كشف الغمة 272- كتاب الجنائز ( 10) القيام للجنازة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 272- كتاب الجنائز ( 10) القيام للجنازة
صباح الأحد 3 شعبان 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- - ثلاثة أمور تكره في الجنازة
- - هل يسن القيام للجنازة إذا مرت؟
- - الجلوس بعد وضع الجنازة في القبر
- - التذكر وكثرة ذكر الله في الجنازة
- - كراهة رفع الصوت في 3 مواطن
- - حكم الانصراف قبل صلاة الجنازة
- - القيام لمرور جنازة
- - هل الأفضل الذكر سرا أو جهرا في الجنازة؟
- - حكمة قيام النبي لجنائز اليهود
- - المراد بكثرة ذكر الموت
نص الدرس المكتوب :
"وكان ﷺ يكره أن تتبع الجنازة بنياحة أو مجمرة أو راية. وكان ﷺ يقوم للجنازة إذا مرت به ويقول: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يقعد حتى توضع في الأرض"، وفي رواية: "في اللحد"، وتَبِعَ ﷺ الجنازة فلم يقعد حتى وضعت في اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد، فقال ﷺ خالفوهم واجلسوا، وكان ﷺ إذا لم يتبع الجنازة يقوم لها حتى تجاوزه ثم يجلس، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا رأى جنازة قام حتى تخلفه، وكثيرًا ما كان ﷺ يتقدم الجنازة فيقعد حتى إذا رآها أشرفت قام حتى توضع. وكان ﷺ إذا شهد جنازة رؤيت عليه كآبة وأكثر الصِّمات وأكثر من حديث نفسه.
وكان ﷺ يقوم لجنائز اليهود فقيل له في ذلك فقال: "أليست نفسًا، وفي رواية: إنما قمت للملائكة"، وكان عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: أمرنا رسول الله ﷺ له بالقيام للجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس فمنا من نسي ومنا من لم ينس، وكان كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- يقومون للجنازة بعد موت رسول الله ﷺ فإذا أخبروا بأن رسول الله ﷺ أمر بالجلوس تركوا القيام؛ لأن كل واحد منهم كان يعمل بما فارق عليه رسول الله ﷺ فإذا بلغه تغير الحال بعده رجع عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها، على لسان خير بريّته، عبده وحبيبه وصفوته، سيّدنا محمّد بن عبد الله صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الرّاقين في الفضل أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر ما يتعلق بالجنازة وأحكامها، قال: "وكان ﷺ يكره أن تتبع الجنازة بنياحة أو مجمرة أو راية".
فلا تُتبع الجنازة "بنياحة"، أي: أحد ينوح من النساء وغيرهن، والنياحة: رفع الصوت بتعديد شمائل الميت، وكل ما يدلّ على الضجر والحزن والجزع بقضاء الله -تبارك وتعالى-، وهو مما حرّمه الحق ورسوله، وكان مستفحلاً منتشراً في الجاهلية، وكانوا يستأجرون النائحات استئجار، وكانوا يبالغون في ذلك، فحرّم الإسلام النَّدْب والنياحة، وقال: "النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تتُبْ قَبْل مَوْتِهَا تُقَامُ يوْمَ الْقِيامةِ وعَلَيْها سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، ودِرْعٌ مِنْ جرَبٍ" -في النار تشتعل عليهن ناراً والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وقال: "ليس منا من لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية ".
وكذلك لا تُتبع الجنازة بمجمرة، تفاؤلاً للبعد عن النار، حتى لا تُذكر النار ولا يكون أثر من نار الدنيا تابعاً للجنازة، فإنها للأحياء مُذَكِّرة لهم بنار الآخرة، ونهى عن ذلك ﷺ فلا يكون مبخرة، ولا شمع، ولا غير ذلك من الموقَد من النار، "فلا تُتبع الجنازة بصوت ولا نار" -في رواية أبي داود-.
وكان ﷺ يقوم للجنازة إذا مرت به ويقول: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يقعد حتى توضع في الأرض"، أو تمرّ به إذا كان واقفاً ليس حاضراً معها، وعلى هذا جاء أيضًا الاختلاف بين الأئمة:
-
فرأى الحنابلة عدم القيام للجنازة إذا جاءت، ويستأنسون بأنه آخر الأمرين من رسول الله ﷺ.
