(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: مواصلة شرح أحاديث فصل في حقيقة الإيمان والإسلام
الإثنين 16 ذو القعدة 1444هـ
- فوائد من سؤال الجارية عن إيمانها
- معنى سؤال: أين الله
- كيف تذوق طعم الإيمان؟
- كيف نؤمن بالقدر؟
- مِما يذهب الهم والحزن
- الرد على من ضلّ في القدر: القدرية والجبرية
- القول بأن الإنسان يخلق الفعل
- قصة لمن اعتقد بأنه يخلق الخير ولا يخلق الشر
- لا حُجة لأحد بِقَدَر
- سند لو قُرِئ على مجنون لبرأ
- الفرق بين القضاء والقدر
- البُعد عن التنطُّع بالتكفير
فصل
في حقيقة الإيمان والإسلام
وكان ﷺ يقول: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر".
وجاءت جارية سوداء إلى رسول الله ﷺ أراد أهلها عتقها فشكُّوا في إسلامها واختلفوا في حالها فقال لها رسول الله ﷺ : "من ربك؟ قالت : الله، قال: من أنا ، قالت : رسول الله، قال: أعتقوها فإنها مؤمنة".
وكان ﷺ يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ رسولاً"، وكان ﷺ يقول: "الإيمان نظام التوحيد"، وكان ﷺ يقول: "الإيمان بالقدر يُذهب الهم والحزن".
وكان ﷺ يقول: "الإيمان عفة عن المحارم، وعفة عن المطامع"، وكان ﷺ يقول: "الإيمان معرفة بالقلب وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان"، وكان ﷺ يقول: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحَّدَ الله وآمنَ بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى".
وكان ﷺ يقول: "لُعِنَت القدرية على لسان سبعين نبياً وهم الذين يقولون لا قدر"، وفي رواية : "القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصیب، ولا أنا ولا هم مني"، وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: "قُلْ آمنت بالله ثم استقم".
وقال بهز بن حكيم عن أبيه: أتيت النبي ﷺ فقلت: يا نبي الله والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولادي أن لا آتيك ولا آتي دينك، وقد جئتك الآن، ولا أعقِلُ شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله وأنا أسألك بوجهِ الله بمَ بعثك ربُّنا إلينا؟ قال: أتيتكم بالإسلام، قال يا رسول الله وما الإسلام؟ قال: "أن تقول أسلمت وجهي لله وتخلَّيْتُ وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة"
وكان ﷺ يقول: "من صلى صلاتنا وتقَبَّلَ قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم".
الحمد لله مكرمنا ببيان الإسلام والإيمان ومعاني حقائق الإحسان والرقي لمن قام بحق ذلك إلى مراتب العرفان وشريف التدان والمحبة الخالصة من الرحمن وللرحمن، وصلى الله وسلم وبارك وكرم على من بعثه بالهدى ودين الحق وخير البيان سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الغر الأعيان ومن تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ذوي القدر والجاه والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الشيخ الشعراني عليه رحمة الله تبارك وتعالى ذكر الأحاديث المتعلقة بالإسلام والإيمان، ويذكر لنا قوله ﷺ: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر". فذكر في هذه الرواية الأربعة أركان من أركان الإيمان وفي الشهادة له ﷺ بالرسالة إيمانٌ بالملائكة وإيمانٌ بالكتب وإيمانٌ بالرسل، فإنه يندرج في الإيمان به التصديق بجميع ما جاء به عن الله ومنه تصديقُه للمرسلين قبله والكتب التي أنزلت عليهم وكذلك الإيمان بالملائكة.
فيقول: "لا يؤمن عبد" أي: لا يصح إيمانه ويصدُق بأنه مؤمن عند الله حتى يؤمن بأربع الأولى: يشهد أنّ لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق في الوجود كله إلا الله -جل جلاله- وأني محمد رسول الله ﷺ ختم به النبيين وجعله سيد المرسلين؛ وجاء مصدقا لجميع ما بُعِثَ به الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم.
