كشف الغمة -14- فصل في حقيقة الإيمان والإسلام

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: فصل في حقيقة الإيمان والإسلام

 

السبت 14 ذو القعدة 1444هـ

يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:

- من أسعد الناس بشفاعة النبي ﷺ؟

- درجات الشفاعة وخصوصياتها

- الشفاعة لأهل الكبائر

- إيذاء أهل الجاهلية لرسول الله وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا

- حال المؤمن في السراء والضراء

- نتيجة من بلغته الرسالة ولم يؤمن، ومن لم تبلغه قبل بعثة النبي

- تعليم الأطفال لا إله إلا الله

- القيام بحق لا إله إلا الله لدخول الجنة

نص الدرس المكتوب:

"كتاب الإيمان والإسلام" 

 "وكان ﷺ يقول: "من كان آخر كلامِهِ لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال رجل: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق".

 وكان ﷺ يقول: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه". 

وكان منيب رضي الله عنه يقول: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية وهو يقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قال: فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثى عليه التراب، ومنهم من سبَّه".

وكان ﷺ يقول: "عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً، وإن أصابته ضرَّاء فكان صبر خيراً". 

وكان ﷺ يقول: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يموت ولم يؤمن بي ولا بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار".

وكان ﷺ يقول : "إذا أفصح أولادكم فعلموهم لا إله إلا الله، ثم لا تبالوا متى ماتوا".

وقيل لوهب بن منبه رضي الله عنه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ فقال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. 

وكان كعب الأحبار رضي الله عنه يقول في قوله ﷺ: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة "، كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت لم تنفع لا إله إلا الله إلا بأدائها، والله أعلم.

اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون. (3 مرات)

 الحمد لله مُكرمنا بحبيبه وبيانه، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبعه وسار على نور تِبيانه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلهمُ الله تبارك وتعالى في الإيمان به من أركانه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عبادِ الله الصالحين ممن أُعِزَّ بطاعة الله عز وجل ولم يتدنّس بِمهانةِ عصيانه. 

وبعدُ: فيذكر لنا الشيخ عليه رحمة الله تبارك وتعالى الأحاديث المُتعلقة بالإيمان والإسلام، وذكر لنا قوله ﷺ "أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً مُخلصاً من قلبه" جعلنا الله وإياكم من قائليها الخالصين المخلصينَ من قلوبهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وفي هذا الحديث بيان منزلة الشفاعة عند الله تبارك وتعالى "وأسعد الناس" يعني: أحظاهم وأولاهم وأقربهُم من الحصول، أو أوفرهم حظاً منها ومن خيرها وبركتها، "أسعد الناس بشفاعتي" وقال ذلك لسيدنا أبي هريرة لمّا سأله عن ذلك "وقال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟" من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ يقول يوم القيامة وقال له الرسول ﷺ: "لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلَ منك" يعني: قبلك،  "لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه -أو قال- من نفسه" هذا لفظ الإمام البخاري، وأورده عندنا بلفظ "خالصًا مخلصا من قلبه" والحديث عند الإمام أحمد أيضا.

فيذكرُ أسعد الناس بشفاعتهِ في يوم القيامة، يوم الجزاء الأعظم،  قال: من قال لا إله إلا الله"  -والمراد مع محمد رسول الله من غير شك- إنما يُكتفى بالجزء من الشهادة عن كلها، أي: شَهِد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدهُ ورسوله، يقول: "خالصاً عن شَوب شرك أو نفاق"،  وفي لفظ "مخلصا من قلبه أو قال: من نفسه" تأكيد قوله خالصًا مخلصًا تأكيد لقوله خالصًا، المراد الإخلاص المؤكد البالغ غايته، "خالصا مخلصا من قلبه"، اللهم حقِّقنا بحقائق الإخلاص في لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله.

"أسعد الناس" وفيه أن الناس في شأن الشفاعة على درجات، فمنهم سعيد بها ومنهم أسعد، ومن شفاعته ما يعمُّ الخلائق كلهم وهو المقام المحمود، فالكل يدخل في هذه الشفاعة مؤمنوهم وكافروهم وأولهم وآخرهم، يُنقَلون من تحت الشمس إلى أرض الحساب (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [سورة الإسراء:79]، ولكن الخصوصية بعد ذلك في الشفاعة للمؤمنين، وهم على درجات في تحصيلهم هذه الشفاعة من سيدنا رسول الله ﷺ، ولا يخرج عن شفاعته أحد، حتى أرباب الوجاهة الشفعاء عند الله يوم القيامة يدخلون في شفاعته ﷺ، ولا يُؤذن لأحدٍ منهم بالشفاعة حتى يشفع رسول الله ﷺ، وعند الموقف الأهوَل الأخطر الأثقل كلٌ يقول نفسي نفسي حتى كبار الشفعاء، إلا رسول الله محمد ﷺ؛ لمكانته عند الله ووجاهته ومنزلته يقول: أنا لها، أنا لها ﷺ.

فهو يشفع في الخلق لِراحتهم من هَول الموقف وهذه شفاعة عامة، بعد ذلك شفاعة للمؤمنين على درجات:

  • فمنهم من يكون الشفاعة له أن يُخفَّف عنه العذاب. 

  • منهم من يكون الشفاعة أن يُخرج من النار قبل المدة التي استحقّها بعمله السيئ أو بسيئاته وذنوبه، هؤلاء سعيدون بشفاعته

  • ولكن أسعد منهم من لا يدخل النار وكان استحقّ دخولها؛ فلا يدخلها بشفاعته ﷺ، فهؤلاء سُعداء بشفاعته 

  • ولكن أسعد منهم من يدخل الجنة بغير حساب، لا يدخل النار ويدخل الجنة بغير حساب.

  • وأسعد منهم من يُعطى بشفاعته ﷺ الشفاعة في الغير.

  • ومن تُرفع له الدرجات في الجنة بشفاعته ﷺ.

إذًا فكل من قُبِلَت فيه الشفاعة؛ لأنه لا أحد من الملائكة ولا من سواهم من الأنبياء ولا سيدنا ﷺ يشفع إلا بإذن الله (مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255] جلَّ جلاله، ولكن الحق تعالى يأذن لهؤلاء كما أخبرنا على لسان رسوله وهو سيد أهل الشفاعة يوم القيامة ﷺ.

يقول: يدخل في شفاعته الخلائق؛ وهم بعد ذلك بعضهم أسعد من بعض، "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة"، أما من عموم أهل النجاة من النار فهؤلاء "من قال لا إله إلا الله خالصا مخلصا من قلبه" وقد جاءنا في بعض روايات الأحاديث أنه قال ﷺ: "وقد سُئِل ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله" جل جلاله، فإذا قيل أن تحجزه عن محارم الله ففي ماذا يشفع؟ إذا قد حجزته لا إله إلا الله محمد رسول الله عن المحارم، ولم يقع في شيء ممّا حرّم الله عليه، فبمَ ينال الشفاعة؟

هناك السعادات في الشفاعة الكبيرة:

  • فغيره يسعد بغفر بعض ذنوبه أو كلها

  • بتخفيف عذابه أو تنقيص مدته

ولكن هذا أسعد من حجزته عن محارم الله فهو أسعد بشفاعته ﷺ أن تُرفع درجاته في الجنة أو يدخل الجنة بغير حساب أو يكون من الشفعاء، هو يشفع في سواه.

