنوا على المُعطي لها بالرياءِ، وعلى الآخذِ لها بالاستغناءِ. ولهم فيها أيضًا تحريكُ القلوبِ إلى الصدقة. 

فإذا كان المتصدِّقُ ممّن يُقتدى به وأظهرَها ليُقتدى به مع أمنِهِ من الرياءِ، فهو أفضلُ. 

أما الزكاةُ فالأفضلُ فيها الإظهارُ في الغالبِ كذلك.

 

وبعد ذلك أخبرَنا أنَّ صدقةَ السِّرِّ تتضاعفُ على صدقةِ العلانيةِ، وأنها "تُطفئُ غضبَ الربِّ" أي: تُجنِّبُ صاحبَها حصولَ موجباتِ الغضبِ عليه في الدنيا وفي الآخرةِ. وكذلك ذكرنا ذلك شديدٌ على النفسِ، فإنها تحبُّ أن تُظهِرَ الإنفاقَ والتفضُّل، ولكن في كتمِ ذلك أو إخفائهِ تنقية للباطن عن إرادةِ غيرِ الحقِّ -جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه-.

ولهذا تفنَّنَ الصالحون في صدقةِ السِّرِّ، وكان أهلُ المدينةِ يقولون بعد وفاةِ سيدنا عليِّ بنِ الحسينِ: "ما فقدنا صدقةَ السِّرِّ إلا بوفاةِ عليِّ بنِ الحسينِ"، فكانت له صدقاتٌ كثيرةٌ في السِّرِّ، فيخرجُ حاملاً الطعامَ على ظهرِهِ إلى عندَ بيوتِ الفقراءِ والمحتاجينَ، يضعُها بينَ أيديهم ثم يدورُ عليهم، فلا يكادُ يُكمِلُ أهلُ الدارِ الذي جاء لهم بالطعامِ ما عندهم إلا وقد دارَ عليهم مرةً أخرى، ولا يدرونَ من هذا الذي يجيءُ لنا بالطعامَ؟ يجدونَهُ عند البابِ، ثم عرفوهُ بانقطاعِهِ عند موتِ سيدنا زينِ العابدينَ ابنِ الحسينِ -رضي اللهُ عنه-، ووجدوا في ظهرِهِ أثرًا لحملِ الطعامِ، فقد كان يقولُ لِخادِمِهِ: "حَمِّلْ على ظهري"، يقول له: أنا أكفيكَ. قال: "لا، أنتَ تحملُ عني أوزاري يومَ القيامةِ؟" قال: خلاص، حَمِّلْني إياها. ويخرجُ وحدَهُ، ويأتي به إلى بيتٍ، وهكذا يدورُ عليهم، يجيءُ الليلُ عند هذه البيوتِ، والليلة الثانية عند هذه البيوتِ، والثالثة عند هذه البيوتِ، حتى يُكمِلَ الدورةَ ويعودَ إليهم مرةً أخرى، فلا يكادُ يُكمِلُ أهلُ البيتِ المحتاجينَ ما عندهم إلا وقد عادَ إليهم مرةً أخرى، حتى قالوا: إنَّ السُّؤَّالَ كثروا في المدينةِ بعد موتِهِ، صاروا الناس يقولون: مِن أين جاء هؤلاء؟ ما نَعهَدُ أحدًا يسألُ، فوجدوهم، وهم قالوا: كنا نحنُ نَجِدُ الطعامَ على البابِ ما عدنا نسألُ أحدًا، فقراءٌ نحنُ في المدينةِ، ما جِئنا من مكانٍ بعيدٍ، نحنُ نفسُ الساكنينَ في المدينةِ من أوَّلٍ -عليه رضوانُ اللهِ تبارك وتعالى-.

وهكذا ذُكِرَ عن سيدنا أبي بكرٍ الصديقِ، وتصدُّقه بمالِهِ كلِّهِ، وميلُهُ إلى الكَتْمِ والإسرارِ بذلك -عليه رضوانُ اللهِ تبارك وتعالى-.

 

ويقولُ: "وَتَّرَ أبو بكرٍ القوسَ بِوَتَرِها" جاء على الكمالِ والتمامِ. "وكان ﷺ يقول: "لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تميد وتنكفئ فأرساها الله تعالى بالجبال فاستقرت فعجبت من شدة الجبل فقالت: يا رب هل خلقت خلقاً أشد الجبال؟ قال: نعم الحديد -تقطع به الجبال- قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الحديد؟ قال: النار -تأكل الحديد- قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من النار؟ قال: الماء -يطفيء النار- قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الماء قال: الريح -تحملُ السحابة الثقالَ وتحملُ الماءَ- قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الريح؟ قال: ابن آدم إذا تصدق صدقة بيمينه فأخفاها شماله"، هذا أشدُّ شيءٍ؛ لأنَّ النفسَ تميلُ إلى الإظهارِ.

 

وهكذا كما سمعنا عن الإمامِ الشَّعْرَانِيِّ، يقولُ: حضرَ عندَهُ بعضُ أهلِ الثروةِ، وذكرَ فضيلةُ صدقةِ السِّرِّ. قال: فجاءني بعد الدرسِ، قال: خلاص، أنا الآن من الآنَ سأجعلُ صدقاتي كلَّها سِرًّا. قال له: ما تصلُ إلى هذا حتى تتزكَّى على يد شيخ مُرَبّي. قال: لا، فهمتُ الفضلَ الذي ذكرتَ كلُّه هذا ما شاء الله، والثوابُ في صدقةِ السِّرِّ، الآنَ أُخلِّي -أجعل- صدقاتي كلَّها سِرًّا. قال: سكتُّ عنهُ. ثم جاءني رجلٌ بعد أيامٍ، وكان في حاجةٍ، ما به شِدّة. قلتُ له: اقصدْ فلانَ ابنَ فلانٍ، فتعاهَد إليه وَحْدَهُ حتى لا يراكَ أحدٌ، واطلب منهُ، وجاء وأعطاهُ ألفَ درهمٍ. قال: فجاءني في اليومِ الثاني يقولُ: الناس هذه الأيامَ أصابتهم شدةٌ وحاجةٌ وهكذا. قال: هو قد مرَّ عليه وأخبرَنا بما أعطاهُ، ولكنَّ الرجلَ يحومُ حولَ القضيَّةِ ويقول حتى أنه في هذه الأيامِ واحدٌ محتاجٌ جاء وقصدَ على بعضَ الناسِ وأعطاهُ ألفَ درهمٍ، مرحبًا. راح، ثاني يوم جاء، قال: شوف هذا اللي قلتُ لكَ عنهُ، الناسُ الآن في الحاجةِ وهذا كذا هو أنا، وأنا الذي أعطيتُهُ، ما كنت أحب أخبر به، ولكن أنتَ شيخي وما أُخفي عليكَ شيئًا. قال: قد قلتُ لكَ: أنا الذي أرسلتُهُ إليكَ، وهو الذي مرَّ عليّ، وقلتُ لكَ ما تصلَ إلى هذا المقامِ حتى تتزكَّى على يد شيخ؛ أنا الذي أرسلتُهُ إليكَ وقلتُ له وأنا أدري. وجئت أوَّلَ يومٍ تحومُ تحومُ، ثاني يومٍ جئتَ الآن تُصرِّحُ لي قلت أنا، أرأيت!! قال: أستغفر الله، قلت: اذهب تزكَّى أوَّل حتى تعرفَ تُخرِج صدقةَ السِّرِّ للهِ -سبحانه وتعالى- خالصًا ما عندكَ الشوائبُ هذه.

 

وقال: "إنَّ صدقةَ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الربِّ" -جل جلاله-، تردُّ عن صاحبِها البلايا والآفاتِ، ومُقتضى الغضبِ في الدنيا وفي الآخرةِ. وقال ﷺ: "صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ، وصدقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ"، هذا جاء عند الطبرانيِّ بسندٍ حسنٍ. يقولُ: "صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ"، فصاحبُ المعروفِ والإحسانِ إلى الناسِ غالبًا لا يُصرَعُ مَصْرَعَ سوءٍ، لا بحادثٍ، ولا بتسليطِ ظالمٍ عليهِ، ولا بموتٍ شنيعٍ من هَدْمٍ أو سَقْطٍ وما إلى ذلك، "تقي مصارعَ السوءِ، وصدقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ" إما بركةً، أو مَدَّة حددها اللهُ إذا وصلَ رَحِمَهُ أن يصلَ إليها أكثرَ مما جعلَ في صُحُفِ الملائكةِ أنَّ عُمُرَهُ كذا.

ويقولُ: "صدقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الربِّ"، وهكذا استعمال الكنايةُ فيما يُستدفَعُ به الآفاتُ ونتائجُ الغضبِ، سمَّاهُ إطفاءً لغضبِ الربِّ -جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه-.

دفعَ اللهُ عنَّا سخطَهُ وغضبَهُ وعقابَهُ وعذابَهُ، ووَهَبَنا رضوانَهُ -سبحانه وتعالى-، ونعيمَه وقُربَهُ وفضلَهُ وإحسانَهُ، اللهم آمين.

قِنا جميعَ مصارعِ السوءِ، وتولَّانا بما أنتَ أهلُهُ في السِّرِّ والنجوى، وحقِّقنا بحقائقِ التقوى، وأحيِي فينا سُنَنَ نبيِّنا محمد ﷺ بِمنهجهِ الأقوم الأقوى، في خيرٍ ولُطفٍ وعافيةٍ.

 

بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

20 ذو الحِجّة 1446

تاريخ النشر الميلادي

16 يونيو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام