(209)
(536)
(568)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 198- كتاب الصلاة (89) مسائل متعلقة بسجود التلاوة والشكر
صباح السبت 11 ربيع الأول 1446 هـ
باب سجود التلاوة والشكر
"فرع: وكان ﷺ إذا سمع السجدة من غيره فإن سجد القارئ سجد وإن لم يسجد القارئ لم يسجد ﷺ، وكان ﷺ يقول للذي لم يسجد: "أنت إمامنا فلو سجدت لسجدنا"، قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: إنما السجدة على من استمع وجلس إليها دون من سمع، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إذا كانت السجدة في آخر السورة فإن شاء المصلي سجد ثم قام فقرأ، وإن شاء ركع وأجزأه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- إذا قرأت آية السجدة وهي جالسة تقوم ثم تسجد. وكان رسول الله ﷺ كثيرًا ما يسمع أية السجدة فلم يسجد ولا أحد الحاضرين، وقرأ آية السجدة عام الفتح سجدة بحضرة أصحابه فسجد منهم الراكب والساجد في الأرض حتى إن الراكب ليسجد على يده.
وقرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم الجمعة الجمعة على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فقال: يا أيها الناس إنما أمرنا بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فإن الله تعالى لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان عبيدو بن عمرو يجلسان يتحدثان والقرآن يقرأ فلا يصغون إليه فقيل لهما: أليس الله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟) [الأعراف: ٢٠٤]، فقالا جميعًا: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة حين يقرأ الإمام وفي الخطبة حين يخطب، وكان -رضي الله عنه- يقول: إنما السجدة في المسجد عند الذكر، وكان الحسن البصري يقول: ليس في السجدة تسليم، وكان النخعي -رضي الله عنه- يسجد ولا يسلم، وكان ابن عمر يقول: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر.
وكان يكبر لسجود التلاوة ثم يسجد سواء كان يصلي قائمًا أو جالسًا ويقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته"، وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى شجرة فقرأت آية السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول: "اللهم احطط عني وزرًا واكتب لي بها أجرًا واجعلها لي عندك ذخرًا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فكان ﷺ بعد ذلك إذا سجد قال في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة بها".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الوراء، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في مسارهم سرًا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
يُواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- الكلام عن سجدات التلاوة، ويذكر لنا في هذه الفقرات من الكتاب بعض الأحكام المتعلقة بذلك فيقول:
فرع: وكان ﷺ إذا سمع السجدة من غيره فإن سجد القارئ سجد وإن لم يسجد القارئ لم يسجد ﷺ، وكان ﷺ يقول للذي لم يسجد: "أنت إمامنا فلو سجدت لسجدنا"، وذكر عن "زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: إنما السجدة على من استمع وجلس إليها دون من سمع".
إذاً:
فتتأكد السجدة على القارئ إذا قرأ آية سجدة بالاتفاق؛ فإذا سجَد تأكدت على المستمع، ثم إذا سجَد تأكدت على السامع.
وفرقوا بين المستمع والسامع:
أن المستمع: الذي قصد الاستماع، وجلس ينصت أو يتعلّم القرآن، أو يتدبرُه وينصت إليه.
والسامع: الذي كان منشغلاً بأمرٍ أو ماراً بطريق فسمع آية السجدة ولم يقصد السماع، فهذا سامع غير مستمع.
فتتأكد السجدة على القارئ:
فإذاً يقول الحنفية: إذا قرأ الرجل السجدة في غير صلاة ومعه قوم، فالسنة في أدائها أن يتقدم هذا القارئ ويصفّ السامعون خلفه، فيسجد هذا التالي -الذي قرأ- ثم يسجد السامعون. قالوا: ينبغي أن لا يسبقونه بالوضع، ولا بالرفع، ينبغي ما يجب، ليست جماعة، وله الائتمام مثل الائتمام في الصلاة، ولكن سنية تأخر سجود المُستمع عن سجود القارئ، فالقارئ يبدأ، وهذا الذي يُقَصِّر فيه كثير من التُّلاة، يقرأ في الحلقة آية السجدة ويسجد المستمعون، وهو لا زال يقعد أو يصلح نفسه أو يجلس، أو يدور سواكه، والناس قد سجدوا، أبدأ أنت ما دام أنت الذي قرأت -أسبقهم- ولا ينبغي أن يسبقوه المستمعون في السجود.
وهذا اقتداء صورة ليس بحقيقه، لأنه لو سجدوا قبله لصحت سجدتهم وسقطت عنهم عند الحنفية وعند غيرهم من الأئمة، ولكن الأولى أن يتقدم هو ويسجد قبلهم، ثم يتبعه المستمعون ويسجدون.
ولا فرق عند الشافعية بين المستمع والسامع، في استحباب السجدة إلا أنها تتأكد على المستمع، فإذا سجد تأكدت على السامع.
يقول المالكية: يُسن أن يسجد للتلاوة القارئ مطلقًا -القارئ نفسه- سواء أن يكون ذكرًا أو أنثى أو يكون خنثى فيسجد، ثم بعد ذلك يسجد قاصد السماع عندهم، فأما غير قاصد السماع -وهو السامع دون المستمع- فلا يسجد عند المالكية، ما يخاطب بالسجود، إنما يسجد القارئ والمستمع.
لكن المستمع بشرط عندهم:
كما يلزم -السامع بهذه الصورة التي ذكروها السجود- ولو ترك القارئ السجدة، لأن تركه للسجدة لا يؤخر طلبها من المستمع، إلا أن يكون إمامًا في الصلاة نعم، فلا يجوز للمأمومين أن يسجدوا إذا قرأ إمامهم آية سجدة فلم يسجد، فلا يجوز لهم أن يسجدوا لأنهم مأمومون، لا بد من اتباعه، كما لا يسجد المأموم لقراءة نفسه، فإذا قرأ المأموم آية سجدة فلا يسجد، إنما يسجد لسجدة إمامه، ولقراءة إمامه.
نعم إذن اشترطوا أيضًا بالنسبة للمستمع -المالكية كما هو أيضًا عند الحنابلة- أن يكون القارئ صالحًا للإمامة بالنسبة للمستمع، فإذا كان القارئ امرأةً أو خنثى والمستمع رجلًا لا يسجد، لماذا؟ لأنه لا تصح أن تكون المرأة إمامةً للرجل، والسجود للقراءة لها كالْمَأْمُومِيَّة بالنسبة له.
وقال الشافعية: لا فرق بين أن يسمعها من رجل، ومن امرأة، ومن صبيّ، أو من صغير، ومن كبير؛ يصلح القارئ للإمامة أو لا يصلح للإمامة السامع فيسجد.
لكن الحنابلة وكذلك عند المالكية: إن كان القارئ يصلح للإمامة بالنسبة للمستمع فيسجد لقراءته، فإن لم يصلح فلا.
وهكذا يقول الشافعية: لا يتوقف سجود أحدهما على الآخر، ويتأكد السجود للمستمع أكثر منه للسامع، يتأكد على القارئ أكثر من المستمع، وإذا سجد القارئ تأكد السجود على المستمع، فإذا سجد المستمع تأكد السجود على السامع.
والحنابلة كما سمعنا قالوا: يشترطُ في استحباب السجود في غير الصلاة كون القارئ يصلح إمامًا للمستمع، فلا يسجد المستمع إن لم يسجد التالي ولا أمامه؛ بل ينبغي أن لا يسجد المستمع عن يسار القارئ إذا كان يمينه خاليًا، فليتحول يمينه، يسجد، يسجد عن يمينه، هكذا عند الحنابلة، سوى.
وبعد ذلك أيضًا قالوا: لا يسجد رجل بتلاوة امرأة لأنه لا يصح ائتمامه بها، ولا يضر رفع رأس المجتمع قبل رأس القارئ، ولا يضر سلامه قبل سلام القارئ، لأنه ما هو إمام في الحقيقة، وإنما كالإمام.
ثم بعد ذلك يقول: "وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إذا كانت السجدة في آخر السورة فإن شاء المصلي سجد ثم قام فقرأ، وإن شاء ركع وأجزأه".
فهل يُجزئ الركوع عن السجود؟
وبعد ذلك، يتكلم عن السجود، فهل يقوم للسجود؟ يقول: "وكانت عائشة -رضي الله عنها- إذا قرأت آية السجدة وهي جالسة تقوم ثم تسجد".
فهل يحتاج إلى القيام لسجود التلاوة؟
وكما جاء عن السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كانت تقرأ في المصحف فإذا مرت بالسجدة قامت فسجدت، واختلفوا في صحة سند الحديث وضعفه.
قال: "وكان رسول الله ﷺ كثيرًا ما يسمع أية السجدة فلم يسجد ولا أحد الحاضرين، وقرأ آية السجدة عام الفتح سجدة بحضرة أصحابه فسجد منهم الراكب والساجد في الأرض حتى إن الراكب ليسجد على يده"، أي: يجوز للمسافر أن يسجد سجدة التلاوة بالإيماء -يُومئ- كما يُصلي النافلة يُومئ بالركوع والسجود، واختلفوا في ذلك:
فالمسافر يجوز له في النفل أن يتنفل إلى القبلة وإلى غير القبلة إلى جهة مقصده، ويُومئ بالركوع والسجود.
قال: "وقرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم الجمعة الجمعة على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فقال: يا أيها الناس إنما أمرنا بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه". وهذا الذي عليه الجمهور: أنها سنة، وقال الحنفية: "إنه واجب السجود".
قال سيدنا عمر -رضي الله عنه-: "فإن الله تعالى لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء".
" وكان عبيد وابن عمرو يجلسان يتحدثان والقرآن يقرأ فلا يصغون إليه فقيل لهما: أليس الله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟) [الأعراف: ٢٠٤]، فقالا جميعًا: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة حين يقرأ الإمام وفي الخطبة حين يخطب،". وكان هذا تأويل.. "عَبِيد وابن عمرو -رضي الله عنهما- يجلسان يتحدثان.." فأوّلوا وجوب الاستماع، كما أنه ذكر الحنفية أيضًا في تأويله: أنه خطبة الجمعة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الإعراف:204]، وأوجبوا الاستماع للخطيب إذا خطب.
والذي عليه جمهور: تأكُّد الإنصات والإصغاء إذا سُمِعَ القرآن في الصلاة أو خارج الصلاة، ولا ينبغي اللغو ولا الكلام في أثناء سماع التلاوة للقرآن الكريم.
"وكان -رضي الله عنه- يقول: إنما السجدة في المسجد عند الذكر، وكان الحسن البصري يقول: ليس في السجدة تسليم".
اختلفوا هل يكفي مجرد السجود؟ وهل يُستحب أو يجب له نيةٌ وتكبيرة إحرام؛ ثم تكبيرة أخرى للانتقال، ثم بعد السجود يطمئن فيه جلوس وسلام؟
قال الشافعية: يشترط أن ينوي، وأن يكبر تكبيرة الإحرام، ويسن أن يكبر تكبيرة ثانية للهوي للسجود، كما يلزمه الجلوس بعد السجود والسلام، والسلام عندهم أيضًا من شروط سجدة التلاوة.
إذًا الشافعية يقولون: إنما تكون سجدة التلاوة بعد نية، وتكبيرة إحرام، ثم يُسَنّ تكبيرة أخرى للهوي، ثم تكبيرة للارتفاع من السجود ثم تسليم، والنية؛ وتكبيرة الإحرام؛ والسجود والطمأنينة فيه؛ والسلام عندهم من أركان سجدة التلاوة.
لابد منها في سجدة التلاوة:
فهذه أركان سجدة التلاوة عند الشافعية.
وقال بعض الأئمة: إنما يكفي أن يسجد فقط.
كما أنه في المسألة التي أشار إليها أيضًا يقول الحنفية: الاستماع إلى تلاوة القرآن حين يُقرأ واجب إن لم يكن هناك عذر مشروع.
وإنما اختلفوا هل هذا الوجوب عيني أو كفائي؟
يقول الحنفية: إن الكلام عند قراءة القرآن يكون محرمًا لعموم اللفظ (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) [الأعراف:204]، ولهذا:
فإذًا، يُسَن الاستماع لقراءة القرآن، وتعظيمه وإكباره.
قال: "وكان النخعي -رضي الله عنه- يسجد ولا يسلم، وكان ابن عمر يقول: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر"، فيشترط لسجدة التلاوة مثل سجدة الشكر الطهارة عن الحدثين، وستر العورة مثل الصلاة.
كان ﷺ "يكبر لسجود التلاوة ثم يسجد سواء كان يصلي قائمًا أو جالسًا ويقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته".
فهذا من الأدعية التي يستحب للساجد أن يأتي بها في سجدة التلاوة خاصة، وفي سجود الصلاة عامةً.
"وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى شجرة فقرأت آية السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها" -الشجرة- "تقول: "اللهم احطط عني وزرًا واكتب لي بها أجرًا واجعلها لي عندك ذخرًا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، قال: "فكان ﷺ بعد ذلك إذا سجد قال في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة"، فشرع لنا واستحسن لنا هذا الدعاء ﷺ إذاً في السجود، في سجود التلاوة والسجود: "اللهم احطط عني بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود".
فأما هذه الأركان التي ذكرناها عند الشافعية إذا كان يسجد خارج الصلاة، أما إن كان يسجد في الصلاة، فما هو إلا أن ينوي بقلبه، ويخر ساجدًا ويكبر، ولا التسليم من غير شك في الصلاة، أثناء الصلاة ما في تسليم، إنما التسليم لمن سجد خارج الصلاة.
والحنفية يقولون كما هو المشهور عند المالكية: أنه لا تسليم من سجدة التلاوة، ولو كانت خارج الصلاة.
والأصح في الأقوال عند الشافعية، وكذلك عند الحنابلة: أنه يجب التسليم من سجود التلاوة إذا سجد خارج الصلاة، فلابد أن يُسلم، لأنها صلاة ذات إحرام، وجب لها السلام مثل الصلوات، تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.
ويجب أن يكون متطهرًا لصحة سجدة التلاوة من الحدث ومن الخبث؛ عن النجاسة وعن الحدثين، فلا يصح أن يسجد وهو على غير طهارة، أو عليه نجاسة.
رزقنا الله الاستقامة، وحققنا بحقائق سجود القلب، الذي لا يُرفع عن صاحبه، ورفعنا مراتب قربه مع أهل الصدق في عافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة
12 ربيع الأول 1446