كشف الغمة -25- مواصلة شرح أحاديث باب الاقتصاد في العمل

شرح كتاب كشف الغمة عن جميع الأمة
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: مواصلة شرح أحاديث  باب الاقتصاد في العمل

 

 الأحد: 29 ذو القعدة 1444هـ

يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:

  •  لماذا نقتصد في العمل؟
  •  ما ترك النبي ﷺ عملا فيه ثواب إلا دل وأشار إليه
  •  مجال التنافس وبذل الوسع (فأتوا منه ما استطعتم)
  •  أفضل الطاعات: ترك المعاصي
  •  لا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله
  •  بيان قوله ﷺ: ذروني ما تركتكم
  •  معنى: لو قلت نعم لوجبت
  • منع النبي من كتابه كلامه في أول الأمر
  •  من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يُحرم
  •  قوله ﷺ: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم
  •  موقف النبي مع حبل لسيدتنا زينب
  •  علاج الأمر الذي يبدأ بقوة ثم يفتر
  •  من أحب أن يشار إليه بالأصابع
  •  طريق الاقتصاد وتجنب الإفراط والتفريط
  •  قصة الذي تزوج امرأة وتركها لعبادته، فماذا فعل معه النبي؟
  •  لمن تحصل مصافحة الملائكة؟
  •  سؤال الصحابة للرسول عن تغير أحوالهم بعد خروجهم من عنده
  •  معنى قول سيدتنا عائشة: ألا تريحون الكُتاب؟
  •  برامج السهر في وقتنا، وما استثنى أهل العلم من السهر

نص الدرس مكتوب:

مواصلة شرح أحاديث  باب الاقتصاد في العمل

"وكان ﷺ كثيرًا ما يقول لأصحابه: "ما تركت شيئًا يُقرّبكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئًا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم". وكان ﷺ يقول لمن يراه يشدد على نفسه: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه أن تؤتى عزائمه"

وكان ﷺ يقول: "اتركوني ما تركتكم، حتى قال لهم مرة : لا تكتبوا عني غير القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه".

وكان ﷺ يقول: "إني لو أحرم عليكم أحرقتكم وإن تحريم الأنبياء لا تطيقه الجبال"، وكان ﷺ يقول : "إن من أعظم المسلمين جرماً في المسلمين من سأل عن شيء لم يُحرم على المسلمين فحُرّم عليهم من أجل مسألته".

وقال ﷺ حين فُرض الحج وسأل رجل: أكل عام يا رسول الله؟ قال: "لا ولو قلت نعم لوجبت ولم تستطيعوا".

وكان عمر يقول لأبي هريرة: لتتركن كثرة الحديث عن رسول الله ﷺ أو لألحقنَّكَ بأرض دوس.

وكان ﷺ يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم".

 قال أنس: ودخل رسول الله ﷺ مرة المسجد فرأى حبلاً ممدوداً بين الساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به، فقال: لا، حلوه ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد، فإن أحب الدين ما دام صاحبه عليه وإن قل" 

وكان ﷺ يقول: "كل شيء شرة ولكل شرة فترة، فإنْ صاحبُها سدد و قارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه".

وكان ﷺ كثيراً ما يقول: "فمن صارت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن أخطأ فقد ضل". وكان ﷺ يقول: "لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على، رشكم وفي طرقكم، ولكن ساعة وساعة قالها ثلاث مرات" . 

وكانت عائشة رضي الله عنها كثيراً ما ترسل إلى أهلها إذا تحدثوا بعد العتمة فتقول: ألا تريحون الملائكة الكاتبين، إن رسول الله ﷺ "كان لا ينام قبلها ولا يتحدث بعدها" والأحاديث في الباب كثيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم."

اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون

(3 مرات). 

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريّته سيدنا محمد خيرة الله وصفوته صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل مودّته ومحبته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رقَّاهم الله تعالى في الفضل والشرف والمجد أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعدُ: يواصل الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكرَ الأحاديث المتعلّقة بالاقتصاد في العمل؛ لتجنب الإفراط التفريط، والاستقامة على ما هو أمثل؛ ليتم إدراك رضوانه عزَّ وجل والاعتدال في المسار إليه بالصدق والإخلاص مع البُعد عن التنفير والتثبيط، وعن المبالغة في غير موضعها وكل ما يعلق بسير الإنسان إلى الله تبارك وتعالى ممّا يقطعه أو عن الخير يمنعه أو يُفَوِّت عليه أن يرتفع في مَن الحق يرفعه.

ويقول لأصحابه في بيان كمال بلاغه عن الله وإرشاده عباد الله: "ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به.." على الخصوص والعموم، في الإجمال والتفصيل، ما بين مُجملٍ ومُفصّل، وما بين مُخصصٍ ومُعمّم؛ فلا خصلة ولا عمل ولا قول ولا حركة من حركات الخير مكتوب لها الثواب عند الله إلا وفي بلاغه ﷺ إشارة إليها ودلالة عليها ودعوة إليها ﷺ، عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله، فهو الجامع للبيان والجامع للتبيين والجامع للبلاغ عن ربِّ العالمين والجامع لأداء الأمانة على الوجه الأرضى للرَّحمن سبحانه وتعالى، وأوتيَ جوامع الكلم وأُعين معونةً من ربِّ العرش العظيم لم تحصل لأحدٍ قبله ولا بعده، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، قال نبينا: "..وبُعثت إلى الناس عامة -أو- الخلق كافة"، وفي سنواتٍ معدودة بلَّغ الخلق كلهم ما يحتاجون إليه وتركهم على المحجة البيضاء، فسبحان من علَّمه وسبحان من أعانه وسبحان من أيده وسبحان من نصره وسبحان من آتاه القدرة على حسن هذا البيان، وحَفِظ ما أوحى إليه وبيانه الذي بيّن به الوحي على مدى القرون وممر العصور، طائفةً بعد طائفة وجيلًا بعد جيل، وها نحن ننعم بما جاءنا عنه من إرشادٍ وفعلٍ وقيل وهدايةٍ إلى سواء السبيل بعد مرور الأربعة العشر القرن ونحن في القرن الخامس العشر من بعثته ﷺ، فلله الحمد والمنّة.

  قال: "..ولا تركت شيئًا يُبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"؛ فوجب على السائر إلى الله أن يحمل نفسه على اجتناب جميع ما نهى عنه رسول الله ﷺ من محرّمات وجوبًا، ومن مكروهات ندبًا مؤكدًا، ومن شبهاتٍ كذلك، وأما في جانب الأوامر فهي مع كثرتها ما كان فريضةً فلا بد من القيام به، وما عدا ذلك فهو مجال التنافس وبذل الوسع لكل من له سعة والقدرة لمن له قدرة والاستطاعة لمن له استطاعة؛ ولهذا قال: "..فأتوا منه ما استطعتم"؛ ما قدرتم عليه وتمكّنتم منه وساعدكم عليه قدرةٌ وفراغٌ وفرصة، "..فأتوا منه ما استطعتم"، وفيه تقديم الانتهاء عن النهي وأنه الأحق والأولى وأنه الأهم مع امتثال الأمر بحسب المستطاع، ولكن الانتهاء عن النهي بالطاقة كلها والقوّة كلها؛ فترك المعاصي أفضل الطاعات، أفضل الطاعات ترك المعاصي والبعد عنها. باعد الله بيننا وبين الذنوب والخطايا كما باعد بين المشرق والمغرب، ونقَّانا من خطايانا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس. 

وهكذا جاءتنا الرِّوايات: "..أيها الناس إنه ليس من شيءٍ يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفسٍ تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنّكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله؛ فإنه لا يُنال ما عنده.." أي: من الخير المحض "..إلا بطاعته"، وأما ما اكتُسب بمعصيته فليس من الخير الذي عنده لعباده وأعدَّه، ولكن من استعجالهم المؤدي بهم إلى الهلكة والمؤدي بهم إلى العذاب والنار، - والعياذ بالله تبارك وتعالى- وفي هذا إرشادٌ منه ﷺ لما يُنازل أمته من أحوالٍ يُخَيَّر فيها كثيرٌ من الناس بين أن يصبر على بعض الفقر أو الجوع أو أن يعصي الله تعالى ويُقال له: تفعل كذا وتمشي معنا على كذا ونعطيك وإلا اقعد محلك وأنت وحالك، فقال لهم ﷺإذا جاء مثل هذا الحال: "لا يحملنّكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله" قولوا: لا! نجوع خير ونظمأ خير ونعرى خير من أن نطيعكم في معصية الله تبارك وتعالى، فإن الله يدرككم بما عنده في طيّ حقيقةِ وعدِ: (..وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ..) [الطلاق:2-3]  وإنما هو صبرٌ يسير على أمرٍ قدْر الصبر عليه عند الله كبير، ويحوّل الله تعالى التعسير إلى تيسير: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5-6]. 

