(363)
(535)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 320- كتاب الزكاة (28) فصل فيما جاء في جهد المقل وذم البخل
صباح الثلاثاء 7 ذو الحجة 1446هـ
فصل فيما جاء في جهد المقل وذم البخيل
"كان رسول الله ﷺ يقول: "ردوا المسكين ولو بظلف محرق"، وكان ﷺ يقول: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فإن التمرة تسد من الجائع مسدها من الشبعان"، وفي رواية: "عليكم بالصدقة فإنها تقيم العوج وتدفع ميتة السوء وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"،
"عليكم بالصدقة فإن الله تعالى ليدرأ بالصدقة سبعين باباً من البلاء أيسرها الجذام والبرص".
وكان ﷺ يقول: "مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها"، قال أبو هريرة -رضي الله عنه- فأنا رأيت رسول الله ﷺ يقول: "بأصبعه هكذا في جيبه يوسعها فلا تتوسع"، ومعنى قلصت: انجمعت وتشمرت وهي ضد استرخت وانبسطت، وكانت عائشة -رضي الله عنها- لا تتصدق إلا بما تأكل منه وتقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تطعموا المساكين مما لا تأكلون"، وكانت تتصدق بما وجدت قليلاً كان أو كثيراً حتى كانت تعطي السائل حبة العنب والتمرة من الحشف.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا دخل المسجد فوجد سائلاً يسأل يعطيه حتى ربما أخذ الكسرة من ولده الصغير وأعطاها للسائل.
وقال أنس -رضي الله عنها- كانت عائشة -رضي الله عنها- تأكل مرة عنباً فاستطعمها مسكين فقالت للخادم: خذ حبة عنب فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟ وقد قال الله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة : 7]، وكان الصحابة -رضي الله عنها- يتصدقون بكل شيء حتى بالبصلة، وكان واثلة بن الأسقع لا يكل إعطاء الصدقة إلى غيره ويقول: إذا قام المتصدق ليضع الصدقة في يد الفقير كتب له به بكل خطوة حسنة فإذا صارت في يده كتب له بكل خطوة عشر حسنات.
وكان ﷺ يقول: "لا يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً كلهم ينهاه عنها"، وكان ﷺ يقول: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها"، وكان ﷺ يقول: "الصدقة تزيد في العمر ويذهب الله تعالى بها الكبر والفخر"، وكان ﷺ يقول: "تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله تعالى في صومعة ستين عاماً فأمطرت الأرض فاخضرت فأشرف الراهب من صومعته فقال: لو نزلت فذكرت الله تعالى فازددت خيراً فنزل ومعه رغيف أو رغيفان فبينما هو في الأرض إذ جاءته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها، ثم أغمي عليه فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين، ثم مات فوزنت عبادته ستين سنة مع حسناته بتلك الزنية فرجحت تلك الزنية بحسناته ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له"."
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرِمنا بالشريعة الغرَّاء وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفيه خير الورى سيدنا مُحمّد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأهل بيته الذين حُبُوا به طُهرا، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار الذين رُفِعُوا به قدرًا، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان سرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وأهلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحمُ الرّاحمين.
وبعدُ،،
فيذكرُ الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الفصل ما جاء من الثواب لجَهْدِ المُقِل؛ وهو ما يقدر عليه الذي قلَّ ماله وقلَّ كسبه؛ ولكنه يقدر على شيء يسير فيتصدق به فيعظم عند الله -تبارك وتعالى- ويجلُّ قدرُه، وأنه لا يضيع عند الله شيء من ذرات الحسنات من صدقة أو غيرها: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8].
فليكن المؤمن حريصًا على الحسنات وكسبها، ولا يستصغر شيئًا منها، كما يكون حذرًا من السيئات والذنوب والمعاصي والمُخالفات صغيرها وكبيرها، ولا يستخفَّ بشيء منها، فربما كان فيه غضب الجبّار -جلَّ جلاله-، كما لا يجوز له أن يسيء الظن بأحد من المؤمنين، ولا أن يعتقد السوء في أحد منهم؛ فإنه ربما كان وليًّا لله، وربما كان شفيعًا له يوم القيامة.
فليكن المؤمن على الأدب مع هذا الربّ في معاملاته، صافي نقيَّ الباطن عن هذه الرعونات وما يطرأ في باطن الإنسان من أنواع الكِبرياء أو الفخر أو الاحتقار لأحدٍ من خلق الله تعالى، أو التساهل بالطاعات، أو التساهل بالمعاصي والسيئات، والعياذ بالله تبارك وتعالى. فكل ذلك خروجٌ عن أدب العبودية، وسببٌ من أسباب الوقوع في السخط والبُعد، أعاذنا الله وأجارنَا وأهلينا وأولادنا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا من ذلك، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
ويقول كان رسول الله ﷺ يقول: "ردوا المسكين ولو بظلفٍ مُحْرَقٍ"، يعني: ما عندكم شي ولكن ظلف شاة، طرف اليد منه أو الرجل، ولو كان ما تمت طباخته على وجهه مستوي وأصابه شيء من الحرق أعطوه إياه لا تحتقروا مثل هذا، "ولو بظلفٍ مُحْرَقٍ".
"لا تَحْقِرَنَّ جارةٌ لجارتها شيئًا من المعروف ولو فِرْسِنَ شاةٍ، ولو ظلفًا مُحْرَقًا"، يقول رسول الله ﷺ في الحديث الآخر.
وقال: "اتقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ"؛ كما يأتي معنا في الحديث الذي بعده.
وهكذا يقول رسول الله ﷺ في الحديث الآخر الذي جاء عند البخاري ومسلم وغيرهما، يقول: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان"؛ في ساعة الوقوف بين يديه، لا، فكل مكلف يُنادى: ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، واسمك لا بد يطلع، ولو دخلت دائرة التكليف دقيقة، يطلع اسمك: ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله.. حتى سادتنا الأنبياء: ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله. وكلهم يقفوا بين يديه "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة"، في لفظ: "سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان"؛ ما هنالك مترجم ولا واسطة بينه وبينه، فيخاطبه الحقّ تعالى مباشرة.
فهذا شأن جميع المُكلفين ممن لم يشتدّ عليهم غضب الله، وفريقٌ من الذين اشتدّ عليهم غضب الله يحجبهم عنه (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ال عمران: 77]، ويأمر بهم الزبانية يقودونهم إلى نار جهنم، أعاذنا الله من ذلك.
يقول: "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان"، وعند العرض على الله، والوقوف بين يدي الله تعالى، "فينظر أيمنَ منه" -يلتفت عن يمينه- والنظر في القيامة مكشوف عنه المعاني كالبصائر في الدنيا، قال تعالى: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) [ق: 22]:
"فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدّم" من نيات ومقاصد، ومن أعمال ومن أقوال ومن مكاسب ومن أفعال، هذا ما قدَّم.
قال: "وينظر أشأمَ منه -عن اليسار- فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه"، فإنها تحيط بأهل الموقف، ثم ينصب عليها الصراط للمرور عليها إلى الجنة، من نجا ومرّ ووصل إلى الجنة، ومن سقط سقط في نار جهنم، نعوذ بالله من غضب الله. (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)، [مريم: 71-72].
"فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ فإن التمرة تسد من الجائع مسدها من الشبعان"؛ ولو بشق تمرة، نصف تمرة، ولو نصف تمرة، "فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ".
أظهر الله الأثر فيما يُلِقي في صحف الملائكة من المحو والإثبات، فأظهر امرأة بشقاوة ثم بدلها إلى ما سبق في علمه وما سبق في أم الكتاب إلى السعادة؛ وجعل سبب التّصدق بشق تمرة.
