(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (37) باب آداب الصلاة وما يُنهى عنه فيها وما يُباح
صباح الإثنين 16 شعبان 1445هـ
باب آداب الصلاة وبيان ما ينهى عنه فيها وما يباح
"قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: كان رسول الله ﷺ يقول: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: ليصلين أقوام ولا دين لهم ، وكان إذا تلا القرآن في الصلاة يأخذه البكاء حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل يعني القدر الذي يغلي على النار، وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
وقال الحسن البصري -رضي الله عنه-: واستضاف عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- ضيفًا ففرش له عمر -رضي الله عنه- تحت ميزاب غرفته وجلس معه حتى نام ثم قام عمر -رضي الله عنه- إلى التهجد فصعد فوق ظهر الغرفة فبكى وهو ساجد حتى جرت دموعه في الميزاب وسقطت على وجه الضيف فظن أن السماء أمطرت فنظر فلم يجد سحابًا فتسوّر حائطًا ينظر ما هذا الماء فوجد عمر -رضي الله عنه- ساجدًا وهو يبكي، ويفحص كالطير المذبوح رضي الله عنه.
وكان ﷺ إذا قرأ القرآن لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا تخويف إلا دعا، ولا عذاب إلا استعاذ، ولا استبشار إلا دعا ورغب، وكان ﷺ يقول: "إياكم وشرك السرائر، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: تزیین الرجل الصلاة لينظر الناس إليه"، وكان ﷺ إذا قرأ نحو: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَدِرٍ عَلَى أَن يُحْيَى الْمَوَلَّى الله [القيامة: ٤٠]، قال: سبحانك فبلى، وكان عليّ -رضي الله عنه- إذا صلى بقوله تعالى: ﴿أَنتُمْ فَخَلَقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَلِفُونَ﴾ [الواقعة: ٥٩]، يقول: بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب إلى آخر النسق".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بأنوار العبادة، وبيانها على لسان عبده المصطفى سيد أهل الغيب والشهادة صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وعلى آله الأطهار وصحبه القادة، وعلى من اتبعهم بإحسان فأصبحت نفوسهم للرحمن بتربية رسوله خاضعة منقادة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل السعادة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين من أهل الحسنى وزيادة، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد؛ فيذكر الإمام عليه -رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الباب "أداب الصلاة وما يتعلق بذلك"، وابتدأ بذكر حديث الإحسان "كان رسول الله ﷺ يقول: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"". وهذا هو التعريف للإحسان بلسان رسول الله ﷺ، وقد سأله جبريل: ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه".
فهو الحد الجامع لمعاني الإحسان وحقائق الإحسان بكل معانيها، وكل ما قيل بعد ذلك فهو مندرج فيها ومتفرع عنها، "أن تعبد الله كأنك تراه"، وذلك لأهل القوة والرسوخ في الشهود فإن لم يبلغ المؤمن هذه الدرجة فليستعن بالارتقاء إليها بما قبلها فيما أشار إليه بقوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أي: استشعارك رؤيته اياك، واطلاعه عليك، وعلمه بما ضميرك، واستواء سرك وجهرك في علمه، وهو أعلم بما في سريرتك منك وأعلم بما في ضميرك منك؛ فهذا الاستشعار إذا ثبت ورسخ وغلب عليك فأنت على باب الإحسان ترتقي به إلى "أن تعبد الله كأنك تراه كأنك تراه"، فتكون على أبلغ ما يكون من الأدب والحضور والخشوع لأنك "كأنك تراه" سبحانه وتعالى؛ ينظر إليك ويطلع عليك فأنت بذلك في مرتبة عالية من شهوده سبحانه وتعالى.
فمفتاح الحضور مع الله -تبارك وتعالى- وسبب الوصول إلى مراتب الإحسان:
فهذا مفتاح الإحسان وطريقك إلى التحقق بحقائق الإحسان؛ لا بمجرد أن يخطر على البال؛ ولكن بأن يستقر ويتمكن الإحسان ويتمكن ويرسخ في باطنك استشعار واستحضار أنه يراك -جل جلاله- ويطلع عليك، فهو أعلم بك من نفسك، وهو أعلم بحسك ومعناك وسرك وجهرك وظاهرك وباطنك، أعلم بكل ذلك من نفسك وكم جلسائك، ومن الملائكة المحيطين بك والكاتبين لأعمالك هو أعلم -جل جلاله وتعالى في علاه-، فينبغي أن ترسخ هذا في ذهنك وعقلك وشعورك وإحساسك حتى يثبت قلبك على شهود أنه يراك فتعبده كأنك تراه -جل جلاله وتعالى في علاه-.
"فإن لم تكن تراه.." لم تبلغ إلى هذه الرؤية القلبية السرية المعنوية البصيرية فاستعن بالوصول إليها باستشعار أنه يراك "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فاستحضر "أنه يراك" فهذا مفتاحك ومرتقاك لأن تكون "كأنك تراه" جل جلاله.
وأنت تعلم أنك لو كنت ترى عزيزًا عليك من خلقه كيف يحضر قلبك وتصلح أعمالك وتحسن، فكيف لو صرت بحيث أنك تراه هو جل جلاله، فتصلي كأنك تراه، تقرأ القرآن كأنك تراه، وتصوم كأنك تراه، وتتصدق كأنك تراه، وتطيع الوالدين كأنك تراه، وتواصل الأرحام كأنك تراه جل جلاله.
وثم تتسع هذه المشاهد فتصير يقظتك ونومك ودخولك وخروجك وحركتك "كأنك تراه"؛وبذلك ينجلي عنك غبار غفلتك وحجابك، فتصير مرتقيًا في مراتب الشهود الأسنى بسريرتك، فإن سرك باطن روحك، وروحك باطن قلبك، وقلبك باطنك، فباطن الإنسان قلبه وظاهر الإنسان جسده، وباطن الإنسان قلبه، وباطن القلب الروح، وباطن الروح السر، والقلب محل المعرفة، الروح محل المحبة والسر محل الشهود وفيه انجلاء المرآة "كأنك تراه" جل جلاله وتعالى في علاه.
قالوا:
"اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
"وكان ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول :.." في بيان أن حقائق الدين ليست صورة ولا حس ولا مظهر عمل؛ ولكنه مشاعر وأذواق وأحوال بين العبد وربه -عز وجل- قال: "ليصلين أقوام ولا دين لهم"، يتظاهرون بالصلاة وليس من حقائق الدين شيء في بواطنهم، فهم إما على نفاق خالص؛ وإما على كبر ورياء وعجب وغرور؛ أو حسد أو إصرار على اتباع شهوات ومحرمات يصرون عليها؛ كأن لم يؤمنوا بمن حرمها عليهم فهؤلاء صلواتهم الصورية لا تنفعهم "وَلَيُصَلِّيَنَّ قَوْمٌ لَا دِينَ لَهُمْ"، هكذا جاء في كلام ابن مسعود -رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه- فيما جاء أيضًا عند الإمام عبد الرزاق والإمام الطبراني في الكبير يروي عن ابن مسعود يقول: "أوَّلُ ما تَفْقِدُونَ مِنْ دينِكُمُ الأمَانَةُ وآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ ولَيُصَلِّيَنَّ قومٌ لا دِينَ لَهُمْ"، وهذا يتفق مع ما جاء في الحديث المرفوع عن الرسول ﷺ "لَتُنْقضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْم وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةِ".
قال: "وَإِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دينُكُمُ الْأَمَانَةِ"؛ الأمانة على السر، والأمانة على المال، والأمانة على العرض، والأمانة على النفس والروح، الأمانة على المجالس "وَإِنَّ أوَّلُ ما تَفْقِدُونَ مِنْ دينِكُمُ الأمَانَةُ، وآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ ولَيُصَلِّيَنَّ قومٌ لا دِينَ لَهُمْ.." مَا عِنْدَهُمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ "ولَيُنزَعَنَّ القرآنَ من بينِ أظهُرِكُمْ"، قالوا لابن مسعود: "يا أبا عبدِ الرحمنِ ألسْنَا نقرأُ القرآنَ وقدْ أثبتْنَاهُ في مصاحِفِنَا قال: يُسْرَى على القرآنِ لَيْلًا فيذهَبُ من أجوافِ الرجالِ فلا يَبْقَى في الأرْضِ منه شيء" أي: وترتفع حروفه من الأوراق ومن المصاحف، فتصبح في يوم من الأيام سيقبل على الناس؛ وذلك في آخر الزمان؛ وذلك من أواخر علامات الساعة الكبرى يصبحون واذا جميع ما كُتِب من القرآن أوراق بيضاء، لا أثر فيها لحرف، وما في الصدور يؤخذ أيضًا في نفس الليلة، يصبحون ولا يعرفون آية واحدة من أول القرآن إلى آخره، يغار الله على كتابه؛ إذ لم تبقى على ظهر الأرض القلوب الحافظة لسر القرآن والمعظمة له والقائمة بحقه، فيغار الله على كتابه من أقوام يلوكونه بألسنتهم، لا أدب لهم مع القرآن ولا خشوع ولا خضوع، ولا عمل بما فيه فيرفعه، ويصبح الناس ولا آية لا في الصدور ولا في السطور، كل آية كتبت محلها ورق أبيض ولا فيه حرف واحد فيصبحون هكذا والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال: "فيذهَبُ من أجوافِ الرجالِ.." أي: ومن المصاحف "فلا يَبْقَى في الأرْضِ منه شيء" وعلامة غضب الله -تعالى- على عباده والعياذ بالله -جل جلاله-، ثم ينقرض الذين كانوا يحفظون شىء القرآن، ثم يتمادى الغي والطغيان للنفس وأهواءها وشهواتها وإبليس وجنده ببني آدم؛ حتى لا يبقى في الأرض إلا كافر وابن كافر ليس فيهم من يقول: الله كما جاء في الحديث، وعليهم تقوم الساعة، وهؤلاء شر بني آدم من يوم خلق الله آدم، هؤلاء شر بني آدم، أقوام كفر من أولهم إلى آخرهم ليس فيهم من يقول: الله؛ والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
فهكذا كلام ابن مسعود، وابن مسعود كان من خواص زين الوجود، تشرف بالقرب منه وبخدمته، وكانت له لسان رطب بالقرآن يحسنُ التلاوة، وكان من الأشخاص الذين تعجب رسول الله ﷺ تلاوتهم؛ عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وجماعة قليلين من الصحابة كانت تعجبه قراءتهم ﷺ، وقال عن ابن مسعود هذا: "مَن سرَّهُ -أراد- أن يَقرأَ القرآنَ غضًّا كما أُنْزِلَ ، فليَقرأهُ علَى قراءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ".
ويذكر أهل مكة والحجاز أن أصواتهم هذه بالتلاوة الموروثة المتلقاة عندهم أنها متصلة السند بابن مسعود، وأنها راجعة إلى طريقة قراءة ابن مسعود -عليه رضوان الله تعالى-، وقد كان يجتني الاسوكة لسيدنا المصطفى، وكثيرًا ما يقدم له طهوره ويصب عليه الماء، وكان يعتني بحمل نعليه الكريمتين فيرفعهما إذا دخل، ويقدمهما له إذا خرج، فإذا دخل رفعهما فوضعهما في ساعديه -فوضعهما في اليدين- ويبقيهما حتى يخرج ﷺ فيقدمهما له ﷺ.
ولما قرأ صفات أحد النعال أو النعلين من جملة النعال التي استعملها ﷺ الشيخ يوسف النبهاني، اعتنى برسمها ورسمها بصورة وطبع منها مئات ألوف وزعها، وقال:
سَعِدَ ابن مسعود بخدمة نعاله***وأنا السعيد بخدمتي لمثالها
وأنا السعيد بخدمتي لمثالها..
ونشرها وكان هذا المؤلف المكون من صفحة واحدة له يوسف النبهاني، وله فوق أربعمائة مؤلف أكثرها في أوصاف ﷺ وأخباره وشؤونه ومناقبه، وقالوا: وقد كان هو وزوجته وأهل بيته وأولاده وابنته يرون النبي ﷺ كثيراً -عليهم الرضوان-، كلهم أهل البيت، أهل بيته لقوة تعلقهم به عليه الصلاة والسلام، ورأى النبي ﷺ بعد ما نشر هذه الرسم للمثال للنعل؛ وهي واحدة أو مفردتين من جملة النعال التي استعملها ﷺ فرآه ﷺ جاء إلى بيتهم في بيروت ويقول جئنا نزور الشيخ سعيد، وقص الرؤيا بعد ذلك على بعض الصالحين عنده قال عرفت الشيخ سعيد، قال: ما أدري من الشيخ سعيد هذا؟ يمكن يعني فلان قال له: أنت الشيخ سعيد؛ أما قلت لما نشرت مثال نعله وأنا السعيد بخدمتي لمثالها، هذا هو جا يزورك لما خدمت نعله الشريف جاء إليك، قال: فأعجبني تأويله، الله لا إله إلا الله.
يقول: وفي بعض الليالي كان عنده ابنه محمد وكان مريض، ورغبت ابنتي عائشة في الصلاة على النبي ﷺ، وجاءت قبل منامها بمئة مرة من اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، فأصبحت تقول: يا أبتي البارحة رأيت النبي ﷺ جاء إلى البيت عندنا وسأل عن أخي محمد فقرأ عليه، قال: وقد أصبح الولد معافى -ذهبت عنه الأمراض- وكانت البنت عمرها إذ ذاك ثمان سنوات -ابنة ثمان سنوات- فهكذا كان وضع أهل الدار -أهل داره- في تعلقهم بالجناب النبوي الشريف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكان يراسل الإمام أحمد بن حسن العطاس كثير، وله بعض المراسلات مع الحبيب علي الحبشي -عليه رحمة الله- وله اتصال بعلماء الشرق والغرب، واليمن والشام، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
ذكَّرَنا به ابن مسعود صاحب النعل، حتى كان مشتهر بين الصحابة صاحب النعل والسواك والطهور، صاحب النعل والسواك والطهور عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
وهو ذكر هذه الأخبار ومصدره في الخبر النبي المختار، وكان ﷺ: "إذا تلا القرآن في الصلاة يأخذه البكاء حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل" معنى المرجل: "القدر الذي يغلى على النار" فله طغطغه وبربغة لما يغلى الماء وسط القدر-في المعجم الغَطْغَطةُ: صوتِ القِدْر في الغلَيَان-؛ فتحس للصدر أزيز مثل أزيز المرجل من تأثره بكلام الله ﷺ قال: "وكذلك كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة"، وجاء أن الخليل إبراهيم يُسمَع من مسافة أزيز صدره لمَّا يقرأ كلام الله؛ ولمَّا يناجي الحق سبحانه وتعالى.
وهكذا كان الصحابة الأكرمون، ولمَّا قَدِم وفد من اليمن أيام سيدنا أبوبكر الصديق، لمَّا تُلِي عليهم شيء من القرآن فإذا بهم ينحبون بالبكاء، نظر إليهم الصِّدِّيق قال: كذلك كنا على عهد رسول الله ﷺ ثم قَسَت القلوب، كذلك كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"وقال الحسن البصري -رضي الله عنه-: واستضاف عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- ضيفًا ففرش له عمر -رضي الله عنه-.." في مكان في بيته تحت الغرفة اللي فيها الميزاب -كان فوق يخرج منه الماء عند تغسيلها ونحوه- وانتظر معه حتى نام الرجل، قال: "وجلس معه حتى نام ثم قام عمر -رضي الله عنه- إلى التهجد فصعد فوق ظهر الغرفة" هذه التي فيها الضيف، وفيها الميزاب منه يسكب، بكى، سجد "فبكى وهو ساجد حتى جرت دموعه في الميزاب، وسقطت على وجه الضيف.." وقطرت فوق الضيف، قال: أظن في مطر! لا أرى نجوم ولا في سحاب، من أين المطر هذا؟! "فنظر فلم يجد سحابًا فتسوّر.." -أحضر سُلَّم- نظر! ما هذا؟ من أين الماء هذا الذي خرج ما هذا؟! وإذا بهذا ساجد مستغرق ويبكي والدموع تخرج من عيونه وتصب في الميزاب، هذا أيام خلافته سيدنا عمر بن عبدالعزيز -رضي الله تعالى عنه-.
وهكذا كانت عامة لياليه في أواخر عمره، ومن بعد أن تولى الخلافة، يبيت بها حاضرًا مع الرب خاشعًا، حتى قالوا أنه مدة السنتين والستة الأشهر في أيام الخلافة لم يغتسل من جنابة إلا مرتين، إنما كان يغتسل للجمعة وللسنة، ثم إنه يأتي إلى عند أهله فيرتعد يرتعد، فتقول له زوجته: ما لك؟ يقول: ذكرتُ أني أُسأَل عن الجائع وعن الضال وعن اليتيم! هل تأذني لي أن أقوم أعتذر لربي؟ تقول له: قم، قالت: فيقوم ويبكي ويسجد ويركع إلى أن يطلع الفجر، فهكذا كانت عامة لياليه -رضي الله عنه-، وفي إحدى المرتين الذي وجَل عليه الغسل كان في الشام، والوقت برد شديد البرد، فلاحظ خادمه أنه يريد أن يغتسل، قال: انتظر نأتي لك بماء مسَخَّن، قال له: لا؟ إنما سخنتموه من بيت المال، هذا التسخين حقه الحطب من بيت المال، قال له: يا أمير المؤمنين وأنت واحد من المسلمين، قال: لا، قال: يا أمير المؤمنين إن اغتسلت بالماء البارد أصبح الناس بلا خليفة! يعني تموت خلاص، يصبح الناس بلا خليفة! قال: لا أريد أن آخذ من بيت المال شيء، قال: عندي لك حل نحسب مقدار الحطب الذي سخنَّا به هذا الماء وتُسَلِّمه وتحطه في بيت المال، قال: هكذا نعم، وناوله الماء الدافيء يغتسل به، وسلَّم ثاني يوم قيمة بالاحتياط دخلها إلى بيت المال من ماله الخاص، عليه رضوان الله، لا إله إلا الله.
وقد حذر ﷺ من قوم يأتون من أمته يتَخوَّضون في مال لله، يتخوضون: يلعبون بالمال العام للمسلمين، فويلٌ لهم مما أعد لهم مما لا يُطاق من العذاب في المآب -نعوذ بالله من غضب الله-.
ولمَّا وُزِن بين يديه -عمر بن عبد العزيز- مسك من بيت المال وأخذ يضع يديه على أنفه ليغلقه، قالو له: ما لك؟ قال: إنه لبيت المال هذا المسك للمسلمين، قال: فكيف أشمه قبل أن يشمه الفقراء؟! وإنما هو حق لهم، وإنما ينتفع بشمه! إن مقصود من المسك شمُّه، فحط يده على أنفه حتى لا يشم هذا المسك الذي يوزن بين يديه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، هذا ما سرى إليه من آثار عمر بن الخطاب -عليه الرضوان- وما رعته به العناية.
وكان سادس الخلفاء الراشدين، بعد أن مضى ساداتنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي، فصار سادسهم عمر بن عبد العزيز -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ولكن مدة خلافته سنتين وأشهر تشبه خلافة أبي بكر الصديق في المدة، والعجيب في خلال السنتين ظهر أثر عدله وهمته حتى اغتنى المسلمون، وديرَ بذهب في عدد من الأقطار فلم يجدوا من يقبله، فعادوا به فقال: ضعوه في بيت المال؛ فقد أغنى عدل عمر بن عبد العزيز الناس. ومن الغرائب التي أظهرها الله في وقته أنه صارت الذئاب ترعى مع الأغنام ما تمسَّها، وصار الصبيان يلعبون بالحيات ما تلسعهم، ما تضرهم، حتى يذكرون أنه أعرابيًا كان يرعى الذئاب مع غنمه، ما أحد يمس شيء، مر عليه بعضهم قال: كيف تترك الذئب مع الغنم؟! قال: اسمع إنه إذا وُلِّيَ علينا رجل صالح كفَّت الذئاب عن شائنا، وأنه إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس، قالوا: ثم في يوم قام الذئب وعدى على غنمه، فقال الأعرابي: مات عمر بن عبد العزيز، فلما حسبوا الوقت حصلوا الساعة اللي فاضت روحه فيها، الساعة اللي فاضت روحه تغيرت الذئاب وتغيرت الرعية، فبلغ قوة عدله إلى مثل هذا الحال، لا إله إلا الله! الله يحول أحوال المسلمين إلى أحسن حال.
قال: "فلم يجد سحابًا -الضيف- فتسوّر حائطًا ينظر ما هذا الماء فوجد عمر -رضي الله عنه- ساجدًا وهو يبكي، ويفحص كالطير المذبوح رضي الله عنه".
"وكان ﷺ إذا قرأ القرآن لا يمر بآية رحمة إلا-وقف- سأل -الله من رحمته- ولا تخويف إلا دعا -وقف واستعاذ بالله من عذابه-، ولا عذاب إلا استعاذ -بالله من عذابه-، ولا استبشار إلا دعا ورغب" -إلى الله-، ونفسه ابن مسعود روى عنه أنه رآه في بعض الليالي في قيامه -ﷺ- فجاء يصلي خلفه فافتتح سورة البقرة، قال: فقلت أنه يسجد على مئة منها، قال، فجاوز، فلما ثنّى فقلت يسجد بها بيكمل السورة ويسجد، لا يمر على آية رحمة إلا وقف -ﷺ- ولا بآية عذاب إلا وقف واستعاذ بالله من العذاب، قال: وافتتح سورة آل عمران وقلت: يسجد على بعض آياتها، وكمَّلها، قلت: يسجد بها، قال: فإذ به افتتح سورة النساء، قال: حتى هممتُ بأمر سوء، قالوا: ما هممتَ به؟ قال: هممتُ أن أقعد وأتركه، وأخرج من الصلاة وأخليه -ﷺ- في تهجده، وقرأ هذه السور الطوال الثلاث في ركعة واحدة صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم؛ وبهذه الطريقة لَا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف وسأل الله، ولا بآية عذاب إلا استعاذ باللَه من عذابه، ولا بآية تسبيح إلا سبَّح، ولا بآية حمد إلا حَمِد صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم.
"وكان ﷺ يقول: "إياكم وشرك السرائر، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: تزیین الرجل الصلاة لينظر الناس إليه" يُحْسِن القيام والركوع لنظر الناس إليه -لاحول ولاقوة إلا بالله العليم-، وكان بعضهم يصلي في مسجد، فحسّ بحركة عند الباب، حد داخل، فزاد إحسان الصلاة، فسمع هاتف يهتف به: لولا أن أول صلاتك لله لأُخرِجتَ الآن من ديوان السعداء إلى الأشقياء، لولا أن أول صلاتك لله تعالى -لا إله إلا الله- اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم.
وكان بعضهم في قيامه في الليل، ويقرأ في سورة طه، فمرَّ المنبه ينبه الناس يا ابن فلان، فجهر بآيتين ليعرف أنه قد قام وأنه يصلي، جهر بآيتين فأراد الرحمن تنبيهه، فنعس ورأى الملائكة يقول له: تدري بما قرأ هذا الليلة هذا الرجل في صلاته؟ وقال: قرأ كذا من سورة طه، وإذا تحت كل حرف حسنات؛ العشر والخمسين والمئة حسنة كثير، وإذا بالآيتين مطموسة، يقول: قال قلت له: أين الآيتين هذه؟ قال: هذه ما قرأها، قال: لا قرأتها؟ قال الملك لصاحبه: يقول إنه قرأها لماذا لم تثبتها له؟ قال: إنما قرأها لأجل المنبه الذي مر تحت البيت حقه، قال: الرجال عدّى ينبه آخر الليل قرأها من شأنه، وخلّيه يروح عنده ويطلب أجر منه، هذا ما له أجر عند الله فيها، انتَبَه، لاحول ولاقوة إلا بالله العظيم استغفر الله، رجع يقرأ ثاني مرة لله، لا إله إلا هو.
"وكان ﷺ إذا قرأ نحو: ﴿أَلَیۡسَ ذَ ٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰ) [القيامة:40]، قال: سبحانك فبلى، وفي لفظ: "بلى إنه على كل شيء قدير"، ولمَّا يقرأ (أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ) [التين:8] يقول: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين"، ولمَّا يقرأ: (فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ) [المرسلات:50] يقول: "آمنتُ بالله".
"وكان عليّ -رضي الله عنه- إذا صلى بقوله تعالى: (ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ) [الواقعة: 59]، يقول: بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب إلى آخر النسق"
"وكان علي إذا صلى بقوله تعالى: (ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ) [الواقعة:59] يقول: بل أنت يا رب.." ( (أَفَرَءَیۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ * iءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّ ٰرِعُونَ) [الواقعة:63-64] يقول: بل أنت يا رب، (أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ * ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ) [الواقعة:68-69] يقول: بل أنت يا رب، (أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَاۤ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ) [الواقعة:71-72] يقول: "بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب -في الأربع آيات- إلى آخر النسق" عندما ما يقول: ءأنتم أم نحن، يقول: بل أنت يارب، لا نحن خلقنا، ولا نحن أنزلنا الماء، ولا نحن أنبأتنا الزرع، ولا نحن أنشأنا شجرة النار بل أنت يا رب؛ ويزيد بعض العارفين: بل أنت يا ربي فلك الحمد ولك الشكر، له الحمد وله المنة وله الشكر جل جلاله وتعالى في علاه.
فإذا بكى في الصلاة:
وذكر رواية عن شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، نَزَلَ بِرَاهِبٍ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزُ إِذَا أَرَادَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَقَالَ : يَا رَاهِبُ , أَخْبِرْنِي بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتَهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . بَيْنَا عُمَرُ عِنْدِي ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى سَطْحِ غُرْفَتِي هَذِهِ وَهُوَ مِنْ رُخَامٍ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى قَفَايَ ، فَإِذَا أَنَا بِمَاءٍ يَقْطُرُ مِنَ الْمِيزَابِ عَلَى صَدْرِي ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَاءٌ , وَلَا رَشَّتِ السَّمَاءُ مَطَرًا . فَصَعِدْتُ ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ ، وَإِذَا دُمُوعُ عَيْنَيْهِ تَنْحَدِرُ مِنَ الْمِيزَابِ، قال: هذا أعجب ما رأيت منه -لا إله إلا الله-.
ويقول الشافعية وكذلك من وافقهم من الأئمة: أن الدعاء في الصلاة لا يبطلها، وكذلك التسبيح والذكر، فإذا مر بآية ودعاء فلا يبطل الصلاة.
وقيَّد الحنفية الدعاء بما ورد فقط ولا يدعو بدعاء آخر، وإلا ففي القول عندهم يتعرض لبطلان الصلاة.
يقول الشافعية: يُسَنُّ للقارئ سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة إذا مر بآية رحمة يسأل الله الرحمة؛ وبآية عذاب يستعيذ منه بالله وبآية تسبيح سَبَّح، (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) [الأعلى:1] فقال ﷺ: "سبحان ربي الأعلى وبحمده" (ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:2-3] وهكذا يسبح، (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ) [الصف:1] سبحان الله رب السماوات والأرض، أو بآية فيها ترغيب؛ يرغب إلى الله، أو تخويف يلجأ إلى الله تعالى ويستعيذ به، وهذا قال: مستحب للإمام والمأموم والمنفرد.
الله يكرمنا بتحقيق الصلاة، وإقامتها على الوجه الذي يرضاه، ويجعلنا من أهل الاقتداء بحبيبه ومصطفاه، ويرفعنا أعلى مراتب قربه والمداناة، ويذيقنا لذة المناجاة والمصافاة، ويعيذنا من كل سوء أحاط بعلمه تعالى في علاه، ويستر أحوال أمة حبيبه، ويفرج كروبهم، ويدفع البلاء عنهم، ويحول أحوالهم إلى أحسن الأحوال، ويبارك لنا في خاتمة هذا الشهر، ويبارك لنا في إقبال رمضان وقدومه، ويجعله من أبرك الرمضانات علينا وعلى أمة الحبيب الأعظم، ظاهرًا وباطنًا في خير ولطف وعافية.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه
الفاتحة
20 شَعبان 1445