(363)
(535)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 310- كتاب الزكاة (18) باب : بيان الأصناف الثمانية
صباح الثلاثاء 22 ذو القعدة 1446هـ
بيان الأصناف الثمانية
"كان رسول الله ﷺ يقول: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي مكتسب"، وفي رواية: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، والمدقع هو الشديد، والغرم ما يلزم أداؤه تكليفاً لا في مقابلة عوض، والمفظع الشنيع، وذو الدم الموجع هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل ويدفعها إلى أولياء المقتول ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله"، وكان ﷺ يقول كثيراً: "لا تصدقوا إلا على أهل دينكم"، فلما أنزل الله عز وجل: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ) [البقرة: 272]، الآية. صار يقول ﷺ: " تصدقوا على أهل الأديان"، وقال ابن عباس: "سأل رجل من المشركين رسول الله ﷺ فهم أن يعطيه ثم قال: ليس على ديني فمنعه فنزلت: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ) [البقرة: 272] الآية".
وكان ﷺ يقول: "للسائل حق وإن جاء على فرس"، وكان ﷺ يقول: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف"، وفي رواية: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنه يستكثر من جمر جهنم"، قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: "يغديه أو يعشيه"، وفي رواية: "يغديه ويغشيه"، وفي رواية: "قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو حسابها من الذهب"، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول بتحريم ادخار ما زاد على قوت يوم.
وكان ﷺ يقول: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف"، وفي رواية: "إنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس"، وكان ﷺ يعطي العامل عمالته فإن أبى عزم عليه.
وقال عمر -رضي الله عنه-: "عملت على عهد رسول الله ﷺ في الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة فقلت: يا رسول الله إنما عملت لله، فقال: خذ ما أُعطيت من غير مسألة فكل وتصدق"، وكان ﷺ يقول: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذَ بعد ذلك فهو غلول"، وبعث رسول الله ﷺ مرة ساعياً فغلَّ كساء من صوف مخطط فلما جاء قال له رسول الله ﷺ: "أف لك ثم قال للحاضرين إنه قد دُرِّعَ على مثلها في النار"، وكان ﷺ يقول لمن شكا إليه ما يلقى من شدة العمل والحرفة: "لعلك ترزق بمن تسعى عليه"".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذَّاكِرون وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرِمنا بالشريعة الغرّاء وبيانها على لسان عبْده وحبيبه خير الورى سيدنا مُحمّد صلَّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الذين حازوا به طُهرًا، وعلى أصحابه الذين رفع الله لهم به قدرًا، وعلى من والاهم بإحسان واتبعهم سراً وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الرّاقيين في الفضل والشرف أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
ويذكُرُ الشيخ -عليه رحمة الله- ما وردَ في ذِكر الأصناف الثمانية الذين أمر الله بصرف الزكاة إليهم بقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60].
فلا يجوز صرف أي زكاة وجبت؛ سواء كانت زكاة فطرة أو زكاة مال أو زكاة زروع وثمار أو زكاة تجارة أو زكاة ركاز أو زكاة معدن؛ كلها لا يجوز صرفها إلا لهذه الأصناف.
فإذا قسَّم الحاكم والإمام وجمع الزكوات، وجب عليه أن يستوعب جميع الأصناف الموجودين، فإن قسّم المالك بنفسه فينظر للأصناف الموجودين فيعطي من كل صنف منهم ثلاثة أو نحو ذلك، حتى يأتي على الأصناف الذين وُجدوا في بلده ووقته.
هؤلاء الأصناف الذين بيّنهم الحق -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز، يأتي تعريفهم معنا؛ ولا يجوز إخراج الزكاة لغيرهم، ولا أن تُصرف في شيء من أوجه القُربات الأخرى من المشاريع ومن غيرها من الأعمال التي يقومون بها.
وما توسع فيه بعض المتأخرين من إرادتهم أن يفسروا (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)؛ أنها لكل شيء في الطاعة، فذلك بعيد؛ لأنه لو كان كذلك لكان الصنف واحدًا من أوله إلى آخره كله في سبيل الله. هو اللي يعطي الفقير ما هو في سبيل لله؟ ولا في سبيل من!! لكان صنفا واحدا؛ ولكن هؤلاء مخصوصون من المجاهدون الذين يقاتلون الكفار المحاربين أعداء الله؛ فهؤلاء الذين يُعطَوْن من هذه الزكاة، فهم هذا الصنف الذي أراده الله -تبارك وتعالى- في كتابه.
فلا يُعطى من الزكاة من عنده قدرة على الكسب، ويستطيع أن يوفر لنفسه ما يحتاج إليه؛ إلا:
ومن كان أيضاً من الفقراء أو المساكين قادراً على الكسب كفايته وكفايةَ من يمونه لم يحل له الأخذ من الزكاة، ولا يحل للمزكي أن يعطيه وهو قادر على الكسب؛ كما قرأنا في الحديث: "كان رسول الله ﷺ يقول: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ"؛ أي: قادرٍ على الكسب، ويقول: "لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" في الرواية الأخرى.
فهذا لا يجوز أن يُعطى من الزكاة؛ إلا من كان مشتغلاً منهم بشيء من المصالح العامة، ولا يتفرغ للكسب، بحيث لو تفرغ للكسب لقصُر قيامه بالمهام العامة، ومنه ما أشرنا إليه من طالب العلم إن كانت تُرجى نجابته لينفع المسلمين.
قال: "وفي رواية: "إن المسألة لا تحلُّ إلا لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، والمدقع هو الشديد -فقر شديد- والغرم ما يلزم أداؤه تكليفاً لا في مقابلة عوض -لذي غُرم؛ يعني: دَيْن- والمفظع الشنيع، وذو الدم الموجع هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل -الخطأ أو العمد الذي سمح فيه أولياء الدم إلى الدية- يدفعها إلى أولياء المقتول ولو لم يفعل -فإذا لم تُدفع تعرَّض ذلك للقتل- قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله".
"وكان ﷺ يقول كثيرا: "لا تصدقوا إلا على أهل دينكم".
وفيه قال: "فلما أنزل الله عز وجل: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ) [البقرة:272] صار يقول ﷺ: "تصدقوا على أهل الأديان"، يعني: على كل ذي حاجة من المسلمين وغيرهم، فإن ذلك أيضاً لغير المحاربين المقاتلين فيه قربة إلى الله تبارك وتعالى.
وكذلك ما يُروى "عن ابن عباس سأل رجل من المشركين رسول الله ﷺ فهمّ أن يعطيه ثم قال: ليس على ديني فمنعه، فنزلت الآية: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ )[البقرة:272] ".
إذًا الصدقة المُتطوَع بها:
وإذا علمنا ذلك، فإن:
الصنف الأول: الفقراء.
والثاني: المساكين.
والكل منهم لا يجد مقدار الكفاية، وإن اختلف الأئمة بعد ذلك مَن أشدُّ منهم حالاً الفقير أو المسكين؟
وعلى كل حال، فالفقير والمسكين إذا أُطلق واحد منهما دخل الثاني معه، وإذا جُمعا صارا صنفين، والصنفان:
فهؤلاء الصنف الأول والثاني: الفقراء والمساكين، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة:60]؛ "لا حظَّ فيها لغني".
وجاء أنه جاءه رجل فقال: أعطني من الصدقة، قال: إن الله -تعالى- لم يترك القسمة لنبي ولا لغيره وقسمها بنفسه، فإن كنت من أحد هؤلاء الأصناف أعطيتك حقك، ولا تحل إلا لأحد هذه الأصناف الذين ذكرهم الله -تبارك وتعالى-، "فأتاهُ رجلٌ فقال أعطني من الصَّدقةِ فقال إنَّ اللهَ لم يرضَ بحكمِ نبيٍّ ولا غيرِه في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها هو فجزَّأها ثمانيةَ أجزاءٍ فإن كنت من تلك الأجزاءِ أعطيتُكَ حقَّكَ"
أولهم الفقراء والمساكين: فيكون ثُمن هذا الموجود من الزكاة يُصرف إليهم؛ ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة:60]
والعاملين عليها: الذين يبعثهم الإمام لجمع الصدقات؛ فلهم أُجرة مثلهم على حسب تعبهم.
والمُؤَلَّفة قلوبهم: وهم الذين أسلموا قريبًا ولم تزل نيَّتهم في الإسلام ضعيفة، من قَرُب عهده بالإسلام.
وفي الرقاب: المُكَاتَبون الذين كاتبهم أسيادهم على مال يؤدونه فيُعتَقون، فيُعطَون ما يستعينون به على تسديد نجوم الكتابة ليتخلصوا من الرِّق.
والغارمون أي: أهل الدَّيْن المستحقين من المدينين، الذين عليهم دَين يستحقون الزكاة.
هذا كله من غَرِمَ لأجل شيء من حاجات نفسه.
أمَّا الغارم في إصلاح ذات البَين وفي مصلحة عامة للمسلمين فهذا:
فإذا كان عليه دَين فمات ولا وفاء في تركته للدَّين، فهل يُعطى؟ -يعني: المدينين لهذا الميت- يُؤدَّى عنه بعد وفاته؟ هو الآن بموته خرج من الأصناف، لم يعد موجوداً، ولكن باقٍ في ذمته لهؤلاء:
وفي سبيل اللَّه: المقاتلون الذين يتبرعون ليس لهم ما يكفيهم؛ وليسوا مكتوبين في ديوان الحاكم يعطيهم أجورهم ونفقتهم، فهؤلاء يُعطَون في سبيل الله سبحانه وتعالى ليتقووا على الجهاد وردِّ كيد المحاربين من أعداء الله.
وابن السّبيل: وهم المسافرون أيضًا في طاعة أو في خير أو في غير معصية، وليس عندهم ما يوصلهم، فيجوز أن يأخذوا من الزكاة ما يوصلهم إلى مواطنهم وحيث أرادوا.
وقال ﷺ في الزكاة: "افترضَ عليهم صدقةً في أموالِهم تُؤخذُ من أغنيائِهم وتُرَدُّ على فقرائِهم".
يقول: "وكان ﷺ يقول: "للسائل حق وإن جاء على فرس"، وبذلك إذا ادَّعى الفقر ولم يعرف المزكي أنه صحيح قوله أو باطل، يجوز أن يعطيه وهو يتحمل المسؤولية، لكن من عُرِفَ كذبه لا يُعطى.
"يقول: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف -في المسألة- "، وفي رواية: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنه يستكثر من جمر جهنم -يسأل باسم الفقر وعنده ما يغنيه- : قالوا وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: يغديه أو يعشيه"، عنده الغداء والعشاء حق اليوم ويسأل؟ من أجل ماذا؟! بكرة! خلّ بكرة يجيء! تغدى وتعشى ونم وقم وصل لربك، بكرة لمَّا يجيء بكرة تسأل بكرة؛ فلا يجوز له باسم الفقر أن يسأل وهو عنده قوت اليوم والليلة.
"وفي رواية: "قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو حسابها من الذهب"، وهذا الذي مالَ إليه الحنفية وجعلوا وجود النصاب من أيُّ مال عنده يبلغ النصاب فهو الغني.
"وكان ﷺ يقول: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف -يعني: هذا أحق بأن يُتَفَقَّد ويُعطى-"، وفي رواية: "إنما المسكين الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس".
عفيف متعفف أي: ينبغي أن يبحث المتصدقون سواءً كان في الزكاة الواجبة أو في زكاة التطوع أن يبحثوا عن هذا الصنف فقد يكون في مجتمعاتكم قوم أهل العفاف لا يسألون الناس ولا يفطن الناس لهم، ( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة: 273]، قال: هؤلاء يعني الأجر كبير في إعطاء هؤلاء، وما هو في الذي في كل ساعة يسأل، وكلما حصَّل أحدا يسأل، ويروح في المواطن ويسأل، هذا الذي لا يسأل الناس ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، هذا إعطاؤه أعظم أجر وأعظم ثواب عند الله -تبارك وتعالى-، "لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس".
"وكان ﷺ يعطي العامل عمالته فإن أبى عزم عليه. وقال عمر -رضي الله عنه-: "عملت على عهد رسول الله ﷺ في الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة -أُجرة- فقلت: يا رسول الله إنما عملت لله، فقال: خذ ما أُعطيت من غير مسألة فكل وتصدق".
وفي بعض الوقائع قال له: "ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ فخذه، فإن كنتَ محتاجًا إليه فتموّله، وإلا فتصدق به، وما لا، فلا تُتْبِعْهُ نفسك"، لا تُعلِّق نفسك ولا تسأل، فإنه لا يبارك لك فيما جاء عن مسألة، ولا ما جاء مع إشراف نفس وتَشَوُّفها.
"وكان ﷺ يقول: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول -ما زاد على هذا-"، وبعث رسول الله ﷺ مرة ساعياً فغلَّ كساء من صوف مخطط فلما جاء قال له رسول الله ﷺ: "أف لك ثم قال للحاضرين إنه قد دُرِّعَ على مثلها في النار -والعياذ بالله تعالى-".
"وكان ﷺ يقول لمن شكا إليه ما يلقى من شدة العمل والحرفة: لعلك ترزق بمن تسعى عليه". يعني: يُيسر الله لك رزقك ويسوق لك الخير بهذا الذي تنفق عليه، أي: لا تَمُنَّ عليه لعله أنت بسببه تُرزق، كما كان أخوان، أحدهما محترف والآخر مشغول بالعبادة، فشكى المحترف أخاه إلى رسول الله ﷺ، فقال له: "لعلك به تُرزق"، قال التيسير الذي يحصل لك والخير ببركة أخوك هذاك، فلا تَمُن عليه، "لعلك به تُرزق".
وبَعَثَ مرة بعض السعاة، فجاء يقول: هذا حق الزكاة وهذا أُهديَ لي؛ فغضب ﷺ وقال حُطَّه في الزكاة ثم خطب وقال: "إنا نبعث أحدكم يعمل فيقول: هذا لكم وهذا أُهديَ لي! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر ماذا يُهدى له؟!" -اقعد وانظر هل أحد أهدى لك وجاب لك شيء لبيت أبوك تأخذه، أمَّا تخرج في عمل تبعه وأنت على أجره وبعدين تقول هذا لي؟! فكان أمره أن يضعه في الصدقة أو ما مكَّنه منه؛ قال اقعد في بيت أبيك وأمك وانظر أحد يهديك شيء أو لمَّا خرجت باسم السعي لنا والتبعية، وتقول هذا أعطوني إياه هدية! ما يعرفونك ولا بينك وبينهم رَحِم، ليش يعطونك هدية؟!
فلا يجوز للعمال والسعاة ومثل الموظفين عند الحاكم أن يأخذوا شيء غير مرتباتهم وأجورهم بمقابل ما هم فيه، ويُقال هدية؛ قُل له اقعد في دارك، اخرج من الوظيفة، هل سيأتي لك أحد ويعطيك هدية؟ فاقبل هدية من أصدقائك وأصحابك الذين يعطونك سواء كنت موظف أو غير موظف في أي محل كنت هؤلاء تعطيهم.
ولهذا يحرم على القاضي إذا جاء له واحد بهدية ما كان يهدي له من قبل القضاء ولا كان يعرفه، فجاء له بعدما تولى القضاء، يحرم عليه قبول هديته يقول: خذها لك! الآن يوم توليتُ القضاء تجيب لي من أجل ماذا؟ بعد بُكْرَةٍ تجيء قضية عندي، تريد أن أقوم معك!.
وكان بعض القضاة في سيئون وواحد مغترب في إندونيسيا أرسل له هدية، فلمّا وصل قال: من أين هذا يعرفنا؟! ما هي القرابة التي بيني وبينه؟! سمع أني توليتُ القضاء! فأقفل الهدية وخبأها، وبعد مدة جاء من السفر، وبعد مدة دخل في قضية هو وواحد؛ فلما وصل عنده قال: آه اصبر؛ في الأول اصبر؛ الحاجة التي أرسلتها لي شوفها موجودة؛ قال: لا لا لا، ليس قصدي! قال: كيف ليس قصدي، منذ متى تعرفني وتهدي لي؟! قال: خذ أولاً حاجتك، وبعدها تعال أنت وإياه سنقضي بينكم سواء.
وهكذا كان تولى القضاء بعض المشايخ عندنا في البلد، وكان أحيانًا يحصِّل عشاء وأحيانًا ما في عشاء هو وأهله، فليلة من الليالي جاء من المسجد، فوجد ما شاء الله يطبخون ومعهم لحم، قال: عجيب الليلة! من أين جاء هذا العشاء؟ قالوا: فلان جاب لنا خصار؛ قال: فلان! أيش دخل فلان فينا هذا؟ إلا يوم أنا في القضاء! هاتوا هاتوا بنرجعه له! وهم فرحانين والعيال جائعون. قال: لا لا لا! أخذ القدر واللحم الذي طبخوه فيه، وجاء يدق عليه؛ قال: خذ حقك هذا الذي جئت به. قال: لماذا..؟ قال: خذه، لماذا تحضره لي وأنا مسامح في الماء والملح، الملح من عندنا والطبخ من عندنا، وردوا لي القدر، هذا حقك لك؛ ورجع بلا عشاء؛ بيَّت هو وأهله بلا عشاء ولا رضي يوخذ منه شيء قال: يوم أنا الآن في القضاء جئت لي بهذا!.
وعندنا في المتأخرين الحبيب عبدالقادر بن سالم الروش -عليه رحمة الله تعالى-، تولى مدة القضاء في سيئون، وكان عنده بعض المال والثروة، وكان يصلح بين الذين يأتون، ويعطي ذا ويعطي ذا، دَخَل للقضاء وهو غني، وبعد كم سنوات خرج من القضاء فقير، خرج من القضاء وهو فقير ما عنده شيء.
فهكذا يكون أهل القضاء والذين يعرفون حق الله تعالى ويفصحون للحق ولخلقه.
الله يصلح أحوال المسلمين، ويدفع البلاء عن المؤمنين، ويحوِّل حالهم إلى أحسن حال، ويرزقنا الإنابة والخشية والاستقامة، ويُتحفنا بأنواع الكرامة، ويقينا الأسواء، ويعجّل بالفرج للمسلمين والغياث العاجل لأهل الإسلام والإيمان في الشام وفي اليمن وفي الشرق وفي الغرب، ويكشف كل كرب عنا وعن أهل لا إله إلا الله، ويحوِّل الأحوال إلى أحسنها، ويختم لنا بأكمل حسنى وهو راضٍ عنا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
22 ذو القِعدة 1446