فيُروى أنه كان عند سيدتنا عائشة خادمة، وأن سيدنا جبريل قال للمصطفى ﷺ: "أخرجوا هذه الخادمة من بيتكم فإنها من أهل النار، فأمر السيدة عائشة أن تصرفها، فكانت عندها تمرات أعطتها إياها وصرفتها فأخذت تأكل التمرات، وهي تمشي وإذا سائل جائع مد يده فأعطته، بقي معها بعض التمرات أعطه إياها. فجاء جبريل عليه السلام يقول: أرجعوا فلانة -خادمة عند عائشة- فإنها من أهل الجنة". قال: كيف تحولت؟ قال: "إنها لما أعطتها عائشة التمرات أخذت تأكلها، تصدقت منها بشق تمرة، فقبلها الله منها وحولها إلى السُعداء، فهي من أهل الجنة"، "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" حتى ببعض تمرة، فإنه لا تدرون رضا الله في أي شيء يكون من الحسنات والمعروف وهكذا.
وكانت بعض النساء الصالحات تتصدق كل يوم وتباكر بالصدقة في اليوم، كما نسمع في الحديث: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها"، وأول من تُلاقيه تعطيه إياها؛ فصادفت يومًا وإذا بدابة -حمار عفوة- صغيرة تمشي ، قالت: وهذه أيضًا أعطيتها إياها. فتوفيت، فكانت المغسلة تغسلها فرأتها تتبسم. قالت: لِمَ هذه ميتة تتبسم؟ أسألك بالله إلا ما ظهرت علي في نومي الليلة.. ما أخبرتني أيش هذا؟ فرأتها في النوم، قالت: ما قصة تبتسمين؟ قعدت أغسلكِ وأنت تبتسمين. قالت: عُرضت عليَّ أعمالي، فأول حسنة لاقتني حسنةُ العُفوة كسرة الخبز التي أعطيتها للعفوك، كانت أول ما لاقاني من الحسنات، قبلها الله تعالى وضاعف لها خيرها، وكانت أكبر من بقية الحسنات، لا إله إلا الله. فتبسمتُ وضحكتُ هذه ماكان لها عندي منزلة ولا مكانة!! ووقعت فيها لأنها أخرجتها لله خالصة وما عادت لها شي لا عُجِبَتْ بها ولا رَأَتْ لها شأنًا، فكبرت عند الله تعالى، فصارت أول ما لاقاها من الحسنات. لا إله إلا الله.
وفي رواية: "عليكم بالصدقة فإنها تقيم العِوَج"، فما يحصل للإنسان من اعوجاج في مساره؛ في فكره؛ في أخلاقه ببركة الصدقة:
"تدفع ميتة السوء، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، "وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، إذا سكبت الماء على النار انطفأت النار، فكذلك إذا جاءت أنوار الصدقة على الذنوب انمحقت الذنوب، "تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
وقال: "عليكم بالصدقة فإن الله تعالى ليدرأ بالصدقة سبعين بابًا من البلاء، أيسرها الجذام والبرص"، مما يدفعه الله تعالى بواسطة الصدقة، ويروى من كلام ابن المبارك.
وكان ﷺ يقول: "مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثُدِيِّهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة أخذت كل حلقة بمكانها"؛ فمنهم ما يقدر أن يتصدق -والعياذ بالله تعالى- ممن ابتليَ بداء الشح، فلا تسهل عليه الصدقة ولا تتيسر له، ويتعب في إخراج الصدقة ولا يجتمع عزمه عليها والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، وهذا من الأدواء والأمراض الصعبة، قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وفي الخبر: "ثلاثٌ من كن فيه وُقِيَ شُحَّ نفسه: من أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة":
"ثلاثٌ من كن فيه وُقِيَ شُحَّ نفسه: من أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة". (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9] كما قال الله تعالى، "من أدّى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة".
"قال أبو هريرة -رضي الله عنه- فأنا رأيت رسول الله ﷺ يقول: "بأصبعه هكذا في جيبه يوسعها فلا تتوسع"، ومعنى قلصت: انجمعت وتشمرت وهي ضد استرخت وانبسطت"، فيمثل ﷺ حال البخيل وحال السخي، وإن الله يحب السخي ويبغض البخيل.
وهكذا يتكسّب المؤمن خلق السخاء وإن لم يكن فيه، فبالتسخِّي يتسخَّى حتى يصير يعتاد الإنفاق والعطاء وتطيب نفسه بذلك، فيصير من الأسخياء الذين وُقُوا شُحَّ أنفسهم، وحينئذ يتصدّق بأحسن ما يجد.
وهكذا رأينا عموم المسلمين في البلدان التي دخلها الإسلام من عهد ﷺ وعهد الصحابة، ومرت عليها القرون الأولى وقرن بعد قرن، تجد أن الأوقاف فيها منتشرة؛ لمَ؟ لأن أعز أموالهم كانوا يوقفونها للمساجد، ولطلبة العلم، وللمرضى، وللدعوة إلى الله، وللوافدين؛ أنواع من الوقف يوقفونها، فانتشرت في كثير من بلدان المسلمين في القرون السابقة أراضٍ ومزارع وقفت لحمام الحرم، وقف على حمام الحرم، وكانت تُؤخذ حبوبها وتُرسل إلى مكة من أجل تُرمى للحمام بالحرم.
وهكذا أنواع الصدقات، وكانت أعزّ أموالهم، فلا تجد مدينة من مدن الإسلام الكبيرة التي دخلها الإسلام في القرون الأولى إلا وأحسن مواضعها وأحسن مزارعها موقوفةٌ، لأنهم كانوا يوقفون أعزّ أموالهم ويجعلونها لله تبارك وتعالى.
وهكذا وكانت تسدُّ مسدًّا حتى كان إلى القرون الأخيرة وقت سقوط الخلافة العثمانية، كانت أوقاف المسلمين تكفي التعليم؛ العلماء والمتعلمين؛ والخُطَباء والقائمين بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ وتكفي المرضى؛ حتى أدخلوا اللَّعِبَ بالأوقاف وإرجاعها لأيدي الدول والسلاطين، فصُرِفَت في غير مصرفها وأُخِذَت في غير مأخذها، وذهبت بركاتها إلا ما قلَّ وما رحم الله تبارك وتعالى، فالله يُوَفِّق قلوب المسلمين ويرزقهم إيثاره على ما سواه، فهو خير لهم من كل شيء جلّ جلاله.
"يقول: وكانت عائشة -رضي الله عنها- لا تتصدق إلا بما تأكلُ منه"، وتقول قال ﷺ: "لا تطعموا المساكين مما لا تأكلون".
أي: ما لا يطيب لكم من الأكل ولا ترضون لأنفسكم، لا تجعلوا هذا للصدقة؛ إن الحق يقول: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [ال عمران:92] .
وذمَّ القوم الذين يتتبعون أردى ما يكون في الأموال، وقال: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ ۖ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) [النحل: 62]. والعياذ بالله تعالى، ما هم من أهل الحسنى. وأهل الحسنى هم الذين يفرحون بالإعطاء لله تبارك وتعالى.
قال: "وكانت تتصدق بما وجدت قليلاً كان أو كثيراً حتى كانت تعطي السائل حبة العنب -ليس عندها إلا حبة واحدة من العنب- والتمرة من الحشف"، إذا ما وجدت غيرها تعطيه إياها، ولما استقلَّت بعض السائلات منها عنبة واحدة، قالت لها: كم في هذه العنبة من مثاقيل الذر؟ كم؟ والحق يقول: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7]. فإن ذرة، ذرتين، ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، عشر في هذه العنبة كثير! كل واحدة منها حسنة عند الله تبارك وتعالى وهكذا.
"وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا دخل المسجد فوجد سائلاً يسأل يعطيه حتى ربما أخذ الكسرة من ولده الصغير وأعطاها للسائل".
أبو بكر نموذج في الإنفاق والعطاء، ويكفيه شهادة حبيب الخلَّاق لقوله: "إن أَمَنَّ الناس عليَّ في ماله ونفسه أبو بكر، أنفق عليَّ ماله قبل الفتح"، يقول: "فلو كنتُ متَّخذًا من الناس خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال أنس -رضي الله عنها- كانت عائشة -رضي الله عنها- تأكل مرة عنباً فاستطعمها مسكين فقالت للخادم: خذ حبة عنب فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟ وقد قال الله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7]، وكان الصحابة -رضي الله عنها- يتصدقون بكل شيء حتى بالبصلة، وكان واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- لا يكل إعطاء الصدقة إلى غيره ويقول: إذا قام المتصدق ليضع الصدقة في يد الفقير كتب له به بكل خطوة حسنة فإذا صارت في يده كتب له بكل خطوة عشر حسنات".
لا يكِلُ يقوم بنفسه يُقال له: دعنا نوصلها لك؛ يقول: لا؛ إذا قام المتصدق ليضع صدقة في يد الفقير، كتب الله له بكل خطوة حسنة فإذا وضعها في يده، يرجع في كل خطوة عشر حسنات. فلا يُوكِلُها إلى غيره، ويتصدق بنفسه، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
الله لا إله إلا الله.
لما نزل قوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) [آل عمران: 92]. قال القرطبي: المعنى لن تكونوا أبرارًا حتى تنفقوا مما تحبون، أي نفائس الأموال وكرائمها.
وكان السلف -رضي الله عنهم- إذا أحبوا شيئًا جعلوه لله تعالى؛ ولما نزلت الآية قام سيدنا أبو طلحة، كان من أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحبُّ أمواله إليه بيرحاء، هذه قريبة من المسجد، كانت مستقبلة المسجد، وكان ﷺ يدخل ويشرب من ماء فيها طيب يستعذب ماءه؛ فلما نزلت: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) [آل عمران: 92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله قال: يارسول الله إن الله -تبارك وتعالى- يقول: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) وإنَّ أَحَبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو برَّها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله؛ قال: فقال رسول الله ﷺ: "بَخٍ! ذلك مالٌ رابح، بَخٍ ذلك مالٌ رابح بَخٍ ذلك مالٌ رابح"؛ يعني نِلْتَ فيه الربح الكبير؛ هكذا جاء في لفظ البخاري وهو أيضًا عند الإمام مسلم وغيرهما. لا إله إلا الله.
وسيدنا عمر بن عبد العزيز كان يشتري أعدال من السكر ويتصدق بها؛ قالوا له: هلَّا تصدقتَ بقيمتها؟ قال: السكر أحب إليَّ، فأردتُ أن أنفق مما أُحِب، (حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) قال: أنا أحب السكر؛ فالشيء الذي يحبه يتصدق به -عليه رضوان الله-، فحصول كثرة الثواب بالتصدق مما يحبه.
وقال في الآية الأخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ) [البقرة: 267]، ما تقبلونه وتأخذونه إلا بغضاضة؛ (وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ) يعني: الرديء.
يقول: "وكان ﷺ يقول: "لا يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً كلهم ينهاه عنها".
يعني: من لمكانتها عند الله يحرص الشياطين ألَّا يتصدق ابن آدم، فيجيء الأول والثاني والثالث والرابع والخامس إلى السبعين، كلهم ينهونه مايخرجها، يقولون له: لا؛ أَخِّر إلى وقت ثاني، هذا خَلَّه بعدين؛ بعد ما يكسر لَحْيَيْ سبعين شيطانًا يخرج الصدقة، فهم يتأثرون ممن يخرج الصدقات لوجه الله.
لمَّا سمع بعضهم بعضَ أهل العلم يُذَكِّر بالصدقة ويقول: "أنها لا تخرج إلا بعد أن يَفُكَّ لَحْيَيْ سبعين شيطانًا"، همَّ وعزم على الصدقة وما معه شيء إلا العشاء حقه، فرجع إلى البيت ليُخرج العشاء، فاعترضته زوجته، قالت له: أبدًا! ولا يخرج هذا وأنت تعشَّ معنا ولا يمكن أن تخرج عشاءك؛ أصبح يقول للشيخ: سبعون شيطان فكَّينا لحيهم، جاءت المرأة وزادت عليهم كلهم ماقدرنا نفك لحيها؛ قد قدرتُ على سبعين شيطان فككتُ لِحَاهُمْ وهي اعترضَتْ، وَقَعَتْ أشد عليَّ من سبعين شيطانًا، ما قدرتُ أُخرِج الصدقة. لا إله إلا الله.
"لا يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنها لَحيي سبعين شيطاناً كلهم ينهاه عنها" -كما رواه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي في السنن الكبرى-.
وكان ﷺ يقول: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها"، لا يتجاوزها، فإذا جاء البلاء وقد تصدق الإنسان في ذاك اليوم، ما يقع عليه وينصرف عنه وما يصيبه منه شيء؛ "باكروا بالصدقة" يعني: أخرجوها في أول النهار، "فإن البلاء لا يتخطاها".
وكان بعض أهل العلم والصلاح في سيؤون يخرج آخر الليل للمسجد ويقطع شطر من الطعام ويقول لأهله: أول الفجر أنفقوا هذا؛ واستمر؛ وفي يومٍ بعد الفجر، جاء واحدٌ يقول له: ابن لك سقط وكُسرت يده ونريد منك أن تعود؛ قال: لا، أنا لن أخرج من حلقة الذكر إلا بعد الإشراق، لكن ما أخرجتم الصدقة؟ أخرجتم الصدقة؟ قالوا: لا غفلنا عنها؛ قال: هذا هو لو كنتم قد أخرجتموها ما حصل هذا لكن البلاء لا يتخطى الصدقة، لكنكم أخرتم الآن سنتكبد ترتيب الولد وسنجبر يده وعظمه؛ وجاء له بعد الإشراق ينظر حال ولده؛ فأول ما قالوا له أنه سقط، قال: "ما أخرجتم الصدقة، الصدقة ما أخرجتموها؛ قالوا: لا، نسينا اليوم عادها في محلها؛ قال: هذا هو وأنا أتركها لكم لأني أخرج آخر الليل إلى المسجد، والوقت بعيد من الفجر، ويقول: أول الفجر أخرجوها.
الله الله.
"وكان ﷺ يقول: "الصدقة تزيد في العمر ويذهب الله تعالى بها الكبر والفخر".
أي: يُعالَج بها قلب المتصدق من الأسواء، ومن أشد الأسواء في القلب: الكِبر والفخر، والذي هو العُجب، وهو أدق من الرياء؛ والرياء أخفى من دبيب النمل، والعُجب أخفى من الرياء.
والله يخلص منها قلب من سبقَتْ له السعادة، والله يجعل قلوبنا منقَّاةً عن هذا؛ اللهم خلصنا من جميع شوائب الكِبر والرياء والعُجب والغرور، يا حي يا قيوم.
"الصدقة تزيد في العمر -أي: يبارك الله في عمر الإنسان المتصدق- ويذهب الله تعالى بها الكبر والفخر".
"وكان ﷺ يقول: "تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله تعالى في صومعة ستين عاماً فأمطرت الأرض فاخضرت فأشرف الراهب من صومعته فقال: لو نزلت فذكرت الله تعالى فازددت خيراً فنزل ومعه رغيف أو رغيفان فبينما هو في الأرض إذ جاءته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه -وكان الشيطان رسوله إليها ورسوله إليه- حتى غشيها، ثم -بعد ذلك ندم- أغمي عليه فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين، ثم مات فوزنت عبادته -طاعته، صلاته، وذكره- ستين سنة مع حسناته بتلك الزنية فرجحت تلك الزنية بحسناته" على كل الأعمال، فأذهبت كلها جميع طاعاته وعباداته، وكان إثم هذا أكبر من هذا كله؛ فقيل: هاتوا ثواب الرغيفين التي تصدّق بها؛ فجيء بهما ووُضِعَا في كفة الحسنات، فرجحت كفة الحسنات ببركة الرغيفين اللذين أعطاهما للفقير والسائل المحتاج، فكم يغفر الله تعالى بالصدقات وإيتاء ذوي الحاجات.
فإذا صادَفَتْ تقيًّا، كان ما تنشط به في عمله من الخير بتلك الصدقة، مشاركٌ له المتصدق عليه بثوابه في تلك الأعمال التي قام بها من الخيرات؛ فإذا صادَفَتْ مقربًا عند الله عظم شأنها؛ وهكذا.
وفي بعض أيام سيدنا موسى تعجب، قال: يا رب، تجعل رزقي على يد خلقك؟ هذا يغدينا وهذا يعشينا؟ فأوحى الله إليه: لِئُؤْجِرَهم فيك من شأن أريد أن أرحمهم وأقربهم أجعله عبرك فلما يعطونك من أجلي، أنا أرحمهم وأبدل سيئاتهم حسنات وأقربهم وأهديهم بسبب ذلك؛ وإلا كان يمكن أن يعطيه مباشرة ولا يحوجه لأحد؛ ولكن الله يرحم عباده بعباده، لا إله إلا هو. وهذا من حكمة حاجات كثير من أرباب الولاية والسر والخير، الله يجعلهم باب من أراد أن يُوصَله، ومن أراد أن يتجاوز عنه، ومن أراد أن يغفَر له.
والصدقة كذلك على المجاهد في سبيل الله، وعلى طالب العلم المخلص لوجه الله، وإذا أيضًا صادَفَتْ مقربًا عند الله، عارفًا بالله، تضاعف خيرها وأجرها وعوائدها على المتصدق بها.
لا إله إلا الله.
وفي الخبر: "لا تأكل طعام إلا تقيٍّ، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ".
وقالوا: وسبب البخل حب المال، وما سبب حب المال؟ سبب حب المال حب الشهوات التي يُتوَصل إليها بالمال، ومحبة عين المال؛ بعض الناس كان معه ما يكفيه ويزيد ولا تسمح نفسه بإخراج الواجبات، فضلاً عن المندوبات، بسبب تعلق قلبه بالمال وتعظيمه للمال، والعياذ بالله تعالى؛ قال: وما سُمِّيَ المالُ مالاً إلا لأنه يميل، يميل عن صاحبه، بل ويُميلُه عن سبيل الهدى إذا ما اتقى الله فيه.
قال: وعلاج كل علة بمضادة سببها:
قالوا لسيدنا عمر بن عبد العزيز: ماتركت لأولادك شيء قال: "من كان منهم صالحًا فإن الله يتولى الصالحين، ومن كان غير ذلك فلا أعينهم على معصية الله"؛ لا يعصون الله بمالي من بعدي.
لا إله إلا الله.
وهكذا ذكر ﷺ: أن رجلين في بني إسرائيل كانا من الأغنياء التجار، فمات أحدهما كان ينفق في سبيل الله، ومات الآخر كان بخيلاً. فأوقفَ الأول بين يديه، قال: ما فعلتَ فيما آتيتك؟ قال: يا ربي، أنفقته لوجهك، ووثقتُ بجودك وطَوْلِك لولدي وأهلي. قال: أما إنَّ ما كنتَ ترجوه لأهلك وولدك من الغنى فقد أنزلته بهم؛ -فعاش أولاده من بعده في خير حال وأغنياء، وميسَّرةً أمورهم وأرزاقهم-، قال: فأوقف الثاني بين يديه، قال: ما فعلتَ فيما آتيتك؟ قال: خفتُ على ولدي الفقر والحاجة فتركته لهم. قال: أما إنَّ ما كنت تخشاه على أهلك وولدك فقد أنزلته بهم؛ فتبدد ماله بسرعة، وعاش أولاده فقراء وأهله طول عمرهم يتكفَّفُون الناس. لا إله إلا الله. والجزاء من جنس العمل. رزقنا الله كمال الإيمان واليقين.
وكان في بعض قرى اليمن كذلك، مَرِضَ بعض الآباء وكان عنده عدد من الأولاد، يُنَقَّلَ بينهم من بيت هذا لبيت هذا. فجاء واحدٌ منهم، أخذته الشفقة وقال: هذا تنقله من مكان لمكان، تعبٌ على الوالد، خلوه عندي، فقالوا من أجل أن تأخذ أرضه؟! قال: لا لا، إن كان لكم من أجل هذا، خذوا مني ورقةً، مِلْكِيَّة أرض الوالد وتركتها لكم، ما آخذ منها شيئًا. قالوا: "خذه". وكتب لهم الورقة، وأخذ والده عنده يرعاه ويخدمه ويقوم به حتى توفي. وعندما توفي جاؤوا إخوانه وأخذوا المال كله ولا أعطوه شيئًا، قالوا: أنت قد كتبت. قال: على بركة الله. وذهب يتسبب وما هي إلا سنة واحدة، كل إخوانه افتقروا، كلهم افتقروا. ولم يبقَ معهم لا من الأرض ولا من غيرها، وفتح الله عليه، فصار يأتون إلى عنده وصار هو الذي ينفق عليهم، -لا إله إلا الله- (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58]، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].
وهذه الأيام يَعْظُم فيها ثواب الصدقة والعطاء أيام العشر، ويوم النحر، وأيام التشريق-؛ ولذا شرع الله فيها الأضاحي، وهو من أفضل ما يُتصدق به في هذه الأيام الأضاحي، من يوم النحر إلى ما بعده، بعده يومين بالاتفاق وقت الأضحية، واليوم الثالث عند بعض أهل العلم بعض أهل المذاهب يبقى وقت الأضحية، وينتهي عند بعضهم؛ فما كان في اليوم الأول من أيام التشريق والثاني أفضل، ومن تأخر فلا يتأخر عن اليوم الثالث، فيُخرِج أيضًا فيه، فهو وقت للأضحية من بعد صلاة العيد فتبقى الأربعة الأيام:
من شهر ذي الحجة، وهي أيام الأضاحي.
الله لا إله إلا الله.
وهكذا فالمتأخرين عندنا من كانوا ما يطعمون اللحم إلا في أيام العيد؛ قال لي الحبيب محمد الهدار: والدك قال لي في سنوات مرة، ما نطعم اللحم إلا من العيد إلى العيد؛ ولا نقصوا في عباداتهم ولا طاعاتهم ولا دعوتهم ولا تضحيتهم ولا عطائهم. لا إله إلا الله.
وربما كان في تلك السنوات التي ما يأكل اللحم فيها من العيد إلى العيد، يجري على يده صدقات لناس كثير، ويأكلون ناس كثير، وهو يكتفي بما تيسر.
لا إله إلا الله؛ وأنعم الله على الخلق بنِعَم كثيرة، ومع ذلك نجدهم يجزعون ويتبرمون، يقولون أنهم مُقصرون، وقد كان أخيَر منهم وأفضل منهم وأنوَر منهم، مرّت عليهم ساعة بلا عشاء، ساعة بلا غداء.. يومين بلا طعام ولا قالوا شيء، ويشكرون الله فرحانين حامدين، وإيمانهم قوي، وصحتهم زينة، وأبدانهم قوية، وفي طاعات وخيرات، في سرور وانبساط. لا إله إلا الله؛ وهم أفضل منا وأرقى وأيقن وأمكن، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ)، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) [النمل: 73].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل هذه الأيام من أبرك الأيام علينا وعلى هذه الملة، يا الله نقِّ فيها القلوب وصفِّها عن الشوائب، وارزقهم كمال الإيمان واليقين، وارزقهم الترقي لفيضات جودك، وبارك لنا في حج كل حاج، وعمرة كل معتمر، وطواف كل طائف، وسعي كل ساعٍ، وقيام كل قائم، وركوع كل راكع، وسجود كل ساجد، وزيارة كل زائر لزين الوجود وللصالحين أهل الشهود، وأعِدْ عوائد ذلك علينا في الغيب والشهود وعلى جميع أهل الوجود، وعجل بالفرج، وارفع الضيق والحرج، واكشف الغُمَّة عن جميع الأمة، واخصص اللهم بفرج عاجلٍ ولطف شامل منك للمسلمين في غزة وفي الضفة الغربية وأكناف بيت المقدس، وفي الشام كله، وفي اليمن وفي الشرق وفي الغرب، اللهم اكشف الكرب عن أمة النبي محمد ﷺ، وأغثهم بغياثٍ من عندك عاجل يا واحد يا أحد، تصلح لهم به الغيب والمشهد، وتقيهم به شر النكد والشدائد، يا حي يا قيوم، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين عجِّل بالفرج للمسلمين، والغياث للمسلمين، والصلاح للمسلمين، ووَفِّر حظَّنا من هذه الليالي وقيامها ومن هذه الأيام وصيامها، ومن هذه الأيام وبهجتها وسرورها وأنسها وحضورها، وخيراتك فيها ونظراتك إلى المحبوبين من عبادك أهل ودادك، في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
07 ذو الحِجّة 1446