فإذًا درجات الشفاعة له ﷺ كبيرة والكل يدخل فيها، ومنها ما أشار إليه بالنسبة لأهل الجنة قال: "إن الله حرّم الجنّة على الأمم حتى تدخلها أمّتي، حرّمها على الأنبياء حتى أدخلها أنا"، فكان دخول الجنة نفسه هذا مندرجٌ في شفاعته ﷺ، فبدخوله يؤذن لمن سواه، فهو الشفيع لهم في دخولهم الجنة بمن فيهم الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، فهو شافع الشفعاء صلوات ربي وسلامه عليه لما آتاه الحق جل وعلا من فضله الأعلى.

 فالمؤمن المُخلص أكثر سعادةً بها على درجات، وبعد ذلك فقد جاء أيضا في الحديث أنه قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، هذا شفاعتهم ليست في الدرجة أسعد الناس بها؟ هم سعداء بشفاعته؛ ولكن أسعد بها أهل الطاعة الذين لم يرتكبوا المعاصي، هم أسعد بشفاعته ﷺ من أهل الذنوب، وإن كان قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم الجمع" يعني: تمتد شفاعته لأن يشفع في كثير من أهل الكبائر فيُغفر لهم بوجاهته عند الله ﷺ لا إله إلا الله.

 إذًا الجميع مشترك في الشفاعة وبعضهم أسعد، ولهذا قال: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة" اللهم اجعلنا من أسعد الناس بشفاعة سيد الناس ﷺ.

 ثم ذكر لنا "عن مُنيب بن مُدرك" هذا الأزدي كان منيب رضي الله عنه، منيب بن مدرك بن منيب الأزدي يروي عن أبيه عن جده منيب هذا الذي ذكره، "يقول: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية" يعني: أول ما جاء الإسلام والناس لا زالوا في شركهم وجاهليتهم إلا الآحاد والأفراد، سمعه يقول: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا،" لا إله إلا الله "قولوا لا إله إلا الله قال: فمنهم من تفل في وجهه ﷺ، ومنهم من حثى عليه التراب ومنهم من سبَّه" قال: حتى انتصف النهار، وهو من  الصباح وهو يدعوهم إلى لا إله إلا الله ولا ينكف ولا يسكت؛ وهم فيهم من يتفل فيه وفيهم من يحث التراب عليه وفيهم من يسبه ﷺ، " قال: حتى انتصف النهار فأقبلت جارية بِعس من ماء فغسل عن وجهه وقال عن يديه وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك عيلة ولا ذلة، قلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله ﷺ". هكذا جاء في رواية الطبراني في المعجم الكبير. 

وجاء أيضا عن ربيعة بن عباد الديلي وكان عاش في الجاهلية ثم أسلم، قال: رأيت رسول الله ﷺ بصَرَ عيني بسوق ذي المجاز -وقت اجتماع الناس في أسواقهم في الجاهلية- قال: يقول "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، ويدخل في فجاجها -بين الناس- والناس متقصفون عليه، قال: فما رأيت أحدا يقول شيئا، وهو لا يسكت ، أيّها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قال: إلا أن وراءه رجلًا أحولَ وضيء الوجه ذا غديرتين يقول: إنهُ صابئ كاذب..، فلا تصدقوه ولا تتبعوه، وهو يدعو ويقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" وهذا يقول: إنه صابئ كاذب، قلت من هذا؟ قالوا: هذا الذي يدعو محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة، يعني يذكر أن الله نبأه وأرسله للخلق، قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب. هكذا جاء في رواية الإمام أحمد في المسند. 

فكان أبو لهب وأبو جهل يتناوبان عليه في الأسواق حينما يخرج عند اجتماع الناس في الأسواق يدعوهم، يتناوب عليه ساعة يأتي هذا وساعة يأتي هذا يكذبونه أمام الناس خشية أن يصدِّقَهُ الناس.

فكم عانى نبينا في بلاغ هذه الرسالة وفي وصول هذا الخير إلينا؟ نصبح ونمسي على لا إله إلا الله ونتجمع في الجماعات والمساجد سهلة حصلناها قريبة، تعب عليها ﷺ وما أوصلها إلينا إلا بعد مشقة وجُهد جهيد منه ﷺ،  جزاه الله عنها أفضل ما جزى رسولًا عن قومه ونبيًا عن أمته.

يقول في رواية أيضاً عن شيخ من بني مالك بن كنانة يقول: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يتخلَّلُها يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: يا أيها الناس لا يغرَّنكم هذا عن دينكم؛ فإنما يريد أن تتركوا آلهتكم، تتركوا اللات والعُزى، قال: وما يلتفت إليه رسول الله ﷺ، يمضي في بلاغه وإن حثى التراب عليه؛ وإن قال ما قال؛ يمضي ﷺ.. الله، قالوا له: انعت لنا رسول الله ﷺ؟ قال: بين بردين أحمرين، مربوع كثير اللحم، حسن الوجه، شديد سواد الشعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشعر ﷺ.

 ثم ذكر لنا حديث "عجباً للمؤمن" اللهم حقِّقنا بحقائق بالإيمان "إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا" لا إله إلا الله. فهذا شأن المؤمن مع ربه جل جلاله.

 في رواية مسلم عن سيدنا صهيب يقول ﷺ: "عجبًا لأمر المؤمنِ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" لا إله إلا الله، وهكذا جاء في رواية سيدنا سعد بن أبي وقاص يقول: قال ﷺ: "عجبتُ للمؤمن إن أصابه خيرٌ حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يُؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته -أو قال إلى فيه-" رواه الإمام أحمد.

 فتؤمن به سبحانه وتعالى فيبسط لك بساط المنافع والفوائد والمثوبات والدرجات؛ ويرأف بك ويرحمك ويهبك من عجائب جودِه ما لا يخطر على بالك ولا بال أحد من خلقه، فالله يرزقنا حقائق الإيمان ويرفعنا في مراتبه ويجعلنا من خواص أهله.

"عجباً" يعني: أعجب عجباً، "لأمر المؤمن" يعني: أتعجب في إفضال الله عليه وعظيم إحسانه إليه، فليس هذا للكافرين ولا للمنافقين، "إن أصابته سراء" من صحة وسلامة أو مال أو جاه أو تيسير أو حسن تدبير أو أي نوع من أنواع النعم "شكر" أي: عرف أن هذا لا بِجدّه ولا بِجهده ولا من عنده، ولكن من الله تعالى يسّره له، فيشكر الله تبارك وتعالى فيكون سببًا للمزيد، إن كان خيرا له يكتب في ديوان الشاكرين، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك.

"وإن أصابته ضرّاء" من مرض أو فقر أو جوع أو سقطة أو أي هم أو أي غم أو أيِّ شيء يُصاب به "صبر فكان خيرًا له" يُكتب في حزب الصابرين الذين أثنى الله عليهم (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سور  الزمر:10]، ويكون الحق تبارك وتعالى معهم (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].

ويذكر لنا قوله ﷺ: "والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي أو نصراني يموت ولم يؤمن بي"وقد سمع به ولم يؤمن به "ولا بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، يقول الحديث في صحيح مسلم أصله.

 يقول: "والذي نفس محمد بن بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار" وكل من بلغتهُ الرسالة.

إذًا :

  • فمن مات ولم تبلُغُهُ رسالة النبي ﷺ فهو من أهل جاهلية ما يعذبهم الله، لقوله: (وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء:15] لا شك.

  • إنما يُعذَّبُ منهم من بلغه رسالة من رسالات الأنبياء ثم كابر وعاند، كعمرو بن لُحَي والذي قصد المجيء بالأصنام وجاء بها وأغرى الناس بعبادتها؛ وقد بقِيَ آثار دين الخليل إبراهيم عليه السلام، فذهب وأتى بالأصنام وأغرى الناس على عبادتها فهذا قد رآه ﷺ يجرّ قُصُبَهُ، أي: أمعاءه في النار يُعذّب فيها والعياذ بالله تعالى.

  • وأما من لم يكن بهذه المثابة فإنهم لا يُعذّبون عذاب الكفر لأنه قال تعالى: (وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا) 

  • كذلك جاءنا أن من مات على دين سيدنا عيسى عليه السلام قبل بِعثة النبي محمد فهو على خير كما يقول ﷺ وإلى الجنة.

  • وكذلك جميع الأنبياء مِن قَبْل، أتباعهم الذين لم يُحرِّفوا ولم يُغيّروا ولم يُبدّلوا من أهل الجنة قال تعالى: (لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة آل عمران:113-114].

  • ومن سمع بِرسالة نبيه فآمنَ به أُعطي أجره مرتين، كما جاءنا في الآية الكريمة فيمن كان من أهل الكتاب ثم آمن برسول الله ﷺ.

  • ومن كان من أهل الكتاب، أي: مُستقيما على المنهاج ثم توفي قبل بعثته ﷺ فهو إلى الجنة

  • ومن سمع به ولم يؤمن به فهو من أهل النار.

 وكان بعض التابعين يقول: ما سمعت حديثاً نزل عليه ﷺ إلا وجدتُ مِصداقه في كتاب الله، فسمعت هذا الحديث فقلت أين مِصداقهُ في الكتاب؟ فمررت على قوله تبارك وتعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود:17] قال: وعرفتُ أن قصده الأحزاب جميع الكفار منهم أهل الكتاب، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فهذا مصداقه من القرآن الكريم.

"لا يسمعُ بي أحد من هذه الأمة" إذًا دخلوا في الأمة أمة الدعوة جميع الموجودين على ظهر الأرض صاروا أمته ﷺ أمة الدعوة؛ ومن آمن منهم فهو من أمة الإجابة؛ فأمّة الإجابة هم الذين يستحقّون الجنة، أمة الدعوة جميع الناس وقد بُعِث إليهم كافة بشيراً ونذيراً ﷺ، قال:" لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يموت ولم يؤمن بي ولا بالذي أرسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار" اللهم أجِرنا من النار.

 فاستدلّوا به على أن من في أطراف الأرض وجزائر البحر المُقطّعة ممن لم تبلغه دعوة الإسلام ولا أمر النبي ﷺ أن الحرج عنه في عدم الإيمان به ساقط لأنه ما سمع به، "لا يسمع بي" لكن إذا سمع به ﷺ وعرف أن الله أرسل رسول وجب عليه أن يبحث عن ذلك ويؤمن به.

 ثم ذكر لنا حديث "إذا أفصح أولادكم فعلِّموهم لا إله إلا الله ثم لا تُبالوا متى ماتوا" لا إله إلا الله. وفيهِ تعليم الصبيان من أول نُطقهم وقد كانوا يُربّون أولادهم ويُسمعونهم اسم الحق تبارك وتعالى، يقولون الله، الله، الله، الله؛ حتى يكون أول ما ينطق به الصبي الله، وقال إذا عرفوا النطق أفصح وصاروا ينطقون علِّموهم لا إله إلا الله، هكذا جاء في رواية ابن السّنّي يقول: "إذا أفصح أولادكم فعلّموهم لا إله إلا الله ثم لا تبالوا متى ماتوا، وإذا أثغروا فَمُروهم بالصلاة" أي بدت بهم الأسنان تنزل، كما جاء في الرواية الأخرى "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع" وهذا وقت الإثغار في الغالب، لا إله إلا الله.

 وفيهِ الحرص على تلقين الصبيان الكلمات الطيبة، وقد غشَّ نفسه من المسلمين من أسمع أولاده وهم نُطَف وعَلق ومُضَغ ونُفِخت فيهم الأرواح في البطون كلام السوء والكلام المشين والبذيء والقبيح، ثم لا يزال يُسمعهم بعد ما يولدون شيء في الإذاعة حقه وشيء في المُسجل حقه وشيء في الجوال حقه كلام أهل السوء وأهل الفسق، غَش نفسه وغش أولاده وظلم نفسه والعياذ بالله تعالى؛ ولا ينبغي أن تسمع آذاننا إلا ما يُقرِّبنا من ربنا وما يكون زاداً لنا للقاءه من الكلام الطيب الحسن، ولا نسمع أولادنا إلا ذلك، وأن نُعوِّدهم أول ما ينطقون أن يذكروا اسم الله واسم رسوله ﷺ وأن يقولوا لا إله إلا الله.

قيل لِوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان! فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتِح لك وإلا لم يفتح لك" يعني: من قام بِحقها وعمل بها دخل الجنة بغير حساب، ومن أصاب من حدودها شيء، لم يُقِمها على وجهها؛ فإنها إذا صدق قائلها في اعتقاد معناها حجزته عن محارم الله، وأيقنَ بها أنه لا شيء أحق أن يتبعه ويطيعه من ربه الذي خلقه، وأنه لا أضرّ عليه من مخالفة إلهه الذي خلقه جل جلاله فهذا معنى لا إله إلا الله، وما تحدّث عن الأسنان إلا بمعنى: من قام بِحقّها وحفظ لها حُرمتها وأدى ما ينبغي له من معناها، فهذا هو الذي تفتح له الجنة، يعني: والذي لم يقم بحق لا إله إلا الله ووقع في محارم الله فهذا الذي يحتاج إما إلى عذاب وإما إلى عفو حتى يدخل الجنة، لا إله إلا الله.

نقله عن كعب الأحبار، وجاء أيضا في بعض الروايات عن غيره أنه قال: "كان ذلك قبل أن تُنزّل الفرائض، فلما أنزِلت لم تنفع لا إله إلا الله إلا بآدائها" يعني: هي نفسها لا إله إلا الله قبل نزول الفرائض وبعد نزول الفرائض هي معناها واحد، فمن تحقّق بمعناها استعد لإقامة أمر الله وتركه محارمه، قبل أن تفرض الفرائض وبعد أن تفرض الفرائض الأمر واحد؛ ولكن يوضح المعنى للناس، وإلا فمعناه هذا هو واحد قبل نزول الفرائض وبعد نزول الفرائض هي التي تنفع أهلها إذا قاموا بحقها، أما إن خالفوا معانيها فينقطع عنهم الانتفاع بها.

 كما قال ﷺ في الرواية الأخرى: "لا تزال لا إله إلا الله تدفعُ عن أهلها سخط الله ما لم يُؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم" يعني: خالفوها وما تحققوا بها، خرجوا عن التحقق بها هذا المعنى، كيف يريدوا ينتفعوا بها وهم خالفوها! يقول: "فإذا قالوها عند ذلك، قال الله: كذبتم لستم بها بصادقين"،"ولا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أهلها سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم فإذا فعلوا ذلك ثم قالوها قال الله كذبتم لستم بها بصادقين"؛ وقال ﷺ: " ليس على أهل لا إله إلا الله وَحشة في قبورهم"، فَبِالتحقق بلا إله إلا الله يُؤنس في قبره.

لا إله إلا الله، اللهم حقِّقنا بحقائقها واجعلنا من خواص أهلها، وارزقنا بها التزام الطاعة وترك الذنوب والمعاصي.

فإذا لم يقُم بحقها ووقع في شيء في محارم الله؛ فبين أن يغفر الله له الجميع أو البعض أو يعذبه على الجميع أو البعض ثم يرجع إلى الجنة، يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله أعلم.

 اللهم حقِّقنا بحقائق الإسلام والإيمان وارفعنا مراتب الإحسان، واجمعنا بحبيبك محمد ﷺ في الأكوان، في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة وفي أعلى الجنان، وأنت راضٍ عنا من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

15 ذو القِعدة 1444

تاريخ النشر الميلادي

03 يونيو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام