(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: فصل في المجاز
الثلاثاء17 ذو القعدة 1444هـ
- شرح حديث: الإيمان يمان والحكمة يمانية
- معنى: إن الإيمان ليأرز إلى المدينة
- إطلاق الأوصاف من باب الغلبة وليس على إطلاقه
- توضيح قوله ﷺ: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً
- كيف يكون اشتداد الكفر من جهة المشرق
- ما هي شعب الإيمان؟ وكيف نجمع بين أعلاها وأدناها؟
- وضع الأوساخ والأذى في الطريق
- كثرة ذكر: لا إله إلا الله
- ثلاث أمور نجد بها طعم الإيمان وحلاوته
"فصل في المجاز"
"كان رسول الله ﷺ يقول: "الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدّادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر" ، وفي رواية: "الكفر قِبل المشرق، والسكينة لأهل الغنم، والفخر والرياء في الفدّادين أهل الخيل والوبر"، وكان ﷺ يقول: [وفي رواية: "الإيمان بضع وستون شعبة"، وفي رواية: "أربعة وستون بابًا"] "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" .
قال شيخنا رضي الله عنه: ولم يبلغنا أنه ﷺ عدّها كلها، وعدّها جماعة بطريق الاجتهاد منهم ابن حبان انتهى.
وكان ﷺ يقول: "ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار"."
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3مرات)
الحمد لله مُكرمنا بشريعته ودينه، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وأمينه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسَلكَ في سبيله في ظهوره وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله سادات أهل قربه وتمكينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى جميع الملائكة المقرّبين، وعباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ، فإنّ ممّا يُستعمل في عموم المخاطبات باللغات المختلفة بين الناس، وفي العربية بوجهٍ أخصّ وأكثر ما يُعبّر عنه بالمجاز؛ وذلك من أوجه التمثيل والتشبيه وضرب الأمثال والاستعارات وما تعلّق بذلك من الكلام عن معنوياتٍ بحسّياتٍ، وأن يُراد باللفظ والكلام معنىً بينه وبين اللفظ مشابهة بوجهٍ من الوجوه. وقال الإمام الشعراني: "فصلٌ في المجاز" أي: فيما وردَ من كلام رسول الله ﷺ فيما يتعلّق بالإسلام والإيمان بمعانٍ من هذا المجاز، في مثل قوله: "الإيمان يمانٍ والحِكمة يمانية، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدّادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومُضر". وقوله: "الكفر قِبل المشرق، والسكينة لأهل الغنم، والفخر والرياء في الفدّادين أهل الخيل والوبر"، ففي كل ما ذكر ﷺ مجازٌ يُشير إلى موضع وموطن إيمان في قلوب أقوامٍ يسكنون في أماكن معيّنة، فجاءت التعبيرات في رواياتٍ منها رواية البخاري: "الإيمان هَا هُنا، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان" أي: جانبا رأسه، القرنان المراد: جانبا الرأس، قال: "..في ربيعة ومضر" أي: حيث هاتان القبيلتان.
وجاء أيضًا في رواية الإمام مسلم يقول ﷺ: "جاء أهل اليمن هم أرقّ أفئدةً وأضعف قلوبًا، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر قِبل مطلع الشمس" أي: مشرق المدينة المنورة، وجاء أيضًا في رواية الإمام مسلم: "الإيمان يمانٍ، والكفر قِبل المشرق، والسكينة في أهل الغنم، والفخر في الفدّادين أهل الخيل والوبر".
وتعدّدت الروايات أيضًا في هذا الحديث ورواية معناه، وفيه الإشارة إلى كثرة ووفرة من يكون من أهل الإيمان فيما كان عن يمين الكعبة المشرفة، واستمرار ذلك إلى آخر الزمان أيضًا حيث ينقص الإيمان في كثيرٍ من الأماكن حتى يعود إلى المدينة المنورة كما جاء في الحديث: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها". وكما جاءنا في الحديث "أن آخر بلاد الله تبارك وتعالى من هذه المدن والقرى خرابًا: المدينة المنورة"، فينتهي الإيمان إليها، وكما أنها تنشدّ إليها قلوب المؤمنين وتميل وتفرح بها، فكذلك ينحاز الإيمان إليها، فإذا نقص في أطراف الأرض، وخصوصًا بعد أيام سيدنا عيسى ابن مريم، يضمحل ويتلاشى حتى يصير ما بين الشام واليمن، ثم ينكمش إلى رأس اليمن وهو: المدينة المنورة، فيكون هناك بقايا المؤمنين، ثم تهبّ الريح التي تخطف من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، ثم تكون المدينة من آخر البلاد خرابًا، فإن الحق تعالى يقول: (وإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا) [الإسراء:58].
ودلّت الأحاديث على أنّ هناك فِتن وشرور كثيرة تنبع من مشرق المدينة المنورة، وأنه يغلب على رعاة الغنم نوعٌ من الرقة والتواضع واللين، ويغلب على رعاة الإبل والبقر نوعٌ من النخوة والخيلاء والكِبر، ومن المعلوم أن الأمر في كل ما ذكر ﷺ ليس على إطلاقه؛ ولكن يكون ذلك من باب الكثرة ومن باب الغلبة ومن باب القوة أيضًا، أن يقوى مثل هذا في هؤلاء ويقوى مثل هذا في هؤلاء. وأن يُبرز الله تبارك وتعالى من أئمة الإيمان وأهل الرسوخ في كثرة من قِبَل اليمن، وأن يُبرز الله تعالى أعدادًا من أهل الفتن وأهل الضلال من قِبل مشرق المدينة وقِبل نجدٍ كما جاء في الروايات في الصحيحين وغيرهما. وهكذا جاءتنا هذه الأحاديث فلا ينافي بعد ذلك أن يوجد في أهل اليمن منافقون أو كفّار أو كمثل أتباع الأسود العنسي وغيرهم، ومن يضل عن سواء السبيل ومن يلحد وما إلى ذلك، كما لا ينافي أن يكون في أهل المشرق أو في أهل نجد من يكون من صالحين أو أتقياء أو أخيار، لا يُنافي وجود ذلك شيئًا منه. وكما أنه لا ينتفي الإيمان عن بقعةٍ أخرى عند ذكره ﷺ لليمن، وفي بعض هذه الروايات جاء ذكر الحجاز أيضًا عند ذكر رعي الغنم وأنهم أيضًا من أليَن الناس قلوبًا. وهكذا وزّع الله سبحانه وتعالى بحِكمته وقدرته الأوصاف والأحوال في العباد وفي البلاد والأماكن، وجعل الأغلب هَا هُنا كذا وهَا هُنا كذا، والأمر له من قبل ومن بعد، وهو يُقدّم ويؤخر، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ولَزِمَ تعظيم أمره وألوهيته وربوبيته، والخضوع لجلاله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وفي روايةٍ قال: "أتاكم أهل اليمن.." وذلك عند ورود جماعة سيدنا أبي موسى الأشعري من تهامة وجماعة من حِميَر عليه ﷺ وقال: "أتاكم أهل اليمن.." وفي بعض الروايات: "جاءكم.." كما قرأنا في رواية مسلم: "جاء أهل اليمن.." يعني: طائفة منهم الذين وفدوا من الأشعريين -وفد حِمْيَر- عليه ﷺ، قَدِموا عليه بتَبوك، قال: "هم أضعف قلوبًا.." يعني: أعطَفها وأشفَقها، وفي رواية: "أليَن قلوبا وأرق أفئدة.." يعني: أسرعها لقبول الحق والاستجابة للداعي، قالوا: والمراد بهذا غير أنصاره وهم أصلهم من أهل اليمن، ولكن أراد بهم قومهم الذين وَفَدوا وجاءوا، أتاكم وجاءكم أهل اليمن..، "أضعف قلوبًا" أو "ألين قلوباً وأرق أفئدة" وإنما يلين القلب لرطوبة الرحمة، وأن المعرفة لا ينالها عبدٌ إلا برحمة الله تبارك وتعالى، فإذا لانَ القلب برطوبة الرحمة ورقّ الفؤاد بحرارة النور؛ ذَبُلت النفس، وتيسّر إجابة دواعي الحق والهدى والخير. جاء في روايةٍ أيضًا: "الفقه" يعني: الفهم في الدين أو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخصّ من عموم العلم: الفقه، قال تعالى عن ذمّ قومٍ بأنّهم (لا يَفْقَهُونَ)؛ لا يدركون المعاني الدقيقة وما تنطوي عليه العبائر من دلالات وإشارات.
وكذلك فيما ذكر عن الحِكمة، فالعلم بالأشياء كما هيَ، والعمل بها كما ينبغي، يعني: مراد العلم المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى؛ وهذا هو العلم النافع، وأُشير إليه بقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..) [البقرة:269]، وفيه أنّ الحق تبارك وتعالى هيأ السبْقَ للأنصار في الإيمان به وأصولهم من اليمن، ثم جعل من البقاع التي استجابت لأمر الله وآمنت مباشرة من دون قتالٍ ولا سيف بقاع اليمن، ودخل إليها الإسلام في عهده ﷺ من دون قتالٍ ولا سيف، وكما جاءنا أنه لمّا بلغه إسلام بعض كبار قبائل اليمن من أهل همدان وغيرهم على يد سيدنا علي بن أبي طالب أنه سجد شكرًا لله ﷺ مُشيرًا إلى أنه يبقى نصرة الدين في أمثال أولئك ومن يأتي بعدهم، هيأنا الله لنصرة دينه ورسوله ﷺ وما جاء به عن الله.
وذكر غِلَظَ القلوب والجفاء في أهل المشرق، أي: ينتشر ويكون واضحًا بين الكثير منهم. والإيمان والسكينة، يعني: الطمأنينة والسكون، جاء في روايةٍ: "في أهل الحجاز"، هم رعاة الغنم، وهكذا كان المشرق مأوىً للكفر في أزمنة، وكذلك ظاهرة التكفير نشأت من مثل تلك الجهات. "..ومن كفّر مسلمًا فإن لم يكن كما قال عادَ الكفر عليه" والعياذ بالله تعالى. كما أنّ في قِبل المشرق أيضًا يمتدّ إلى مثل ما كان من كسرى وتمزيقه رسالة النبي ﷺ، واشتداد المجوس في كفرهم وعنادهم للدين والإيمان، ومقاتلتهم للصحابة الكرام ولأهل الإسلام. فقد كانت مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب من جهة المشرق -مشرق المدينة المنورة- في غاية من التكبّر والتجبّر حتى مُزِّقَ ملكهم كما قال ﷺ: "مُزِّقَ ملكه.. مُزِّقَ ملكه".
وذكر الفخر وهو: ادّعاء الشرف والعظمة والخيلاء، الكِبر واحتقار الناس يكثر في أهل الخيل والإبل، "والفدّادين" في رواية: والفَدَادين" جمع فِدان البقرة، ولكن الرواية الأشهر: "الفدّادين.." أي: رافعي الأصوات في نحو خيْلهم وجِمالهم، الفديد: الصوت الشديد، يعني: قومٌ مشغولون عن حقائق الدين والإيمان بتعظيم هذا المال والإكبَاب عليه والالتفات إليه وما إلى ذلك. يقول: "حيث يطلع قرنا الشيطان.." جانبا رأسه، ضرب المثل بقرنيّ الشيطان فيما لا يُحمد من الأمور، والمراد أنّ اختصاص المشرق بمزيد تسلّط الشيطان، وأنواعٍ من الكفر. "..في ربيعة ومُضر" مَسكَن هاتين القبيلتين.
يقول بعد ذلك، يروي لنا ﷺ أيضًا في معاني المجاز، جعله الإيمان على شُعَب شُعَب، فيقول: "الإيمان بضعٌ وستون شعبة"، وفي رواية: "أربعةٌ وستون بابًا"، وفي رواية "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله،.." حقّقنا الله بها وجعلنا من خواصّ أهلها، ومن مُكثريها المتحقّقين بحقائقها، "..وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وفي الحديث: "والحياء شعبة من الإيمان"؛ وهو الوصف الذي يعمل على إزالته وإبعاد الناس إبليس ومن معه من رَكب الضلالة ،ويعدّون الحياء المحمود الذي هو من شعب الإيمان إمّا ضعفًا وإمّا عجزًا وإمّا جهلاً وإما تخلّفًا وإمّا رجعيةً، وهو أي شيء يسمّونه بذلك لينزعُوا الأمر المحمود الطيّب الذي يحبه الله تبارك وتعالى من القلوب، وهو مع الإيمان في قَرَن كما جاء في الحديث: "الإيمان والحياء في قَرَن، إذا ذهب أحدهما تِبِعَه الآخر". إذا ذهب الإيمان ذهب الحياء، وإذا ذهب الحياء ذَهبَ الإيمان. ولهذا قال ﷺ: "استحيوا من الله حقّ الحياء، قالوا يا رسول الله كلنا نستحي من الله. قال: ليس ذاكم، من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى"، فالله يرزقنا حقيقة الحياء، ويُحقّقنا بِشُعَبِ الإيمان كلها، ويَجعلنا من خواصّ المتحققين بأعلاها وهو: لا إله إلا الله.
يقول: "ولم يبلغنا أنه ﷺ عدّها كلها، وعدّها جماعة بطريق الاجتهاد منهم ابن حبان"، وغيره وألّفوا فيه شعب الإيمان من البيهقي وغيره، وعدّوها إلى ما وَرَد من ذكر العدد في الشعب، ما بين بضع وستين، وبضع وسبعين وأربع وستين؛ والبضع: ما بين الثلاثة إلى التسعة يقال له بضع، لا يطلق على ما هو أقل من الثلاثة في العدد ولا أكثر من التسعة ما يقال بضع، يقال البضع: ما بين الثلاثة إلى التسعة. قال تعالى: (..غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ..) [الروم:2-4]، ولمّا راهنَ سيدنا أبو بكر -قبل تحريم الرهان- بعض الكفار الذين قالوا لا يمكن أبدًا الآن للروم أن تنتهض ولا أن تقاوم فارس، فقال لهم: ستُغلَب فارس ويُنصَر الروم في خلال سنوات، قالوا: بعيد! ولا خمسين ولا مئة سنة ما بيستطيعون أن ينهضوا.. فراهَنَهم على ست سنين أو ثمان وأخبر النبي ﷺ، قال: ارجع إليهم، زد، زد في الرهان وزِد في المدة، فإنّ الله يقول: (..فٍي بٍضعٍ..) والبضع لا يتجاوز التسع، قل لهم تسع سنين، وزِد في الرهان أنت وإياهم. فذهب إليهم قالوا: تسع أو أكثر من تسع خلاص انتهت الروم ولن تقدر تقوم الآن! وبعد سبع أو ثمان سنوات قامت الحرب وهُزم فارس وغَلَبَت الروم. (..وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ..) حتى سُلِّمَ الرهان لأبي بكر وقد مات الذي راهنه فسلّمه ورثته. يقينًا منه بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد جلّ جلاله وتعالى في علاه. وليست الأمور بحسب القوى ومسار الأحداث راجعة إلى ظواهر القوات الحسيّة؛ فإن الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من مختلف أصناف العباد (..غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ * فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ..) [الروم:2-6] سبحانه وتعالى.
وذكر في صحيح البخاري جاءت الرواية: "الإيمان بضعٌ وستون شُعبَة والحياء شعبةٌ من الإيمان"، وجاء أيضًا في رواية الإمام الترمذي وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل، يقول ﷺ: "الإيمان بضعٌ وسبعون بابًا فأدنَاها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله" ومن هنا كان كثير من الصالحين إذا مرّوا بالطريق فوجدوا أذى أماطُوه، وقالوا: لا إله إلا الله، جمعًا بين أعلى شعب الإيمان وأدناها، فيقولون لا إله إلا الله ويُبعدونها ويُميطون الأذى عن الطريق، وهذا أدنى شُعَب الإيمان. فما حكم الذي يضع الأوساخ في الطريق ولا يبالي؟ ويضع الأذى في الطريق ولا يبالي؟ حتى أدنى شُعَب الإيمان ليست عنده! فكيف يكون عنده أعلاها أو يتحقق بأعلاها إذا هو حتى في أدناها لا يقوم بها؟ أدنى شُعَب الإيمان إماطة الأذى عن الطرق، ألّا تؤذي خلق الله وصلّح الطريق لعباد الله هذا أقلّها، وأمّا الذي يضع قمامته ويفك مجاريه في طريق الناس ولا يبالي؛ فهذا ضيّع أدنى الشُعَب فهو لما فوقها أضيع والعياذ بالله تبارك وتعالى.
يقول: "الإيمان بضعٌ وسبعون بابًا فأدنَاها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله"، وجاء في روايةٍ عنه: "الإيمان أربعةٌ وستون بابًا"، كذلك جاء في رواية مسلم: "الإيمان بِضعٌ وسبعون، أو قال بِضعٌ وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شُعبةٌ من الإيمان"، فالإيمان بحقائقه وثمراته وفروعه يأتي إلى هذه الشعب، وكلٌّ منها بابٌ من أبواب الإيمان، وكُل عملٍ صالح يكون سبب لزيادة الإيمان. فأفضلها قول: لا إله إلا الله، كما جاء في الرواية. أما حقيقة لا إله إلا الله هذا أصلها كلها! أصل الشُعَب كلها ما تجيء إلا من حقيقة ومن شهادة لا إله إلا الله، لكن قولها والإكثار منها والنطق بها هذا من الشُعَب. أمّا شهادتها هذا أصل الإيمان كله؛ من دونها لا إيمان أصلًا، الشهادة بلا إله إلا الله، هذا أصل الإيمان كله، لكن النطق بها وكثرة قولها هذا من الشُعَب؛ من شعب الإيمان. أمّا اعتقادها فأصل الإيمان، ليس من شُعَب الإيمان، بل أصل الإيمان كله وحقيقة الإيمان. ولكن النطق بها وتكرارها والإكثار منها، هذا من شعب الإيمان.
وهكذا كان وِرْد سيدنا الفقيه المقدم في كل يوم وليلة: مئَة ألف من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ، حتى يقول لولده علوي: ما تشاهد على جبيني؟ يقول: لا إله إلا الله! على جبينك لا إله إلا الله.. لأنهم أكثروا منها وتحقّقوا بحقائقها وكانوا أحقّ بها وأهلها، اللهمّ حقّقنا بحقائق لا إله إلا الله، فهي عند عوام المؤمنين بمعنى: لا معبود بحقٍّ إلا الله، وهي عند خواص المؤمنين بمعنى: لا معبود ولا مقصود أصلاً إلا الله تبارك وتعالى، وهي عند أخصّ الخواص: لا معبود ولا مقصود ولا موجود إِلا اللَّهُ جلّ جلاله وتعالى في علاه. أي: لا موجود بذاته ولا يستقلّ شيءٌ بوجوده غير الحقّ جلّ جلاله، صاحب الوجود الحق.
"..وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" من كل ما يضرّ بالمارّة ويؤذيهم، "و الحياء شعبة من الإيمان" والحياء بالمد والهمزة، أما الحَيَا بالقصر فهذا هو من أسماء المطر، (إنّ الحَيَا يُنبِتُ الأزهار في الأَكَمِ)، فالحَيَا من أسماء المطر (واسقنا يا رب اغثنا بحَيَا…) أي: بمطر، وأما الحياء فهذا الدافع المانع من فعل القبيح، الهيئة التي ترسخ في النفس تمنع صاحبها من ارتكاب ما لا يليق ولا ينبغي؛ هذا هو الحياء، شُعبَة من شُعَب الإيمان وفيه الخير كله. وقد كان بعض الصحابة يقول إذا صارت الأمة يجتمع منهم نحو العشرين، ليس فيهم من يُستحيَا منه فقد حلّ البلاء بالأمّة! إذا قلّ فيهم وجود أرباب الحياء الذين إذا حضروا سَادَ الحياء مَن حواليهم فيُستحيَا من قول ما لا يليق بحضرتهم، إذا قلّوا هؤلاء في الأمة ذَهبَ الخير عن الأمة، تُودّع منهم. وإذا مثّل الصحابة بالعشرين ونحوهم، صار يجتمعون عندنا بالألوف الآن، يجتمعون بالألوف ولا فيهم واحد يُستحيَا منه، يصفّرون يصفقون ويلعبون، وليسوا عشرين ولا مئتين ولا ثلاثمئة ولا أربعمئة والعياذ بالله تبارك وتعالى! يا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجهّال.
ثم ذكر: "ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،.." الله أكبر! يتمكّن حب الله ورسوله حتى يكون أغلب على قلبه من محبة أي شيء سوى الله ورسوله، أي شيء، ما سواهما؛ كل شيء سواهما حتى الجنة.. ما يكون شيء أحب إليه مما سواهما. "من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،..".
"..وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله،.." من أجل الله جلّ جلاله، أمّا الذي لا زال مأسور لنفسه وهواه؛ يحب من يمدحه، يحب من يعطيه، يحب من يساعده على أغراضه.. ما يعرف الحب في الله فما يذوق طعم الإيمان ولا يتحقّق به، حتى يصير يحب لله وحده، يحب المرء لا يحبه إلا لله. "..وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار"، قال سبحانه وتعالى في رعيلنا الأول الذين اتصلوا برسول الله وآمنوا به، قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7]، فما تأتي حقيقة الإيمان وتقوم صحّته إلا بكراهة الكفر والفسوق والعصيان، (..أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً..) كراهة الكفر والفسوق والعصيان والاشمئزاز منها والبُعد عنها هو حقيقة الإيمان الذي يُذاق به حلاوة الإيمان ويُطعم به الإيمان.
وكما تقدّم معنا، هذا من جملة المجاز، لأن الطَّعْم هو: ما يُوجد بواسطة الفم من ذوق، ولكن استُعمل بعد ذلك الذوق والطعم في الأمور المعنوية "..وجد بهنّ طعم الإيمان.."، "ذاقَ طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا.." كما تقدّم معنا. وهكذا جاءتنا الروايات، ففي رواية عند الترمذي يقول: "ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النّار"، أصله في الصحيحين، وفي رواية مسلم: "ثلاثٌ من كنّ فيه وجدَ طعم الإيمان: من كان يحبّ المرء لا يحبّه إلا لله، ومن كان الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ومن كان أن يُلقى في النار أحبّ إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه." لا إله إلا الله.. وجاء في رواية ابن أبي شيبة: "ثلاثٌ من كنّ فيه وَجَدَ طعمَ الإيمان وحلاوته: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ في الله وأن يبغض في الله، وأن لو أُوقدِت له نارٌ يقع فيها أحبّ إليه من أن يُشرك بالله"، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
فمن وَجَدَ حلاوة الإيمان تلذَّذ بالطاعات وأنواع القُربات، وذاقَ لها من الحلاوة ما لا يُوصف ولا يُكيّف؛ لأن حلاوة الروح أعظم من حلاوات الجسد بأصنافها.
رَزَقنَا الله محبّته ومحبة رسوله، وقوّانا في المحبة وزادّنا محبة أبدًا سرمدًا، إنّه أكرم الأكرمين، اللهمّ املأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسولك، ونسألك حبّك وحبّ من يحبك وحبّ عملٍ يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحبّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ، زِِدنا محبةً فيك وفي رسولك أبدًا سرمدا، واجعلنا من محبوبيك ومحبوبيه في عافية، وتولّنا به في شؤوننا الظاهرة والخافية، واختم لنا بأكمل حسنى وأنت راضٍ عنا بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
18 ذو القِعدة 1444