وكذلك جاءنا أنه ﷺ قال: "دعوني ما تركتكم، إنّما هلكَ من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" هذا في رواية البخاري، وفي رواية الإمام المسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". وجاء في أول الحديث يقولُ: "ذروني ما تركتكم.."، وفي صحيح الإمام المسلم أيضًا يقول: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا، قام رجل يقول: أوَكل عام يا رسول الله؟ كل سنة؟ فسكت ﷺ حتى كررها الرجل ثلاثًا فقال رسول الله ﷺ: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه". وهكذا كان السائل هذا الأقرع بن حابس كما جاء في روايات، وكره ﷺ السؤال في غير محله وبينَ أن النفوس تميل إلى المُساءلة والتساؤل وكثرة ذلك والإلحاح فيه وتكسل عن العمل والتطبيق والتنفيذ والقيام بالأمر، ولكن تحب تتساءل.. كيف؟ وكيف؟ وبعدين؟ وإذا كان كذا؟ وإذا كذا؟ قُم اعمل وتمسّك في الطريق.. أما تجيب سؤال من هنا وسؤال من هنا.. ليس حول العمل؛ حول السؤال فقط!! كما جاءت الإشارة في أقوال العارفين: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبدٍ شرًا أغلق عليه باب العمل وفتح له باب الجدل… يجادل ولا عمل! ولا هو حول قيام لله تعالى بطاعة ولا بإخلاص ولا بصدق. والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

ولهذا قال: "أهلكَ من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"، وقصَّ الله علينا القصة يقول النبي موسى لقومه: (إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُوا۟ بَقَرَةࣰۖ..) …ما هي؟ اذبح بقرة وانتهت المسألة كلها! (... إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِك) وسط (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) [البقرة:68]  ها.. بقرة..عوان .. لا كبيرة ولا صغيرة.. ما هو لونها؟ أي لون من الألوان بيكفيكم روحوا اذبحوا! قالوا: لا ما لونها؟ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة:69] هيا اذبحوا!.. لا فارض ولا بكر.. لونها أصفر.. ما هي؟ كيف نتحقق؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!! (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ…)  جاءكم بالحق من أوّل مرة.. من أوّل كلمة.. (... قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة:71].  قال: "شدّدوا فشُدَّد الله عليهم"، فالنفوس تتولّع بالسؤال والاستبيانات في غير موضعها، وتكسل عن التنفيذ والتطبيق والعمل، فالنبي  حذّر من هذه المسالك النفسية وقال اربؤوا بأنفسكم عن هذا المسار وكونوا وراء حسن الامتثال للأمر؛ ولهذا أرشد الصحابة لمّا قالوا: ما نطيق ما في هذه الآية: (..وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ..) [البقرة:284]، قال: أتريدون أن تقولوا كما قالت بني إسرائيل سمعنا وعصينا! قولوا: سمعنا وأطعنا قالوا: سمعنا وأطعنا.. أنزل الله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ*  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:285-286] إلى آخر الآيات وفيها الدعوات العظيمات وبيان الخير للأمة، الله يرزقنا حسن العمل والاقتداء بحبيبه ﷺ في جميع ما نقول وننوي ونفعل إنه أكرم الأكرمين. 

وقوله: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"؛ بيان لما أنزله الله فيه من منزلة التشريع، وأنه صاحب نيابةٍ عن الحق ومكانة عند الرّحمن كلمته تُوجب وكلمته تُحرّم وكلمته تفرض وكلمته تقطع الأمر فهو خطير المنزلة لدى الرَّب "لو قلت نعم لوَجبت ولما استطعتم"، ولهذا قال لنا: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر:7]، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ..) [الفتح:10] "فلو قلت نعم لوَجَبت ولما استطعتم".

ويقول لمن يراه يشدّد على نفسه: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وجاء أيضًا في الروايات: "كما تحبّون أن يغفر لكم، يحب أن تؤتى رخصه -سبحانه وتعالى- كما يحب أن تؤتى عزائمه" ما فرض عليكم وطلب منكم وأنتم قادرون عليه يحب منكم القيام به، كذلك يحب منكم أن تقبلوا رخصه التي رخّص للضعيف منكم ولذي الحاجة ولصاحب الظرف والمستجير، فيحب أن تؤخذ رخصه كذلك.

وقال: "اتركوني ما تركتكم، حتى قال لهم مرة: لا تكتبوا عني غير القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحُه" هذا في أول الأمر، ثم تمّت الكتابة في عهده وبعده ﷺ، وإنما الاعتناء بالجمع وبالتصنِيف هو الذي جاء في عهد التابعين وتابعي التابعين، وأما أصل الكتابة فقد كانت في عهده ﷺ، ولما خاف اختلاط السنّة بالقرآن أمرهم أن يمحوا غير القرآن ثم أذِنَ لهم أن يكتبوا. كان ﷺ يقول: "إني لو أحرّم عليكم أحرقتكُم" في رواية: "لو أحرِّم عليكم احترقتم"، "..وإن تحريم الأنبياء" في الروايات: "..لا تطيقه الجبال"، تصحيح - ليس غريم- "..وإن تحريم الأنبياء لا تطيقه الجبال" يعني: ما حرّمه الأنبياء شديدٌ عظيمٌ عند الله ارتكابه خطرٌ كبيرٌ يُوجب العذاب، هكذا جاء في رواية الطبراني يقول: احترقتم، "لو أحرّم عليكم احترقتم وإن تحريم الأنبياء لا تطيقه الجبال" وقال بإسنادٍ حسن.

و"إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم على المسلمين" من لتتُه - تعنّته- وكثرة سؤاله حُرّم، "..فحرّم عليهم من أجل مسألته" فتسبّب في اختبارٍ للمسلمين وتشديدٍ عليهم بسبب مسألته. هكذا جاء الحديث في الصحيحين، هذا لفظ مسلم "إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا" -جرمًا يعني: جريمة- "من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرّم عليهم من أجل مسألته". يعني المراد بالجرم: الإثم، "..حُرّم من أجل مسألته" المعوجّة الآتية على غير وجهها؛ فبِسبب ذلك، وإلّا فالسؤال الحَسَن نصف العلم وله مجاله، ويقول: "لو قلت نعم لوَجَبتْ ولم تستطيعوا" أن يحج الواحد منكم في كل سنة، ولكن يكفي في العمر مرة. لا إله إلا الله.. قال "ولو وجبت لم تقوموا بها" في رواية ابن ماجة "ولو لم تقوموا بها عُذّبتم"، وجاء أيضًا في رواية ابن ماجة يقول: ونزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة:101]. 

وذكر قول سيدنا عمر لأبي هريرة: "لتتركنّ الحديث عن النبي ﷺ أولألحقنّك بأرض دوس" خاف من الوقوع في التشديد؛ وذكر بعده الحديث: "لا تُشدّدوا على أنفسكم فيُشدّد عليكم فإن قوم شدّدوا فشُدّد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [الحديد:27]" أي: ما فرضها الله عليهم ثم قصّروا وتركوا العمل بها فأُخذوا بذلك، (..فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..) [الحديد:27] كما قال الله تبارك وتعالى، وهم الذين فرضوها على أنفسهم من دون أن تُفرض عليهم ثم لم يقوموا بها.

وذكر لنا: "أنه ﷺ دخل مرة المسجد ورأى حبلًا ممدودًا بين الساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا: حبلٌ لزينب" عابدة زينب أم المؤمنين زوج النبي ﷺ، "فإذا فترت" أي: تعبت "تعلّقت به" تقوم في الصلاة، "قال: لا؛ حلّوه.." أطلقوا الحبل أبعدوه من المكان، "..ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد، فإن أحبّ الدين ما دام صاحبه عليه وإن قل"، يعني: أحبّ العبادة إلى لله ما داوم عليها صاحبها، وإن كانت قليلة لكن مع الدوام تُثمر وتؤثر وتنفع صاحبها. 

وكان يقول: "لكل شيءٍ شِرَة.." أي: انطلاق بقوة وظهور "..ولكل شرة فترة" بعدها يفتر، فإما أن يفتر إلى وسط واعتدال فيصيب السنّة، وإما أن يفتر إلى ترك الأمر أو الانعكاس وعلى أم الرأس، يقول: "لكل شيءٍ شِرة ولكل شِرةٍ فترة" فعندما يُذكّرون بأمر أو يُدعون إليه ينطلقون ويقومون بقوة في البداية، وقليلاً قليلاً يتناقصون بعدين ويقلّون، لكن الفترة هذه إذا انضبطت بضوابِط السنّة الكريمة ورجعت إلى الاعتدال؛ نَجوا وأفلَحوا، وإن وقعت بعدين إلى الترك بالأساس أو الانعكاس ضرّت أصحابها. لا إله إلا الله..!

"لكل شيءٍ شِرة ولكل شِرةٍ فترة، فإن كان صاحبها سدّد وقارب فأرجوه وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تعدّوه"، يقول: "بحسب امرئ من الشر أن يُشار إليه بالأصابع في دينٍ أو دنيا إلا من عصمه الله"، يعني: أُريد بذلك التميّز والتفرّد والشهرة بين الناس؛ فينطلق بالمبالغة أو يرجع إلى أسفل سافلين، ففي كل الحالين يُشار إليه بالأصابع، وأمّا صاحب الاعتدال فيبقى هو محل غير المستنكَر وغير المستغرب، وهو الذي هُدي إلى الصواب وسواءِ السبيل.

وجاء في رواية "لكل عمل"، وفي رواية: "لكل عابد شِرَة" بالتخفيف، وبالتشديد: "شِرَّة" يعني: حدّة وحرص وقوة ونشاط ورغبة، ويقول: "ولكل شِرّة -أو شرَة- فترة" يعني: وهن وضعف وسكون بعد ذلك، يعني: يُبالغ في العبادة أولًا، وكل مبالغ مع مرور الوقت تسكن حدّته تفتر مبالغته؛ فمن اقتصد في الأمور وسلك الطريق المستقيم واجتنب جانب الإفراط والتفريط، "فأرجوه" يعني: أرجو له الخير والوصول إلى الرّحمن جلّ جلاله؛ "فإن صاحبها سدّد وقارب" أي: جعل عمله متوسطًا؛ دنا من التوسط وسلك الطريق الأقوم تجنّب الإفراط والتفريط "فأرجوه" يعني: الصلاح والخير منه وأن يدوم على ذلك حتى يصل إلى المقصود، "وإن أُشير إليه بالأصابع" يعني: بالغ مبالغة طالب الشهرة والمكانة بين الناس أو صار يُشار إليه من ترك الأمر نهائياً والتكاسل عنه، "فلا تعدّوه": لا تعتدّوا به؛ ما تحسبوه من الصالحين ولا من الأخيار، فإنّ لهم حركات يقيمونها لهم فيها مقاصد من الظهور أو الشهرة أو الوصول إلى السلطة أو غير ذلك، فلا تحتفل بهم ولا تظن أنهم على هدى ولا أنهم على خير، حتى يصدقوا مع الله ويتركوا الإفراط والتفريط ويعتدلوا في مسارهم إلى الرّحمن.

يقول: "إن لكل عمل شِرّة والشِرّة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضلّ" هكذا في رواية البزّار. لا إله إلا الله..

ويقول عبد الله بن عمرو: زوّجني أبي امرأة من قريش لما دخلَت عليّ جعلتُ لا ألتفت إليها ولا أعبأ بها ممّا لي من العبادة ومن الصوم والصلاة، دخل عليه أبوه -عمرو بن العاص- قال: كيف وجدت بعلكِ؟ قالت: كخير الرجال وكخير بعولة من رجلٍ لم يكشف لنا كنفًا ولم يقرب لنا فراشًا. قال: أقبل عليه فعضّني بلسانه قال: أنكحتك امرأة ذات حسب ففعلت وفعلت! وانطلق إلى النبي فشكاني إليه، فأرسل إليّ النبي ﷺ قال: "أتصوم النهار؟ قلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: فإني أصوم وأفطر وأصلّي وأنام؛ ثم قال: اقرأ القرآن في شهر، قلت: إنّي أجدني أقوى من ذلك، قال: فأقرأه في خمسة عشرة، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، -قال أحدهما، إما حصين وإما مغيرة- فأقرأه في كل ثلاث، ثم قال: وصُم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، قلت: إني أقوى من ذلك، قال لم يزل بي حتى قال: صُم يومًا وأفطر يومًا فذلك أفضل الصيام وهو صوم داود عليه السلام". وهكذا بعد ذلك لما كبر وضعف قال: لو كنت قبلت رخصة رسول الله ﷺ أحب إلي من أهلي ومالي. وهكذا في الرواية "لكل عمل شِرّة ولكل شِرّة فترة فإما إلى سُنّة وإما إلى بدعة"، "فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل" والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