-
قال غيرهم: إنما كان جلوسه بياناً للجواز، والسنّة باقية، وإنما يُقال بالنسخ فيما لا يتعذر الجمع فيه، وهنا يمكن الجمع، فلا مصير إلى النسخ، وأنه بيَّن الجواز، وكان من عادته أن يقوم، وحتى يُروى أنه مُرّ بجنازة يهودي فقام حتى مرت الجنازة، فقيل له: إنها جنازة يهودي، قال: "أليست نفس؟" نفس من نفوس بني آدم ﷺ.
-
وعلى هذا هو المختار عند الشافعية، وقال القليوبي: هو المعتمد أنه يستحب القيام للجنازة إذا مرّت حتى تجاوزه، أو إذا دخلت وهو جالس في مصلّاه أوغيره أن يقوم حتى توضع.
-
وكذلك قال المالكية: هو مخيّر بين القيام وعدمه.
كذلك "حتى توضع في الأرض، وفي رواية: في اللّحد"، وإذا قد وضعت أيضًا على شفير القبر انتهى سنّية القيام.
وتَبِعَ ﷺ الجنازة فلم يقعد حتى وضعت في اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد، فقال ﷺ خالفوهم واجلسوا" -هذه رواية الترمذي في كتاب الجنائز، وأبي داود أيضاً، وابن ماجه، "وكان ﷺإذا لم يتبع الجنازة يقوم لها حتى تجاوزه ثم يجلس"، إذًا فتعدّدت الروايات، وعلمت الذين قالوا بسنية القيام حملوا الجلوس على بيان الجواز.
قال: "وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا رأى جنازة قام حتى تخلفه، وكثيرًا ما كان ﷺ يتقدم الجنازة فيقعد حتى إذا رآها أشرفت يعني: إلى محل الصلاة (المصلى)-، فإذا أشرفت -وأقبلت الجنازة- قام حتى توضع".
"وكان ﷺ إذا شهد جنازة رؤيت عليه كآبة.."؛ وهو التعظيم للقاء الحق -تبارك وتعالى-، والانكسار من أجل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، وهيبة لقائه؛ "وأكثر الصِّمات وأكثر من حديث نفسه."، أي: ذكره لله -سبحانه وتعالى- في نفسه.
فينبغي لمن يمشي في الجنازة أن يطيل الصمت، ولا يتكلم بشيء خصوصًا من كلام الدنيا، وأما الذين يمشون في الجنازة ثم يتحدّثون ويتكلمون ويضحكون، فلا هم في جنازة هؤلاء في غفلة، لا تذكرّوا ولا أعطوا الموقف حقه، وإن كانوا عادهم يغتابون الناس وهم يمشون في الجنازة -والعياذ بالله تعالى- ويقعون في المعاصي، وبعض الذين فقدوا أيضًا العقل والأدب والكياسة يسجّر وهو في الجنازة، ويستعمل الدخان -يريد يكيف- وهو في وقت الاعتبار والإدكارْ والخضوع والخشوع.
ويقول بعض الصحابة: ما سرت مع جنازة إلا وكان فكري كله، ماذا تقول؟ وماذا يقال لها؟ ما الذي قابلها في البرزخ؟ وبأي الحالة بُشِّرت؟ بالجنة أم بالنار؟ بُشِّرت بالرضا أم بالسخط؟ وعسى أكون أنا في هذا الحال بعد ذلك، فكيف يكون حالي؟! فلا مجال للغفلة في هذه المواطن.
وجاء أيضًا في رواية البيهقي: "كان أصحاب رسول الله ﷺ يكرهون الصوت عند ثلاثة: عند القتال، وعند الجنازة، والذكر"، فلا يرفع أحد صوته في هذه المواطن؛ ومن الفقهاء من اختلف أهي كراهة تحريم أم كراهة تنزيه؟
ولا ينبغي أن يرجع من يتبع الجنازة حتى يصلي عليها، وهكذا يقول المالكية: الانصراف من جنازة قبل الصلاة يُكره، ولو أذن أهلها، وبعد الصلاة لا يُكره.
يقول: لو مرّت عليه جنازة يُستحب القيام لها، على ما صرّح به المتولي واختاره أيضًا الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وشرحه للمهذب في المجموع، واختار أن القيام يستحب للجنازة إذا مرّت؛ ولم يقل بالنّسخ، وفيه خلاف عند الأئمة، عندنا وعند بقية الأئمة الأربعة.
ثم إن الأفضل اشتغاله بالتذكّر والاعتبار والذكر سرًا، فإن كان الناس في لغط وغفلة، فاشتغالهم بالذكر جهرًا أولى، أولى من الغفلة والاشتغال بالكلام الذي لا يعنيه والكلام الفضول.
قال: "وكان ﷺ يقوم لجنائز اليهود فقيل له في ذلك فقال: "أليست نفسًا، وفي رواية: إنما قمت للملائكة"، فإنهم يشهدون الجنائز، ملائكة الرّحمة للمؤمنين، وملائكة العذاب للكافرين والفاجرين، فيشهدون جنائزهم، فهؤلاء يُبشرون بالرضوان والجنة، وهؤلاء يبشرون بالغضب والنار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وكان عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: أمرنا رسول الله ﷺ له بالقيام للجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس فمنا من نسي ومنا من لم ينس".
"وكان كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- يقومون للجنازة بعد موت رسول الله ﷺ فإذا أخبروا بأن رسول الله ﷺ أمر بالجلوس تركوا القيام؛ لأن كل واحد منهم كان يعمل بما فارق عليه رسول الله ﷺ فإذا بلغه تغير الحال بعده رجع عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم".
جاء في رواية البيهقي: "لما قالوا له: إنها جنازة يهودي، قال: إن الموت فزع"، يعني: أمر عظيم وعبرة كبيرة، يُفزع منه ويُستعد له، إشارة إلى استعظامه، فهي علة مع قوله: "أليست نفسًا"، قال: "إن للموت فزعًا"، وكذلك ما جاء في الرواية التي سمعناها: "إنما قمت للملائكة".
وجاء أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ: "إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس" -وفي لفظ حبان- "إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح"، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] قال: فتقومون إعظامًا لهذا الأمر، أمام هذا الحدث عند مناسبة مرور الجنازة.
وجاء عن الحسن أنه أيضًا قام أمام جنازة اليهودي كراهة أن تعلو رأسه، وكل ذلك استنباطات للحكمة، وجاء عن يزيد بن ثابت قال: "كنّا مع رسول الله ﷺ فطلعت جنازة، فلما رآها قام وقام أصحابه حتى بعدت"، فقال الراوي: "ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه ﷺ عن قيامه".
وجاء عن بعض السلف أنه يجب القيام عند مرور الجنازة، أو عند لقاء الجنازة، وقال الإمام النووي في من قالوا بالنّسخ: إن النّسخ لا يُصار إليه إلا إذا تعذّر الجمع، وهو هنا ممكن، فلهذا قال المختار: أن القيام للجنائز مستحب.
وفي الأثر: من أكثر ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي ذكر الموت وجد قبره حفرة من حفر النار.
وسُئل بعضهم: متى يكون أكثر من ذكر الموت؟ قال: إذا كان في خلال اليوم والليلة يذكره عشرين مرة وزيادة، هذا أكثر ذكر الموت، أي: يتذكر كيف يكون حاله عند الموت؟ وبما يقابل ربه؟ فهذا ما مراده بالذكر، بذكر الموت.
بارك الله لنا في حياتنا، وبارك الله لنا في وفاتنا، وبارك الله لنا في دنيانا، وبارك الله لنا في برزخنا، وبارك الله لنا في آخرتنا، اللهم إنا نسألك خير الحياة وخير الوفاة، وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شرّ الحياة وشرّ الوفاة وشرّ ما بينهما، يا حي يا قيوم.
املأنا بالإيمان واليقين، ويثبتنا في عباده المتقين، وحزبه الصالحين، مع العفو والعافية والاستقامة، والالتحاق معه مع الكرامة، وصلاح شؤوننا وشؤون المسلمين، وتعجيل الفرج لأهل لا إله إلا الله أجمعين، ويبارك لنا وللأمة في شعبان، وبلوغ رمضان، والعون على الصيام والقيام، والحفظ من جميع الذنوب والمعاصي والآثام، والرّضا باليسير من المنام، وأن يقبلنا على ما فينا، ويقبل بوجهه الكريم علينا، ويصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين.
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
23 شَعبان 1446