كشف الغمة 245- كتاب الصلاة ( 135) باب: صلاة العيدين
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 245- كتاب الصلاة ( 135) باب: صلاة العيدين
صباح الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- إظهار السرور في أيام السنة
- خصوصية عيد الفطر وعيد الأضحى
- هل صلاة العيد واجبة أم سنة؟
- شروط صلاة العيد ومستحباتها
- بماذا نتجمل في العيد؟
- هل التجمل خاص بمن يحضر صلاة العيد؟
- ثياب النبي في العيد
- يكره حمل السلاح يوم العيد
- لماذا رفض النبي لبس الحرير؟
- يسن التزيين للأطفال
- أذن النبي بضرب الدف والغناء في العيد
- أنواع ألبسة النبي ﷺ
- التوسط في الثياب والبعد عن التشبه بأهل الضلال
- بماذا نعبّر عن الفرح؟
- نظر الرسول للماء ليسوّي لحيته وشعره
- أين صلى النبي صلاة العيد؟
- روح العيد لنيل المغفرة والمزيد
نص الدرس مكتوب:
باب صلاة العيدين
"قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله ﷺ يحث على التجمل بالثياب الحسنة في العيد ويكره لبس السلاح في يومه إلا لخوف من عدو"، وأنكر ابن عمر وغيره على الحجاج في حمله السلاح في يوم عيد، وكان له ﷺ برد حبرة يلبسه في كل عيد، ومر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع النبي بالسوق فرأى حلة من سندس فقال: يا رسول الله لو اتخذت هذه للعيد، فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة". وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يلبسون ذكورهم الصغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحلي والمصبغات من الثياب، وكان ابن عمر إذا رأى في آذان المراهقين حلقًا نزعها منهم وقال: قد كبرتم عن مثل ذلك، قال أنس -رضي الله عنه-: وكان يقلس لرسول ﷺ يوم عيد الفطر، والتقليس هو الضرب بالدف والغناء الجيد، وكان ﷺ أكثر ما يصلي يوم العيد في الصحراء".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرِمِنا بشريعته وبيانِها على لسانِ خيرِ بريته، عبدِه وصِفْوَتِه سيدنا محمّد صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آلهِ وصحابتِه وأهلِ محبتِه ومِودَّتِه ومُتابعتِه، وعلى آبائهِ وإخوانِه من الأنبياءِ والمرسلين صَفْوَةِ الرحمنِ سبحانه وتعالى، وخِيرَتِه في خليقتِه، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعِيهم، وعلى الملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين، بمحضِ فضلِه ومِنَّتِه.
وبعد،،
فيتكلّم الشيخ -عليه رضوانُه- عمّا ورد في صلاةِ العيدين -أي:عيدِ الفطرِ وعيدِ الأضحى-، وذلك أن الله جعل في طبيعةِ هذا الإنسانِ الذي خلقه أنه يحتاجُ إلى أيامٍ في السنةِ يكونُ فيها مدعوًا إلى التجمُّلِ؛ وإلى البروزِ؛ وإلى إظهارِ السّرورِ والفرحِ والابتهاجِ. ولذا لم تَخْلُ طائفةٌ ولا جماعةٌ من أصنافِ بني آدم عن إقامةِ مثلِ هذا بمختلفِ أديانِهم ومختلفِ اتجاهاتِهم ومختلفِ شؤونِهم، حتى الملحدين منهم، ومن لا دينَ لهم يُقيمون أيامًا إما لثوراتِهم؛ وإما لألعابِهم؛ وإما لغيرِ ذلك.
وقد كان الناسِ في المدينةِ لهم يومانِ يلعبون فيهما في السنةِ، فجاء ﷺ -كما جاء في سُننِ النسائي- وقال: "إن الله أبدلكم بهما خيرًا منهما عيدَ الفطرِ وعيدَ الأضحى"، فهذان اليومان من بين أيامِ السّنةِ خُصِّصا بمزايا:
-
وذلك أنه عند الفراغِ من رمضان، وكثرةِ ما يحصلُ فيه من العِتْقِ والمغفرةِ، والتقريبِ والعطاءِ الواسعِ الرحيب، أُمِروا بإظهارِ السرورِ والفرحِ بعيدِ الفطرِ.
-
وبعد انقضاءِ يومِ عرفة، واجتماعِ ثُلَّةٍ من أهلِ هذه المِلَّةِ، وأهلِ هذه القِبلةِ في عرفات، وتعرُّضِهم للنفحاتِ، وتجلِّي اللهِ عليهم وعلى بقيةِ الأمةِ في ذاك اليومِ، أُمِروا أن يُتْبِعوا ذلك بيومِ عيدِ الأضحى؛ إعلانًا عن الفرحِ بكرمِ الله وإحسانِه وإفضالِه، وإلى غيرِ ذلك من الحِكَمِ العظيمةِ.
فجاءت صلاةُ العيدين:
قال الحنفيةُ: هي واجبةٌ -فالواجبُ عندهم منزلةٌ بين السنةِ والفرضِ- وهي واجبةٌ عندهم على من تجبُ عليه الجُمُعةُ عندهم، فمن وجبت عليه الجمعة وَجَبَ عليه أن يُصلِّيَ العيدَ، فإن لم يُصلِّ مع قدرتِه أَثِمَ عندهم.
وقال المالكيةُ والشافعيةُ: هي سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ بحقِّ عمومِ المسلمين، عمَّمَ الشافعيةُ تأكيدَ سُنِّيَّتِها للذكورِ والإناثِ، والصِّغارِ والكبارِ، وكلِّ مُكلَّفٍ بالغٍ عاقلٍ يَتَأكَّدُ عليه أن يُصلِّيَ صلاةَ العيدِ. قال الحنابلةُ: هي فرضُ كفايةٍ، إقامتُها على أهلِ كلِّ قُطْرٍ ومنزلةٍ فرضُ كفايةٍ، أن يُقيموا صلاةَ العيدِ، ومعنى فرضِ كفايةٍ: لو تركها أهلُ قُطْرٍ حُورِبوا وقُوتِلوا حتى يُقيموا هذه الشعيرةَ.
فهذا حكمُ صلاةِ العيدِ، ولابد لِصِحَّتِها:
-
ما يُشترطُ في الصلواتِ، لا يُشترطُ فيها عدمُ التعدُّدِ كالجُمُعةِ، بل يمكنُ أن تتعدَّدَ تُصلّى في أماكنَ كثيرةٍ.
-
وكذلك يَشترطونَ للوجوبِ -الحنفيةُ-: وجودَ الإمامِ، ووجودَ المِصْرِ والجماعةِ والوقتِ وهكذا.
-
واشترطَ الحنابلةُ وجودَ الجماعةِ والوقتُ، الوقت اتَّفقوا على شرطِه فقالوا: وهو من بعدِ طلوعِ الشمسِ إلى الزوالِ.
-
قال الشافعيةُ: فإذا فاتت فهي تُقضى ككلِّ صلاةٍ مؤقّتةٍ إذا فاتت قُضِيَتْ.
-
ويقولُ المالكيةُ: لتكونَ سُنَّةً مؤكَّدةً هي على من اجتمعتْ فيه شروطُ الجُمُعةِ؛ فمن اجتمعتْ فيه شروطُ الجُمُعةِ فهي في حقِّه سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، فإذا فُقِدَ أحدُ الشروطِ -وكذلك عندَهم أن يكونُ المُصلِّي للعيدِ غيرَ مُتلبِّسٍ بالحجِّ- فإذا كان مُتلبِّسًا بالحجِّ، فصلاةُ العيدِ عندهم غيرُ مطلوبةٍ. وأما إذا فُقِدَ شرط من شروطِ وجوبِ الجُمُعةِ فتتحوَّلُ من سُنَّةٍ مؤكَّدةٍ إلى مُستحَبَّةٍ؛ هذا مذهبُ المالكيةِ، يقولونَ: هي سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ لمن تجبُ عليه الجُمُعةُ ولغيرِ الحاجِّ، أما الحاجُّ فلا تُطلَبُ له. ومن تجبُ عليه الجُمُعةُ فهي سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، وغيرُهم -بأنْ كان امرأةً مثلًا أو كان مملوكًا- إلى غيرُ ذلك ممَّن لم تجبْ عليهم الجُمُعةُ، فهي مُستحَبَّةٌ في حقِّهم.
-
قال الشافعية: سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ في حقِّ الجميعِ لكُل بالغٌ عاقلٌ، وبهذا تتأكَّدُ في حقِّه سُنَّةُ العيدينِ، صلاةُ عيدِ الفطرِ وصلاةُ عيدِ الأضحى.
ثم ذُكِرَ قَولُ "ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله ﷺ يحث على التجمل بالثياب الحسنة في العيد".
ففي العيدِ خصوصياتٌ، منها:
-
من ليلتِها يُستحَبُّ إحياءُ ليلتِها بطاعةِ الله تعالى، ومن أعظمِه التكبيرُ والصلاةُ وقراءةُ القرآنِ والتسبيحُ والاستغفارُ، يقول: "من أحيا ليلةَ الفطرِ وليلةَ الأضحى مُحتسبًا لم يَمُتْ قلبُه يومَ تموتُ القلوبُ"، كما جاء في مجمعِ الزوائدِ، يقولُ رواه الطبرانيُّ في الكبيرِ والأوسطِ.
-
كما يُستحَبُّ من أنواعِ التجمُّلِ -وأهمُّها- الغُسلُ، فيُستحَبُّ الغُسلُ أيضًا لعيدِ الفطرِ وعيدِ الأضحى، كان ﷺ يغتسلُ يومَ الفطرِ والأضحى -كما جاء في سُننِ ابنِ ماجه-.
-
وكذلك يُستحَبُّ أن يَتَزيَّنَ ويَتَنظَّفَ ويَحلِقَ شعرَه ويَلبَسَ أحسنَ ما يَجِدُ ويَتَطيَّبَ ويَتَسوَّكَ، كان ﷺ يلبسُ في العيدينِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ، قال ﷺ: "ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده" وهكذا..
قال سيدنا الإمام مالك: سمعت أهل العلم يستحبّون الطيب والزينة في كل عيد، والإمام أحقّ بذلك.
قال: "يحث على التجمل بالثياب الحسنة في العيد"
-
قال: وأفضل الثياب في يوم العيد أغلاها وأحسنها؛ فإن كان أبيض فهو الأفضل، فإن كان الأغلى غير الأبيض فهو أفضل، بخلاف يوم الجمعة فإن لون الأبيض أفضل، فإذا صادف يوم الجمعة يوم العيد، لبس عند ذهابه لصلاة الجمعة الأبيض، ولبس قبل ذلك وبعده في عامة اليوم الأغلى إظهارًا لنعمة الله -تبارك وتعالى-.
-
فإذا لم يجد ثوبًا جديدًا، يسُنّ أن يغسل ثوبه لأجل العيد.
-
واستحباب تحسين الثياب، والتنظيف، والتطيّب، وإزالة الشعر، والرائحة الكريهة عام لمن يحضر صلاة العيد، ولمن يقعد في بيته، إلا للنّساء الخارجات، إذا أرادت النساء الخروج للعيد فلا يتزينّ عند الخروج، ويتركن الزينة في بيوتهنّ عند عودتهنّ من الصلاة.
ويقول: ومن الثياب الحسنة التي كان يستعملها ﷺ الإزار والقميص والجبة والرداء والعمامة، فهي مستحبة في حق الرجال لاتباع سيد الرجال ﷺ.
قال: "ويكره لبس السلاح في يومه" فإنه يوم أمن وطمأنينة وسكينة، لا يُزعَج الناس فيه بحمل السلاح "إلا لخوفٍ من عدو، "وأنكر ابن عمر وغيره على الحجاج في حمله السلاح في يوم عيد، وكان له ﷺ برد حبرة -لها خطوط- يلبسه في كل عيد، ومر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع النبي بالسوق فرأى حلة من سندس -فيها حرير- فقال: يا رسول الله لو اتخذت هذه للعيد -أي: لما عرف من تزيّنه يوم العيد، واستحبابه استعمال الثياب الحسنة، ولكن هذه فيها حرير، والحرير محرّم على الرجال- فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة"، أي: لا نصيب له ولا حظ من نعيم الآخرة، وفيه أن الرجل إذا لبس الحرير في الدنيا حُرِم عليه لبس الحرير في الجنة، فمن مات ولم يتب من لبس الحرير في الدنيا لم يُلبَس الحرير، وكيف لم يلبسه؟ وأهل الجنة قال الله: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج: 23]؟ قالوا: إما أن يتعرض لسوء الخاتمة فلا يدخل الجنة، وإما إذا سَلِمَ من سوء الخاتمة فدخل الجنة تكون ثيابه من غير الحرير، من أنواع فضة وذهب وغير ذلك من بقية الثياب من غير الحرير، لأنه استعجل فلبسها في الدنيا وهي محرمة عليه حلال للنّساء، والمراد بالحرير الصحيح الخالص، أو ما أكثر الثوب من الحرير، ليس من الخيوط التي تُنسج من غير نسج دود القز، ويسمونه حريرًا أصليًا خالصًا، ولا فيه خيط من حرير، ولا فيه شيء حرير أصلًا، ولكن يريدون أن يزيّنوه ويدّعون أنه كالحرير في لُيونته وما إلى ذلك.
قال: ، وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يلبسون ذكورهم الصغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحلي والمصبغات من الثياب -فيُسنّ تزيين الأبناء والبنات في يوم العيد والأطفال- وكان ابن عمر إذا رأى في آذان المراهقين حلقًا نزعها منهم وقال: قد كبرتم عن مثل ذلك" إن هذه للأطفال الصغار وللنساء؛ أما إذا قد كبرتم وجاوزتم العشر من السنين؛ فما لكم هذا ولا يصلح لكم، بل ينبغي من بعد السابعة أن يُجنّب الأطفال الذكور لبس الذهب ونحوه من الزينة.
يقول: "أنس -رضي الله عنه-: وكان يقلس لرسول ﷺ يوم عيد الفطر-ايش معنى يُقَلِّسُ؟- والتقليس هو الضرب بالدف والغناء الجيد"، وقال: "إنَّ لِكلِّ قومٍ عيدًا وَهذا عيدُنا"؛ بل أذن لمن كان من الحبشة في المدينة أن يُجروا لعبهم في مسجده الشريف، وما كان لهم من زفين -أي:لعب- في يوم العيد في مسجده الطاهر ﷺ، فزفنوا في مسجده، ولعبوا كعادتهم بحرابهم؛ فأيام العيد أيام فرح وسرور، تظهر فيها نعمة الله، يُظهر المسلمون البهجة بفضل الله -تبارك وتعالى- عليهم، ويصير التطيّب والتزيّن مستحبًا لها، ولبس الجديد كذلك. فإن كان الأغلى والجديد والأحسن هو الأبيض فذلك أكمل، وإلا فغيره. قال ﷺ: "إنَّ اللَّهَ يحبُّ أن يرى أثرَ نعمتِهِ على عبدِهِ".
يقول سيدنا جابر: أن النبي ﷺ كان يعتَمُّ ويلبس برده الأحمر في العيدين -قالوا: المراد بالأحمر أنه ذا خطوط حمر- ويقول أيضًا سيدنا جابر: كانت للنبي ﷺ جبة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة، وكان يلبس بردين، أخضر ولبس مرة برداً أحمر أي: له خطوط حمر، وورد عنه لبس الأخضر حتى يوم الجمعة ﷺ.
ويروي علي بن الحسن عن سيدنا علي بن أبي طالب: أنه كان يلبس كساء خز بخمسين ديناراً يلبسه في الشتاء، فإذا كان الصيف تصدّق به أو باعه فتصدّق بثمنه، ويلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر، ويقرأ قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32]، ففي الجُمَع والأعياد يكون ذلك من باب أولى.
يقول أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا، في صحيح مسلم هذا الحديث الذي أورده علينا "أن سيدنا عمر لما رأى حلة سيراء؛ لكنها فيها حرير، تباع عند باب المسجد، قال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ قال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة". وجاء في الحديث أنه بعد ذلك جاءت له حلل ﷺ فيها حرير، فبعث بها إلى بعض أصحابه ومنهم سيدنا عمر، فجاء سيدنا عمر قال: يا رسول الله، قلت لي: يلبس هذا من لا خلاق له، واليوم بعثت بها إلي؟ قال: "ما بعثتها إليك لتلبسها، ولكن لتُلْبِسها، تعطيها أحداً من النساء، تعطيها أحداً ممن يحلّ لهم لبسها، وتبيعها له لا لتلبسها". فبعث بها إلى صديق له كان مشرك في مكة، بعث بها إليه.
يقول: وعامة السلف كانوا يحبون الثياب المتوسطة، لا المترفّعة ولا الدّون، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان، أما الخروج عن الاقتداء والاهتداء إلى التشبّه بأهل الضلالة والتزيِّ بزيّهم، فما ذلك من الجمال بشيء، ولا من الخير بمكان، ومن الثياب ما يزري بصاحبه، ومنها ما يفقده مروءته؛ حتى لا تُقْبل شهادته في عقد ولا فسخ ولا عند الحاكم إذا لبس لباساً لا يليق بأمثاله، كمثل ما يُستحدث ويُلعب به على كثير من المسلمين من زرزرة لبعض الثياب، وضيق لها، ومن إسبال زائد على المأذون فيه، وواقع في الحرام، ومن لفت نظر إلى سوء، أو من تحجيم للعورة، إلى غير ذلك من الثياب المزرية التي تزري بصاحبها وتفقده مروءته.
قال: "والتقليس: هو الضرب بالدف والغناء الجيد"؛ تعبيراً عن الفرح بهذا اليوم. فينبغي في مثل الأعياد والأعراس أن يُستعمل الدف، وما أبيح من الآلات والغناء الحسن الجيد، حتى جاء أن جاريتين كانتا تغنيان في بيته ﷺ، وهو مضطجع عند عائشة، فدخل سيدنا أبو بكر الصديق فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ ففتح رسول الله ﷺ عن وجهه قال: "دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا"، كما أن سيدنا عمر لما جاء وجد هؤلاء يزفنون في المسجد، تعجب وأخذ الحصى ليحصبهم -ليرميهم- وما درى أن النبي أذن لهم وأنهم على مرأى منه، وكان صادف أن رسول الله ﷺ على الباب كان يُري السيدة عائشة لعب الحبشة، فقال: "دعهم يا عمر، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا". فخجل سيدنا عمر، واستحى لما رأى النبي ﷺ أنه الذي أذن لهم بذلك، وقال: "ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة" صلوات ربي وسلامه عليه أقام الأشياء على الاعتدال وأحسن الميزان صلوات ربي وسلامه عليه.
تقول السيدة عائشة: كان نفر من أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء، فينظر في الماء يسوي لحيته وشعره، فقالت: يا رسول الله، أنت تفعل هذا؟ قال: "نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال".
"وكان أكثر ما يصلي بهم العيد في الصحراء" وقد تقدّم معنا أن ذلك لأنه يفد عليه في العيد كثير من أهل القرى فلا يسعهم مسجده الشريف، فكان يخرج بهم إلى الصحراء، والصحراء هو المكان الآن في وسط المدينة، بل امتد إليه المسجد في التوسعة، في مسجد يسمونه مسجد الغمامة، محل إقامته للصلاة، وصلاته بالناس وخطبته لهم في ذاك المكان في يوم العيد.
ثم لمّا تولى سيدنا أبو بكر تأخر عن المصلّى إلى الجانب الشمالي، فأقام الصلاة هناك كشأنه في الأدب، فصار يصلّي؛ وأقيم في هذا المكان مسجد سمي مسجد أبي بكر الصديق.
ثم تكاثر الناس وتزاحم الوفود في عهد سيدنا عمر، فتقدّم من جهة اليمين، من جهة الغرب عن الموضع الذي كان يصلّي فيه ﷺ إلى جهة الجنوب، إلى جهة القبلة، وأقام بالناس هناك صلاة العيد، وبُني فيه مسجد سمي مسجد عمر بن الخطاب، كان بارزاً نزوره، ما أدري بعدين تغطّى، فما أدري حوفظ عليه ولا أدخلوه في الطريق، ما أدري، هو المكان الذي كان يصلي فيه سيدنا عمر بالناس.
روح العيد نيل المغفرة والمزيد *** والمودة من الحميد المجيد
وفيها قالوا:
ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن العيد لمن طاعته تزيد.
وليس العيد لمن تجمّل بالملبوس والمركوب، ولكن العيد لمن غفرت له الذنوب.
وقال سيدنا علي: كل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد، لأنه يوجب المزيد ويوجب القرب، ما دام ما عصيت الله في اليوم فازددت قرباً، ازددت معرفة وحباً، فهو عيد، وهل العيد إلا محبة؟ وهل العيد إلا قربة؟ وهل العيد إلا رضا رب العرش؟
زادنا الله رضاً، وتولّانا في الإحجام والإمضاء، ولطف بنا وبأمة حبيبه محمّد فيما يجري به القضاء، وأصلَح شؤوننا بما أصلَح به شؤون الصالحين، ورقّانا إلى أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وجعل أيامنا أعياداً، يُنيلنا فيها إمداداً، ويسعدنا إسعاداً، وأصلَح شؤوننا في الدارين بما أصلح به شؤون الصالحين في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
23 جمادى الآخر 1446