قال: "ويؤمنَ بالموت" وما معنى الإيمان بالموت؟ إلا الإيمان أنه بتقدير الحق خالق الحياة والموت كما قال :(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك 1-2] وأنه في الساعة التي قدرها الحق وتبارك وتعالى، وأنه انتقالٌ من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ فهذا معنى الإيمان بالموت أما مجرد وجود الموت فيشترك في التصديق به كل الخلق، ولا واحد من أهل العتو ولا من أهل الإلحاد ولا من أهل النفور يقول أنا ما أموت وأنا أبقى وأنا أتحدى الموت كائناً من كان؛ بجميع شؤونهم وأحوالهم وتقلباتهم؛ وكلٌ منهم خاضع لهذا الموت الذي هو يقينٌ أشبه بالشك ، كما قال سيدنا علي: (ولكن المراد بالإيمان بالموت أنه من قدر الله تعالى وأنه خالقه كما خلق الحياة، وأنه انتقالٌ إلى عالم البرزخ وأنه مقدرٌ بالحال والوقت والمكان الذي وقَّتَهُ وعَيَّنَهُ سبحانه وتعالى).
"ويؤمن بالبعث بعد الموت" خروجهم من القبور بالنشر والحشر، والنشر: القيام؛ بأن يقومون ويخرجون من قبورهم (یَوۡمَ یَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) [المطففين: 6] والحشر والجمع فينشرون من القبور ثم يحشرون في مكان الذي أعده الله تعالى للحشر؛ وهو هذه الأرض بعد تبديلها (یَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَیۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُۖ) [ابراهيم: 48] (وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ* وَأَلۡقَتۡ مَا فِیهَا وَتَخَلَّتۡ*) [الانشقاق 3-4] وقُلِّعَت منها الجبال فدكدكت بها وصارت ( قَاعًا صَفۡصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِیهَا عِوَجًا وَلَاۤ أَمۡتًا) [طه: 106-107]عليها يحشر الخلق، وتكون هي أرض المحشر مبتدَأً رأس الحشر من أرض فلسطين نحو بيت المقدس، ثم ينتشرون في تلك الأرض التي مدَّها الله سبحانه وتعالى فيجتمع فيها جميع الأولين والآخرين (قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة:٤٩ - ٥٠].
أولهم الإنس ثم الجن ثم حيوانات البر ثم حيوانات البحر ثم ملائكة السماء الأولى ثم ملائكة السماء الثانية وهكذا حلقة بعد حلقة، كل حلقة يكونون عشرة أضعاف من قبلهم فالإنس أولهم وآخرهم قال تعالى: (فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدًا) [الكهف:47]، فيأتي بعدهم الجن عشرة أضعاف الإنس في العدد فيحيطون بهم، ويبعث بعدهم حيوانات البر فتكون عشرة أضعاف من في الموقف من الإنس والجن، ثم تحشر حيوانات البحر فتكون عددها عشرة أضعاف الإنس والجن وحيوانات البر، ثم ينزل ملائكة السماء الأولى قال تعالى (وَیَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاۤءُ بِٱلۡغَمَـٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ تَنزِیلًا) [الفرقان:25] فيحيطون بأهل الموقف فيكونون مثل عدد من قبلهم من الإنس والجن وحيوانات البر والبحر عشرة مرات، فتتحرك وتمور السماء الثانية ويخرج أهلها فيصيرون عددهم مثل عدد من قبلهم في الموقف عشر مرات، وثم الثالثة ثم الرابعة وهكذا إلى السماوات السبع.
ويُنقل من ينقل إلى ظل العرش، وتُبطح بعض الأراضي في وادي يسمى بوادي بولَس يجعله الله مسكن أجساد وأرواح هؤلاء المتكبرين، وهو على ممر المحشورين يطؤوهم الناس بأقدامهم والعياذ بالله؛ وهم على صور الذر والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومواقف عظيمة، ثم تدنو الشمس من الرؤوس وقد كُوِّرَت أي: ذهب ضوءها وبقيت حرارتها؛ حتى لو مدَّ أحدهم يده لنالها، ويشتد العطش والعرق حتى يسيح من أبدانهم؛ فيسيح في الأرض سبعين ذراع ويرتفع؛ يأخذ هذا إلى كعبيه، وهذا إلى ركبتيه، وهذا إلى حقويه، وهذا إلى رقبته، وهذا إلى فمه، وهم في هذا الشدة والعرق يتمنون لشدة ماهم فيه الانتقال ولو إلى النار ولم يذوقوا بعد عذاب النار، فينقلون بشفاعة النبي المختار وهذا المقام المحمود وهذه الشفاعة التي يشترك في أثرها جميع أهل الموقف.
ثم ينقلون منها إلى الأرض التي يكون فيها الحساب، ترتفع الشمس ويكون في أرض الحساب إلقاء الصحف ويكون وضع الميزان ويكون العرض على الله ويكون المرور على الصراط الله لا إله إلا الله.
وفي القيامة خمسون موقف يُسأل فيه المكلف كل موقف بمقدار ألف سنة قال تبارك وتعالى (تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمٍ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةٍ) [المعارج: 4]، عاملنا الله بفضله ولطفه.
"ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر" أي: أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، المحيط علمًا بكل شيء، قد قدَّرَ كل ما يكونُ وما يحدث في العالم، وما لا يكون، وقدَّر كل كائن بشكله ووقته ومكانه؛ بعد أن خلق الزمان والمكان جل جلاله وتعالى في علاه، فلا يخرج عن قضائه وقدره شيء وهذه معاني الربوبية والألوهية، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه وخالقه لا إله إلا هو جل جلاله وتعالى في علاه.
فالإيمان بالقدر كما سيأتي معنا في أحاديث من أركان الإيمان، وينبئُ عن تعظيم هذا الإله وعَوْدِ جميع الكائنات إليه وهو القائل (وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) [ التكوير: 29] جل جلاله.
ثم ذكر لنا حديث الجارية وأنهم أرادوا عتقها أهلها فشكّوا في إسلامها واختلفوا في حالها، وجاءوا بها إلى رسول الله ﷺ، وكانوا يحرصون على عتق الرقبة المؤمنة فهي أعظم في الثواب والدرجة عند الله تعالى من عتق رقبة غير مؤمنة وإن كان فيها ثواب، كما أن في كل كبد رطبة أجر؛ ولكن عتق الرقبة المؤمنة ثوابها أعظم وأجل ويعتق الله بكل عضوٍ منها عضو من أعتقه، فأرادوا أن يعرفوا أهي مؤمنة أو لا، "فسألها ﷺ: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقوها فإنها مؤمنة"، ففيه الحكم بالإيمان على من شهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمَّد رسول الله؛ بلا فلسفة ولا تطويل كلام، ولا شك أن هذا هو الحكم المتفق عليه بين أهل السنة أجمعين إلا في حق من كان من الكفار على ملةٍ يكون فيها خلل في الاعتقاد؛ كالذين يقولون أنه رسول الله إلى العرب فقط، فلو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لا يُحكَم بإيمانه حتى يشهد أنه رسول الله إلى العالمين وإلى جميع الناس والجان ﷺ وأمثال ذلك.
وأما من لم تقم قرينة على إخلاله بشأن الشهادة بأي شيء يتعلق بالشهادتين؛ فبمجرد نطقه بالشهادتين يُحكم بإيمانه وبإسلامه كما قالﷺ "حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، "قال: اعتقوها فإنها مؤمنة".
وهكذا جاء في رواية أبي داود، أن الشريد بن سويد الثقفي أوصته أمه أن يعتق عنها رقبة مؤمنة، فأتى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله إن أمي أوصت بأن أعتق عنها رقبة مؤمنة، وعندي جارية سوداء نوبية أفعتقها، هذه هي مؤمنة، أتكفي وإلا لا؟ فقال: "رسول الله ﷺ ادعوا بها"، قال: فدعوتها فجاءت، فقال النبي ﷺ: "من ربك؟ قالت: الله، قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة".
وجاء في رواية الإمام مالك عليه رضوان الله أن رجل من الأنصار جاء إلى رسول الله ﷺ بجارية سوداء، فقال: يا رسول الله إن عليَّ رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقتها، قال: اعتقها، قال لها رسول الله ﷺ: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أنيمُحمَّد رسول الله؟ قالت: نعم،قال: هل أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: أعتقها.
ففيه أن التوصل إلى اعتقاد الإنسان لا يُعرَفُ عنه إلا بتعبيره، وأنه يقبل فيه قوله، وأما حساب الناس على ما في قلوبهم فلم يكله الله إلى نبي ولا من سواه فهو الذي تولى حساب الخلائق بما في قلوبهم وله الأمر وما لنا إلا ما ظهر، ولا ننسب إلى أحدٍ إعتقاد شيء إلا ما عبَّرَ عنه وإلا ما نطق به وأظهره بلسانه وما عدا ذلك فلسنا بخُزّانٍ ولا وكلاء على نوايا الخلق ولا عقائدهم، ومن ينسِب إلى الناس بالاعتقاد غير ما ينطقون به ويقرون به فهو المتجرئ على الله تبارك وتعالى المدعي علم ما في القلوب وعلم الغيوب وذلك باطل.
وجاء في رواية الإمام مسلم يقول معاوية بن الحكم السلمي: كانت لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَلَ أحد، قال؛ فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمه وهي مهملة غافلة، تركت الذئب يأكل الغنمة، فزعل على غنمته، وقال: أنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، يعني: أغضب كما يغضبون، لكني صككتها صكَّا، أي: لطمتها، يعني: ما اكتفيت بشتمها لما رأيت الذئب أكل الغنمة من غنمي فأعطيتها لطمة، قال: فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت له ذلك، فعظَّمَ ذلك عليّ، قال تلطم! أي حق لك، فقال: عظّم ذلك علي وخلاه يفزع، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها، قال: إأتني بها، قال: فأتيت بها، قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة.
ولهم على هذا اللفظ عند مسلم بحوث، منها أن الجارية كانت خرساء لا تنطق، وأنه سأل فأشارت بإصبعها نحو السماء، وهو الإشارة التي يُشار بها إلى العلو المعنوي كما أن قبلة الدعاء السماء.
وجاء أنه نفس الجارية قال: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، وأن ما بهذا اللفظ سألها وكأن الراوي رواه بالمعنى، والقصد: اتفاق علماء السنة أنه ليس المراد به الحلول في أرض ولا في سماء فتعالى الله أن يحلّ في شيء وأن يحلّ فيه شيء والأرض خلقه والسماء خلقه والعرش خلقه والكرسي خلقه والجنة خلقه والنار خلقه وكلها محتاجة إليه لا يحتاج إلى شيء منها، ولا يحل في شيء منها، ولا شيء منها يحل فيه، تعالى الله عن كل ذلك وعن كل ما تتصور العقول في الأجسام علواً كبيراً (لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ) [الشورى: 11]
ثم ذكر لنا بعد ذلك أحاديث تتعلق أيضًا بذوق الإيمان أو ذوق طعم الإيمان، أصل الذوق ما يوجده الإنسان في لسانه، ولكن اتسع فيه المعنى، اتسع فيه معنى أصل الذوق وجود الطعم في اللسان أو في الفم، ولكن وقد يطلق أيضًا في اللغة على ما كان قليلاً، فإذا كان كثير قال أكل ما يقال له ذوق، وإذا طعم شيء قليل يقال له ذاق، وإذا أكثر منه يقول أكل، ما يقولون له ذاق، واستعمل في القرآن أيضًا وفي السنة بمعنى وجود الأثر، ولو كان معنويًا لا شأن للفم به (وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةً) [ هود:9] أذقنا الإنسان استعمل الذوق للرحمة يقول (لِیَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ) [النساء:56] لا إله إلا الله.
وهكذا جاءنا في الحديث: "ذاق طعم الإيمان" وهي: حلاوة ولذة تدرك بالروح لا تساويها لذّاتُ الأجساد، فهي أعظم وأجل "ذاق طعم الإيمان من رضيَ بالله ربًا"، يعني: أيقن وقنع واكتفى ولم يطلب غيره، "رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا" ما عاد سعى في غير طريقه ولا التفت إلى سواه رضي بالدين؛ أيقن أنه الحق ولا حق في الأديان إلا هو، ولا يوجد دين آخر حق قط، دين الحق واحد دين الإسلام "ورضي بالإسلام دينًا" يعني: اكتفى به وأيقن أنه الحق ولا حق في سواه، "ورضي بالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا"، فلم يسلُكْ غير ما يوافق شرعه، ولم يبتغ منهجًا غير منهجه؛ ولا سنةً غير سنته، وأيقن أن كل ما خالف سنته وما جاء به فهو باطل مردود، وهذا معنى رضي به رسول.
ويترتب على هذا الرضا بالله ربًا؛ الرضا بأحكامه؛ والرضا بأقضيته وأقداره ويترتب على ذلك حسن مراقبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والرجوع إليه كله من الرضا بالله ربًا، كما يترتب على الرضا بالإسلام دينًا أن يحكم نفسه به وأهله وأسرته وشؤونه ولا يطلب قانونًا ولا نظامًا غير نظام الله تعالى وحكمه جل جلاله وتعالى في علاه.
كذلك الرضا بمحمد رسولًا أن يحبه أكثر مما يحب نفسه كما ستأتي معنا الأحاديث في أن الإيمان لا يكمل حتى يكون رسول الله أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا ومن الناس أجمعين ﷺ، وكذلك تعظيمه ومحبته والحرص على اتباعه من الرضا به رسولا.
ثم ذكر لنا حديث "الإيمان بالقدر نظام التوحيد" وهنا في الكتاب عندكم سقط قوله بالقدر، "الإيمان بالقدر نظام التوحيد" وذكره في التعليق عندكم عند الديلمي في المسند الفردوس ولفظ "الإيمان بالقدر" وهو كذلك في الرواية يروى كذلك؛ إنما سقط في هذا نسخة الكتاب "الإيمان بالقدر نظام التوحيد" ينتظم به توحيد الله تبارك وتعالى، فإن الذي لا يؤمن بالقدر ينصب إراداتٍ وتقديراتٍ من غير إرادة الله وتقديره لكل من يتصرف؛ ولكل من يتحرك؛ وكأنهم ينشؤون الأشياء بغير أمر الله تبارك وتعالى وبغير إرادته؛ فهذا يختل توحيده، فلا ينتظم التوحيد حتى يؤمن بالقدر ويوقن أنه ما تسقط من ورقة ولا تنبت من شجرة، ولا تتحرك ذرة، ولا حشرة ولا طير إلا بقضائه، إلا بقدره، إلا بإرادته، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)[الملك :19] جل جلاله وتعالى في علاه.
فيؤمن أن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فليس لبعوضة أن تحرك جناحها إلا بقوته وإرادته سبحانه وتعالى وقدرته، وهكذا جميع الكائنات جمادها ونباتها وحيوانها وإنسها وجنها وعلويها وسفليها ونباتها لا يكون منه شيء إلا بأمر الله.
(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ *أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) [الواقعة:58:59]
(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63:64]
(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) [الواقعة 68:69] وهكذا
(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ) [ الواقعة71:72]
( أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍۢ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون* أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنْهَٰرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرِِِين حاجزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ* أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ)[النمل:60-62]
يقول جلّ جلاله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا*وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا*وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا*وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا*وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا*وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا*وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا*وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءثَجَّاجًا*لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا*وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)[النبأ:6-16]
فالكل فعله والكل أمره قال سيدنا إبراهيم لقومه: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات:95] فالخلق له وحده وقد جعل الله للمكلفين إرادات واختيارات يعاقبهم ويحاسبهم عليها، وكل عاقل في الدنيا يفرق بين حركة اختيارية بيد الإنسان أو رجله وبين رعشة اضطرارية من مرض يحرك بها الإنسان يده فرق بين هذا، ومن لا يفرق بين هذا؟ أمر واضح، فإذا هذه الإرادة الموهوبة للإنسان والإرادة الموهوبة للإنسان وما سُلِبَت عنه إرادة الإنسان كله بخلق الرحمن
(هَلْ مِنْ خَٰلِقٍ غَيْرُ الله) [فاطر:3] (خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ وَهُوَ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّٰرُ) [الرعد:16]، فالخلق له وحده وليس للخلق نصيب في الخلق ولكن لهم الاكتساب ولهم الاختيار ولهم التسبب والخلق له وحده جل جلاله وتعالى في علاه.
قل(ۚهَلْ مِنْ خَٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْض) [فاطر:3]
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54] سبحانه عز وجل.
"الإيمان بالقدر نظام التوحيد" أي: لا يتم نظامه إلا باعتقاد أن الله منفرد بإيجاد الأشياء على ما هي عليه، وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة عدل، وأنه أعلم بطباع خلقه وله تكليفهم بما شاء والأمر كله منه وإليه تعالى في علاه.
ثم يقول: "الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن" أي: ومن لازم من عرف أن كل شيء بقضاءٍ وقدر كما جاء في الحديث، كل شيء بقضاءٍ وقدر (وعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ) [الأنعام: 59] قد قُدِّرً وقُضي، لا إله إلا الله ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )[التكوير:29]
فمن أيقن بذلك ذهبت عنه الهموم والأحزان لثقته بالمقدر ورجوعه إليه، وعلمه أنه لا يكون إلا ما قضى وقدر، وأن كل شيء قد قُدر من قبل خلق السماوات والأرض، فيكون كما قدَّرَهُ الرحمن، جل جلاله وتعالى في علاء فمن كان كذلك ذهبت عنه الهموم والأحزان.
قال بعض العارفين: برد جأشي على ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، وعلّم ﷺ أسرته وأمته أن يقولوا: "قدر الرحمن وما شاء فعل"، لا إله إلا هو جل جلاله وتعالى في علاه.
ثم ذهب من ضل في مسألة القضاء والقدر إما إلى إنكار القضاء والقدر والعياذ بالله تبارك وتعالى، ويقال لهم القدرية الذين ينفون القدر، وإما إلى القول بسلب ما قدّرَه الله تبارك وتعالى من إرادة الناس واختياره، ويقولون ليس للإنسان أي اختيار ولا فعل فهم الجبرية يقولوا الإنسان مجبور على كل شيء.
فالجبرية والقدرية كلاهما ضل عن سواء السبيل وعن صحة الاعتقاد، ونقول جعل الله للإنسان أشياء خيَّرَهُ فيها (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) [المزمل:19] وجعل للإنسان أشياء تُرادُ به خيرةَ فيها لا يختار خلقه ولا يختار لونه ولا يختار وزنه ولا يختار طوله، ولا يختار أمه ولا أباه لا يحاسب الله أحد يقول لماذا أبوك فلان، ممكن؟ لا يحاسبه لأنه ما له اختيار فيه أصلًا، وهكذا كل ما خرج عن اختيار الإنسان لا يحاسب عليه ولا يعاقب عليه ولكن ما جعل الله.. فالذين قالوا الإنسان مجبور أنكروا أيضا من قدر الله ما قدّرَه من اختيار عباده فيما جعل لهم فيه الاختيار فهم ضالون، والذين أنكروا القدر من أصله كذلك ضلُ كذلك فيما يتعلق بالخلق.
قال أهل السنة أن الكسب منسوب للعبد وأما الخلق فالله( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) [البقرة:286] أما الخلق لله تبارك وتعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]
فجاء المعتزلة وقالوا الإنسان يخلُق .. بسم الله الرحمن الرحيم، كيف يخلُق.. قالوا أفعاله؟ اغتروا بما آت الله العبد من اختياره وسموه خالق، ما هو خالق لا..هذا الذي أقدره الله تعالى عليه بتقديره وخلقه يقدر أن يسلبه عنه في أي لحظة؛ وأن يقدره على ما لا يقدر عليه الآخر في أي لحظة فليس لهم خلق أصلًا، وإلا إذا كان يخلُق نظرُه إلى الأشياء فما الذي يمنع الأعمى يخلُق نظر؟ دعه يخلق، وإذا جاء المرض لعينه؛ أين قدرته على خلق البصر هذا؟ وكذلك السمع وكذلك بقية الحركات، وهذا أشل وهذا متحرك؛ هل عندهم قدرة على الخلق؟! قل لهم اخلقوه وخلاص انتهت المسألة؛ لا تقدرون، ولكن اغترار بما آت الله من إرادة واختيار.
فقد جاء جماعة من الذين يعتقدون الخلق في الإنسان أن الإنسان يخلق إلى عند الشيخ أحمد بن موسى بن عجيل وأرادوا يناظرونه في المسألة وقالوا :الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية، قال لهم: الخلق لله وحده وللإنسان اكتساب، وأنت الذي على قدرة على اختيار فيه تأتي لك ساعة لا تقدر عليه، قالوا: بل يخلق أفعاله، قال: مثل ماذا أفعاله الاختيارية؟ قالوا: كالقيام والقعود قال: قوموا قاموا، دعى الله ما يقدِّرهم على الجلوس، قال: اجلسوا، فيبست كل واحد منهم رجله، ما قدر يحرك ظهره، قال: اجلسوا، كل واحد منهم ينظر للثاني.. قال: أنتم تقولوا لي الأفعال الإختيارية قيام وقعود يخلقها الإنسان، أنتم ناس اخلقوا؛ بسم الله! هيا اخلقوا قعود! وكل واحد ما قدر، قال: خلاص انتهت المناظرة، مكانكم وإلا ترجعوا عن هذا الاعتقاد، نظروا بعضهم البعض ما المشكلة التي حصلت؟ وقالوا: إلا رجعنا عن الاعتقاد، قال: اللهم أقدرهم على الجلوس جلسوا، قال: رأيتم! من أين لكم قدرة على شيء؟ من أين لكم خلق شيء؟ ما تخلقون أنتم تكتسبون فقط وهو الذي خلق، وهو الذي يُقدِر، وفي أي وقت يسلب منك القدرة يسلبها، وفي أي وقت يعطيك شيء يعطيك، وأقدر هذا على ما لا يقدِر عليه هذا، وإذا كان أصل العمل اختياري دع الثاني يخلقك كما خلق هذا، لا أحد منهم يخلق أصلًا! لا هذا ولا هذا خالق؛ لا أحد منهم خالق ولا خالق إلا الله جل جلاله وتعالى في علاه.
وجاء بعض الذين يعتقدون أن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية وأنه تكون من دون إرادة الله تبارك تعالى، يعني: من أمور الشر، فيقولون يخلق الخير وما يخلق الشر، وإذا ما خلق الشر كيف وُجِد؟ واجتمعوا عند بعض الأمراء، وعالم من علماء السنة وعالم من هؤلاء الذين يقولون الشر ما يخلقه الله الإنسان يخلقه؛ الإنسان يكتسبه؛ الإنسان يتسبب فيه ويخلق ما يخلق، فقال هذا المبتدع: الحمد لله الذي تنزه عن الفحشاء، وفي خياله وظنه تنزه عن الفحشاء، وخلق الشر من الفحشاء وما عرف أن ذلك كمال ربوبية والوهية أن لا يكون إلا ما يخلقه وما قدّر جل وعلا، فقال له العالم السُّنّي: والحمد لله الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، فقال: المبتدع أويريد ربنا أن يعصى، قال السني: أوَ يُعصى ربنا قهرا، بقوة أحد يجبره؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ولقّاني الردى أحسن إلي أم أساء؟ يقول له ليحرجُه ويقول أساء إلي،
قال له: إن منعك ما هو لك -شيء أنت تملكه حقك- فقد أساء إليك، وإن منعَكَ ما هو له فله أن يفعل في خلقه ما يشاء، من قال لك؟ أين الإساءة؟ هذا متصرف في ملكه أين الإساءة؟ سكت ما عرف يتكلم. لا إله إلا هو جل جلاله وتعالى في علاه.
ولا حجة لأحد بقدر بل لله الحجة البالغة؛ وما آتاك من مشيئة واختيار أقام عليها المحاسبة لك على الطاعة الثواب وعلى المعصية العقاب والطاعة سبب دخول الجنة والمعصية سبب دخول النار، وخالق الطاعة والجنة والمعصية والنار هو الله لا إله إلا هو.
وقال ﷺ:"الإيمان عفةٌ عن المحارم وعفةٌ عن المطامع" أي آثار الإيمان في مسلك الإنسان، آثار الإنسان في مسلك تؤثر ويؤثر عليه، يعني: فشأن المؤمن يتجنب المحرمات ويعِفْ، يكتفي بالبلغة ويترك التشوق إلى المفقود ويستغني بالموجود، ويقمع نفسه عن تعاطي ما لا ينبغي فهذه العفة التي يقتضيها الإيمان فالإيمان عفة عن المحارم
وفي الرواية "الإيمان عفيف عن المحارم عفيف عن المطامع" بمعنى المؤمن وهكذا جاء في الروايات.
ثم ذكر أن: "الإيمان" عبارة عن "معرفة بالقلب" واعتقاد "وقول باللسان وعمل بالأركان" يعني: ينتظم كمال الإيمان منها كلها، فيقرُّ بقلبه أن لا إله إلا الله ويؤمن به وصفاته وأسمائه كما ذكرها سبحانه وتعالى، ويقول بلسانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنه محمد رسول الله ﷺ ، ويعمل بأركانه إقامة الفرائض وترك المحرمات .
والحديث جاء عند الإمام ابن ماجة، يقول حدثنا سالم بن أبي سالم ومحمد بن إسماعيل، قال حدثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي، قال حدثنا علي بن موسى الرضا عن أبيه علي الرضا، عن أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب قال رسول الله ﷺ: " الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان"، يقول أبو الصلت لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرأ؛ لما فيه من كبار خيار الأمة وعظمائها، وخلاصة آل بيت النبوة، حتى قالوا أنه سمعه بعضهم وكان عنده مجنون في البيت فراح فقرأ عليه؛ فعافاه الله ورجع له عقله. لا إله إلا الله
الإيمان: معرفة بالقلب تصديق واعتقاد جازم، قول باللسان: الشهادتان، وعمل بالأركان: إقامة الفرائض وترك المحرمات. حققنا الله بالإيمان.
وجاءنا بالرواية الأخرى "القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى" كما قال تعالى:(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ )[البقرة:256]
والحديث عند الطبراني في الأوسط يقول: "إن القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يؤمن بالقدر كان ناقضًا للتوحيد" لا إله إلا الله.
قال ﷺ: "وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"، فقد استمسك بالعروة الوثقى. ويقول ﷺ :" لُعنت القدرية على لسان سبعين نبي.." الذين يقولون لا قدر، فالقدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا، لا إله إلا الله.
"ليس لهم في الشفاعة نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني" لا إله إلا الله.
جاء عن عبد الله بن عمر قال: "لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا منهم نبينا محمد ﷺ وإذا كان يوم القيامة وجمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد يسمع الأولين والآخرين أين خصماء الله" يقولون نحن قدرنا معه نحن تحدثنا معه نحن أوجدنا معه ولا خالق إلا واحد ونحن خلقنا معه "أين خصماء الله قال: فيقوم القدرية "لا إله إلا الله .
وجاء عن سيدنا حذيفة فيما رواه أبو داود يقول سيدنا حذيفة: قال رسول الله ﷺ "لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودهم وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال" رواه أبو داود نعوذ بالله وآمنا بالقدر والقضاء خيره وشره من الله تعالى.
والقضاء: ما سبق في الأزل في علم الله من إيجاد الأشياء على ما أراد والقدر: إبرازها في الواقع، آمنا بقضاء الله وقدره، وأن لا يكون شيء إلا بأمره جل جلاله وتعالى في علاه.
ثم ذكر لنا حديث :قل لي في الإسلام لا أسأل من أحد بعدك قال:"قل آمنت بالله ثم استقم " وأنزل الله مصداق ذلك (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت :30 ]
"وذكر حديث بهز بن حكيم قال يا نبي الله والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولادي ألا آتيك ولا آتي دينك وقد جئتك الآن أراد الله أن يهديه وقد جئتك الآن ولا أعقل شيء إلا ما علمني الله ورسوله وأنا أسألك بوجه الله بما بعثك ربك إلينا قال ﷺ "أتيتكم بالإسلام" "لا إله إلا الله "قال : وما الإسلام؟ قال: أن تقول اسلمت وجهي لله وتخليت عن عبادة ما سواه وعن الشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة" لا إله إلا الله.
جاء في رواية النسائي في الكبرى والإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك يقول "أتيت النبي ﷺ حين أتيته قلت: والله ما آتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولادي ألا آتيك ولا آتي دينك هذا بهز بن حكيم
يقول له وقد جئت أمرأً لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله ورسوله أني أسألك بوجه الله بما بعثك إلينا؟ قال بالإسلام، قلت وما آيات الإسلام؟ قال: "أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"، "كل مسلم على المسلم حرام محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشركٍ أشرك بعدما أسلم عملًا، وتفارق المشركين، ما لي أمسك بحجزكم عن النار، ألا إن ربي داعي وإنه سائلي: هل بلغت عباده؟ وإني قائل: ربي إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمةً افواهكم بالفدامِ ثم إن أول ما يبين عن أحدكم" يعني:يتكلم عنه "لفخذه وكفه قلت:يا نبي الله هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم وأينما تحسن يكفك!" لا إله إلا الله.
وختمه "فقال من صلى صلاتنا" في الرواية "واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم" وفيه إبعاد الأمة عن التنطع والتسرع في التكفير والإقرار بالإسلام والإيمان لكل من ظهرت عليه هذه العلامات.
جاء في رواية النسائي وسأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال :يا أبا حمزة ما يحرم دم المسلم وماله؟ قال: من شهد أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وهذا منهج الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما يكّفرون أحد من أهل القبلة، من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة واستقبل القبلة وأكل ذبيحتنا فهو منا، لا إله إلا الله.
رزقنا كمال الإيمان وكمال اليقين، ورفعنا مراتب التقريب مع عباده الصالحين وحزبه المفلحين، وزادنا إيمان في كل نفس وفي كل حين، وجعلنا ممن ازداد إيمانهم ويقينهم أبدًا، وربطنا بحبيبه محمد ربطًا لا ينحل، ورفعنا به إلى أعلى محل، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
17 ذو القِعدة 1444