ويقول: "لو تدومون على ما أنتم عليه عندي.." أو الحال الذي أنتم عليه عندي، "..لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم ولكن ساعة ساعة" أي: حال عامة الأمة كذلك، وخواصّ من الأمة كسيّدنا عمران بن الحصين وغيره صافحتهُم الملائكة، وحدّثتهم على فرشهم وفي الطرقات، ولكنهم قلائل، والإرشاد العام للأمة أن يعلموا أنهم بضعفهم وعجزهم مخلوقون ليكونوا ساعة فساعة، ولا يُفرِِطوا ولا يُفَرّطوا. وأمّا من أُعين وأجيد ودامَ له مع الله حضوره فدام له سروره وأشرق نوره، فشأنه شأن مع الرحمن (..ولكلٍّ درجات ممّا عملوا..) [الأنعام: 132] (هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران: 163]. وفي الحديث أيضًا يقول سيدنا حنظلة: "لقيني أبو بكر: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ ما بك؟ قال: قلت نكون عند رسول الله ﷺ يذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا نراها رأي العين أمامنا،" يعني: في حالة من عين اليقين وإشراف على حق اليقين الله الله الله! "فإذا خرجنا من عند رسول الله ﷺ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: والله إنّا نلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، يشكون أنفسهم جاؤوا إلى عند النبي ﷺ، حتى دخلنا على رسول الله ﷺ قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله ﷺ: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، إذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال رسول الله ﷺ: "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، يا حنظلة ساعة وساعة، يا حنظلة ساعة وساعة" هكذا جاء في لفظ مسلم وجاء عند الترمذي وغيرهما، صلى الله على المرشد الحكيم، والمعلم العظيم أفضل الصلاة والتسليم. 

"وقال: وسيدتنا عائشة كانت في محافظتها على السنة تبعث بعد العتمة،" يعني: بعد العشاء تقول: لِقرابتها وأهلها: "ألا تريحون الكتاب؟" يكتبون عليكم الكلمة (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18] قالت لهم يكفي روحوا اذكروا الله وناموا واتركوا الثرثرة وكثير الكلام، يعني: لا تكثروا الحديث بعد العشاء؛ من أجل أنه "كان لا ينام قبلها ولا يحب الحديث بعدها ﷺ". هكذا جاء في رواية عبد الرزاق في المصنّف: يقول عروة بن الزبير: "كنت أتحدث بعد العشاء الآخرة فنادتني عائشة: ألا تريح كاتبيك يا عريّة؟" تصغّر عروة تقول: ألا تريح كاتبيك يا عريّة؟! "إنه ﷺ كان لا ينام قبلها ولا يتحدث بعدها" ﷺ، يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها. وكثير من أهل الشر ما كثّروا الحديث إلا بعد العشاء، ونشروا برامجهم: وبرنامج السهر لهذه الليلة… يا خص برنامج!! ومن الذي جاء به؟ وبأي مقصد؟ وبأي نية؟ ومن أين الصياغة حق هذا البرنامج؟… وهكذا استثنى أهل العلم ما كان من مطالعة علمٍ أو مسامرة ضيفٍ أو إيناس أهلٍ؛ فلا كراهة فيه، وما عدا ذلك لماذا بهذه السهرات في غير المرضات وفي غير الخير، وبعدين يصبحون جِيَف، أو وقت الصلاة ووقت القيام لا استغفار بالأسحار ولا صلاة جماعة في الفجر، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

 اللهم ارزقنا حسن المتابعة لحبيبك، والاستقامة على منهاجِه، والرقي بمعراجِه في لطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمدﷺ.

تاريخ النشر الهجري

30 ذو القِعدة 1444

تاريخ النشر الميلادي

18 يونيو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام